• حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم- د مسعد الشايب

    د . مسعد الشايب
    ((حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم))



    الحمد الله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد رسول الله ، وبعد:


    فمن المسائل الشائكة التي يثار حولها الجدلُ كل عام ـ وتحديدًا عند اقتراب السنة الشمسية من نهايتها، واقتراب عيد ميلاد السيد المسيح (عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) ـ والتي اختلف فيها العلماء ما بين مجيزٍ ومانعٍ ـ حسب تكييفهم الفقهي لها ـ مسألة (تهنئة غير المسلمين بأعيادهم)، هذا وقد سألني بعض الأخوة الفضلاء المنكرين للتهنئة عن أقوال الأئمة الأربعة في هذه المسألة، وكأنه سؤالٌ تعجيزي، وكأنه يقول لي: إن الفقهاء الأربعة منعوا من تلك التهنئة، فعقدت العزم مستعينًا بالله (عزّ وجل) على كتابة تلك الرسالة الموجزة: (حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم) مرجحًا ما اطمأن إليه قلبي ـ بدون تحيزٍ وتعصبٍ ـ ما رجحته الأدلة من نصوص وقواعد الشرع الحنيف، وأقوال السادة الفقهاء، مجليًا هذه المسألة وموضحًا إياها لعوام الناس، ثم أقوم ببيان الرأي الأخرـ وبيان الردّ عليه، فأقول وبالله التوفيق:

    ((مقدماتٌ سبعة لا بد منها قبل الولوج في بيان حكم المسألة))

    أولا: علاقة الإسلام بما قبله من الرسالات السماوية السابقة وأصحابها علاقة تعارف وتعاون لخدمة البشرية، وليست علاقة نفيٍ وتشريدٍ، وإزاحة، والنصوص الشرعية في هذا عديدة وكثيرة، أُذكر منها بالآتي: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحُجُرات:13]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وقال تعالى: ï´؟غ‍وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلغ،مِ فَظ±جغ،نَحغ، لَهَا وَتَوَكَّلغ، عَلَى ظ±للَّهِغڑ إِنَّهُغ¥ هُوَ ظ±لسَّمِيعُ ظ±لغ،عَلِيمُï´¾[الأنفال:61]، وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعامل مع غير المسلمين بكافة أنواع المعاملات؛ بيع، شراء، رهن، استخدام، عقد معاهدات، زيارة مرضى...إلخ، مما يتضح معه أن العلاقة بيننا وبين الآخر علاقةٌ تكامليةٌ.


    ثانيًا: الإسلام هو دين السماحة، دين تأليف القلوب، وهذا أظهر ما تميز به الإسلام ونبيه، قال تعالى:ï´؟فَبِمَا رَحغ،مَةظ– مِّنَ ظ±للَّهِ لِنتَ لَهُمغ،غ– وَلَوغ، كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ظ±لغ،قَلغ،بِ لَظ±نفَضُّواْ مِنغ، حَوغ،لِكَغ– فَظ±عغ،فُ عَنغ،هُمغ، وَظ±سغ،تَغغ،فِرغ، لَهُمغ، وَشَاوِرغ،هُمغ، فِي ظ±لغ،أَمغ،رِغ– فَإِذَا عَزَمغ،تَ فَتَوَكَّلغ، عَلَى ظ±للَّهِغڑ إِنَّ ظ±للَّهَ يُحِبُّ ظ±لغ،مُتَوَكِّلِينَï´¾[آل عمران:159]، والنصوص في ذلك عديدة وكثيرة أيضًا، وقد أفردتها ببحث قديمًا أنشره لاحقًا إن شاء الله.



