• الإسلام في بريطانيا 1558 - 1685

    الإسلام في بريطانيا 1558 - 1685




    هذا بحث مبهر في التاريخ المسكوت عنه والمتناسى، عن أثر الإسلام في بريطانيا في القرن السادس عشر والسابع عشر، يتتبعه الباحث الفلسطيني نبيل مطر بتمحيص مثير للدهشة في كم الأعمال والرسوم والنشرات والقوائم والأخبار والأشعار والمسرحيات والمواعظ التي كتبها الانكليز في تلك الفترة... لم يكن الإسلام صورة باهتة عابرة تحدث هناك بعيدا وراء البحار يمكن تجاهلها، بل كان أثر الثقافة الإسلامية من القوة بحيث ترك بصمته في الحياة البريطانية في كل مناحيها ابتداء من مثقفيهم وانتهاء بالمظاهر العامة، يتراوح هذا الأثر ما بين الانبهار والتقليد وبين التحذير خوفا من التترك والتحول إلى الإسلام... وقد حصل أن قوّت الملكة إليزابيث الأولى علاقتها مع الدولة العثمانية على إثر خلافها مع روما، مما زاد هذا الأثر حتى بات مشهد رؤية التجار الأتراك في لندن مألوفا... وهكذا صار الإسلام مسألة فكرية واجتماعية موجودة في عقر دارهم عليهم التعامل معها... وقد اعتنق الإسلام آلاف من المسيحيين الأوربيين في عصر النهضة والقرن السابع عشر، مع عدم وجود العكس من المتحولين للمسيحية من المسلمين إلا نادرا جدا... مما استدعى استنفارا لدى مثقفي الإنجليز لتشويه هذه الجاذبية من خلال ثلاث مجالات ونشاطات: هي الجدل اللاهوتي والمسرحية والحماسة الصليبية... وهكذا خلقت المسرحيات الانجليزية صورة جديدة للواقع غير ما هو عليه، وعاقبوا هؤلاء المتحولين بتصويرهم بأبشع صورة وتصوير حالهم بائسا على عكس الواقع الذي يخبر بأن حالهم صار أحسن، فضلا عن حصول الكثيرين منهم على مناصب في الدولة العثمانية أو بلاد المغرب، فلم يكن مرتد المسرح إلا من نسج الخيال الإنجليزي... وانتقموا وانتصروا بالمسرح على ما لم يكن بإمكانهم امتلاكه ولا تجاهله في الواقع... وهذا تحليل عميق من مطر، حيث سبق وقرأت كتابا عن صورة الشرق في الأدب الإنجليزي والتي كان يغلب عليها الجهل، لكن كتاب مطر قد أوضح لي أن جزءا كبيرا من تلك الصورة كان مفتعلا لمضادة الواقع...

    أيضا كان اطلاعهم عن قرب على طبيعة الدولة العثمانية من كون الكثير من أصحاب الديانات الأخرى يعيشون فيها بحرية بل ويحصلون على مناصب، دور كبير في اندلاع نقاشات في الأوساط الثقافية البريطانية، عن الأسباب وعن طبيعة الإسلام، ومقارنته بذاتهم، ومطالبة البعض بالتشبه بهم والإصلاح وتمني آخرين أن يكونوا من رعاياها... ناهيك عن القرآن الكريم الذي انتشرت ترجمته وأشعل النقاشات في المجالس والكتابات والمقاهي التي إنما افتتحت ابتداء بتأثر من مشروب الأتراك السحري القهوة الذي سموه بحبوب المحمديين، حتى دخلت اللغة الانكليزية كلمات جديدة مستمدة من لفظ القرآن مثل alcoraned و alcoranal... وهذا جعلني أتساءل ما هو مدى تأثير القرآن الكريم على مفكري النهضة وعلى عصر الإصلاح الديني وعلى تشكل أوروبا الحديثة بشكل عام، وهل من دراسة اهتمت ببحث هذا؟ وهذا التساؤل ازداد عندي بسبب مجموعة من أفكار من القراءات المتراكمة، وربما أعمقها كتاب منابع الذات لتشارلز تايلور في بحثه المسهب في تطور الذات الغربية، و هو إن لم يتطرق لسبب التطور وإنما لكيفيته، لكن هذه الكيفية مع قراءة كتاب مطر هذا، فتحت هذا السؤال على مصراعيه... أظن مثل هذا السؤال يحتاج لباحث قدير بنفس مدقق مثل نبيل مطر... وجدير بالذكر أن هناك من لفت نظري لكتاب صدرت ترجمته العربية حديثا عن دار جداول وهو كتاب (جيفرسون والقرآن: الإسلام والآباء المؤسسون لدونيز سبيلبرغ)، وهو وإن كان مهما، إلا أن تساؤلي عن أوروبا في فترة سابقة لجيفرسون...

