• ديمقراطية اليوم بين قوة المنطق ومنطق القوة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    في عالم الفكر - خاشع حقي
    قال الله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها )
    ( ديمقراطية اليوم بين قوة المنطق ومنطق القوة )
    العالم اليوم في صراع ( قديم حديث, بين القوي والضعيف أو بين الحق والباطل أو بين الكفر والإيمان ) ولا يفوز في هذا الميدان إلا الأقوياء والقوة في نظر الإسلام ضربان مادية ومعنوية وهنا لا نريد أن نتطرق إلى القوة المعنوية التي كلما ذكرت انصرفت الأذهان إلى ( قوة الإيمان ) على أهمية هذه القوة وأنها الركيزة الأساسية لقبول أي عمل أو إحراز أي نصر, ذلك لئلا يشعب الموضوع الذي حصرناه في ( قوة المنطق ) التي يندرج تحها ( القوة المعنوية ) أيضا ً لكن بصورة أخرى إذ المنطق يعتمد على قوة الفكر وقوة الحجة والبرهان .
    والذي نعنيه بقولنا ( قوة المنطق ) أي الاستدلال المنطقي المعتمد عل البرهان والحجة والذي يرتاح إليه الفكر ويقبله العقل السليم الحر الذي لم تقيده الأهوال الصارفة ولم تكبله الشهوات الجامحة, وهو الذي سلكه القرآن العظيم في دعوته إلى الإيمان بالله إذ يقول تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الأقصى لا انفصام لها .))
    ( وأما منطق القوة ) فنعني به قوة السلاح والمال وما ينتج من الصناعات الحربية التي تدمر الإنسان وتخرب البلاد وتحطم حضارته الإنسانية وتهدم العمران, وبكلمة مختصرة ( القوة الحربية ) التي يستمد منها الطغاة والظالمون والمغرورون والمأفوفون في عقولهم وأدمغتهم الحربية للسيطرة على المزيد من الرقعة الجغرافية في الكرة الأرضية بما أوتوا من قوة حربية ومالية فاخترعوا من الأسلحة ذات التدمير الشامل ما يكفي لنسف الكرة الأرضية بما فيها ومن فيها عشر مرات فالمرة والمرتان والثلاث لا تكفي لنهم نفوسهم الجهنمية ...
    فهم يسلكون في زحفهم على العالم مستخدمين هاتين القوتين ومهددين بهما ( القتل بالسلاح أو القتل بالتجويع ) وكلاهما قاتل ومدمر, هذا الذي نعنيه بمنطق القوة.
    فأيهما احق بأن يتبع...؟ وأيهما أقرب إلى مفهوم ( الديمقراطية ) التي أصموا آذاننا وآذان العالم بالدعوة إليها (( اسمع جعجعة ولا أرى طحنا ً )) ...! فرض ( الديمقراطية ) على عالم بعيد عن مفهومها ( ومفهومها واسع إذ كل فريق يفهمها ويفسرها على هواه وتبعا ً لمصالحه على حد قول الشاعر: وكل يدعي الوصل بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاك فضلا ً عن تطبيقها ( حسب ادعائهم ) يساقون إليها كما تساق قطعان الماشية فزعا ً ورهبا ً. إنه خطأ كبير وغلط فادح يقع فيه أولئك الذين يتصدرون قيادة العالم اليوم وفي مقدمتهم ( الولايات المتحدة الأمريكية ).
    وبقليل من التفكير في سياسات الدول المعاصرة ولا سيما ما كان بين الغرب الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية وبين الشرق الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي قبل انهياره, وما كان بينهما من صراع وتنافس وتسابق في امتلاك زعامة العالم مستخدمين الحرب الباردة حينا ً والحرب بالسلاح أحيانا ً أخرى... وأخيرا ً انهار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الذي كان في مقدمته ( الولايات المتحدة الأمريكية) وكلتا القوتين كانتا تدعوان إلى ( الديمقراطية بأسلوبها الخاص وإيديولوجيتها الخاصة... وكل من شهد تلك الفترة يعلم ما بينهما من تضارب وتضاد في ( الإيديولوجيات ) أولا ً وفي النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ثانيا ً... وغير ذلك من المفارقات الظاهرة.
    وقد استخدم الاتحاد السوفياتي . وهو في أوج قوته. في الدعوة إلى الديمقراطية حسب مفهومها لها وإيديولوجيتها . أسلوب الضغط الفكري والتجويع على اتباعه السائرين في ركابه وأنه النظام الوحيد الصالح للعالم أجمع في حين كانت ( الولايات المتحدة الأمريكية ) تعد ذلك ( إرهابا ًفكريا ً) ووصمة عار لا يليق بكرامة الإنسان وحرية الإنسان في عصر حضاري حديث, والاتحاد السوفياتي سائر في اتجاهه هذا بقوة لا تضعف وعنف لا يلين ويعده النظام الوحيد الصالح للعالم أجمع غير آبه بما تقوله عدوتها ...!
    وأذكر بهذه المناسبة ( إذ الشيء بالشيء يذكر ) أنه صدر كتيب في تلك الفترة رسمت على غلافه الخارجي صورة كاريكاتورية ساخرة وهي عبارة عن ( صورة إنسان فتحت يافوخة رأسه ثُبت فيها قمع صبت فيه مادة كتب عليها ( كيف تصبح شيوعيا ً ).