    ثالثًا: لابد لكل من يتصدى لتلك المسائل الشائكة ليقطع فيها رأيًا أن يكون دارسًا لأصول الفقه عالمًا بمصادر التشريع المتفق عليها (القرآن، السنة، الإجماع، القياس) والمختلف فيها (الاستحسان، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا، قول الصحابي، والعرف والعادة، وعمل أهل المدينة عند المالكية...الخ).
    رابعًا: عند إصدار الفتاوى يجب مراعاة مقاصد الشرع الحنيف، والهدف من دعوته ورسالته، وخصوصًا في المسائل المستحدثة، والمسائل التي لها تعلق بغيرنا، واستحضار وسطيته عند الافتاء في تلك المسائل.



    خامسًا: الترك (عدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم) لا يُعدّ دليلًا على المنع والتحريم، فدائرة المباح واسعة جدًا، ومنها: المسكوت عنه في شرعنا، وهناك ما يسمى بالبراءة الأصلية للشيء (أي: حله وعدم حرمته) فالأصل في الأشياء الإباحة إلا الأموال والفروج، قال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ حَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَفَرَضَ لَكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَتَرَكَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَكِنْ رَحْمَةٌ مِنْهُ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا وَلَا تَبْحَثُوا فِيهَا)(المستدرك للحاكم واللفظ له، والسنن الكبرى للبيهقي، والمعجم الأوسط، وغيرهم)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَا كان ربك نسيا})(مسند البزار واللفظ له، والمستدرك للحاكم، ومعجم الشاميين للطبراني)

    وقد ترك النبي (صلى الله عليه وسلم) أكل الضبّ فهل أكله حرام؟ وترك صلاة الضحى فهل صلاتها حرام؟ وترك بناء الكعبة على أساس إبراهيم (عليه السلام) فهل ردّها لهذا البناء حرام؟ وترك صلاة التراويح في المسجد فهل صلاتها في المسجد حرام؟ وترك الوضوء مما مست النار فهل هو حرام؟.



    وقد يكون الترك للنسيان، وقد يكون لعلة غير ذلك، فمن أين جعلنا الترك علة للتحريم وحسب؟ والآية القرآنية تقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، فلم تقل: {وما تركه}، فالتحريم يحتاج إلى نهي أو دليل مع الترك، ولا يكفي الترك بمفرده دليلًا على التحريم.

    ومن الثابت تاريخيًا والذي لا مراء فيه أن النصارى والمسيحيين لم يساكنوا النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة المنورة كما ساكنه اليهود فيها، بل وفدوا عليه (صلى الله عليه وسلم) فقط (وفد نصارى نجران) في عام الوفود العام العاشر الهجري، وبالتالي لم ينقل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه المسألة حكمٌ أو قولٌ، وبالتالي لا يجوز للمانعين من تهنئة الأخوة المسيحيين الاعتراض على المجيزين للتهنئة بحجة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يفعله، فالأخوة المسيحيين لم يساكنوا النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، فمساكنهم كانت على أطراف الجزيرة العربية، بل إن في وفد نصارى نجران دليلٌ على جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم كما سيتبين.



    سادسًا: يجب أن نفرق بين المشاركة لغير المسلمين في الاحتفال بأعيادهم وبين التهنئة والتعايش السلمي والمعاملة الحسنة، فشتان بينهما كما بين السماء والأرض؛ لأن المشاركة في الفعل تفيد الرضى به أما مجرد التهنئة فلا، فقد أباح النبي (صلى الله عليه وسلم) لوفد نصارى نجران الصلاة في مسجده بعد أن همّ الصحابة (رضي الله عنهم) بمنعهم.(السيرة النبوية لابن كثير)، قال الإمام الزرقاني: (فأراد الناس منعهم) لما فيه من إظهار دينهم الباطل بحضرة المصطفى، وفي مسجده، (فقال (عليه الصلاة والسلام): (دعوهم)، اتركوهم تأليفًا لهم ورجاء إسلامهم، ولدخولهم بأمان...، ومنع مَنْ تعرَّض لهم، فليس فيه إقرار على الباطل. (شرح الزرقاني على المواهب اللدنّية للقسطلاني (5/187))، وقام (صلى الله عليه وسلم) لجنازة يهودي. فهل هذا إقرارٌ لعقيدته؟.



    وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رضي الله عنه) قَالَ: (إِنَّا لَنَكْشِرُ(أي: تظهر أسناننا) فِي وجُوهِ أَقْوَامٍ وَنَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ)(البخاري تعليقًا، والحلم لابن أبي الدنيا واللفظ له)، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه): (خَالِطِ النَّاسَ وَدِينَكَ لاَ تَكْلِمَنَّهُ وَالدُّعَابَةِ مَعَ الأَهْلِ)(البخاري تعليقًا)، وكان سيدنا عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) يذبح الشاة ويرسل منها لجارها اليهودي، وعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ: (لَيْسَ بِحَكِيمٍ مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا)(الحلم لابن أبي الدنيا).



    قلت (المؤلف): في كل ذلك إشارة إلى مراعاة البُعد الاجتماعي، والأخوة الإنسانية بغض النظر عن المعتقد، ومن ذلك جواز التهنئة بأعيادهم.
    سابعًا: تهنئة غير المسلمين بأعيادهم ليست من أمور العقيدة في شيء بل هي أمر فقهي، وقد يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وما صلح في أزمنة ماضية قد لا يصلح في أزمنة حاضرة ولا حقة.
    ((ومن هنا أقول بعد هذه المقدمات السبعة)):

    لا مانع شرعًا في دين الله (عزّ وجلّ) من تهنئة غير المسلمين بأعيادهم طالما أنهم لم يقاتلوننا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يجلبوا علينا شرًا، وهذا ما عليه دار الافتاء المصرية اليوم، ومجلس الافتاء الأوربي وهو رأي جلّ علماء الأزهر قديمًا وحديثًا كالشيخ رشيد رضا، والدكتور الشرباصي، والشيخ الشعراوي والدكتور القرضاوي والدكتور نصر فريد واصل، والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي للأدلة الآتية:

    1. أن هذه التهنئة من باب التعايش السلمي (تقبل فعل جسد بدون رضا قلب عن عقيدته) الذي دعا إليه الإسلام وأقره كقيمة انسانية، فالتعايش السلمي من صميم علاقة الإسلام بغيره، وهو مظهرٌ من مظاهر السماحة فيه، قال تعالى:{لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[سورة الممتحنة الآيتان:9،8]، قال المفسرون: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برّهم، وإن كانت الموالاة منقطعة. زاد المسير (4/270)،

    قلت (المؤلف): والبر: هو حسن المعاملة والإكرام، فهو لفظٌ عامٌ يشمل كل إكرام بالقول أو الفعل، ومن الإكرام بالقول تهنئتهم بأعيادهم، كما أن هاتين الآيتين هما دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم، وقد فرقا بين غير المسلم المحارب لنا والمسالم معنا.
    2. أن النص القرآني عامٌ بإباحة كلِّ قولٍ حسنٍ للناس عمومًا مسلمين وغير مسلمين، فقال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[سورةالبقرة:83]، ومن القول الحسن تهنئتهم بأعيادهم، وقد تقدم الدليل على ذلك من فعل السلف في المقدمة السادسة في بيان الفرق بين التهنئة والمشاركة الفعلية.

    3. أيهما أشد في المعاملة الحسنة التهنئة لغير المسلمين بالأعياد أم أكل طعامهم وتزوج نسائهم المنصوص عليه بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}[سورة المائدة:5]، وزيارة مريضهم، واستخدامهم، والمعاملة معهم بالبيع والشراء؟.
    لاشك أن إباحة تناول طعامهم وتزوج نسائهم...إلخ أشد من التهنئة في المعاملة الحسنة، وهذا مباحٌ، فما هو أقل منه مباح من باب أولى، ولو كان في إباحة تزوج نساء أهل الكتاب، وأكل طعامهم مشاركة ورضى بعقيدتهم ما أباحه القرآن الكريم فدّل ذلك على الفرق بين التهنئة والمعاملة الحسنة والمشاركة في الفعل، وهذا يبين ويوضح أن مجرد التهنئة لا شيء فيها مطلقًا.