    في الكتاب الكثير من الغرائب والطرائف والمعلومات اللطيفة بل والصادمة... وربما أكبر فائدة يخرج بها المرء من الكتاب هي رؤية أن ترتيب العالم على شاكلته اليوم ليس من طبائع الأشياء ولا نهاية للتاريخ، وأن مسلمات وتراتبيات عالمية حالية لوضع الدول كانت قبل فترة من التاريخ مختلفة حد النقيض، والأيام دول، فمن سره زمن ساءته أزمان... كما أيضا يجعلنا نفهم أن تاريخ أوروبا اليوم ليس مفصولا عن تاريخ الأمس، وإنما امتداد له، وما الحداثة إلا القشرة التي تخفي تحتها هذا التاريخ الطويل، بل يكفي أن يقرأ المرء كيف كان يتمنى بعض كتاب الانكليز أن يسلموا الأراضي المقدسة لليهود فيقضون على المسلمين، وقد تم مرادهم بعد قرون... كما تم تناسي الكثير من صور العلاقات المشرقة والودية بين العالمين والأثر الكبير الذي تركه مجاورة العالم الإسلامي على هذه الدول ومثقفيهم ومحاولاتهم النهضوية، وهو ما يحاول نبيل مطر نفض الغبار عنه وإبرازه من جديد، وهو صوت يحتاجه هذا العالم أمام أصوات التطرف المجنونة...

    كمية المراجع المبحوث فيها أمر مثير للإعجاب، ونبيل مطر وهو الأستاذ في جامعة مينسيوتا الأمريكية، متخصص بتاريخ بدايات العلاقات الأوروبية الإسلامية، وله عدة كتب حول نفس الموضوع، والتي تسعى لإعادة كتابة تاريخ هذه البدايات... كما أن ترجمة الكتاب ممتازة، والجميل أن الحواشي قد تركت بالانكليزية كما هي، مما يسهل على الباحث الراغب في الاستزادة...

    كتاب جميل جدا، وأنصح به...

    وأنهي بذكر بعض من المعلومات من الكتاب، مع صور عنها من النت:



    - غلاف أول ترجمة انكليزية كاملة للقرآن ظهرت عام 1649 ترجمها عن الفرنسية ألكساندر رس Alexander Ross، الذي كان لا يتقن العربية. كانت الترجمة رديئة وفظة، ولكنها بقيت الوحيدة مدة 85 سنة حتى ظهر غيرها. وقد تزامن نشرها مع انتشار القهوة في انكلترا والتي سموها "حبوب المحمديين"، فسحر الناس بها، مما جعل بعض مثقفيهم يشعرون بخطرها الثقافي، فكتبوا: (ما إن بيعت القهوة عندنا، حتى ظهر القرآن بيننا)، داعين لتجنبها، لأنها تدخل قلب الانكليزي فتجعله معجبا بالإسلام ومستعدا للتحول إليه.

    ------------


    - بورتريه للسفير المغربي في لندن محمد الأنوري عام 1600م Muhammad al Annuri

    --------


    - سفير مراكش جورار بن عبد الله Jaurar Ben Abdella في لندن عام 1637 وهو ذو أصل برتغالي كان تحول إلى الإسلام، وقد أثنى عليه الانكليز وعلى تقواه واحتفوا به، رغم شناعة التحول بالنسبة لهم وشعورهم بهذا الخطر يهدد ثقافتهم.
    --------


    - نظم إدوارد بوك قصائد بالعربية للمناسبات الوطنية الكبرى كعودة شارل الثاني عام 1660، وبذلك جعل الخط العربي مألوفا لدى القارئ المثقف، وفي عام 1661 ترجم قصيدة لامية العجم إلى اللاتينية، وهذه صورة للمخطوط.
    -----------


    - كانت دمشق مهمة جدا في فكر عصر النهضة وأعجوبة في نظر البريطانيين؛ لأنه كان ينظر إليها كمدينة نموذجية ومكان يمكن أن يكون مثالا تحتذيه المدينة الأوروبية، وهذه خريطة لدمشق من القرن السادس عشر من كتاب Civitates Orbis Terrarum by Franz Hogenberg and Georg Braun

    ----------


    - صورة من عام 1668 لمقهى في لندن، وقد افتتح أول مقهى فيها عام 1652، وكان لهذا المشروب (الذي سموه بحبوب المحمديين) أثر كبير جدا، حد اعتبار شربه انعكاسا لشخصية الأوروبي في المجتمع الجديد المتمسك بأخلاقيات العمل البروتستانتي والمنتج والنشط.

    -------


    - البريطاني هنري ستوب (ت 1676) وهو طبيب انكليزي، هو أول من كتب سيرة ودية للنبي صلى الله عليه وسلم بالانجليزية ولم يستطع نشرها حينها، بعنوان (وصف لصعود وتقدم الملة المحمدية مع سيرة لمحمد ودفاع عنه وعن دينه ضد أباطيل النصارى) An Account of the Rise and Progress of Mahometanism with the Life of Mahomet, and a Vindication of him and his Religion from the Calumnies of the Christians، وقد نشر الكتاب بتحقيق من نبيل مطر مع مقدمة له عن ستوب، وهذه صورة للغلاف.



    --
    الإسلام في بريطانيا 1558-1685 Islam in Britain
    لمؤلفه الفلسطيني: نبيل مطر Nabil Matar
    ترجمة بكر عباس
    مراجعة: إحسان عباس
    تقديم: محمد شاهين
    المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2002م


    سلمى
    20 كانون الثاني 2017
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.