    هذه الصورة على بساطتها وهزليتها ترمز إلى أن الإنسان لا يمكن أن يقتنع بفكرة ما بالقوة. نعم ... يمكن أن يتظاهر بها, لكنه في قرارة نفسه غير مقتنع بها, وهو مصمم على الإطاحة بها ورفضها بمجرد أن تسنح له الفرصة, وقد حصلت في ( البروستيريكا ) التي قادها ( غورباتشوف ) في أوائل التسعينات من القرن الماضي, فلفظها ولم يكتف بذلك بل كسر التماثيل التي كانت منصوبة ف الساحات العامة وأهمها ساحة ( كرملن ) ليبرهن على كراهيته لهم ولنظامهم المفروض عليهم بمنطق القوة لا بقوة المنطق ..!
    فهل لأولئك الذين يفرضون أفكارهم على شعوب الأرض ودول العالم بالقسر والإكراه أي ( بمنطق القوة ) أن يعتبروا بأحداث الاتحاد السوفياتي وما جرى له, وقد كان أكبر القوتين الضاربتين في الأرض...! ( إن في هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ).
    ولكن أين ذلك القلب ...؟ هل هو عند بوش أم عند بلير...! وأين السمع الواعي الذي أرشدت إليه الآية الكريمة... هل هو في هيئة الأمم المتحدة. التي انحازت بكامل أعضائها ودولها إلى الولايات المتحدة الأمريكية... أم في محكمة العدل الدولية... أم في مجلس الأمن, وكلها في خدمة أمريكا.
    وبينما كنت أعد هذا المقال عثرت على فكرة مشابهة له جاءت في مجلة الحوادث ( 1 ) أرى من المفيد أن أذكرها إذ لها اتصال وثيق فيما ذهبنا إليه يقول كاتب المقال :
    (( كان كثير من المهتمين بالأوضاع السياسية في مطلع العقد الخامس حتى العقد الثامن من القرن الماضي يطرحون موضوع : ( الإصلاح الديمقراطي ) بديلا ً عن أساليب الانقلاب والثورة والعنف وكنا نتطلع إلى التجربة الغربية ولا سيما الأوربية منها والأمريكية على الخصوص إنهما النموذج لذي على عالمنا إن يحتذيه, وايتهواني ( الحكم الأمريكي ولم تستهوني المنظومة الماركسية ) هكذا يقول الكاتب. لأن المجتمع الأمريكي مبني على الحرية والديمقراطي وتكافؤ الفص.
    وكان بمقدور أي أمريكي أن يصعد السلم الاجتماعي من الأسفل إلى الأعلى وفق طاقاته لكن أمريكا على إثر سقوط الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات نشرت هيمنة اقتصادية تحت عنوان ( العولمة ) بدلا ً من أن تنشر مبادئها السياسية كما راحت تتدخل عسكريا ً وتحتل الدول تحت عنوان ( الحرب على الإرهاب ).
    كانت الثنائية العالمية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي تفرض شيئا ً من التوازن العالمي.. أم في ظل الأحادية الأمريكية فقد انتقلنا إلى مرحلة ( النفوذ الأمريكي ) في شؤون العالم وتغليب القوة العسكرية إلى منطق التسويات السياسية واعتماد ( مبدأ الحروب الاستباقية والوقائية )
    والاستخفاف بمصالح الحلفاء و قرارات الأمم المتحدة إلى درجة أن الولايات المتحدة تشارك الآخرين بالقرار إذا وافقوها مسبقا ً على ما تريد ...!
    إن ما تفعله اليوم الولايات المتحدة حولت صورتها الحالمة بالأمس إلى صورة بشعة في الحاضر بل إلى كابوس يكرهها العالم, وبد\لا ً من ان تكون راعية للتسويات صارت مسببة للمشكلات.
    فهل للعالم أن يعقل ..!
    بعد هذه المقدمة تعالوا ننظر في واقع الإسلام وتعامله مع البشر قاطبة ً شعوبا ً ودولا ً وعندما نقول ( الإسلام ) أي دين الله الذي أوحى به إلى أنبيائه ورسله من البشر ونظامه وتشريعه منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ كلهم يدعون إلى الإسلام الذي هو الاستسلام لله رب العالمين.

    .............................
    ( 1 ) انظر مجلة الحوادث : العدد : 2463 تاريخ 16 – 22 كانون الثاني 2004 م.

    قد تختلف شرائعهم أحيانا ً لكن الدعوة واحدة والدين واحد , كما قال الله تعالى :
    ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه, ثم قال : لكل ٍ منكم شرعة ومنهاجا ً) الشورى 13
    أي نظاما ً وتشريعا ً في التحليل والسعة والضيق واليسر والعسر, إلى أن كان خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام.
    وبالرجوع إلى كتاب الله عز وجل ( الرقآن الكريم ) الذي هو آخر الكتب المنزلة نجد أن الله تعالى ذكر عددا ً من رسله فيه.. ولا نريد هنا أن نستعرض هؤلاء الرسل وتاريخهم لئلا يطول بنا البحث لذلك اقتصرت على حياة ثلاثة منهم ففي ذلك الغناء لموضوعنا الذي نحن بصدده.
