• فتاوى الدم.. اللحيدان نموذجاً ....د. محمد حبش

    الإقدام في الجهاد والإحجام في الفتنة، هذه هي باختصار فلسفة الفقة الإسلامي في إدارة العنف، وهي القاعدة التي تم بنيانها خلال اجتهادات فقهية محكمة مستمرة منذ قرون طويلة.

    وللفقه الإسلامي موقف دقيق من مسألة الجهاد فهناك عنوان عريض يكرره كل من كتب في فقه الجهاد وهو أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة لايبطله عدل عادل ولاجور جائر، وأنه ماترك قوم الجهاد إلا غزوا في عقر دارهم، وماترك قوم الجهاد إلا ذلوا.
    ومن العجيب أنك تحتاج إلى حشر النصوص المتضافرة لإقناع الناس بعدالة قضية الجهاد مع أن الجهاد من وجهة نظري هو عينه ماتمارسه كل دول العالم تحت عنوان الدفاع الوطني وحماية الأمن القومي وصيانة الحدود.
    وبقدر ماكانت هناك حساسية من إلغاء باب الجهاد فهناك حساسية أشد إفراطاً في درء باب الفتنة، والجهاد يكون تحت راية دولة قائمة انعقدت لها بيعة صحيحة، أما الفتنة فتكون تحت راية عمية، ليس عندكم فيها من الله برهان، ولم تؤخذ لها في أعناق الناس بيعة صحيحة، وهنا تتضافر النصوص التي تأمر بالإحجام في الفتن والقعود عن السعي فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستكون بعدي فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الساعي، وفي حديث حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يارسول الله إنا كنا قبلك في عافية وخير فمن الله علينا بالإسلام فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم، وله دخن، قلت ومادخنه؟ قال: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام، قال: تعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى تلقى الله وأنت على ذلك!.
    ثم تمضي وصايا النبي الكريم واضحة في منع الولوغ في الفتن، فيسأله حذيفة، أرأيت إن دخل علي داري وكسر بابي وأراد قتلي؟ قال كن خير ابني آدم!! قل: لئن بسطت إلي يديك لتقتلني ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين!! وبعد أن أصاب حذيفة الذهول من ذلك عاد النبي الكريم ليقول له مؤكداً ومشدداً: فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك!!.
    لازلت أشعر بالدهشة من هذه النصوص الواضحة في تمجيد الموقف السلبي من سائر أشكال العنف ضمن المجتمع المسلم، على الرغم من أوامر الشريعة الواضحة في الإقدام ساعة الجهاد، وأعتقد أن المسألة في غاية الدقة، والهدف بكل تأكيد هو حقن الدماء ودعوة الناس لحل مشاكلهم بعيداً عن إطار العنف والسلاح.
    وهكذا فإن الداعية المسلم يحمل خطابين اثنين: الأول في غاية الشدة والحزم في مواجهة عدوه الغاصب المحتل يمجد الإقدام والبطولة والقوة، ويصل إلى حد فاقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، وقاتلوا المشركين كافة، وإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، وفي الوقت نفسه فإنه مأمور بخطاب آخر داخل حرم المجتمع المسلم يلتزم قول الله تعالى: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك.
    لقد قدمت بهذه المقدمة الحقائق الاتفاقية في الفقه الإسلامي حول التمييز بين الجهاد والفتنة، لأقدم التساؤل المشروع حول ماأعلنه مؤخراً عدد من أبرز دعاة السلفية في الخليج العربي وبشكل خاص الشيخ صالح اللحيدان الرئيس السابق لمجلس القضاء الأعلى في السعودية وعضو هيئة كبار العلماء الذي تبرع الأسبوع الماضي بإطلاق سلسلة فتاوى تخص الشأن السوري، وقال يخاطب الشارع السوري بروح طائفية مقيتة يدعو فيها السوريين إلى قتال دولتهم الكافرة الفاسقة!! ويؤكد أن الثورة على هذه الدولة فرض عين، وأنه لابأس باستخدام العنف مهما كان الثمن ونقل عن مذهب الإمام مالك أنه يجوز قتل ثلث الناس ليسعد الثلثان!!.
    ولاشك أن الدعوة إلى عسكرة الاحتجاجات وتحويلها إلى ثورة مسلحة هو المدخل الطبيعي لتدمير هذا الحراك السلمي والإصلاح السياسي الذي بدأته سورية عبر قيادتها، وهو بدون تحفظ دعوة المعارضة للانصباغ بالدم، ولا شك أن ذلك يعني باختصار دفع الناس باتجاه الموت الأسود وتدمير كل آمال الإصلاح.
    لاأعلم في تاريخ الاستبداد والظلم الغاشم في التاريخ كله من بلغ هذا الحد من التبرير للظلم والقمع والإجرام إلى حد أنه يأذن بقتل ثلث الناس، وفي الحالة السورية فهذه الفتوى لاتتردد في قتل سبعة ملايين إنسان سوري من أجل نجاح التمرد، ولكنه قال كالمتحفظ بعد ذلك وأظن أن سورية لن تحتاج لكل هذا العدد، يعني يمكن أن نكتفي بقتل خمسة ملايين مثلاً!!.
    ولا أعلم أن باطشاً مجرماً منذ مئات السنين حقق هذا الرقم القياسي في الإجرام في قتل الناس، إلا العدو الصهيوني الذي قتل وشرد بالفعل ثلث الناس ليتمكن من فرض إرادته على الثلثين الآخرين.
    أشعر بالمرارة أن تنسب فتوى كهذه إلى فقيه محترم، ثم تجد من يرويها ويفتي بها باسم الرب.
    ومع أن مقال البعث هنا ليس مخصصاً لدراسة الإسناد التاريخي للفتاوى الطائشة ولكن يجب دفاعاً عن الإمام مالك أن نقول إن هذه الفتوى لم ترو في أي كتاب من كتب السادة المالكية، وإن الإمام مالك كان مثلاً رائعاً في التسامح والمحبة والخير، وأن مذهبه مشهور في كرامة الإنسان وحرمة الدماء عند الله، وقد جزم الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول ص 242 أن هذه الفتوى ليس لها أصل في كل كتب المالكية، وأن الجويني من الشافعية رواها بصيغة يحكى عن مالك أنه قال: ثم تأول له ذلك بأن قصده قتل ثلث الفاسدين يكفي لردع ثلثيهم، وليس قتل ثلث الناس كما تعزفه ظاهر هذه الفتوى المجنونة!!.
    من المؤلم أن اللحيدان إياه كان ذات يوم رئيساً لمجلس القضاء الأعلى في السعودية وهو سلطة عليا لايحد من قراراتها أحد، فأفتى ذات يوم بكفر قناة روتانا وقتل أصحابها ثم شرح ذلك معتذراً بأن قصده قتلهم من خلال القضاء والمحاكمة، ومع ذلك فإن المملكة لم تمهله يوماً واحداً ووجد نفسه معزولاً من القضاء، ليعود عضواً مجمداً في هيئة علماء الشريعة، والسؤال الآن: ماذا ستفعل الحكومة السعودية بهذه الفتوى السوداء التي تنص على إبادة نحو سبعة ملايين سوري!! وهل سيحاسب اللحيدان على هذه الفتوى أم أنها ستعتبر لوناً من حرية الرأي والاجتهاد الفقهي باعتبار أنه ليس فيمن أهدر دمه من السوريين من يملك روتانا؟؟.

    د. محمد حبش
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.