    وقد مات رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاع من شعير، ووقف لجنازة يهودي مرت به، وتعاهد مع غير المسلمين للدفاع المشترك عن المدينة، وقبل هديتهم...إلخ، مما يدل على أن المعاملة الحسنة لا حرج فيها، ومنها التهنئة بأعيادهم، ومن الممكن أن نستدل بطريق القياس على تلك الأمور بحلّ التهنئة، فالقياس هو إلحاق أمرٍ بأمرٍ لعلة المشابهة بينهما.



    4. قال تعالى: ï´؟وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةظ– فَحَيُّواْ بِأَحغ،سَنَ مِنغ،هَاظ“ أَوغ، رُدُّوهَاظ“غ— إِنَّ ظ±للَّهَ كَانَ عَلَىظ° كُلِّ شَيغ،ءٍ حَسِيبًاï´¾[النساء:86]، والتحية هنا لا تقتصر على السلام وحسب بل يدخل فيها كل معاملة ومجاملة حسنة، وقد جاء الأمر بردّ التحية عمومًا لا فرق بين مسلم وغيره، وقد يكون لي جارٌ أو زوجة (مع ما يستلزمه الزواج من المودة والمصاهرة والرحمة)، أو صديق أو زميل أو شريك...إلخ غير مسلم يعاملني معاملة حسنة ويشاركني أفراحي وأتراحي أفلا أهنئه بعيده؟ وقد قال الله تعالى: ï´؟هَلغ، جَزَاظ“ءُ ظ±لغ،إِحغ،سَظ°نِ إِلَّا ظ±لغ،إِحغ،سَظ°نُï´¾[الرحمن:60]، وهذا من المبادئ القرآنية العامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومما يدل على ذلك أيضًا ما ورد عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما)، قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومدتهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: (نَعَمْ صِلِيهَا) (متفق عليه).



    5. أن من يعيشون بيننا من غير المسلمين يعدون جيرانًا لنا، ولهم حق علينا، وقد وصّى النبي (صلى الله عليه وسلم) بالجيران عمومًا، فقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)(متفق عليه واللفظ لمسلم)، وعن مجاهد، أن عبد الله بن عمرو (رضي الله عنهما) ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) (رواه الترمذي)، وفي رواية: أن رجلًا أنكر على ابن عمرو (رضي الله عنهما) قائلًا له: اليهودي أصلحك الله؟، فردّ عليه بهذا القول للنبي (صلى الله عليه وسلم) (الأدب المفرد).



    قلت (المؤلف): فيه دلالةٌ على أن الصحابة (رضي اللَّه عنهم) كانوا يأخذون بعموم الألفاظ، كما أخذ عبد اللَّه بن عمرو (رضي اللَّه عنهما) بعموم (ال) التي لاستغراق الجنس في قوله: (بالجار) فأدخل في عموم الجار كل من كان مجاورًا له من مسلم ذكر أو امرأة، كافرٍ ذمي أو غيره ممن هو معصوم الدم، ومن إكرام الجار الغير المسلم تهنئته بأعياده وأفراحه، وتعزيته في أتراحه، وهو من البر الذي أباحته آية الممتحنة، ويتعين ذلك علينا إذا كانوا يجاملوننا في أعيادنا لأجل آية النساء وآية الرحمن.

    وفي فعل ابن عمرو (رضي الله عنهما) أيضًا مراعاةٌ للبُعد الإنساني، ومراعاةٌ لحق الجار والوصية به، والأخوة المسيحيين جيراننا وشركاؤنا في الوطن، ومن الإحسان إليهم تهنئتهم بأعيادهم.


