• فصل احتكار الدين عن الدولة !!

    فصل احتكار الدين عن الدولة !!

    بقلم طارق بن راشد الغفيلي
    من يتتبع التاريخ السياسي الإسلامي ، يجد أن السياسي العادل لا يخشى التعددية لأنه لا يخفي ما يخاف أن يكشفه أحد ، صدق نفسه ؛ فصدقه الناس خاصة وعامة ، وصلحت أحوال الناس دين ودنيا ، بينما السياسي الجائر يهاب تلك التعددية لأنها ستكشف المستور الذي يغضب العامة ويهز أركان عرشه ، ولا سبيل إلى قطع هذا الطريق في نظره إلا بوضع التدين وبعض المتدينين تحت عباءته ورهن إشارته لكي يستخدم الدين واجهة تجاه مخالفيه عبر علماء بلاطه ، ولن يتردد في سجن ناصح أو قتل منكر عندما يمس شيئا من زوايا ملكه مهما علا علمه أو جل شأنه أو صدق نصحه ؛ فلا دين يعلو تدينه ، ولا فتاوى تعلو فتاوى علماء بلاطه ، فالحوار معه في ذلك ولو بالحسنى ممنوع ، وحبل الإصلاح في قاموسه شر مقطوع !! والدليل على زيف تدينه رضاه عن موافقيه سياسيا رغم اختلافهم معه في شعاراته الدينية ؛ فعقال بعيره ملتف حول ملكه لا شعارات تدينه المختزلة في ما ينتج عن بلاطه دون سواه ، هذه إفرازات احتكار الدين والتدين أيها العقلاء : تشويه للدين ، وفساد في الحكم ، وتكميم للأفواه ، وتنكيل بالناصحين ، هكذا كانوا ، وهكذا نكون ؛ فهل من مدكر ؟!