    وهؤلاء الثلاثة هم ( إبراهيم , وموسى , ومحمد عليهم الصلاة والسلام ) كيف كانوا يدعون إلى الله عز وجل , وما الاسلوب الذي اتبعوه في ذلك حتى نجحوا ذلك النجاح العظيم, علما ً أن دعوتهم كانت مناقضة ومخالفة لأممهم وشعوبهم ( عقيدة وعبادة ونظام حياة ) فكيف اقتنع أولئك بهذه الدعوة وساروا خلفهم راغبين لا راهبين راضين لا مكرهين ( لا إكراه في الدين ) فاسترخصوا أموالهم وأرواحهم في صدق وصبر وإخلاص, حتى فتح الله لهم قلوب العباد قبل فتحهم البلاد.
    نبدأ برسول الله وخليله ( إبراهيم ) عليه السلام أبي الأنبياء .
    ونذكر باختصار شديد ثلاثة مواقف له من مواقف متعددة جابهها هذا النبي العظيم ووقف أمامها كالطود الشامخ لا تلين له قناة وهو يريد أن يصرف قومه عما هم فيه من الشرك بالله وعبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له.
    فما الطريقة التي سلكها إبراهيم عليه السلام في دعوته حتى ساروا خلفه مؤمنين راغبين.
    لنشرع بدعوته أولا ً أباه قال تعالى : ( وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما ً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين)
    بهذا الاستفهام الإنكاري الذي يهز الغافلين أي لا تتخذ الأصنام آلهة فإنها عبادة باطلة.
    ثانيا ً : ثم دعوته لأبيه وقومه جميعا ً فهو يحتاج الجمهور من قومه بهذا الحوار الذي جرى بينه وبينهم كما قص القرآن الكريم.
    قال تعالى : ( فلما جنى عليه الليل رأى كوكبا ً قال هذا ربي ) ( 1 ) أي : رأى كوكبا ً لامعا ً فقال : سأتخذ هذا الكوكب اللامع آلها ً , فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) فلما غاب أعلن لقومه أنه لا يعبد آلها ً يأفل ويغيب ( قال لا أحب الآفلين ) ( فلما
    ...............
    ( 1 ) الانعام : 76 وما بعد


    رأى القمر بازغا ً ) قال متظاهرا ً هذا أجدر أن يكون آلها ً فنوره أقوى من نور

    الكوكب , ولكن القمر بدوره أفل فتظاهر بالحيرة( لأن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) وأخيرا ً طلعت الشمس بضيائها الساطع وحرارتها وقوة شعاعها ( فتظاهر ) بالفرح الشديد لعثوره في نهاية بحثه عن الآله المنشود( قال هذا ربي هذا أكبر ) فلما أفلت الشمس أعلن أخيرا ً اعراضه عن تلك الآلهة الزائفة التي لا تستحق العبادة, وتوجهه للآله الحق الذي فطر السموات والأرض على استقامة لا رجوع فيها, ولا انحراف عنها, وهذا معنى ( حنيفا ً ) وأعلن براءته التامة من كل شرك في عبادة الله .
    نستطيع ان نتصور ( بطبيعة الحال ) استنكار قومه لموقفه ومحاجاتهم إياه. وإن كانوا لا يملكون حجة حقيقية ( قوة المنطق ) سوى إنهم يفعلون كما يفعل آباءهم فحسب وإن آباءهم لا يمكن أن يكونوا مخطئين خلال تلك الأجيال.
    قال تعالى : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم, إذا قال لأبيه وقومه ما تعبدون؟, قالوا نعبد أصناما ً فنظل لها عاكفين , قال هل يسمعونكم إذ تتدعون, أو ينفعونكم أو يضرون, قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) الشعراء 69.
    ولكن إبراهيم يصر على موقف الهدى الذي هداه الله إليه وعلى عبادة الله الواحد الذي هداه إلى حقيقة الإيمان, عندئذ ٍ يلجأون إلى تخيفه بانتقاقم الآلهة من كفره بها ويتوعدونهم بإن هذه الآلهة المزعومة ستناله بالأذى لا محالة لكن إبراهيم يرد عليهم في إطمئنان الواثق( ولا أخاف ما تشركون ) إلا إنه في أدبه مع ربه لا يقطع بأمر هو بعد في طيات الغيب, فقد يكون الله سبحانه وتعالى قد قدر له أن يصيبه شيء من الأذى فيقول ( إلا ان يشاء ربي وسع ربي كل شيء علما ً ) ثم يعود إليهم فيجابههم بحقيقة موقفه, كيف تخوفونني بتلك الآلهة المزعومة التي تشركون بها وهي عديمة السلطان لا تملك ضرا ً ولا نفعا ً, ولا تخافون أنتم من الله الحق الذي يملك النفع والضر وأنتم تشركون به وتعصون أمره,
    فأينا أحق بالامن؟ الذي يلجا إلى الله الحق ويدخل في حماه أم الذي يحتمي بغير حمى سوى الأوهام...!؟
    ثم يقرر الحقيقة التي تلخص الموقف تلخيصا ً حاسما ً ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) الأنعام 82 .
