• اليوم التالي للحرب - د عماد فوزي الشعيبي

    من تعشّق الموت(النيروفيليا) إلى حب الحياة(البيوفيليا)
    "اليوم التالي للحرب"
    د. عماد فوزي شُعيبي
    محاضرة ألقيت في الثلاثاء الثقافي بدعوة من قسم علم الاجتماع يوم الثلاثاء 10 كانون الأول2013

    المدخل : "لماذا يريد لك الموت ... لأنك لا تريد له الحياة أو لأنه لا يشعر بأن ثمة حياة له أو أن لا معنى لحياته أو لأن قيمة كبرى يعتقد أنها تقف وراء الموت؛ وهي قيمة تتجاوز الحياة وتتجاوز قيمة الحياة. ولهذا فهو يتعشق الموت لك وله؛ لك لما سبق ذكره، وله لأنه يعتقد أن هنالك ما هو أهم من بقائه على الحياة أو لأن لا معنى لحياته."

    يأتي مصطلح تعشّق الموت من مصطلح تعشّق الموتى وهو مصطلح معروف في علم النفس بالنيكروفيليا (Necrophilia). ويبدو أن إيريك فروم قد استخدم هذا المصطلح بالمعنى الموسع للكلمة، فهو ذلك المرض الذي يجعل من الشخص يمارس فعل الجنس مع الموتى وهو فعل قبيح بالمعنى الإنساني والأخلاقي والحضاري و مرض نفسي.

    فتعشق الموتى (نيكروفيليا Necrophilia) هو هوس يدفع البعض إلى مطالعة الموتى أو الارتباط بفعل هو من قبيل الحياة من خلال الموت أو الموتى. فالهدف هنا هو الوصول للمتعة من خلال الموت وكأن الموتى هم الطريق إلى متعة الحياة؛ إما لعدم توافر ذلك في الحياة نفسها لدى ذلك المريض، وإما لأن هذا الحد من المتعة (الحياتية) لا يصل إليها ذاك المريض إلا عبر الموت. فالأمران بهذه الحالة مرتبطان؛ أي حب الحياة (Biophilia) وتعشق الموت (Necrophilia)، وكأننا هنا أمام تعشّق للحياة بصورتها السلبية (negative). فبدلا من الذهاب إلى الحياة مباشرة نرى المريض يأخذ تلك المتعة من خلال الموت وعبر الموتى. وكأنني هنا أمام ثنائية تربط حب الحياة بالموت مباشرة.

    هما ثنائيتان بطبيعتهما على التضاد، ولكنهما في هذه الحالة ثنائيتان متلازمتان؛ وكأن لا معنى لمتعة الحياة في هذا النموذج من المرض إلا من خلال نقيض الحياة ذاتها؛ وأعني الموت. إذاً هما متلازمتان بقدر ما تتحقق عناصر الحياة الصرف والخام بقدر ما يتباعد ذلك الارتباط بين حب الحياة وتعشق الموت كوجه من وجوه تعشق الحياة ولكن عبر الموت والموتى.


    • تعشّق الموت عبر عقلية الشُّح والنُدرة:

    واقع الحال أن حب الحياة الصرف في بُعده الأمثل لا يتأتى إلا مع عقل الوفرة. بينما عقل الشح هو الذي يدفع بصورة أو بأخرى نحو تهيئة الأرضية باتجاه تعشّق الموت باعتباره الصورة السلبية (negative) لعشق للحياة واقعه أنه بات منزوياً أو بعيداً غائراً. فمجتمعات الندرة أو الشح (scarcity) التي يكون فيها عجز في الموارد المتاحة (shortage) تعكس عقلية للشح تتميز بأنها عقلية إغلاق. فهي تغلق على كل من هو في محيطها فينشأ فيها البشر يكرهون بعضهم البعض ويشتغلون ببعضهم البعض لإنهاء بعضهم البعض ذلك أن في الندرة، يغدو إلزاماً الاقتتال على الندرة في الموارد كجزء من الطبيعة المتلائمة مع حالة لا يوجد فيها الحد الأدنى من الحقوق إلا باعتبارها (امتيازات).
    ولأنها أي حالة النُدرة وعقل الشًح الذي يرافقها شاذان إلى هذا الحد، حيث أن الوصول إلى الحقوق يصبح امتيازاً، فإن الاقتتال من أجل الحصول على الحد الأدنى يغدو بمثابة صراع على البقاء. هنا تبدأ مرحلة النيكروفيليا بالتشكل؛ فأنا إن لم أحصل على هذا الامتياز لا يكون لي وجود، ولهذا فإن من واجبي (أن أنهيك) لكي أحصّل الفرصة في أن أستمر. وهذا ما نراه في الاقتتال على المناصب حيث في المنصب حياة ومال وفي التمسك بهذا الموقع أو ذاك أضمن استمرار الحياة، ذلك أن لا حياة إلا عبر هذا في مجتمعات النُدرة والشُح.