    6. ومما يدل على جواز التهنئة لغير المسلمين بأعيادهم، ما ورد أن عقبة بن عامر الجهني (رضي الله عنه) مرّ برجل هيئته هيئة مسلم، فسلم، فرد عليه: (وعليك ورحمة الله وبركاته)، فقال له غلامه: إنه نصراني، فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنْ أَطَالَ اللَّهُ حَيَاتَكَ، وَأَكْثَرَ مَالَكَ وَوَلَدَكَ) (الأدب المفرد)، وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَفِيكَ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ مَاتَ) (الأدب المفرد)، أليست هذه الدعوات من جنس التهنئة لغير المسلم بعيده؟
    ((المانعون وأدلتهم، والردّ عليها، وتوجيهها))
    إزاء هذا الرأي الوسطي المناسب لروح الإسلام وتعاليمه، ذهب فريق أخر إلى منع وحرمة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وقد نُسب هذا القول للإمام ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم، وتابعهم على ذلك الوهابية، ومدعوا السلفية، والمتشددون والمتنطعون اليوم، ونسوا أن تلك المسألة أمر فقهي خاضع لتتغير باختلاف الجهات الأربع، ونسوا أيضًا أن الخلاف لا غضاضة فيه فقد اختلف الصحابة والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين ظهرانيهم، ومسائل الإجماع في الشريعة الإسلامية معدودة ومحصورة وأقل بكثير من مسائل الخلاف، ونسوا أيضًا أننا مأمورون بالتزام أدب الحوار والخلاف، ومأمورون بعدم التعصب والتشدد لما نعتقد من الآراء الفقهية، ومأمورون بعدم الإنكار على من خالفه، فالقاعدة الفقهية تقول: (لا ينكر في المختلف فيه)، وقد جاءت أدلتهم كالتالي:



    (1) أن هذا الأمر (التهنئة) لم يفعله النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفيه تشبه بغير المسلمين، ومشاركة لهم.
    الردّ: أن الترك ليس بعلة للتحريم كما تقدم، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ما هو أشد من تهنئتهم من زيارتهم، وقبول هديتهم...إلخ، وأباح القرآن الكريم تناول طعامهم، وتزوج نسائهم، وفرق بين التهنئة والتعايش السلمي والمعاملة الحسنة وبين المشاركة في الفعل كما تقدم، والمجاملة شيء والاعتقاد شيء آخر، كما أن النصارى لم يجاوروا النبي (صلى الله عليه وسلم) في المدينة فمن الممكن أن يحمل ترك تهنئتهم على عدم المجاورة، ويحمل ترك تهنئة اليهود لمحاربتهم له (صلى الله عليه وسلم)، وقد أجلاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) عن المدينة كما نعلم.


    (2) ما جاء من آيات قرآنية في النهي عن مودة وموالاة غير المسلمين.

    الرد: أن تلك الآيات يقصد بها غير المسلمين المحاربين لنا المخرجين لنا من ديارنا كما جاء في سورة الممتحنة، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:9]، حتى لا تتعارض النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية.
    (3) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72].
    الردّ: المراد بالمشاهدة هنا الحضور والمشاركة، وقد فرقنا فيما تقدم بين مجرد التهنئة وكونها من التعايش السلمي، وكونها مجاملة، ومن البر ومن مكارم الأخلاق، وبين المشاركة والحضور فشتان ما بينهما فالآية ليست محلًا للاستدلال على منع التهنئة.

    (4) يقولون: قول ابن تيمية، وابن القيم أولى من غيرهما.


