• تقديم نقدي لمجموعة " رقصات " للقاص رشيد عبدو - تقديم طارق شفيق حقي

    تقديم نقدي لمجموعة " رقصات " للقاص رشيد عبدو - تقديم طارق شفيق حقي
    بسم الله الرحمن الرحيم
    -لا يزالُ المبدعُ يحاولً جاهداً تركَ أثرٍ دالٍّ موحٍّ خلفه، كما النجومُ التي تَمضي لكنّها تَتركُ لنا شيئاً من ضوء، لعلَّ الانفجارات الإبداعية في قلبِ المبدعِ هي شكلٌ من أشكالِ العزف المنسجمِ مع معزوفةِ الحياةِ المستمرةِ من حولنا ، تَرقُصُ المجرات من حولنا ، كلُ شيءٍ من حولنا يَرقصُ رقصَتهُ كما لو أنها رقصةٌ مولويةٌ، والمبدع ُكذلك يقدمُ لنا رقصته الفريدة، ونحن اللحظةَ في قلبِ الانفجارات الإبداعية التي شكلت رقصةً للقاصِّ المبدع عبدو رشيد.

    - أعتقد أنَّ هناكَ اهتماماً مبالغاً فيه بالراوية ، والروايةُ عموماً تحتاجُ لعمقٍ زمانيّ ومكانيّ لا يوجد في غالب المدن العربية بروحها التاريخيّة كما إنّ السينما والتلفاز قدمت البديلَ عنها، وبذلك نحنُ نتعصبُ للقصة القصيرةِ تعصباً حضاريّاً جماليّاً موضوعيّاً فهي الأسرع انتشاراً والأكثر تأثيراً، ذلك أنَّ القصّةَ ضاربةُ القدمِ في المشهدِ العربي الفنيّ، وهي أقربُ للبيئةِ العربيّةِ كما يقولُ شيخُ النقاد إحسان عباس، وهي بكثافتها أقربُ لذهنيّةِ العربيّ فالوجدان الجماليُّ العربيُّ طُبعَ على حبهِ للشعرِ وكثافةِ اللغةِ وسحرِ العربيّة الموجزة وبيانها الخلاب وبلاغتها الآسرة، فكانت القصّةُ تقتربُ من شاعريّةِ الشعرِ وجمالهِ وروحِ العربيِّ وأسرارها، ثم كانت القصّةُ القصيرةُ جداً ، ولو عدنا إلى تاريخ القصّة القصيرة جداً فسنجدها في التراثِ عبر النوادرِ والمُلحِ والأمثالِ والحكم، وهذه الأنواعُ كانت تُصاغُ بكثافةٍ عاليةٍ ، وهذا الفنُّ الّذي نَظنّهُ مُستحدثاً كانَ عريقاً في الأدبِ العربيِ فالأحاديثُ النبويّة القصصيّة تَوسلت بهذا الفنِّ كحديث :" دَخلَ علينا رَجلُ شَديدُ بياضِ الثيابِ ..." وحديث الرجل الذي قَتلَ تسعاً وتسعين نفساً، وقد وردَ هذا الفنّ في القرآن الكريّم كقصة نبي الله إبراهيم والنمرود :
    " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 258" البقرة
    - بعد هذا العرضِ نكوّنُ قد قدمنا تأصيّلاً نقديّاً لفنٍّ نَحسبهُ مستحدثاً وهو فن القصّة القصيرة جداً.
    - قَدّمَ لنا القاصّ عبدو رشيد مجموعةً من القصص القصيرة جداً وكانت : خمساً وثمانين أقصوصة ، وفق ما تابعت عدداً من الكتّابِ في المغرب العربي فأظنُّ أنَّ هناك نوّعاً من الاتكاء على الأدوات لكن ذلك كان على حسابِ روحِ القصّةِ، فأشعرُ أنَّ هناك تهشيماً ما تُصابُ به روحُ القصّةِ أو حدثها جراء التعسفِ في استخدامِ الأدواتِ اللّازمة لفنٍ كفنِ القصّةِ القصيرةِ جداً.

    - القصّة تبدأ من عنوانها ، والعنوانُ هو نصٌّ موازٍ للقصّة، وفيه تكمنُ خبرة القاصِّ في أن يكونَ مرتبطاً ارتباطاً عضوياًّ بما بعده كما يكون موحياً أو مستفزاً وربما خادعاً، العنوانُ عتبةٌ استهلاليّةٌ من عتباتِ الاستهلال، لكن كما ذكرنا على ألّا نتعسّفّ في صناعةِ العنوانِ ونحملَهُ أكثرَ مما يحتمل، فالعنوان يدلُّ على جزءٍ من أجزاءِ القصّةِ وليس كلها، بل هو متمّم لها ومرتبط بالقاصِّ الخبير بقفلة القصّة التي تعطي القصَّةَ محصلتها الجماليةَ فتدهشُ وتؤثرُ وتبقى.
    في المجموعةِ القصصيّةِ عددٌ كبيرٌ من العناوينِ الموحيّةِ كالتي وردت في : ووالد وما ولد – وجه وقفا – حملة – براءة .
    وخادعاً مثل : مروءة – استأسدا - منار للتربية والعلوم – ميثاق - فنون جميلة.
    منها ما قد يكون فيها العنوان هو القفلة كقصّةِ العشق الممنوع.
    في قصّةِ على ضوءِ الشمعةِ يمكننا القولُ إنَّ النصَّ أشبهّ بنصٍّ نثري يصلحُ أنّ يكونَ استهلالاً لنصٍّ أطول، ومن النقاد من قال عن القصّةِ القصيرةِ جداً أنها قصيدةُ النثر.
    نلمحُ سرياليّةً واضحةً في نصِّ عشريات وتداعيات لا واعية ، فكلابٌ تحملُ أطقمَ أسنانٍ وقططٌ سقطَ عنها وبرها في غرائبيةٍ تناسبُ استهلالَ قصّة لو بدأت بها فالغرائبية عنصرٌ من عناصر الاستهلال لما فيه من جذب للقارئ.
    نَلمحُ توظيفاً للتراث في قصة عوى الذئب وهي قصيدة للشاعر الأحيمر السعدي يقولُ فيها : عَوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى *** وصوّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
    وعنوانُ القصّةِ كان : " تنازع" فلهول تهاوي الحضارةِ بمن فيها وثِقلها على قلبِ القاصِّ تنازعت الصفاتُ البشرية بالحيوانية ، وهذا التهاوي وضياع القيّم وعِواءُ الماديةِ نلمحهُ في قصّةِ " فنون جميلة" فانحازَ الفنانُ لقيّمها وصوّتَ كذئبٍ جائعٍ أو ربما رضيّ بانحدارهِ ضمنَ شلالٍ يأخذنا لمصيرٍ لا ندركهُ لكننا نقبلُ بهِ أو نستسلمُ له .
    كثيراً ما نلمحُ في المجموعةِ ضياع القيمِ وانتشار الخيانة والقبول بالرضوخ والضياع والنكوص وتداخل القيّم وتصارعها ، تداخل الخير بالشر وتداعي الجمال والخير والحب ، وهي إن كانت بلبوسٍ رمزيٍ لكنّها تُعبّرُ بشكلٍ مباشر عن واقعٍ معاش ينذرُ بأفولِ الحضارةِ الإنسانيةِ وقيمها الرفيعة كما عبّر عنها القاصَ المبدعُ عبدو رشيد في مجموعتهِ أو لنقل رقصته القصصية.
    طارق شفيق حقي
    2018
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.