    ومن خلال هذه الندرة تتشكل آلية مزدوجة؛ فمن ناحية لكي أحصل على الحد الأدنى من مقومات الحياة لا بد من الاقتتال ولو بأشكال بدائية كتلك التي نعرفها في مؤسسات يكيد موظفوها بعضهم لبعض ويحرص مدراؤها على الإتيان بأسوأ الكفاءات، بحيث لا يكونون بديلاً منهم بأي حال من الأحوال، ذلك أن البديل يشكل خطراً كبيراً على المستبدل منه.
    وهنا لا تتحقق (لذة الحياة) إلا بإنهاء الآخر وبالحد الأدنى تقزيمه، وبالتالي تقزيم طبيعة كل مؤسسات الدولة ذلك أن (الصغير) الذي يأتي من أجل أن يبقى مديره سرعان ما يحوِّل كل طبيعة المؤسسات إلى اقتتال مشابه. وهنا بدلاً من أن تكون الحياة الوظيفة (وهي مثال لكل المجتمع عموماً) منافسة شريفة للكفاءات فإنها تغدو صراعاً كبيراً بين المنحط من تلك الكفاءات.

    صحيح أن التاريخ البشري بأسره كما يقول سارتر هو تاريخ العجز في الموارد وتاريخ النضال المرير ضد هذا العجز حيث ُ أن البشر لم يتح لهم من الموارد في أي مرحلة من مراحل التاريخ ما يكفي لإشباع سائر الحاجات.
    فالندرة، وفقاً لسارتر هي ما يضفي المعقولية على العلاقات البشرية وهي المفتاح الحقيقي لفهم اتجاهات البشر نحو بعضهم البعض وهي المدخل إلى فهم سائر الأبنية الاجتماعية التي أقامها البشر طيلة حياتهم على الأرض. وهي ما يطلق عليه البعض مفهوم المصلحة ولكننا نؤثر مفهوم الندرة والشح كمدخل إلى موضوع بحثنا هذا.

    فالندرة توحد البشر ضدها وتفرقهم في نفس الوقت؛ توحدهم للنضال ضد العجز في الوصول إلى الموارد، وتفرقهم؛ لأن كل واحد منهم يعلم أن وجود الآخرين هو الحائل ما بينه وبين أن ينعم بوفرة سواء بالحد الأدنى أو بالحد الأعلى. وهكذا، فإن الصراع على الندرة هو محرك البشر. وتجاوز النُدرة يدفع نحو حب الحياة. فالوقوع في الندرة والشح ينمِّط عقلاً جمعياً يعتمد الندرة بل ويحض عليها. هو عقل منقوص لا يستطيع بحال من الأحوال أن يفتح لنفسه وللآخرين؛ يحاول قدر جهده إنهاء الآخر كي يحيا المفرد. وهذه ليست محض فردية تكتنف (العقل الذكري) إنما هي عقلية تغدو جمعية هدفها إنهاء الآخر.

    والمفارقة في عقلية النُدرة والشح أن كل واحد يعرف أنه لتجاوز تلك الندرة لا بد من تضافر الآخرين معه وبنفس الوقت يدرك أن وجود الآخرين هو الذي خلق الندرة، وهو في نفس الوقت السبيل إلى مواجهتها.

    مفارقة من نوع عجيب ... أن تحتاج الآخر لتجاوز الندرة، وعقل الندرة يدفعك نحو إلغائه ... هذه المفارقة هي ما يقود إلى تعشُّق الموت للآخر أو الموت من أجل ما يتجاوز الندرة.
    إنه صراع على البقاء، وأحياناً صراع من أجل بقاء أرفع عندما يستحوذ البعض على ما يتجاوز الندرة فيحاول (استقصاء maximize) الموارد لتصبح له وحده ليس فقط من خلال عقلية الطمع وإنما من خلال ميراث تجربة الندرة لديه والتي التي خلقت عنده عقلاً (ندروياً) لا يستطيع أن يرى مكاناً للآخرين فيحاول أن يأخذ كل شيء ويدفع الموارد التي حصلها نحو ما هو أقصى. وهذا ليس فيه عقل تراكمي بالمعنى الاقتصادي للكلمة بقدر ما فيه عقدة الندرة والشح التي هي بكلمة (أكون ولا تكون)؛ إنها عقدة جهنم -كما أدعوها- والتي تتلخص بـ (وكلما قلنا لجهنم هل امتلأت قالت هل من مزيد).

