• بين التصوّف والفيزياء: والروح تعرفُ قبل العقل أحياناً

    خليل صويلح

    اكتشافات الفيزياء الحديثة دفعت إلى إعادة نظر جذريّة في مفهوم المادة والزمن... ومهّدت للبحث عن علاقات ممكنة بين العلم والتصوّف، في ظل الأزمات الأخلاقية والروحيّة للثقافة الغربية. فريتجوف كابرا قدّم في «طاو الفيزياء»، محاولة مبكرة لردم الهوة بين الفكر العلمي (الغربي) والفلسفة الصوفية (الشرقية). بعد ١٥ عاماً، ومليون نسخة مباعة، وصل كتاب العالم الأميركي إلى القرّاء العرب... عن طريق دمشق في لحظة تأمّل عميقة لحركة الكون، أحسّ عالم الفيزياء الأميركي فريتجوف كابرا أنّ الفضاء الخارجي ليس سوى رقصة كونية عملاقة، وأن الفيزياء هي الوجه الآخر للتصوف الشرقي. للوهلة الأولى، بدا الأمر مجرد تمرين فكري أقرب إلى الشطح الصوفي منه إلى الحقيقة العلمية. لكن بعدما تعمّق كابرا في قراءة الفلسفة الصوفية ولغز الرقصة الدائرية، اكتشف أنّ التفكير العقلاني التحليلي هو مرآة للخبرة التأملية للحقيقة الصوفية. وكتابه “طاو الفيزياء” الذي صدر في اللغة الإنكليزية، قبل أن يُترجم إلى معظم لغات العالم، كان محاولة مبكرة لردم الهوة بين التفكير العلمي الغربي والفلسفة الصوفية. فالصلة بين الفيزياء والتصوف ليست فكرة خرقاء، كما كان يعتقد بعضهم، بل هي حلّ لألغاز علمية كثيرة. يوضح كابرا أنّ الثقافة الغربية «فضّلت القيم والمواقف الذكورية، وأهملت نظائرها المكمّلة أو الأنثوية، وفضّلت توكيد الذات على حساب الاندماج، والتحليل على التركيب، والمعرفة العقلية على الحكمة الحدسية، والعلم على الدين، والتنافس على التعاون»، خلافاً للفكر الصوفي الذي يقوم على العبور إلى ما وراء الأضداد (الجمال والقبح، اللذة والألم، الخير والشر، الحياة والموت)، ما أوصل الثقافة الغربية إلى أزمة أخلاقية وروحية وأفرز لاحقاً سلسلة من الحركات الاجتماعية المناهضة. ألا يصبّ الاهتمام المتزايد بعلم البيئة والتصوف والوعي النسوي المتنامي، في محاولة إعادة التوازن بين الجانبين الذكوري والأنثوي للطبيعة البشرية؟ ومن هذا المنطلق، فإن وعي التناغم العميق بين الرؤية العالمية في الفيزياء الحديثة ورؤى التصوف الشرقي، يبدو اليوم جزءاً أساسياً من تحوّل ثقافي شامل، سيقود إلى رؤية جديدة للواقع تنسف نتائج الفيزياء الحديثة التي فتحت مسارين مختلفين أمام العلماء: «إما بوذا أو القنبلة». وعلى رغم أنّ عدداً كبيراً من علماء الفيزياء يقفون مع تطوير وسائل معقّدة للتدمير الشامل، فإن الرهان على طريق بوذا يحتاج إلى جهد إضافي لخلخلة القيم العلمية الصارمة التي تجافي الأخلاق. «طاو الفيزياء» الذي صدر في العربية أخيراً، بعنوان «التصوف الشرقي والفيزياء الحديثة» وترجمه عدنان حسن (دار الحوار ــــــ اللاذقية)، يميط اللثام عن حقائق علمية جديدة، إذ يربط بين طريق الفيزياء وطريق الفلسفة الشرقية في سبر العلاقة بين مفاهيم الفيزياء الحديثة والأفكار الأساسية في التراث الفلسفي والديني للشرق الأقصى. فنظرية الكم ونظرية النسبية بوصفهما أساس الفيزياء الحديثة، تلتقيان في رؤيتهما للعالم إلى حد كبير مع نظرة الهندوسي أو البوذي أو الطاوي إلى الكون... مروراً بصوفية ابن عربي، إذ إنّ هذه الفلسفات على تباينها تؤكد الوحدة الأساسية للكون التي هي السمة المركزية لتعاليمها: «وعي وحدة الأشياء