• بورقيبة و الصهيونية



    بورقيبة و الصهيونية


    صلاح الدين المصري


    بورقيبة و الصهيونية : التواصل أم التناقض؟


    هل كانت الحكاية مجرد موقف اتخذه الزعيم بورقيبة في أريحا ،مارس 1965 و اقترح فيه القبول بقرار التقسيم الأممي181 واعتبر ذلك عند البعض مثالا جيدا للمرحلية و الواقعية ؟
    لا يمكننا فهم العلاقة بين بورقيبة و الصهيونية في ضوء قراءة تقف عند حدود تصريح أو موقف ،علينا أن نعود إلى عقود سابقة و أخرى لاحقة لنرسم أمام الرأي العام الوطني الحقيقة التي يحتاجها التونسيون اليوم وهم في مرحلة تأسيس،تحفها مخاطر متنوعة .
    سنعرض بعجالة المحطات الأهم في هذه العلاقة وهي تبدأ من زيارته إلى فلسطين عام 1946 ثم تواصله مع المؤتمر العالمي اليهودي و محطات التطبيع في تاريخه السياسي ثم دوره في ترويض القيادة الفلسطينية و نختم بملاحظات عن الواقعية السياسية التي يعاد إنتاجها باستمرار كلما اختار الزعماء العرب مسار الهزيمة .
    1—من فلسطين : رسالة الاعتراف .
    زار الحبيب بورقيبة فلسطين عام 1946 و أبدى موقفه صريحا من طبيعة القضية في رسالته إلى ابنه (1) فاعتبرها ((مخاض عسير لعالم جديد ..لقد نشأت فجأة مدينة جديدة عصرية أنقليزية يهودية و بالكاد عربية ،و تطورت . و هاهي بصدد خنق القدس القديمة الغابرة ،التي حشرت وراء أسوارها القديمة و حكمت عليها السنة الكبيرة للتطور بالموت البطيء و المحتوم )). هذه ملامح تل أبيب عند الحبيب بورقيبة ،لم يتحدث بصفته حقوقي أو عربي أو مسلم أو مناضل ضد الاستعمار الفرنسي ، لم يكن خافيا على بورقيبة دور الانتداب البريطاني طيلة اكثر من ربع قرن في تسهيل عمليات الهجرة اليهودية و الاستيطان و القتل ..بدءا من وعد بلفور في 2نوفمبر 1917 الى رعاية المندوب السامي البريطاني هربرت ساموال (من 1920 الى 1925 ). فلم يشر إلى هذه الطبيعة الاستعمارية الاجرامية للحركة الصهيونية .
    و قد ختم رسالته بالكشف عن جزء مهم من مشاريعه : ( سأعود الى القاهرة في الايام الاولى من سبتمبر كي أضع اللماسات الاخيرة لرحلتي الكبرى الى لندن و نيوروك و التي تتطلب شهرا ..).
    2—التواصل مع المؤتمر اليهودي العالمي :
    في رحلته إلى الولايات المتحدة ،التقى بورقيبة بزعماء الصهيونية تحت عنوان المؤتمر اليهودي حيث اعتمد ورقة اليهود لترويج زعامته و صلاحيته لقيادة تونس بعد الاستقلال وزار السكرتير السياسي للمؤتمر وهو نفسه الذي التقى به بعد الاستقلال ،18 جويلية 1957 و ذكره بوعوده السابقة : (يٌعول عليه كأهم رجل دولة ديمقراطي في إفريقيا الشمالية و حتى في العالم العربي لممارسة تأثيره لتحقيق السلام في الشرق الأوسط).
    و نفس الملاحظة أبداها ناحوم قولدمان رئيس المؤتمر اليهودي في ندوته الصحفية بتل أبيب في 3 ماي 1965 عندما أكد أن علاقته ببورقيبة تعود إلى عام 1954 عندما التقى سكرتير المنظمة لمرتين .
    3—ممارسات تطبيعية مبكّرة :