    وليس الأمن المقصود هو السلامة من الأذى في الحياة الدنيا إنما هو السلامة من عذاب الله في الآخرة مع الإطمئنان إلى قدر الله في الحياة الدنيا وإن كل ما يصيب المؤمن هو له خير كما قال عليه الصلاة والسلام. " عجبا ً لأمر المؤمن إن أمره كله خيرا ً إن أصابته سراء شكر فكان خيرا ً له أو أصابته ضراء صبر فكان خيرا ً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمنين ".
    وتلك هي بلاغة الحجة وقوة المنطق التي من الله بها على إبراهيم عليه السلام في محاجاته لقومه
    وإما الموقف الثالث فموقفه مع نمرود الطاغية :
    فقد ملك الأرض هذا الجبار ودانت له ويعيش فيها إبراهيم وغيره نراه, مع قوة المنطق سرعة البديهة في مناقشته معه قال تعالى : ( ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت , قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآتي بها من المغرب فبهت الذي كفر.) البقرة 258.
    على إن الأمر لم ينتهي بين إبراهيم وقومه وأبيه ونمرود بتلك المحاجة التي وقعت بينهم وبينه فأعزم إبراهيم أن يقتلع الشرك بيده فعمد إلى تلك الأصنام التي يصرون على عبادتها فحطمها في غفلة من القوم ( فجعلهم جذاذا ً إلا كبيرا ً لهم لعلهم إليه يرجعون ) ولقد هزته المفاجأة فكادوا يرجعون إلى صوابهم من شدة وقعها على نفوسهم ولكنهم عادوا فأصروا على الضلال وبدلا ً من أن يؤمنوا راحوا يتواعدون إبراهيم عليه السلام بالإحراق بالنار أي استخدموا معه ( منطق القوة ) فإن الظالم إذا أسقط في يده وأحرج لجأ إلى الوعيد والتهديد والقتل والتشريد حفاظا ً على كبريائه الزائف وإظهارا لجبروته أمام أتباعه.
    وأما نبي الله موسى :
    فقد اخترت من بين الآيات الكثيرة هذا الحوار الذي دار بين موسى وفرعون الطاغية :
    قال تعالى: ( فآتيا فرعون وقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال : ألم نربك فينا وليدا ً ولبست من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال: فعلتها إذا ً وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما ً وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي إن عبدت بني إسرائيل, قال فرعون وما رب العالمين؟ قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تسمعون قال ربكم ورب آباءكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها ً غيري لأجعلنك من المسجونين ) 29
    لقد أحس فرعون كما يحس الظالمون أبدا ً حين يدعون إلى شيء باسم الله وطاعته فأبى واستكبر ثم هدد بالبطش ( لأجعلنك من المسجونين ) موسى يطلب إطلاق بني إسرائيل باسم الله لا بإسم قضية سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو حتى وطنية وقومية وفرعون يحول القضية إلى قضية الألوهية, من المعبود الذي ينبغي أن يطاع ..!؟
    ولقد طلب فرعون الآيات لا ليؤمن ولكن كِبَرا ً وتحديا ً ( فلما جاءهم موسى بآياتنا , ( وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ) قالوا ما هذا إلا سحر مفترق وما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن يكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون , فقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من آله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا ً لعلي أطلع على آله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير حق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ). غرق فرعون الذي قال لملأه ( أنا ربكم الأعلى ) وغرق معه جنده الذين استخفهم بفسقه واستعبدهم بسلطانه ( فاستخف قوم فأطاعوه إنهم كانوا قوما ً فاسقين) زخرف 54
    وكانت نهايته آية لكل ظالم وعبر ة لكل جبار عنيد في الأرض, ولكن متى كان الظالمون يعتبرون ....!
    وإما قوة المنطق في دعوة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام :
    فسأقتصر على شقين أو جهتين فيها , الأولى : دعوته لأهل الكتاب إلى الإيمان بما جاء به وثانيا ً : دعوته قومه من المشركين إلى ما جاء به من عند الله عز وجل.
    أما دعوة أهل الكتاب فتبدو لنا قوة المنطق فيها في قوله تعالى : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والإسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد ٍ منهم ونحن له مسلمون ) البقرة: 136.
    فإن الرسالة المحمدية هي الرسالة الوحيدة التي يؤمن أتباعها بالرسل جميعا ً وبما أنزل إليهم فقد كفر اليهود بعيسى عليه السلام وبمحمد عليه الصلاة والسلام , وكفر النصارى بمحمد عليه الصلاة والسلام وآمنوا بعيسى ولكن لا على أنه رسول بل على إنه إله وابن إله.
    اما المسلمون فإنهم وحدهم الذين يؤمنون بالرسل جميعا ً من لدن آدم ونوح إلى محمد عليه الصلاة والسلام. قال تعالى : ( ... والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون .) البقرة 3.
    وتتجلى قوة المنطق في دعوة القرآن أهل الكتاب إلى الإيمان الحق في قوله تعالى ( قل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ً ولا يتخذ بعضنا بعضا ً أربابا ً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون ) آل عمران 64.
    نكتفي بهذين الشاهدين من كتاب الله عز وجل في دعوة محمد عليه الصلاة والسلام أهل الكتاب إلى الحق في قوة المنطق , والقرآن الكريم مليء بالشواهد على صدق هذه الدعوة وقوة المنطق فيها .
