• ما بعد الحداثة

    - في عام 1994، أعطى رئيس الجمهورية التشيكية والكاتب المسرحي الشهير فاكلاف هافل وصفا آملا لعالم ما بعد الحداثة باعتباره واحدا مبنيا على أسسٍ علمية، ولكن المفارقة فيه "حيث كل شيءٍ ممكن، ولا شيء مؤكدٌ تقريباً.

    يعطي جوش ماكدويل وبوب هوستيتلير التعريف التالي لما بعد الحداثة: "إنها النظرة إلى العالم التي تتميز بالاعتقاد أن الحقيقة لا وجود لها في اي معنى، بل هي تُخلقُ بدلا من اكتشافها." الحقيقة "التي أوجدتها ثقافةٌ معينةٌ ولا توجد إلا في تلك الثقافة. ولذلك، فإن أي نظامٍ أو بيانٍ يحاول الاتصال بالحقيقة هو لعبة سلطة، ومحاولةٌ للهيمنةِ على الثقافات الأخرى."

    عالم القرون الوسطى الإيطالي أمبرتو إيكو ميزها بقوله "موقف ما بعد الحداثة هو كرجلٍ يحب امرأةً راقيةً جدا، ويعلم أنه لا يستطيع أن يقول لها: أحبك بجنون، لأنه يعلم أنها تعرف (و أنها تعرف أنه يعرف) أن هذه الكلمات قد كتبت من قبل باربرا كارتلاند.
    يتداول المثقفون والكتّاب العرب اليوم الأطروحات الفلسفية ما بعد الحداثية، كسمة من سمات الطليعية، بيد ان مستوى التداول لا يتعدى عادة عملية الترجمة أو التلخيص أو الاقتباس، أو ملامسة بعض مفاتيح هذه المصطلحات المستجدة على أذهاننا. وإذ يتقدم بعض من هؤلاء خطوة أوسع، فيولون عناية مطردة بطرائق ما بعد الحداثة وأدواتها، وتوظيف بعض مقولاتها، أو إدراجها في سياق بحوثهم، فإن مثل هذه الحركة تبقى في مجتمعنا مكبوتة وملجومة بأنماط من الفكر الأسطوري الديني، والمعتقدات الغيبية، والتشبّث بالأصول الراسخة الجذور، وبالنظام الأخلاقي الميتافيزيقي. وعليه فإن الإحالات في كتاباتنا العربية على أساطين الحداثة وما بعدها، مثل دريدا والتوسير ونيتشة ودولوز وفوكو وليوتار وسواهم، لا تتيح الاستغراق في زمن حداثوي أو ما بعد حداثوي. ومردّ هذا الانحباس، إناطة وجود هذه المنظومة بتطور دينامية المباني الفكرية والاجتماعية والاقتصادية الغربية، التي أنتجت التكنولوجيا الثقافية الجديدة (تطور وسائل الاتصال واللغة الرقمية) المختلفة بالطبع عن مبانينا الهامدة والغارقة في سباتها. بل إن هذه المنظومة عينها التي راجت في الفضاء الأوروبي ـ الأميركي في العقود الأخيرة لم تستقر أو تتشكّل في صورتها النهائية. فالبعض يعارضها، وآخرون لا يقرّون بوجودها. ويتحدث المفكر المصري المولد والأميركي الجنسية إيهاب حسن الذي يُنسب إليه فضل ابتكار هذا المفهوم، عن استحالة تحديد ماهيته. وهذه الاستحالة هي من طبيعة تصوّر المفهوم وعلاقته بما قبله ـ الحداثة ـ انقطاعاً أو تواصلاً. فعلى حين يرى سواه حدوداً تفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة. لا يرى هو أي انقطاع بينهما، ولا يتغافل عن دور الماضي ومؤسساته في صياغة الحاضر والراهن. ولم تنقطع الحداثة في رأيه، أو تتوقف فجأة، من أجل تدشين لحظة جديدة نطلق عليها اسم ما بعد الحداثة. ومن المؤكد ان الافتراضات الثقافية التي استولدها أناس من طراز داروين أو ماركس أو بودلير أو سيزان أو فرويد أو اينشتاين ما تزال ضاربة الجذور في الذهنية الغربية. فليست ما بعد الحداثة إلا مرحلة قامت على عملية نقد دؤوب داخل حركة الحداثة عينها. وهي حركة انفصال بقدر ما هي حركة تواصل. بل يرى ايهاب حسن ان بوسع كاتب مثل جويس ان يكتب مؤلفات تتسم بالحداثي، وما بعد الحداثي في الوقت عينه، ويضرب على ذلك مثلاً بعملين له يرجعان إلى منظورين مختلفين يتعايشان في فكره هما: «صورة الفنان في شبابه» و « يقظة فينيغانز». فحقبة ما بعد الحداثة لم تخرج نهائياً من أسر الحداثة وصلبها.
