• رمضان والإنسان المعاصر

    رمضان والإنسان المعاصر

    حين تسقط نظاراتي أصاب بالارتباك... وحين أجدها تحت الطاولة أهرع إليها أمسحها وأضعها حيث يجب أن تكون.
    لطالما أحببت الصور التي تحتوي كتاباً ونظارة تقبع فوقه، تستهويني فكرة النظارة فوق الكتب، ذلك أنك لولا النظارة لما رأيت السطور وما خلف السطور... كلنا يحتاج لنظارة لفهم ما يحدث حولنا.
    كثيرة هي المسائل التي تشغل بالي، لكن أكثر ما يشغلني اليوم هو فهم الإنسان ، الإنسان المعاصر الذي يدعي غير ما هو عليه، نحن أمام حالة درسية لفهم الإنسان عن طريق سلوكه لا عن طريق خطابه وادعاءاته.
    من أمراض إنسان العصر الحديث الذي ركن لطريقة حياة وطريقة تفكير حداثية حتى ولو ظن أنه يخالفها مرض يدعى الشكوكية.
    نمط الحياة المادية يعلمنا فن الشك ، لا يمكن أن تعيش تحت أضواء المدينة دون أن تتسلح بأحدث أسلحة الشك والريبة
    وليست القضية أننا نتسلح ضد البائع المخادع ، فكل ما حولنا مخادع.
    يتوسل الإنسان المادي اللاهث خلف السعادة في مجتمع الحداثة لابتلاع أكبر قدر من الملذات والأرباح.
    طالما أننا في السوق ذلك يعني البحث عن المصلحة ، والمصلحة دائماً تعني الفردية ، شكل من أشكال الصراع للبقاء
    فالبائع في السوق يحرص على مدح بضاعته ليبيعها أسرع من غيره، والإنسان المعاصر يحرص على عرض بضاعته بلسان معسول وجمل منمقة .
    الشكوكية تتلبس بخطاب مدبج بأجمل العبارات وأكثرها رقة.
    هذه الرقة فيها صدق ما لأنها تنطلق من غايات الإنسان النبيلة في المجد والنصر والسعادة، لكنها في ذات الوقت مغمسة بالأنانية والكذب المباح في الأسواق، فالغاية هنا تصنع الوسيلة .
    يدرك الإنسان المعاصر انطلاقاً من تطويره لقدرته الفردية ورفع حساسيتها لأنها هي التي تقوده نحو النجاح والوصول
    فأي كلمة أو إشارة تنال من هذا الكيان سيتعرض لهجوم عنيف بشتى أنواع الكراهية والغيبة والنميمة والنقد اللاذع.
    طالما هناك فردية فريدة فنحن أمام إدراك عميق للذات ، ففي الوقت الذي يسعى الإنسان المعاصر لخداع الآخر بخطابه بهدف تحقيق هدفه النبيل كما يدعي، فهو يدرك في داخله أنه يمارس الخداع، فهو وإن كان يبرر الوسيلة فهو سيخترع مع وعيه لذاته أدواتها ، سيعي الآخر وسيعرض خطابه للنقد وللشك.
    إننا أمام مرض وربما وباء متفشي اسمه الشكوكية والارتياب ضارب في هذا المجتمع المادي بكل قواه.
    يظن بعض المنظرين للحداثة المتعلقين بقشور الحداثة الغربية أن الغرب دخل في عصر ما بعد الحداثة ونحن لم ندخل الحداثة ذاتها ، في قصور عجيب عن فهم المجتمعين وفهم الحداثة ذاتها كحالة .
    رغم اختلاف المظاهر لكن مجتمعنا العربي المسلم ولدخوله السوق فإنه قد أصيب بأمراض الحداثة العالمية بل وربما أبدع بأشكاله الخاصة من الأمراض النفسية والاجتماعية.
    لن تقتصر الشكوكية على السوق ، والسوق التي ندعي ليست فقط في المتاجر بل هي في كل نشاط اجتماعي يتعرض فيه الإنسان للاحتكاك مع الإنسان لتبدأ عملية الخداع المتبادل .