    وإما الاتجاه الثاني :
    ففي دعوة المشركين من قومه, وتتجلى قوة المنطق في دعوته عليه الصلاة والسلام لهم إنه إذا دعاهم إلى الإيمان بالله الواحد لا شريك له أجابوه كما أجاب قوم إبراهيم من قبل. قال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا, أولوا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ً ولا يهتدون ) البقرة: 170
    ولما نزل عليه قوله تعالى : ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) أي أمر بالجهر بدعوته مهما ناله من أذى, صعد على جبل الصفا ونادى بأعلى صوته قريشا ً بطنا ً بطنا ً فلما اجتمعوا قال لهم في قوة المنطق : لو قلت لكم إن خيلا ً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ ؟ قالوا نعم ما جر بنا عليك كذبا ً قط.
    أخذ الإقرار منهم جميعا ً بإنه صادق قبل أن يقول لهم ما يريد قوله. فقال : ( إني رسول الله إليكم بين يدي عذاب شديد ) فقال المعاندون عندئذ والمستكبرون منهم . أبو لهب وأمثاله, تبا ً لك ألهذا جمعتنا .
    كما قال تعالى : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) الأنعام : 33 .
    وقال تعالى : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما ً وعلوا ً) النحل 14.
    فلما عجزوا عن مجابهته بقوة المنطق لجأووا إلى منطق القوة واستخدموا القتل والتعذيب والتهجير له ولأصحابه, كما قال تعالى : ( وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) . قال تعالى ( ألا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار ) وهكذا ثبت لنا بالأدلة والبراهين إن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يسلكون في دعوتهم إلى الله عز وجل قوة المنطق لا منطق القوة, كما هو عليه الغرب اليوم وكما كان في السابق ( الاتحاد السوفياتي ) بالقهر والنار. فهل من معتبر..!؟
    وبالرغم من هذا الوضوح في دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام ودعوة الأنبياء من قبله تجد اليوم من يقول: (( الإسلام انتشر بالقوة أو بالسيف)) ترى أي سيف ٍ سله الرسول عليه الصلاة والسلام على رقاب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وزيد بن حارثة وغيرهم ممن اعتنقوا الإسلام ف ول عهده بل أية قوة أخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده المكي قبل الهجرة...!؟
    ألم يمكث عليه الصلاة والسلام هو والمؤمنين بدعوته ثلاثة عشر عاما ً يدعو إلى الله على بصيرة من أمره بالحكمة والموعظة الحسنة ...!؟
    وتحملوا الشدائد وزلزلوا بسبب دينهم ( حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ..!؟)
    أضطروا إلى أن يأكلوا وراق الشجر حتى قرحت أشداقهم , فأين موضع السيف في هذه المرحلة من الدعو ة...!؟
    وبعد الهجرة التي أجبروا عليها والإخراج من الوطن . ترى أي سيف أخذه الرسول بيده ووقف به مسلطا على رقاب الأنصار ...!؟
    أليس هؤلاء .. وهؤلاء دخلوا في الإسلام راضين راغبين...!؟ إنهم دخلوا فيه بعد أن فكروا بعقولهم الكبيرة فيما يدعو إليه هذا الرسول الذي استخدم معهم ( قوة المنطق ) وحسن الحديث وسلامة الصدر والترفع عن الإغراءات والاستهانة بالعذاب والاستعلاء عن الشهوات ثم حارب بهم قوة الشرك والطغيان حتى ( غزوة الخندق أو الأحزاب ) التي كانت في السنة الخامسة للهجرة ولا يفهم من هذا إن الإسلام لا يدعو إلى القوة أو لا يأخذ بها ! إن الإسلام كله دين قوة ابتداء ً بالمنطق ومرورا ً بالأخلاق والدعوة إلى العلم النافع بجميع صنوفه نظرية كانت أو تجريبية.
    وانتهاء بقوة الاعداد للحرب والقتال لقتال من قاتلهم و صد هجماتهم و عدوانهم الواقع أو المتوقع إذا اقتضى الأمر أو دعت إليه الحاجة دون أن يظلم أحدا ً في حربه معهم فالإسلام حتى في حربه مع عدوه إنساني النزعة فكما هو دين رحمة في حال السلم فهو دين إنسانسة في ميادين الحرب ومن وصاية الرسول الذي أرسل رحمة للعالمين إذا توجه جنده للقتال هذه الوصية الرحيمة بالأعداء :( لا تقتلوا شيخا ً ولا طفلا ً ولا امرأة ولا تحرقوا زرعا ً ولا تذبحوا شاة إلا لمأكله )
    مجرد مقارنة بين هذه الوصية من رسول الله قبل خمسة عشر قرنا ً ( وقد نفذت بدقة وبحذافيرها ) وبما فعلته أسلحة الدمار في الحربين العالميتين الأولى والثانية, ثم ما تفعله اليوم أسلحة الدمار بأنواعها المختلفة سواء في فلسطين من قتل ٍ للأطفال والشيوخ وهدم ٍ للمنازل على رؤوس ساكنيها وما تفعله أسلحة الدمار في العراق بالطريقة نفسها التي يسلكها اليهود مع الفلسطينيين .