    هي جهنم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى لأنها تحرق الجميع؛ تحرق المستقصي للموارد دفعاً نحو استحواذها كلها وتحرق الآخرين لأن لا مكان لهم.

    أنا غريم لك وأنت غريم لي لا بد لنا أن نعمل معاً وفي لحظة يجب أن أنهيك كي أبقى. إنها عقلية تجعلنا جميعاً غرماء وتجبرنا على التعاون مع غرمائنا في عالم من الفعالية و الهمود؛ (PRACTICO-INERT)؛ عالم الفعالية بمعنى عالم البراكسيس (PRAXIS) وعالم الهمود بمعنى انعدام الأمل لدى طرف آخر.

    فهنالك أناس يمارسون فعل البراكسيس، ما يستلزم صورتهم السلبية مقابله فهم يُدفعون نحو الهمود أي نحو الإقصاء. وهنا يتحول هؤلاء الذين تم إقصاؤهم إلى فعل النيكروفيليا، فلا حياة لهم ولا مستقبل لهم – وبطبيعة الأحوال- لا كرامة لهم (بالمعنى الشخصي وبالمعنى العام) لأن فعل استقصاء الربح ووضع اليد على الوفرة تدفع الطرف الآخر الذي لم يُحصّل شيئاً ولا امل له بتحصيل ولو الحد الأدنى إلى نشدان الموت بدلاً من حياة يموتون فيها ببطء أو نشدان الموت للآخر طالما أنه يشكل فعلياً العنوان الدائم أمامهم في الحياة والذي يقول:" بأن لا مكان لهم في تلك الحياة".

    فمن سخرية المفارقات أن كثيراً من الأفعال التي حاول فيها البشر أن يجعلوا العالم أكثر احتمالاً وأن يقللوا من وطأة الندرة، قد أدت إلى عكس المقصود منها إذ ترتب عليها أن أصبح العالم أكثر سوءاً من ذي قبل مما جعل الإنسان عدواً للإنسان أو مضاداً للإنسان أي أن يصبح الإنسان المضاد (Le Contre Homme).
    فقهر الندرة يخلق عالماً يتجاوز الصراع والمنافسة إلى تعشق الموت وهنا يصبح الآخر هو الجحيم ولا شيء يصلح مع الجحيم إلا الإلغاء. وما يترتب على الندرة هو دور العنف والرعب خشية (التحلل) فالرعب من المستقبل يدفع نحو العنف لأن المستقبل الذي ليس فيه أمل هو مستقبل خطير يُنذر بتحلل من لم يحصّل ما يتجاوز النُدرة، ويستدعي بث الرعب الذي يعيشه المرء في داخله في محيطه كنوع من أنواع الإسقاط (PROJECTION) الذي يمارسه الإنسان دفعاً للأذى عن نفسه بإيذاء الآخرين، فإذا كان الأذى ضمنيا وهو أذى المستقبل الغائم أو المرعب فليكن، بنفس الآلية اللاشعورية، أن يمتد هذا الرعب على كل البشر. وهذا ما يفسر تلك النزعة التدميرية لدى الإنسان ضد البشرية عموماً وبشكل خاص في حالات الحروب. وهكذا تتحول العلاقات بين البشر إلى نوع من العلاقات السادومازوشية: سادية على الآخرين، ومازوشية من الآخرين؛ أي تعذب الآخرين وتستلذ بعذاباتها.

    إن من أبرز تبديات تعشق الموت كما يوضح إيريك فروم هو الاقتناع بأن السبيل الوحيد إلى حل مشكلة أو صراع هو القوة والعنف وهو ما يحتاج لعلاقة إلى نوع من الجمع بين خبرات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد معاً وفق مختص رباعي بهم.

    • العدوان في تعشّق الموت
    إن أهم تمييز أساسي يندرج تحت صنف العدوان هو التمييز بين العدوان غير الخبيث المتكيف بيولوجياً والعدوان الخبيث غير المتكيف بيولوجياً.