    هذا الإنسان الذي نهتم به بمجرد أن يعود ليجلس مع نفسه لن يستطيع التخلص من الريبة والشكوكية التي مارسها طوال هذا اليوم، وطالما أنه بحاجة للدفع الذاتي فهو سيشك بقواه ويدخل في الصراع مع الذات.
    إن انفصام الشخصية أحد أهم أمراض المجتمع الحداثي، فالإنسان المسلم الحداثي يحرص على الهوية الإسلامية المتمثلة بالشكلانيات فهو يصوم ويصلي لكنه في السوق يبيح الغش والربا ويبيح تحصيل أكبر قدر من الملذات، وإن أقلهم حداثة وربما يقع في أسفل السلم فهو الإنسان الاستهلاكي الذي اعتاد تجريب كل شيء حلال، لذلك كثير من هذه الشرائح حين صامت عن الاستهلاك بحكم التضخم والحصار وظروف الحرب في سورية، اختارت الهجرة والبحث عن النمط الذي اعتادته من الاستهلاك، استهلاك الأطعمة والملذات واستهلاك الصحة والوقت ، لقد استهلكنا كل شيء والحضارة الإنسانية تقبع اليوم فوق حاوية قمامة كبيرة مكدسة بالأكياس السوداء ، والحضارات الأكثر حداثة ابتدعت حاويات تفصل فيها بين أنواع القمامة.
    قمامة للأحلام وقمامة للوقت وقمامة للعلاقات وقمامة للمشاعر، وحدها الأجنة التي أجهضت سُمح برميها في البلاليع.
    وأخيراً ملت الحضارة من كم النفايات ولجأت لطريقة فريدة في التخلص منها وهي الحرق، فمجرد أن تتصل بفرع القمامة البشرية حتى تصل عربة يأخذون جثة والدك أو والدتك ويعيدون لك مزهرية تحوي رماد من أنجبك وسهر عليك حتى كبرت وأصبحت حراً في حرق جثته .
    نعم وقودها الناس والحجارة ، لقد اخترعت الحداثة الفردوس الأدنى واضطرت لخلق النار ، فجمال الفردوس ونظافته وبريقه يجب أن يكون خالياً من كل ما يعكر صفاء الفردوس الأدنى.
    فالذكريات كذلك تحتاج لمحرقة لكي نتخلص من تأنيب الضمير وما يعيق سعادتنا .
    لقد خلقت الحداثة الفردوس الأدنى فاضطرت لخلق النار.
    هذا هو مجتمعنا العربي اليوم إلا ما رحم ربي في الريف كما المدينة ، عند الفلاح قبل الصناعي ، تتفاوت النسب لكنها تسير بجد نحو هدفها.
    وطالما أننا في رمضان نستطيع أن ندرك إن الإسلام وجد ليخلصنا من مشاكلنا وأمراضنا، الحل هو الصوم عن أمراض العصر لعل النفس تتقوى بالبعد فتستعيد توازنها، نعم العنوان الرئيس هو الصوم عن الطعام والشراب، لكن الصوم يطال كل أنواع الأمراض الإنسانية كالغيبة والفجور والمراء وقول الزور والنظرة الحرام، إنه محاولة ربانية لتقويم الإنسان الذي أسرف على نفسه، وطالما إنه كان حلاً ناجعاً لأمراض الإنسان في التاريخ القديم، فهو العلاج الأمثل للإنسان المعاصر ، بل ربما الإنسان الحداثي يحتاج لرمضان أكثر من أي وقت مضى، لأن فيه شفاء من أمراضه النفسية
    وعينا لرمضان وأثره على النفس البشرية سيدلنا كذلك على الممارسات الخاطئة التي نرتكبها في فترة العلاج.
    رمضان كريم على النفس الإنسانية فلا تحرموا أنفسكم عطاياه.
    طارق شفيق حقي

    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : رمضان والإنسان المعاصر كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.