    ترى هل يمكن لأمريكا والمتحالفين معها أن يجعلوا ( الديمقراطية ) تسود تلك الدول التي يطمعون في الاستيلاء على خيراتها بهذا العنف والقسوة من قتل ٍ وتدمير واعتقال ٍ وانتهاك أعراض..!؟
    حبذا وجد من يقول لهم ويهمس في آذان شعوبهم من عقلائهم ومثقفيهم . إن البلاد العربية والإسلامية كانت تميل إليكم وتفضلكم على الاتحاد السوفياتي حين كان في قوته إذ إنكم تشتركون معهم في الإيمان بالله ولا تزال عبارة ( بالله تؤمن ) موجودة على عملتكم المتداولة ( الدولار ) كما تشتركون معهم في الإيمان باليوم الآخر يوم الدينونة لأن بلادكم تدين بالمسيحية وأنت ( يا بوش ) تظهر أمام شعبك في صلاتك بالكنيسة مع جماهير المصلين أو الذين يقيمون ( القداس ) فهل المسيحية التي جاء بها المسيح عليه السلام رسول المحبة والسلام تأمركم بهذه الحروب وقتل الآمنين وترويع النساء والأطفال ..!؟
    ألم يقل المسيح ( دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ..) و ( من ضربك على خدك الأيمن فدر له الأيسر أيضا ً) ثم لماذا هذه العداوة الشديدة والحرب القائمة على العالم العربي والإسلامي ..!
    عد بذاكرتك يا بوش إلى ما قبل قرون وأنت يا بلير عندما كانت بلادكم غارقة في الظلام في العصور الوسطى وراجعوا تاريخكم بشيء من التفكر والتدبر وفي لحظة هدوء وروية لتعلموا إن بعثاتكم العلمية كانت تتلاحق وتتوارد على بلاد المسلمين ليتعلموا في مدارسها وجامعاتها في الأندلس حيث شع نور العلم وبدد ظلام العصور الوسطى في أوربا من إسبانيا واستمر العرب المسلمون منذ عام 711 م حتى 1492 م زهاء ثمانية قرون يمدون على العالم أروقة العلم والنور والحضارة الإنسانية فقد بقوا في إسبانيا حتى القرن السابع الميلادي حتى أضطروا للهجرة إلى شمال إفريقيا وتركوا الشعبين الإسباني والبرتغالي شعاع حضارتهم إذ ما يزال سمة واضحة حتى اليوم....!
    وكانت إسبانيا بالذات معبرا ً انتقلت من خلاله الحضارة العربية إلى أوربا وأمريكا منذ أن اكتشف ( كريستوفر كولومبس ) أمريكا, وكان من الطبيعي أن يحمل الفاتحون الأسبان للعالم الجديد كثيرا ً مما استقر في دمائهم ونفوسهم من الدين الإسلامي وعلمه وأخلاقه فمثلوها خلال ثمانية قرون حتى قال أحدهم حين انتصر جيوش القائد ( شارل مارتل ) على المسلمين في الأندلس قال : ( كنت أتمنى أن تنكسر ذراع شارل مارتل ولا ينتصر على حاكم المسلمين فإنه بانتصاره عليه أخر الحضارة الأوربية قرونا ً عديدة ).
    وتصديقا ً لهذا ومن باب التذكير فقط أضع أمام أعينكم ما كتبته المستشرقة الألمانية ( زيغريد هونكة ) في كتابها المكون من خمسمائة صفحة تقريبا ً ( شمس العرب تسطع على الغرب ) وفي الفصل الرابع منه تحت عنوان ( طلب العلم عبادة ) ..( لقد أوصى محمد كل مؤمن رجلا ً كان أو امرأة بطلب العلم وجعل من ذلك واجبا ً دينيا ً فهو الذي يقول للمؤمنين : ( اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ).
    والرسول يلفت أنظارهم إلى علوم كل الشعوب , فالعلم يخدم الدين, والمعرفة من الله وترجع إليه فمن واجبهم أن يصلوا إليها مهما كانت بعيدة وأيا ً كان مصدرها ولو نطق بالعلم كافر ,لأن المعرفة تنير طريق الإيمان فيردد عليهم ( اطلبوا العلم ولو في الصين ).
    ثم تقول الكاتبة : ( وعلى النقيض من ذلك تماما ً يتساءل ( بولس الرسول ) مقرا ً : ( ألم يصف الرب المعرفة الدنيوية بالغباوة ...؟)
    مفهومان مختلفان بل عالمان منفصلان حددا بهذا طريقين متناقضين للعلم والفكر في الشرق العربي الإسلامي والغرب الأوربي المسيحي وبهذا اتسعت الهوة بين الحضارة العربية الشامخة والمعرفة السطحية المعاصرة في أوربا حيث لا قيمة لمعرفة الدنيا كلها, يقول معلم الكنيسة ( لاكتاتيوس ) : ( إن ما يدعيه بعضهم من إن الأرض كروية فهو كفر وضلال ويتساءل مستنكرا ً: هل هذا من المعقول ؟ أيعقل أن يجن الناس إلى هذا الحد فيدخل في عقولهم إن البلدان والأشجار تتدلى من الجانب الآخر من الأرض, وإن أقدام الناس تعلو رؤوسهم ..!؟
    ملعون من يقتنع أو يقبل الآن تفسيرا ً علميا ً لحوادث الطبيعة خارج عن طاعة الرب, من يشرح أسبابا ً طبيعية لبزوغ كوكب وفيضان نهر بل لمن يعلل شفاء قدم مكسورة أو إجهاض امرأة تعليلا ً علميا ً , وتلك كلها عقوبات من الله أو من الشيطان أو هي معجزات أكبر من أن ندرك كنهها . ولا أظن أن هذه المعلومات تغيب عنكم, فبدلا ً من أن تردوا إلى المسلمين جميلهم وشيئا ً من فضله عليكم وعلى بلادكم قلبتم لهم رأس المحن...1 وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان إن كنتم تعرفون إحسانا ..ّ
    ولكن ما مثلنا ومثلكم إلا كمثل قاله شاعر منذ زمن قديم وهو : أعلمه الرماية كل يوم فلم اشتد ساعده رماني .