    من منطلق شعار الواقعية الذي رفعه بورقيبة دوما و الذي حوّله تدريجيا الى ممارسة تجسّد شعارا آخر وهو (الغاية تبرر الوسيلة )فقد اعتبر أن التواصل مع الكيان الصهيوني سيساعده على إحراج فرنسا و توفير دعم جديد لزعامته . و يعود ذلك إلى سنة 1953 في 9 أفريل عندما أدلى الهادي نويرة بتصريح إلى مراسل جريدة هاريتس : الحزب مستعد لممارسة تأثيره في البلدان العربية لصالح سلم في الشرق الأوسط و ذلك إذا ساعدت اسرائيل شعبا مضطهدا ) ثم أردف قائلا ( إذا نالت تونس استقلالها المرجو باسرائيل أو بدونها فإنها تتمنى إقامة علاقات مع اسرائيل دون اعتبار للمقاطعة التي أعلنتها جامعة الدول العربية ).و قد أشار ناحوم قولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي في ندوته الصحفية بتل أبيب في 3ماي 1965 إلى أن علاقتهم ببورقيبة تعود إلى عام 1954 عندما التقى سكرتير المنظمة لمرتين .
    و التقى بورقيبة بسفير الكيان الصهوني ياكوف تسور في فرنسا ،فيفري 1956و شفع بلقاء ثان بين السفير و وزير المالية التونسي في 3 أكتوبر من نفس السنة .
    و هكذا ندرك أن خطاب أريحا الشهير كان تتويجا لمسار طويل من التطبيع و قد خلط فيه بورقيبة عمدا بين مفهوم الاستيطان و الاحتلال و تحدث عن المرحلية ، و بذلك يوجه رسالة شديدة الوضوح إلى الصهيونية من حيث قدرته على تحدي البيئة العربية و الإعلان الرسمي عن مطالبته بالتطبيع و الاعتراف بالكيان الصهيوني .و قد أسرع الرئيس بورقيبة ليرسل ابنه الذي كان يومها وزير الخارجية التونسي إلى الولايات المتحدة بعد شهرين من خطاب أريحا التاريخي ،و طلب الدعم الأمريكي و طبعا حظي بدعم اللوبي الصهيوني .و هكذا كان الجهد التونسي يتكامل مع الجهد المغربي بزعامة الحسن الثاني في إطار محاصرة القضية الفلسطينية و الترويج التدريجي للاعتراف بالكيان الصهيوني .
    4-ترويض القيادة الفلسطينية:
    في سنة 1982 و بالضبط في 30 أوت .ركب ياسر عرفات السفينة اليونانية و غادر بيروت متجها في البداية إلى اليونان ثم منها إلى تونس حيث سيقيم لزمن طويل قرابة 11 سنة يعود بعدها إلى فلسطين المحتلة و يترأس السلطة الفلسطينية التي أنتجها اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993.طيلة هذه السنوات أدى النظام التونسي بزعامة بورقيبة دوره في تدريب القيادة الفلسطينية على قبول خطاب أريحا و العودة إلى نصيحة الزعيم الاستباقي .و قد استفاد بورقيبة و مستشاروه من الهزائم العربية المتتالية التي مني بها العرب في جوان 1967 و في أوت 1982 مع الاجتياح الصهيوني لبنان و محاصرتهم لعرفات .و الجميع يتذكر جيدا الجولات العربية خاصة إلى المملكة المغربية التي اشتهر ملكها بخياره التطبيعي منذ بدايات صعود الصهيونية .و هكذا لم تمر عشر سنوات حتى وجد الزعيم الفلسطيني نفسه يعلن قراره في المؤتمر الوطني الفلسطيني بالجزائر،15 نوفمبر 1988، و يعترف بحق الكيان الصهيوني في الوجود و يصبح سقفه النهائي هو المفاوضات من أجل دويلة في حدود خمس المساحة من فلسطين التاريخية .مع الملاحظ أن الموساد الصهيوني كان قد اغتال المناضل خليل الوزير (أبو جهاد) قبل ذلك بأشهر في إحدى ضواحي العاصمة التونسية (سيدي أ بي سعيد ) و ذلك في أفريل 1988 .
    كانت استضافة القيادة الفلسطينية في تونس بهدف اخضاعها لعملية ترويض طويلة مقترنة بتطورات سياسية دولية فتحت المجال أمام الكيان الصهيوني لإيجاد مفاوض فلسطيني بإمكانه أن يطيل عمر المفاوضات لزمن طويل ذهب إلى هذه السنة قرابة عقدين أن يتم التراجع عن أي مكسب حققه الكيان .
