• هل تصمد الفلسفة في عصر العلم؟

    هل تصمد الفلسفة في عصر العلم؟
    بقلم: الأخضر
    ـريسي

    التشكيك في قيمة الفلسفة قديم قدم الفلسفة نفسها، فقد هوجمت الفلسفة في كل العصور، وشكك المتشككون في قيمتها وجدواها، بل حوربت الفلسفة ومعها الفلاسفة كخطر على الفضيلة والفكر أحيانا، وعلى المجتمع والعقيدة أحينا أخرى، غير أن الفلسفة في كل العهود حافظت على مكانها الريادي، ولم تتراجع عن وظيفة القيادة إلى أن حل عهد العلم والتكنولوجيا بانفجاراته المعرفية المذهلة، وانجازاته التكنولوجية المدهشة، فوجد المعادون للفلسفة في العلم وإنجازاته انتصارا للعلم على الفلسفة، وبرهانا على مآل الفلسفة إلى الزوال الحتمي، فهل يؤول التطور العلمي إلى الإجابة عن كل أسئلتنا، وتحقق انجازاته كل حاجاتنا؟ هذا ما تساءلته في يوم الفلسفة، فهل بقي عمر للفلسفة في عصر العلم؟
    إن مهاجمة الفلسفة بدعوى العلمية شائع في كتابات النزعة العلموية التي تتعصب للعلم بالمعنى التجريبي، ونحن لا نجد عناء في العثور على أمثلة كثيرة عنه، عند الكتاب الحديثين والمعاصرين، لكن المقام لا يتسع لأكثر من إشارات قليلة عابرة بقدر خدمة الموضوع.
    فمن هذه الزاوية المتعصبة للعلم وحده، لم يجد دافيد هيوم من العلوم المشروعة غير صنفي: الرياضيات الصورية التحليلية وصنف العلوم التجريبية الطبيعية التركيبية ولا صنف ثالث هما، ومن هنا ينصحنا هيوم إذا دخلنا مكتبة وأردنا اقتناء كتاب، فإما أن نجده في الرياضيات أو الطبيعيات فنأخذه ونحتفظ به، أما إذا كان في غير هما فلنقذف به في النار فهو لا يتضمن غير الخرافات والأوهام.
    ويتبعه في هذه النزعة العلموية المتعصبة مؤسس الوضعية أوغست كونت، الذي يهمش الفلسفة والفلاسفة، حادا الفلسفة في التنسيق بين العلوم الجزئية، وجاعلا الفلاسفة وراء العلماء، تاركا لهم مهمة هذا التنسيق،الذي لا يتسع له وقت العلماء، والعلماء أجدر بها وأفضل في أدائها، لو توفر لهم الوقت.
    ومن أهم الحجج التي يستند إليها القائلون بإلغاء الفلسفة بالعلم:
    إن العلم وحده المعرفة الصحيحة والمشروعة، فما نعرفه نعرفه بالعلم وما لا يعرفه العلم ليس قابلا للمعرفة على الإطلاق، فهو محض وهم لا أكثر، ومن هنا لا يمكن أن تقوم معرفة أخرى إلى جانب العلم لا الفلسفة ولا غيرها. ذلك أن العلم وحده يملك شروط المعرفة الصحيحة والمشروعة: موضوعا ومنهجا وهدفا.
    فمن جانب الموضوع، يحد العلم نفسه في الأشياء الحقيقية الواقعية لا الأوهام التي اختلقها خيال الإنسان في مراحل ما قبل العلم، كما شرح لنا أغوست كونت في نظرية المراحل الثلاث،فالعلم متواضعـ فهويحد نفسه في موضوع الظواهر ولا يتجاوزها مطلقا إلى أي افتراض غيرها،في المرحلة العلمية يقنع الفكر البشري بالظواهر، فيكتفي بكشف علاقاتها الثابتة ليصوغها في قوانين.
    ثم إن العلم وحده دون الفلسفة يوصلنا إلى المعرفة الحقة، لأنه وحده يملك المنهج السليم، فالعلم يسلك المنهج التجريبي الإستقرائي، وكل الحقيقة هي الظواهر المعطاة تجريبيا،التي لا يمكن أن تطالها الفلسفة بمنهج التأمل العقلي، الذي لا ينتهي إلا إلى عالم خيالي وهمي.
    كما أن ما يؤهل العلم وحده لبلوغ المعرفة الحقة هو هدفه. فهدف العلم واقعي حقيقي مشروع، فالعلم يطلب قوانين الظواهر، ويتواضع بتقييد نفسه بهذه الحقيقة النسبية التي هي في متناوله، بينما تطلب الفلسفة هدفا مستحيلا وهميا، هو الحقيقة المطلقة، التي لا توجد إلا في خيال الفلاسفة الواسع، فكما يكرر لنا أوغست كونت:((الحقيقة الوحيدة المطلقة هي أن كل حقيقة هي نسبية)).
    ويسوق المُعادُون للفلسفة بالعلم حجة أخرى، تاريخية، خلاصتها أن ما يُثبت لنا قرب أجل الفلسفة استقلال العلوم عنها. فحتى العلوم الإنسانية انفصلت عنها، وستزول الفلسفة بزوال مولضيعها.