    لتعلموا ولتعلم شعوبكم أن الشعوب الإسلامية بما فيهم – طبعا ً – العربية باتت تكرهكم كرها ً لا حد له بعد أن رأت و عانت قسوتكم وعنفكم وتدميركم لبلادهم لهذا الذي تسمونه بـ ( الديمقراطية ) ومتى كانت الديمقراطية تفرض على الشعوب فرضا , لماذا لا تعتبرون تجربة الاتحاد السوفياتي سابقا ً..!؟ إن انهياره ما كلف شيئا لأنه كان هشا ً طلاء ظاهريا وإلا كيف انهار بهذه السرعة و في الدولة ( عشرون مليون عضو عامل ) ولم يحرك واحد منهم ساكنا ً وهو يرون ويعاينون انهياره بأم عينهم...!
    لقد أمر القرآن الكريم الذي هو كتاب لما يزيد على مليار مسلم, بمعاملتكم معشر المسيحيين معاملة خاصة تختلف عن معاملة المشركين والكفار وما ذلك إلا لأن هناك نقاط مشتركة أو قاسما ً مشتركا بينهم وبينكم وهو ( الإيمان بالله واليوم الآخر وبالأنبياء الذين سبقوا المسيح عليه السلام وبالدعوة إلى مكارم الأخلاق 0) من أجل هذا عاملك المسلمون وحكامهم خلال قرون مضت بهذه المعاملة الخاصة
    فأبقوا على بلادكم التي فتحوها وعلى كنائسكم ودور عبادتكم ولم يتعرضوا لها بالهدم كما تفعلون اليوم بمساجد المسلمين وكما فعل أسلاف بوش وبلير عند احتلالهم لـ ( الأندلس ) بهدمها وتحويلها إلى كنائس وأماكن للنفايات.. ولم يجبركم العرب المسلمون على ترك دينكم والدخول في دينهم ولم يهجروكم من أرضكم وبلادكم إنما تركوكم أحرارا ً تقيمون شعائركم الدينية وتطبقون أحوالكم الشخصية مع الإبقاء على رجال دينكم وزيهم المميز ومراسيم الزواج وإقامة الحفلات الدينية في أعياد الميلاد ورأس السنة والفصح وغيرها من المناسبات مع حريتكم التامة في إقامة الصلوات والقداس حسب ما جاء في كتبكم المتداولة دون تدخل من الحكومات التي تعاقبت خلال خمسة عشر قرنا ً وإلى اليوم هل لهؤلاء المسيحيين الذين يعيشون اليوم ( أقليات ) في البلاد الإسلامية أن يفهموا الغرب وفي مقدمته ( أمريكا وبريطانيا ) أن المسيحيين العرب خلال تاريخهم الطويل ومعايشتهم لهم لم يجدوا من المسلمين إلا العدل والرحمة والمعاملة الحسنة ...!
    نأمل ذلك من الطبقة المثقفة الواعية من المسيحيين أن يكونوا طلائع ورسل هذه البلاد لإفهام الغرب هذه الحقيقة كما فعل جورج قرم في كتابه ( تعدد الأديان ) وفيكتور سحاب في ( من يحمي المسيحيين العرب ) وهما كاتبان لبنانيان مسيحيان إذ كانا منصفين في كتابيهما وذكرا الحقائق التاريخية والواقعية في معايشتهم المسلمين في سوريا ولبنان خاصة وأنهم لم يروا من هؤلاء المسلمين إلا العدل والرحمة والمعاملة الحسنة ...!
    لعل الغرب يغير من نظرته التشاؤمية الخاطئة عن الإسلام والمسلمين ويكفوا عن هجمتهم على العرب والمسلمين سواء في بلادهم أو في البلاد العربية والإسلامية.
    إن عقيدة المسلمين تجاه المسيحيين لا تتضمن حقدا ً عليهم أو احتقارا ً لهم ولنعد بذاكرتنا إلى عهد الرسالة النبوية ولنقرأ هذه اللوحة التي رسمها القرآن العظيم في ذهن كل مسلم إلى قيام الساعة قال تعالى : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ً وأنهم لا يستكبرون ).