    إن أكثر عصور التاريخ الإسلامي ثراء العصور التي كان العلماء فيها متحررين من سلطة الحاكم وشرعنة توجهاته ، وبالضد نتج الضد ؛ فكلما اقترب العلماء من بلاط السلطان ، زاد توسعهم في جلب دعاوى درء المفاسد وسد الذرائع ونحوهما خوفا من غضب السلطان عندما يصدر عنهم ما يخالف خطه السياسي ؛ لذلك أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العلماء بقوله : ( من أتى أبواب السلاطين افتتن ، وما ازداد أحد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا ) . فالعالم يستمد صدقه من صدق ما يحدث به لا من درجة قربه من السلطان ، بل إن أكثر علماء السلطان في التاريخ الإسلامي كانوا أقل أقرانهم دفعا لظلم الحاكم شعبه ، وأكثرهم عونا _ بالقول أو الصمت _ على دعمه في بطشه بالمخالفين حتى لو كانوا ناصحين ، وما استمد الظالم قوته إلا من علماء بلاطه الذين رسخوا في مخيلته احتكار تفسير الدين حسب سياسته ، وازدادوا ولاء بتصديهم للمنكرين عليه بشرعنة ما يقوم به بدعوى السمع والطاعة ما لم تروا كفرا بواحا ، وكأن الإنكار على تجاوزاته ، والجهاد بقول كلمة الحق تجاه سلطانه الجائر نوع من الخروج يستدعي العقاب !!
    لو استعرضنا بعض الأمثلة من التراث الإسلامي على هذا النسق التاريخي ، لوجدنا ما يغذي هذه الظاهرة . الإمام سفيان الثوري ( ت 161 ) أكثر علماء زمانه علما بالحلال والحرام كما قيل عنه في كتب السير والتراجم ، قد ضاق خلفاء بني العباس به ذرعا من جرأته في قول الحق ؛ فنصحه بعض علماء السلطان بقبول عطايا الخليفة ؛ فغضب وقال : ( بهذه تمندل بنا الملوك !! ) . وضيق عليه في آخر حياته حتى مات مختفيا من بطش الخليفة . وسجن ملك دمشق الإمام العز بن عبدالسلام ( ت 660 ) لأنه لم يكن يدعو له في الخطبة دعاء يشتهيه كما يفعل باقي الخطباء ، وهذا ابن تيمية ( ت 728 ) صدح بالحق ؛ فتكالب عليه غضب السلطان وخور قضاة البلاط فسجنوه في سجن القلعة الكبير في دمشق لأنه خالف هؤلاء العلماء في مسألة فقهية من مسائل الطلاق !! ومات في سجنه ، بل إن من أكثر الشواهد في التاريخ الإسلامي بشاعة في درجة احتكار الحاكم تفسير الدين لتصفية خصومه ما جرى في فتنة خلق القرآن . فقد عاث المأمون ( ت 218 ) فسادا في زمن قرب فيه بعض علماء المعتزلة ليستمد منهم غطاء دينيا للتنكيل بخصومه من الحنابلة ، ثم جاء المتوكل ( ت 247 ) ليعكس المعادلة حسب هوى السياسة فيقرب منه علماء الحنابلة وينكل بخصومه بغطاء ديني . هكذا هو مآل احتكار السلطان الدين سياسيا ، وما علماء البلاط إلا أدوات لترسيخ حكمه ، وشرعنة بطشه بخصومه تحت شعار السمع والطاعة متناسين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ، وليس قول كلمة الحق من الخروج في شيء إلا عند بعض علماء بلاط السلطان !!
    عاشت أوربا أسوأ عصورها عندما احتكر أرباب السلطة تفسير الدين ؛ فنتج عنه انتكاسة معرفية وإنسانية قلما شهد التاريخ مثل بشاعتها ؛ فحاولوا الخروج من هذا النفق المظلم بعد قرون مأساوية بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية فنجحوا في تحرير الناس من سلطة احتكار الدين والحكم به ، لكن التدين ما زال يجري في عروق برامج بعض زعمائهم السياسية ، وأحوال بعض شعوبهم اليومية ، بل إن الرئيس الأمريكي منذ المؤسس جورج واشنطن إلى باراك أوباما كان ولا يزال في حفل تنصيبه رئيسا يقسم على الكتاب المقدس أمام الملأ ويدعو الرب أن يساعده !! لكن الإسلام لم يقع في هذا الفخ بل كان مشروع دين ودنيا للأمة ، ولم تسطر الصفحات السود في التاريخ الإسلامي إلا في ظل احتكار السلطان تفسير الدين عبر علماء بلاطه ، وعندما تحرر الدين من اختزال نتاجه بفئة دون أخرى ، لم تكن مشكلة حينها في سلطة الدين على الجميع ، ساد العدل ، وألفى النتاج المعرفي ثريا لتعدد منابعه ، وغدا الدين يعلو ولا يعلى عليه باختزال في بلاط هذا السلطان أو ذاك . ففي عهد عمر بن عبدالعزيز ( ت 101 ) كان الحسن البصري يلقي دروسه بين طلابه في جامع البصرة وبجانبه في الجامع نفسه واصل بن عطاء يلقي دروسه بين طلابه ، ورغم اختلاف مذهبهما لم يتدخل السياسي بالحجر على أحدهما لأنه لم يحتكر تفسيرا للدين يقوي به خطه السياسي المختزل للدين في دائرته ، بل كان عادلا لم يحتج لمثل هذه الأداة النتنة لأن أهل العلم يقابلون بعضهم بالحجة لا بتسلط سياسي يتقوى بأحدهما على الآخر ؛ فكان لحكمة الخليفة العادل مردودا في إثراء الحراك العلمي ، وتثقيفا سلوكيا على جمال التعددية التي تستنير بأصول الدين باعتبارها مرجعية معتمدة عند الجميع .
    من يتتبع التاريخ السياسي الإسلامي ، يجد أن السياسي العادل لا يخشى التعددية لأنه لا يخفي ما يخاف أن يكشفه أحد ، صدق نفسه ؛ فصدقه الناس خاصة وعامة ، وصلحت أحوال الناس دين ودنيا ، بينما السياسي الجائر يهاب تلك التعددية لأنها ستكشف المستور الذي يغضب العامة ويهز أركان عرشه ، ولا سبيل إلى قطع هذا الطريق في نظره إلا بوضع التدين وبعض المتدينين تحت عباءته ورهن إشارته لكي يستخدم الدين واجهة تجاه مخالفيه عبر علماء بلاطه ، ولن يتردد في سجن ناصح أو قتل منكر عندما يمس شيئا من زوايا ملكه مهما علا علمه أو جل شأنه أو صدق نصحه ؛ فلا دين يعلو تدينه ، ولا فتاوى تعلو فتاوى علماء بلاطه ، فالحوار معه في ذلك ولو بالحسنى ممنوع ، وحبل الإصلاح في قاموسه شر مقطوع !! والدليل على زيف تدينه رضاه عن موافقيه سياسيا رغم اختلافهم معه في شعاراته الدينية ؛ فعقال بعيره ملتف حول ملكه لا شعارات تدينه المختزلة في ما ينتج عن بلاطه دون سواه ، هذه إفرازات احتكار الدين والتدين أيها العقلاء : تشويه للدين ، وفساد في الحكم ، وتكميم للأفواه ، وتنكيل بالناصحين ، هكذا كانوا ، وهكذا نكون ؛ فهل من مدكر ؟!
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.