    5-الواقعية السياسية بين التغيير و الانهزامية :
    إن الخطاب البورقيبي في موضوع الصهيونية يقوم على خلط متعمد بين مفاهيم مختلفة جدا نذكر بعضها :
    أولا : الخلط بين الاحتلال و الاستيطان .فالمرحلية ممكنة جدا مع الاحتلال أما الاستيطان فهو ظاهرة مختلفة تقوم على استبدال شعب بشعب آخر . و على أن الحقائق التي يفرضها على الأرض لا يمكن تغييرها إلا بالقوة .إن الاحتلال يبقى لديه حل ثالث وهو الانسحاب و إعادة بناء العلاقات من جديد .أما الاستيطان فليس أمامه إلا الحياة أو الموت. و هذا ما حصل مع الاستيطان الذي قام به الاروبيون في القارة الأمريكية حيث أفنوا قرابة 110 مليون من البشر . (1).
    ثانيا : الخلط بين الواقعية السياسية التغييرية و الواقعية السياسية الانهزامية . حيث يتم الانقسام بين التوجهين في قضية الاعتراف بسيادة القوة الظالمة و عجز المقاومة و قوى التغيير عن إحداث أي خرق في الواقع ، و من هنا يتطلب من الزعيم السياسي الرضا بما يقدمه العدو من تنازلات وهي غالبا ما تكون متناسبة مطلقا مع قوته و انتصاراته .بينما الواقعية التغييرية هي التي تمتص الضربات و تجتهد في صناعة القوة باعتماد القدرات الظاهرة و الكامنة في الواقع .إن ميزة الواقعية التغييرية في قدرتها على الحفر معمقا في الواقع لاكتشاف مكونات القوة فيه . كما أن الواقعية تنطلق من قاعدة تاريخية كبرى تؤكد أن القوة و الضعف مسائل على درجة من النسبية يمكن بقليل من العمل و الذكاء تغيير معادلات القوة و لا توجد قوة مطلقة في حركة القوى السياسية كما يوجد ضعف مطلق .
    يتحدث بورقيبة من خلال الاعتماد على هزيمة 1967 و على اجتياح بيروت 1982 لتأكيد وجوب القبول بفتات الإدارة الأمريكية ،وهو يغفل أن ذلك الضعف و الهزيمة ليس قدرا حتميا كما تصور في رسالته غالى ابنه عام 1946 و ان المقاومة دون الأنظمة العربية ستكبّد هذا العدو شر الهزائم في سنوات التسعينات و سنوات الألفين .
    و من المفارقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني أن أعظم الانتصارات جاءت في سنوات النظام العالمي الجديد ، سنوات القطب الواحد الامريكي الذي تصور الكثير من عرب الاعتدال أن خيارهم سيسود وطننا العربي و سيكونون أصحاب الفضل و السبق في الهرولة نحو العدو . نحن أمام درس تاريخي عظيم في أهمية الإرادة الشعبية و أهمية الصمود الأسطوري لرجال المقاومة و لأطفال المقاومة .حيث لم يتوقع أحد أن ينسحب جيش العدو ذليلا في ماي 2000 و ينهزم ثانية في أوت 2006 و يزداد انكسارا في جانفي 2009 . و تتأكد الامة أن خطاب أريحا لم يكن واقعية سياسية كما تم الترويج له بل هو روح متعاونة مع الاستعمار و حالة من الانهزام النفسي و كما يقول اندري جيد الاديب الفرنسي :: ينبغي أن تكون العظمة في نظرتك لا فيما تراه .
    .......................
    1-رسالة الحبيب بورقيبة إبنه . موثقة في ارشيف الحركة الوطنية و قد قام بنشرها المؤرخ الجامعي خالد عبيد .
    2- حفارو القبور لرجاء جارودي

    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.