    العدوان المتكيف بيولوجياً هو الاستجابة لتهديدات المصالح الحيوية، وهو مبرمج من الناحية النشوئية النوعية؛ ومشترك عند الحيوانات والبشر وليس عفوياً أو ذاتي التزايد وإنما هو استجابي ودفاعي ويهدف إلى إزالة التهديد إما بالقضاء عليه أو بإزالة مصدره. والعدوان الخبيث غير المتكيف بيولوجياً، أي التدميرية والقسوة، ليس دفاعاً في وجه تهديد، وليس معهوداً إلا في الإنسان.
    من أنواع العدوان الناشيء عن تعشّق الموت :
    1. عدوان إثبات الموجودية:
    العدوان Aggression يأتي من (aggradi) أي من كلمة (ad gradi) وتعني كلمة (gradus) يخطو، وكلمة (ad) تعني نحو. وكلمة (aggress) اتخذت منذ زمن مبكر كمعنى للهجوم ما دام الانتقال إلى الأمام هو الحرب. وهو دفاع عن النفس التي لا غد لها إلا عبر تعشّق الموت للآخرين.
    الخطير في هذا العدوان إنه يدخل في دورة للقتال تأخذ شكل الحلقة ولهذا داحس والغبراء كانت مشروطة بنمطية قتال يومية مستمرة لم تنتهي إلا عندما أتيحت فُرجة لمن قاتل سنين طويلة حيث لم يكن يرى غداً له، أن يرى ذلك الغد، أي أن يخرج من عقل الشُح إلى عقل الوفرة. وهنا بالذات لابد أن نقول أن شرط الانتهاء من أي حرب أن يرى أطرافها أن لهم فرصة لغد ما. وحتى إن انتصر طرف على آخر، أن لا يتعامل معه على أساس الخيار الصفري؛الذي يقول ها قد انتصرت عليك فسألغيك إنما هاقد فزت عليك(ولم أنتصر"حتى وإن انتصرت") فتعالَ لنعيش معاً عيشة لك فيها فرصة للحياة. وبهذا يتم الانتقال من عقل الشُح والنُدرة إلى عقل الوفرة حتى وإن لم تتوافر الوفرة مادياً.

    2.العدوان الدفاعي

    هو عدوان متكيّف بيولوجياً لأسباب تقع في الأساس الفيزيولوجي العصبي للعدوان، فالدفاع أساس منطقي للعدوان. وهو يتأتى من الشعور بأن لا غد له. وهنا يكون الدفاع هجوماً عدوانياً ؛ فعندما تكون في تهديد لشخصك لا تملك إلا العدوان، ولهذا إذا أردت أن تُخرج امرئ من عدوانتيه دفاعاً عن نفسه يجب أن تهيء له الشعور بالأمان الحقيقي وهذا الأمان لا يتأتى إلا عبر أبوية أو أمومية لا فرق تشعره أنه يستطيع الاستمرارية تحت مظلة حماية تتجاوز عقل الدولة إلى حنان التشكيل البدئي لوجوده (أعني الأسرة) أما اليوم التالي للحرب في العدوان الدفاعي فهو نزع كل مبررات الشعور بأن حمل السلاح هو الذي يحمي وجوده من التهديد.

    3. العدوان من أجل الحرية:
    يتجاوز هذا النوع من العدوان كل التهديدات لمصالح الإنسان الحيوية فتهديد حرية شخص ما ذو أهمية غير عادية فردياً واجتماعياً. وهنا يرى إريك فروم خلافاً للرأي المُعتقد به على نطاق واسع؛ وهو أن هذه الرغبة في الحرية هي نتاج الثقافة وتتواءم مع التعلم الأشد تخصصاً فهناك دليل وافر لافتراض أن الرغبة في الحرية هي رد فعل بيولوجي من الكائن البشري.

    ويرى فروم أن إحدى الظواهر التي تدعم هذا الرأي هي أنه طوال التاريخ كانت الطبقات تحارب باسم الحرية إذا كانت ثمة أية إمكانات للنصر. وكثيراً ما كانت تحارب ولو لم تكن هذه الإمكانية. وتاريخ الجنس البشري هو بالفعل تاريخ القتال في سبيل الحرية تاريخ الثورات من حروب التحرير الوطني إلى الانتفاضات الوطنية ضد الإمبراطورية الرومانية فحركات العصيان الفلاحية الألمانية في القرن السادس عشر إلى الثورات الأمريكية والفرنسية والألمانية والروسية والصينية والجزائرية والفيتنامية. وكثيراً ما استخدم القادة الشعار الذي يقول إنهم يقودون شعبهم في معركة من أجل الحرية في حين كانت غايتهم هي استعبادهم. والقول إنه ليس هناك وعدٌ يروق لقلب الإنسان أقوى من وعد الحرية تدل عليه الظاهرة التي هي أنه حتى القادة الذين يريدون قمع الحرية يرون أنه من الضروري الوعد بها. فالوعد بالحرية هو من مستلزمات عقل الوفرة الذي يعد بحب الحياة على حساب تعشّق الموت.