    الردّ: كذب العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي نسبة هذا الرأي لابن تيمية، ونسب لابن تيمية اختياره تهنئة غير المسلمين لما فيه من المصلحة، وذكر للحنابلة في المسألة ثلاثة أقوال: هي الجواز، والمنع، والكراهة.
    وعلى فرض أن ذلك صحيح فكما ذكرت سابقًا أن تلك المسألة من المسائل الفقهية التي تتغير بتغير الجهات الأربع، والفتوى التي أصدرها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بتحريم تهنئة غير المسلمين لها ظروفها الخاصة فقد كان عصره مليئًا بالحروب، حروب التتار مع المسلمين وقد عاصر هو نفسه أواخر الحروب الصليبية، فأي تهاون ومودة معهم يعني الرضا بالمحتل، ومن ثم لا بد من اختيار فقهي يحفظ للناس تماسكهم أمام هذا المغتصب، فكانت فتاواه بتحريم التهنئة وتابعه تلميذه ابن القيم عليها، أما اليوم فقد تغيرت الظروف والأحوال وأصبحنا منفتحين على الأخرين، وتربطنا بهم علاقات كثيرة فكان ولابد أن تتغير تلك الفتوى أيضًا.

    ((كلمات في الختام، وملخص المقال))


    1. يجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ولا يجوز مشاركتهم فيها، قال تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6]، فهناك فرق بين التهنئة والبر والتعايش السلمي وبين المشاركة.


    2. تهنئة غير المسلمين بأعيادهم مظهرٌ من مظاهر البر، ومظهر من مظاهر سماحة الإسلام، ونوعٌ من المجاملة.



    3. النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته (رضي الله عنهم) فعلوا وأمروا بما هو أكبر من التهنئة، والتهنئة تقاس على تلك الأمور.


    4. مَنْ يجوز تهنئته هو: غير المسلم المسالم لنا أما من يحاربنا كاليهود اليوم فلا يجوز تهنئتهم، ويجب على غير المسلمين الذين يعيشون معنا أن يسالموا منْ سالمنا، وأن يكونوا حربًا على منْ حاربنا كما يستفاد من آية الممتحنة، وكما تدل عليه معاهدة الدفاع المشترك بين النبي (صلى الله عليه وسلم) وطوائف المدينة من اليهود وغيرهم.



    5. يجوز الهدية أيضًا لغير المسلم، بما هو مباحٌ في شرعنا فلا تجوز الهدية بالخمر...إلخ، بل ويجوز التصدق عليهم، والدعاء لهم بالهداية، وتعزيتهم كما قرر الفقهاء.

    6. جواز تهنئة غير المسلمين ببطاقات التهنئة، بدون أن تشتمل على آيات قرآنية أو أحاديث نبوية فهم لا يدركون قداستها، وقد يمتهنونها أو يلقونها في المخلفات.


    7. جواز تهنئة غير المسلمين بالكلام المباح في شرعنا، وبما ليس فيه مخالفة لديننا.
    8. القائلون بالتفرقة في التهنئة بين العيد الديني والعيد الغير ديني لا يفقهون شرعًا معنى العيد فالأعياد لا تكون إلا دينية، وها هو النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول لأهل المدينة: (كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ، وَيَوْمَ الْأَضْحَى)(رواه النسائي)



    9. الفتوى تتغير بتغير الجهات الأربع (الزمان والمكان والأحوال والأشخاص)، وما يصلح لزمنٍ لا يصلح لآخر، ومسألة التهنئة ليست من العقيدة أساسًا، فهي قابلة للتغير بحسب الجهات الأربع.


    10. أدلة المانعين للتهنئة أدلة مرجوحة ومردود عليها، ولا تصلح دليلًا للمنع من التهنئة.

    والله تعالى أعلى وأعلم وهو المستعان وعليه التكلان
    خادم العلم الشرعي
    مسعد أحمد سعد الشايب


    دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن
    كلية أصول الدين الأم بالقاهرة ـ جامعة الأزهر الشريف
    تم الانتهاء من تنقيحها وزيادتها الخميس الموافق 7 من جماد أول 1441هـ الموافق 2 من يناير 2020م
    تم الانتهاء من تنقحيها وزيادتها للمرة الرابعة السبت الموافق 11 جماد أول 1442هـ الموافق 26 من ديسمبر 2020م في تمام الساعة الثانية صباحًا.
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.