    ثم إننا إذا تفحصنا مضمون العلم ومضمون الفلسفة تبينت لنا ضرورة إلغاء الفلسفة بالعلم.
    إفمضمون العلم هو حقائق تعكس الواقع بكل موضوعية، وهي حقائق متسقة رغم كونها حشدا ضخما من القوانين والنظريات، فلا تجد قانونا علميا يناقض قانونا آخر، أو نظرية علمية تضاد نظرية، ويستطيع أي متشكك إعادتها والتحقق منها، لينخرط في الإجماع.
    أما مضمون الفلسفة فاعتقادات ذاتية لا موضوعية،متناقضة، لا يتفق عليها فيلسوفان.
    كما يرى العلمويون أن النظر في المنجزات، يؤكد حاجتنا إلى العلم لا الفلسفة، ونتائج كل منهما تكشف هذه الحقيقة، فالعلم حقق الأهداف التي رسمها لنفسه، بينما لم تقدم الفلسفة شيئا. فأهداف العلم الأساسية ثلاثة هي: القانون أولا، والتنبؤ ثانيا، والتحكم ثالثا، وكلها أوفاها العلم حقها.
    غير أن حجج العلمويين تبقى ظنية لا قطعية، وهي أحادية الجانب، ومن هنا هي لا تصمد للنقد.
    إننا نستمد من الفيلسوف جورج باسكال: حجتين في دفاعنا عن الفلسفة ضد هذا الهجوم العلموي:
    أولاهما أن هؤلاء العلمويين يتناسون أن العلم ذاته ولد من رحم الفلسفة، فكيف له أن ينقضها.
    أما الحجة الثانية، فتنبه إلى أن الفلسفة هي التي تمهد للعلم وتعبيد له الطريق، ولم يكن دونها ليخطو خطواته العملاقة. فالفيلسوف ريني ديكارت مثلا، فصل النفس والجسد فهما ثنائية متمايزة، وهذا الفصل الديكارتي الجذري للجسد كعضوية مادية آلية مكن من تغيير النظرة إلى الجسم، وأصبح موضوعا علميا يدرس كأية عضوية دراسة وضعية، فنشأ علم البيولوجيا ويتطور على أساس صلب.
    ومن الحجج التي نوردها أيضا: إن العلم يعجز عن القضايا الأكثر جوهرية ، فالعلم لا ينشغل بأخطر القضايا التي تشغلنا كالألوهية والخير والعدل والجمال والحق والحرية.
    كذلك نطعن في إمكانية زوال الفلسفة بالعلم، بحجة: حاجة العلم ذاته إلى الفلسفة.فالعلم يدرس الطبيعة بمنهجه ويصوغ قوانينه معتقدا بسلامة منهجه، وواثقا من صدق قوانينه، ولا يعرضها للنقد. لكن الفلسفة تخضع كل شيء للنقد والتمحيص، فتعيد للعلم تواضعه، وتكشف نقائصه.
    ثم إن حجة العلمويين التي تدعي زوال الفلسفة بانفصال العلوم عنها، حجة مردودة، فانفصال العلوم يخدم بقاء الفلسفة لا زوالها.ذلك أن انفصال العلوم عن الفلسفة لا يضعف الفلسفة بل يقويها، لأن ما ينفصل عن الفلسفة هو ما ليس منها، وبانفصاله تبقى للفلسفة مواضيعها الحقيقية.
    والتطور العلمي بكل ما يجلبه يعمق الحاجة إلى الفلسفة بدل محوها، فتطور العلم يخلق مشكلات جديدة تخرج عن نطاق العلم ذاته. إن العلم مثلا أحدث ثورة في مجال البيولوجيا، ونجح في الإستنساخ، ولكن هذا التطور في المقابل خلق مشكلات خطيرة. كمشكلة أخلاقية الإستنساخ البشري.
    ثم إن العلم والفلسفة مختلفان كلياموضوعا ومنهجا وهدفا، فلا يمكن لأحدهما أن ينوب عن الآخر.
    ومما يثبت أيضا حاجتنا إلى تكامل الفلسفة والعلم، أن العلم يمنح الوسائل والفلسفة ترسم الغايات، وأي إخلال بهذا التكامل يضر بالبشرية. فالقوة غير الموجهة إلى غاية سامية خطر، وهذا واقعنا.
    فالواقع الإنساني اللامتوازن اليوم يهدد للبشرية كلها. فالبشرية: تعيش هوة رهيبة بين التقدم العلمي والتكنولوجي المذهل وبين التخلف الأخلاقي. مما جعل الإنسان المعاصر الشخص ((الذكي الشرير)) وهو أعلم إنسان في التاريخ، وهو في الوقت ذاته هو أشقى إنسان عرفه التاريخ ، لهذا لا نستغرب قول برتراند راسل: ((إني أشعر أحيانا وأنا أعيش في مدينة لندن، أن القرد في غابات الأمازون أسعد مني حالا)).
    هذه المقالة نشرت أصلا في المدونة : هل تصمد الفلسفة في عصر العلم؟ بقلم: الأخضر ﭭـريسي كتبت بواسطة عبد المجيد
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.