    ويتابع إريك فروم :إن السبب الآخر لافتراض وجود دافع متأصل في الإنسان إلى القتال في سبيل الحرية يكمن في أن الحرية هي شرط النمو الكامل للشخص وصحته الذهنية وحسن حاله، وغيابها يشل الإنسان و هو غير صحي. فالحرية لا تعني ضمناً عدم الإجبار ما دام أي نمو لا يحدث إلا ضمن بنية وأية بنية تتطلب الإجبار .
    وهنا فإن توق الحرية -كما نرى- هو توق للانعتاق باعتباره مشروعَ توقٍ لمعانقة اللانهائي ممثلاً بالحرية، طالما أن النهائي أي هذا الوجود البشري الذي ينتهي ويقيدنا ويشكل عقبة بالشُح فيه وعقلية الشُح التي ترافق بشرهُ، يُشكّل عقدة لدى الإنسان الذي يرفض القيد كترميزٍ لرفضه وجوداً مُقيّداً بالزمان والمكان وحتى بالجاذبية الأرضية. ولهذا فإن الحرية رغم أنها مفهوم ليس له ما صدق، تبقى حُلماً مشروعاً ، يجب حتى لا يتحول إلى تعشّق للموت أن يعمل البشر على صُنع بعض من تجليّاته ...ولو بالوعد وليس بالوعد كوهم أو كذبة، حتى وإن لم يكن للحرية ما صدق، إنما بالوعد الواقعيّ الصادق؛ الذي يبدأ فعليّاً بفرض عقلية الوفرة واحترام الفرد كفرد وتهيئة حقه بأن يزفر ويرفض وينتقد ...تحت مظلة القانون.

    4. تعشّق الموت والعدوان كدفاع ضد الجرح النرجسي:

    أحد أهم المصادر للعدوان الدفاعي هو جرح النرجسية الذي صاغه فرويد الذي قال: "إن الليبيدو الذي انسحب من العالم الخارجي قد اتجه إلى الأنا وهكذا أنشأ موقفاً يمكن أن يدعى النرجسية". فالشخص النرجسي يستجيب عادة بالغضب الشديد أو الحنق ويمكن أن تُرى شدة هذه الاستجابة العدوانية غالباً في أن شخصاً كهذا لن يغفر لمن جرح نرجسيته وكثيراً ما يشعر بالرغبة في الثأر والتي من شأنها أن تكون أقل شدة لو هوجم جسده أو ملكيته. وهنا برأينا، فإن مفهوم الكرامة الشخصية هو اليوم التالي لضبط حالة تعشّق الموت طلباً للذة التي احتجبت من العالم الخارجي نحو الذات ، ولهذا فإن في الوعد الصادق بالكرامة الشخصيّة وحده الذي يهيئ للانتقال من النكروفيليا إلى البيو فيليا,

    5. العدوان الممتثل:
    الجندي الذي يقتل ويعطب والطيار القاذف للقنابل الذي يدمر آلاف الأحياء في لحظة واحدة ليس من الضروري أن يدفعهما دافع تدميري أو قاس بل مبدأ الطاعة الذي لا يعتوره شك. إذ يرتكب هنا حسب فروم أعمالاً تدميرية كثيرة لكي لا يبدو المرء جباناً وخارجاً عن طاعة الأوامر. وقد أمكن تصنيف العدوان الممتثل بأنه عدوان زائف. والطاعة بوصفها حاجة إلى الامتثال سوف تحرك في الكثير من الأحوال الدوافع العدوانية التي لم تتمكن بغير ذلك من أن تكون ظاهرة.
    وهو برأينا في حدّ ذاته تعشّق لموت الآخرين طلباً لحياة جماعيّة أفضل وأكثر أمناً فمهنة رجل الجيش هي الموت؛ الموت من أجل أن يحيا الآخرون، ولكن حين توقف القتال يجب أن تُزال الأسباب الكامنة في لاوعي الجندي الممتثل، بإحياء حب الحياة لأن عدم إحياء هذا سيجعل تعشّق الموت تنميطاً سلوكياً ينتقل من معركة العدوان الممتثل إلى العدوان على المجتمع نفسه. وهذا لايتم تجاوزه دون نزع الشعور بالنيكروفيليا التدميرية طلباً لحياة لم تأتِ فإشعاره بأن الحياة قد أتت سرعان ما يعزل مبررات التعوّد الخطير على القتل وعلى إنهاء حياة الآخرين بسهولة. فالحد بين رقة استمرارية الحياة للآخرين وبين استسهال قتلهم كشعرة يسهل لانتقال بينهما إذا أحسن استبدال تعشّق الموت...بحب الحياة لأن حب الحياة هو الأبقى والأشمل والأكثر انسجاماً مع ما يدرج عليه الإنسان السوي.