    أسطورة جديدة
    تنشط هذه الحركة في عالم سريع التبدّل، فرض التسليم بتعددية الهويات الفردية والجماعية، واستبدل النظر إلى الواقع بالنظر إلى النظرية. وهيمنت عليه النزعة الاستهلاكية التي أفرزها النظام الرأسمالي، وتمركزت حول سلوك المستهلك بالمعنى الواسع والعميق الذي بات أسلوب حياة، وأضحى الاستهلاك أسطورة جديدة. ومثلما كان مجتمع العصر الوسيط يتوازن على قاعدتي الله والشيطان، فإن المجتمع الغربي الحديث يتوازن على قاعدتي الاستهلاك والتنديد به، حسب عبارة جان بودريار.
    جاءت بوادر استخدام هذه المنظومة لوصف أنماط جديدة من التجارب الأدبية التي انبثقت عن جماليات الحداثة، من دون ان يتمكّن أحد من الإحاطة بها، وتوحيدها في إطار نظرية متماسكة ومتكاملة. وما زال هذا المنظور رجراجاً وملتبساً، ومثار تنازع وتجاذب بين المنظرين والباحثين عن مقوماته وحدوده.
    ويرى البعض ضمن هذا السجال ان منظومة ما بعد الحداثة يمكن أن تُفهم على انها تآكل تدريجي للفكرة الحداثية القائلة بأن لكل من الفن والعلم والأخلاق والسياسة مجاله المنفصل القائم بذاته. وأن ما استجد من طروحات ليس إلا استمراراً للرؤية والقيم الحداثوية. وحسب هابرماس فإن ما بعد الحداثة ردة فعل يائسة ضد التنوير.
    فوارق وتناقضات
    أما فرنسوا ليوتار فاعتبر هذا العصر نهاية لكل السرديات، وتحطيماً لكل الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة. أي موت المذاهب والإيديولوجيات التي تفسر الواقع تفسيراً شمولياً، والتي تضع حداً لنهاية المشاريع الاجتماعية الطموحة. ويؤكد ان خطابات ونظريات الحداثة المتجسدة في الليبرالية والماركسية المستوحاة من أفكار عصر التنوير عن العقل والتحرير الشامل للإنسان، والتقدم الخطي للتاريخ، قد فقدت حظوتها وقيمتها التأويلية. وأن ادّعاءها القدرة على المعرفة والتنبؤ، ليس سوى وهم من أوهام التفكير الوضعي الذي ساد نهاية القرن التاسع عشر.
    تمتد منظومة ما بعد الحداثة إلى كل ضروب الثقافة المعاصرة التي تشمل الفلسفة والفن والهندسة المعمارية والموسيقى والتصوير والرقص والنقد الأدبي والسرد والسياسة والاقتصاد. ويمكن استقراء خصائصها ومنطقها الداخلي، من خلال نشاط الفلاسفة والمفكرين الغربيين، حيث يتبين ان هذه الحركة هي أسلوب ثقافة مغامرة، تعكس عالماً بلا أعماق وبلا مركز وبلا أساس، وتنزع نزوعاً عدمياً، وتنكر الحقيقة الموضوعية، وتنبذ كل عمليات التمثيل والتشابه في عالم الفن التشكيلي، أو الإيمان بنظرية انعكاس الواقع، وتخلق فناً استبطانياً، يتأمل ذاته. وتنحو إلى الأشكال المفتوحة، وغير المحددة لتكوين خطاب مؤلف من شظايا متصدعة وأشلاء متناثرة. ولا تقرّ بأن وراء المعرفة ذاتاً انسانية عقلانية وموحدة، وأن وراء المجتمع وحدة متماسكة. وترفض مبدأ العلية. كذلك تتعامل ما بعد الحداثة مع مختلف القضايا من خلال غلبة مفهوم الخطاب، حيث الانصراف إلى تحليل النصوص، عوض تحليل الواقع. وعدم فصل موضوع المعرفة عن إمكانيات الألعاب المتعددة للغة التي يتشكّل الموضوع من خلالها. وتمييع الحدود بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية، كذلك الحدود بين الفن والتجربة اليومية.