وترابطها المتبادل وتجاوز مفهوم الذات للتماهي في الواقع المطلق». هكذا تلتقي نظريات الفيزياء الحديثة بالفلسفة الصوفية في تصوّر العالم، إذ تتناغم الاكتشافات العلمية مع الأهداف الروحية. فالفيزيائي الحديث مثل المتصوف الشرقي، صار يرى العالم منظومةً من المكوّنات المترابطة، والمتفاعلة، والدائمة الحركة، علماً أن المراقب جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة. «كأن العلم الحديث بكل آليته المعقدة يعيد اكتشاف الحكمة القديمة»، يلاحظ كابرا قبل أن يسأل: «هل على الفيزيائيين أن يتخلّوا عن الأسلوب العلمي... ويبدأوا في التأمل؟». ما يشغل الكاتب هنا، هو مزج العقل بالحدس، فكلاهما ضروري من أجل فهم أكمل للعالم. بمعنى آخر، ما نحتاج إليه اليوم هو التفاعل الديناميكي بين الحدس الصوفي والتحليل العلمي. لعل طريقتيْ الفيزيائي والمتصوّف تلتقيان على كون ملاحظاتهما تحدث في ميادين غير متاحة للحواس العادية. في الفيزياء الحديثة، نجد ميادين «العالم الذري وما دون الذري». أما في التصوّف، فهي الحالات غير العادية من الوعي الذي يتم فيه تجاوز عالم الحواس. بعد عقد ونصف عقد من صدور الطبعة الأولى لـ«طاو الفيزياء» (الطاوية طريقة للتحرر من القواعد الصارمة للتقاليد من طريق الحدس)، يطرح فريتجوف كابرا أسئلة جديدة، وخصوصاً إثر النجاح الكبير الذي حقّقه الكتاب في طبعاته اللاحقة التي تجاوزت اليوم النسخة المليون. من هذه الأسئلة: «هل تحققت رؤيتي بخصوص التوازيات بين الفيزياء والتصوّف، أو على الأقل هل صارت معرفة شائعة؟». يجيب: «خلال جولاتي لإلقاء محاضرات حول الفيزياء والتصوف، لمست استجابة كبيرة لدى مختلف شرائح الناس، ولعل السبب هو أن «طاو الفيزياء» ضرب على الوتر الحساس»، كنتيجة حاسمة في تغيّر النظرة إلى معنى التصوّف. فطالما كانت الثقافة الغربية تنظر إليه بوصفه شيئاً غامضاً وسديمياً، لكن التجربة الصوفية ـــــ يوضح كابرا ـــــ تقوم على مجازات نموذجية مثل «الاختراق» و«رفع حجاب الجهل» و«مسح مرآة العقل»، وكلها تقتضي وضوحاً كبيراً. هكذا، فإن الفيزيائي يستكشف مستويات المادة. أما الصوفي فيستكشف مستويات العقل. وفي الحالتين يعمل الاثنان خارج الإدراك الحسي العادي. ويشير كابرا إلى أنّ اكتشافات الفيزياء الحديثة حتّمت تغيرات عميقة لمفاهيم راسخة مثل الفضاء والزمن والمادة. وبما أنّ هذه المفاهيم هي أساسية للغاية لطريقة خبرتنا بالعالم، فليس مفاجئاً أن الفيزيائيين الذين كانوا مجبرين على تغيير هذه المفاهيم، شعروا بشيء من الصدمة. ومن هذه التغيرات نشأت رؤية جديدة للعالم. فالصدمة التي يصفها آينشتاين خلال تماسه الأول مع الواقع الجديد للفيزياء الذرية، لا تختلف عما يواجهه الصوفي إذ يؤسس خبرته في النظر إلى العالم. يقول آينشتاين في سيرته الذاتية: «كل محاولاتي لتكييف الأساس النظري للفيزياء مع هذا الطراز الجديد من المعرفة فشلت تماماً. كان الأمر كما لو أنّ الأرض سُحبت من تحت المرء مع عدم وجود أي أساس ثابت لرؤيته». «طاو الفيزياء» يرغب في تحسين صورة العلم، بعيداً من شرور التكنولوجيا الحديثة، ويرى أن طريق الفيزياء يمكن أن يكون سبيلاً إلى المعرفة الروحية... فهل يكون التقاء التصوف والفيزياء مدخلاً إلى حوار الحضارات؟

    الأخبار
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.