    6. العدوان الوسيلي:
    إن النمط الآخر المتكيف بيولوجياً من العدوان هو العدوان الوسيلي الذي له هدف الحصول على ما هو ضروري أو مرغوب فيه. فليس الهدف هو التدمير في حد ذاته. فالتدمير لا يفيد إلا بوصفه وسيلة لبلوغ الهدف الحقيقي. وهو في هذه الناحية شبيه بالعدوان الدفاعي ولا يبدو أن له أساساً عصبياً مبرمجاً نشوئياً نوعياً. ولكن المألوف أكثر أن يعرّف المرغوب فيه بأنه المروم. والحقيقة هي أن الناس لا يرومون مجرد ما هو ضروري من أجل البقاء مجرد ما يوفر الأساس المادي للحياة الجيدة. فجلّ الناس جشعون؛ جشعون من اجل المزيد من الطعام والشراب والجنس والممتلكات والسلطة والشهرة. وما هو مشترك في كل الناس هو أنهم لا يقنعون ومن ثم فهم غير راضين. والجشع هوى من أقوى الأهواء غير الغريزية في الإنسان. وهو عرض من أعراض الاختلال الوظيفي البدني والخواء الداخلي وافتقار المرء إلى مركز في داخله وهو تمظهر مَرَضي للإخفاق في النمو الكامل. فالصفة المَرضية في الجشع: إنه لمعروف أن الإفراط في الأكل تسببه أحوال الاكتئاب أو أن الشراء الإلزامي هو إحدى محاولات الهروب من حالة الاكتئاب. وفعل الأكل أو الشراء هو فعل رمزي لملء الخواء الداخلي للتغلب بذلك على الإحساس الاكتئاب في الوقت الحاضر. والجشع على المستوى التاريخي هو أحد أكثر أسباب العدوان تكراراً ومن المحتمل أنه حافز للعدوان الوسيلي قوي قوة الرغبة فيما هو ضروري موضوعياً.
    نقول هنا إن ضبط العدوان الوسيلي لا يكون إلا بعقلية الوفرة أي بتوافر فرص العمل على نحو واسع، وضبط الجشع بتحفيز الأمان البيولوجي عبر الضمان الصحي وضمان الشيخوخة؛ وبهذا ينتصر حب الحياة على تعشّق الموت.

    في الختام لا نستطيع أن ننهي تعشّق الموت إلا بإشارات واثقة وموثوقة بأن ثمة إمكانية لحب الحياة. وليس الليبيدو (أي الإشباع الجنسي) إلا أحد معاملاتها الأساسية. ولهذا فإن مجتمعاً ليس فيه لذة الليبيدو عبر آليات تتوافق مع معتقداته كالزواج وبالتالي البيت والعمل أي الراتب والضمان الصحي والأمن اليومي وضمان الكرامة وحماية الأملاك الخاصة والقدرة على الترقي الاجتماعي وانفتاح أسباب الغِنى ؛أي أن يكون ثمة غنىً عن الناس...الخ من أسباب البيوفيليا ...لا يمكن أن يخرج من دورة الدم والموت الرخيص.
    تحتاج الدول والمجتمعات التي دخلت الحروب إلى مشروع للوفرة ؛ فالغرب الذي دفع في الحرب العالمية الثانية60 مليونا من القتلى و128 مليونا من الجرحى والمشوهين لم يخرج من نتائج دورة الدم إلا بالوفرة بمشروع ماريشال وعقل الوفرة الذي يفتح أما الجميع ويخرجهم من دورة القتل الرمزي بالإنهاء عبر النميمة ومنع الترقي وحجب الرزق والمكانة ... بل والقتل المباشر انتقاماً من عقل الشح والندرة القاتلين.
    وهذا كله يحتاج إلى مشروع ... وإلى حملة مشروع.
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.