    وقد أفسحت ميوعة الحدود المجال إلى اختلاط المعايير والأذواق والأحكام والقيم، وإلى انتشار الشك واللاطمأنينة واللايقين والطيفي العابر (السيمولاكر). وقد أشار المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي منذ عام 1959 إلى ثلاث أمارات ميزت الفكر والمجتمع الغربيين ومهدت السبيل لظهور منظومة ما بعد الحداثة هي: اللاعقلانية والفوضوية والتشويش.
    بيد اننا إذا ما اتكأنا على الجدول الثنائي الذي انجزه ايهاب حسن وذاع صيته في الأوساط الأكاديمية، بعد ان استنطق الأفكار والحقول الجديدة في علم البلاغة والألسنية والتحليل النفسي والعلوم السياسية والاقتصادية والفنون التشكيلية والمسرحية، فإننا سنكتشف هذا العالم المزعزع والملتبس وغير اليقيني. وفيه نتبين الفوارق والتناقضات بين الحداثة وما بعدها، ونضع أيدينا على عملية تحوّل الشكل المغلق إلى شكل مفتوح، وتحوّل البحث عن الغاية إلى اللعب، والتصميم إلى المصادفة، والتمركز إلى التبعثر، والنمطي إلى الفوضوي، والقضيبي إلى الخنثوي، والأصل إلى الاختلاف، والتعالي إلى المحايثة، والميتافيزيقا إلى المفارقة، والسرديات الكبرى إلى السرديات الصغرى، والتأويل إلى ضد التأويل.
    إزاء صورة هذا العالم الماثل بهذه الطريقة التي تخلخل قناعاتنا التي نشأنا عليها، يبدو اننا أمام معطيات غير محسوبة أو محتملة تحمل التباساتها ومفارقاتها، ولا يمكن نسخها أو المماهاة بها، أو التأسيس عليها، إذا ما أراد مثقفونا ان يسلكوا طريقاً من هذه الطرق. فهذا طموح مسدود الأفق، ويفضي إلى رهان خاسر على انقلاب ذهني في العقول لن يحصل البتة، ما دام الفكر العقلاني عندنا أخلى مكانه في هذه الأوقات لطغيان الغرائز والعصبيات الطائفية، والتكفير المتبادل. وما دامت الطوباويات السياسية والدينية التي يسميها المفكر علي حرب «الأختام العقائدية» تلتهم مع مرور الزمن مساحة متنامية من فكرنا ومن حياتنا اليومية.

    ما بعد الحداثة (فلسفة)
    تعبّر كلمة ما بعد الحداثة عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية، تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات:
    ما بعد الحداثة تعني حرفياً «بعد الحداثة». في حين أن «الحديث» في حد ذاته يشير إلى شيء ما «متصل بالحاضر»، فإن حركات الحداثة وما بعد الحداثة تفهم على أنها مشاريع ثقافية أو على شكل مجموعة من وجهات النظر. وهي تستخدم في النظرية النقدية لتشير إلى نقطة انطلاق اعمال الأدب والدراما والعمارة والسينما والصحافة والتصميم، وكذلك في مجال التسويق والاعمال التجارية، وفي تفسير التاريخ والقانون والثقافة والدين في وقت متأخر من أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
    في واحد من الاعمال الأصيلة في هذا الموضوع، وصف الفيلسوف والناقد الأدبي «فريدريك جيمسون» ما بعد الحداثة بأنها «المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة»، التي هي، الممارسات الثقافية المترابطة ترابطاً عضوياً إلى العنصر الاقتصادي والتاريخي لما بعد الحداثة («الرأسمالية المتأخرة»، وهي الفترة التي تسمى أحياناً الرأسمالية المالية، أو ما بعد الثورة الصناعية، أو الرأسمالية الاستهلاكية، أو العولمة، وغيرها). في هذا الفهم اذن، يمكن ان تنظر إلى هيمنة فترة ما بعد الحداثة على انها بدأت في وقت مبكر من الحرب الباردة (أو، لإعادة الصياغة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) واستمرت حتى الوقت الحاضر.
    يمكن فهم ما بعد الحداثة أيضاً على انها رد فعل على الحداثة. في أعقاب الدمار الذي لحق بالفاشية، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، أصبح العديد من المثقفين والفنانين في أوروبا لا يثقون في الحداثة السياسية والاقتصادية والمشروع الجمالي برمته. في حين أن الحداثة كانت ترتبط في كثير من الأحيان بالهوية والوحدة والسلطة واليقين، وما إلى ذلك، فإن ما بعد الحداثة كثيراً ما يرتبط بالفروق، والانفصال، والنصية، والتشكك، الخ.
    (من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة)
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.