    ترى هل كان المسلمون في هذه المعاملة الحسنة في العدالة والأخلاق والسياسة مع المسيحيين خلال القرون الطويلة في معايشتهم معهم يحاولون استرضاء المسيحين – خداعا ً أو سياسة أو عقلانية أو مجاملة – أبدا ً .. لا شيء من كل هذا.. بل إنهم كانوا يوضحون ما أمرهم الله به أن يقولوا ( وقولوا للناس حسنا ً) . ولقد قالوا في السيد المسيح وامه الشيء الكثير في هذا الموضوع كما جاء في القرآن العظيم: فالمسلمون يعتقدون أن المسيح عيسى بن مريم رسول اله بل من أعظم رسل الله الذين جاء ذكرهم في القرآن موصوفين بأولي العزم ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل).
    وإنه كان مسيح الهداية ولد بمعجزة ( أي دون اتصال ذكر بأنثى ) وهو ما لا يؤمن به اليهود وأمه صديقة وأنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأنه رفع بمعجزة ومن لم يؤمن بهذا من المسلمين فليس بمسلم.
    ولا يدرك كثير من المسيحيين أن :
    1)الروح الطيبة التي يبديها المسلم دائما ً نحو عيسى وأمه مريم العذراء إنما ينبع من إيمانه, ومنبعه القرآن الكريم.
    2)أن المسلم كلما ذكر عيسى شفع اسمه بالسلام عليه.
    3)وذكر ما يستحقه من كلمات الاحترام.
    4)أن المسيح ذكر في القرآن خمسة أمثال ذكر نبي الإسلام, فقد ذكر اسم المسيح عليه السلام خمسا ً وعشرين مرة مقابل خمس مرات ذكر فيه اسم نبي الإسلام ( محمد عليه الصلاة والسلام).
    5)أن المسيح ذكر في القرآن في آيات تدل على احترامه مثل ابن مريم أو المسيح أو عيسى أو عبدالله أو رسول الله. ووصف بأوصاف عديدة في ثنايا خمس عشر سورة.
    6)لا توجد مذمة واحدة في القرآن كله لعيسى يمكن لأي حاقد أن يتلمسها لتكون استثنائية من هذه القاعدة.
    7)أن الشرف الذي اسبغ القرآن الكري على مريم لم يتح لها حتى في أناجيل المسيحيين إذ إننا نجد سورة كاملة بعنوان ( سورة مريم ) لو أننا تصفحنا // 66 // سفرا ً للبروستانت و // 73 // سفرا ً للروم الكاثوليك فإننا لا نجد أيا ً منها قد عنون ( لمريم ) تكريما ً لها كما لا نجد لابنها عيسى المسيح عليه السلام.
    تجد كتبا ً من الأناجيل بعنوان : متى , مرقص , يوحنا , بطرس , بولس , وتجد عناوين لأشخاص أقل أهمية وشهرة ولكنك لن تجد واحدا ً بعنوان عيسى أو مريم ..!
    فكان من واجب المسيحيين أن يحترموا نبي الإسلام ويقدروه ويعظموه كما يعظم المسمون عيسى عليه السلام. ولكن المسيحيين خلال قرونهم الطويلة ولا سيما في الغرب رضعوا كره المسلمين ولقنوا أسوأ المعتقدات عن ذلك الرجل المدعو ( محمدا ً عليه الصلاة والسلام) وعن دينه الإسلام ولقد كان الدكتور ( توماس كارليل ) صادق النظرة عندما قال عن بني جلدته من المسيحيين منذ أكثر من مائتي سنة حيث قال : (( هذه الأكاذيب التي كلناها حول ذلك الرجل ( محمد ) إنما هي مشينة لنا وحدنا ))
    لقد كان لقاء الإسلام بالمسيحية واليهودية لقاء محبة واحترام, قال تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) العنكبوت : 46
    ولنستمع إلى كلام المؤرخ الكبير البلاذري في كتابه فتوح البلدان , إذ يقول :
    إثر وقعة ( اليرموك ) ودخول المسلمين بلاد الشام وفتحها صلحا ً (( لقد رد المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا لهم : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم أي : إن شئتم خرجنا من بلادكم وتركناها لكم, قال أهل حمص من النصارى: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم, ولندفعن جنود هرقل عن المدينة مع عاملكم ( واليكم )..
    ونهض اليهود قائلين : والتوراة أي نقسم بالتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد, وأغلقوا أبواب المدينة وحرسوها وكذلك فعل أهل المدن الأخرى التي صولحت من النصارى واليهود)).
    فلا تعصب في الإسلام ولا اضطهاد ولا إكراه ولكن الدس الأجنبي والجهل والغرور والتعصب كل ذلك أثار في فترات مختلفة كثيرا ً من الحقد والريبة وروح العداء بين المسلمين وغير المسلمين.
    ويأتي هذا تصديقا ً لما قاله ( توماس كارلايل ) ...(( هذه الأكاذيب التي كلناها بحماس حول ذلك الرجل محمد إنما هي مشينة لنا وحدنا .))
    كما يقع جزء كبير من المسؤولية عن هذه الجهالة التي تضرب أطنابها بين مليار ومائتي مليون مسيحي في العالم على عاتق المسلمين أيضا ً حكاما ً وشعوبا ً إذ لم يفعلوا شيئا ً يذكر يزيلوا ما نسجته عناكب هذه الجهالة من خيوط .



    القامشلي في 27 / 12 / 1425 هـ
    الموافق لـ 7/ 2 /2005 م



    خاشع حقي
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.