• حول مشروع فاضل الربيعي لإعادة تصحيح تاريخ فلسطين والمنطقة تهافت الميثولوجيا

    حول مشروع فاضل الربيعي لإعادة تصحيح تاريخ فلسطين والمنطقة
    تهافت الميثولوجيا


    مجدي ممدوح

    لقد نسينا، أو تناسينا، ونحن نقرأ التوراة، أن هذا السفر هو من جنس الملاحم، إنها ملحمة لمجموعة بشرية أطلقت على نفسها عدة مسميات، العبرانيين، بني إسرائيل، اليهود، والملحمة في جوهرها يمكن تعريفها بأنها مجموعة من النصوص المؤسسة لشعب ما، فهي تتحدث عن طموحات وأحلام ومصالح هذه المجموعة البشرية، ولكن الجودة العالية للنصوص أو الأسفار التي انضوت تحت الفضاء النصي للتوراة جعلت هذه النصوص تتجاوز حدود المجموعة البشرية التي أنتجتها بعد نسبتها الى السماء، ولأن مهنة النبوة هي اختراع إسرائيلي بحت على ما يبدو، انبثقت من صفوة الشعراء الجوالين الذين كانوا يتكسبون من أشعارهم المقفاة، والتي كانت تحمل طابعا رؤيويا تنبؤيا، فان التأثير العبري انسحب على تجارب المجاميع البشرية الأخرى التي كانت تتساكن في نفس المنطقة الجغرافية، بل أن النصوص التوراتية دخلت كنصوص مؤسسة في الكتب السماوية اللاحقة، هذه النصوص المؤسسة هي لسان حال مجموعة العبرانيين، وقد دخلت في نصوصنا وتغلغلت في منظومتنا العقائدية، وأصبحنا نتداولها كحقائق لا تقبل الدحض باعتبارها نصوص مقدسة.

    الميثولوجيا أصابت منا نحن العرب مقتلا،ً كما لا تصيب من الشعوب الأخرى، لقد تحولت هذه الميثولوجيا عندنا الى مشروع سار بوتيرة متسارعة، وأدى الى قيام دولة إسرائيل، المشروع الإسرائيلي برمته يقوم على رؤية ميثولوجية قامت باستبعاد التاريخ بالكامل، واستحضرت الميثولوجيا التوراتية، وتصدرت النصوص التي تتحدث عن ارض الميعاد الثقافة اليهودية بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتكمن نقطة القوة الرئيسية في التوراة كونها تتحدث عن فترات تاريخية فارغة تماماً من الرواية، مما يجعل أي باحث غير قادر على ايجاد بديل عن الرواية التوراتية حتى لو أراد ذلك، علاوة على أن هذه الرواية تتكلم عن عصور سحيقة لم يتم العثور فيها على أي تاريخ مكتوب، ونقص التاريخ المكتوب هو عيب أساسي في تاريخ منطقتنا، بعكس الحضارتين العراقية والمصرية التي خلفت وراءها تاريخا مكتوبا يؤرخ لتاريخ السلالات وأمجادهم وانجازاتهم وغزواتهم، ولقد تغلغلت الرواية التوراتية لهذه الأسباب السابقة في الرواية التاريخية وأصبحت جزءاً مهماً من التاريخ، خاصة التاريخ المتعلق بمنطقتنا.

    مشروع فاضل الربيعي في جوهره قائم على فكّ الاشتباك بين الميثولوجيا والتاريخ، والكشف عن الخدعة الكبرى التي مارسها الاستشراق، عندما أدرج الميثولوجيا التوراتية ضمن التاريخ، سواءً بشكلٍ مغرض او عن جهل.

    تتمحور نظرية فاضل الربيعي الجديدة حول مسرح الأحداث الذي دارت فيه الروايات التوراتية، الربيعي يعتقد أن الأردن وفلسطين لم تكونا أبدا مسرحا لأحداث الخروج الكبير، وان حادثة عبور نهر الأردن هي أسطورة او أكذوبة اختلقها المستشرقون، وهي لم تكن من الحقائق التاريخية المتداولة في التاريخ القديم، وبناء عليه فان الربيعي يستنتج أن القدس الحالية في فلسطين لا تمت تاريخيا، ولا وجغرافيا لأورشليم الموصوفة في التوراة، ويذهب الربيعي أن منطقة سبأ باليمن هي المسرح التاريخي الحقيقي لكافة الأحداث التوراتية، ومن ابسط القضايا التي تكذب الرواية التاريخية هي الوصف الجغرافي للقدس الموصوفة بالتوراة والتي يرد أنها تقع على جبل، في حين أن الواقع يشير أن القدس الحالية تقع على هضبتين، ويورد أن هناك قدسا في منطقة اليمن تتشابه في جغرافيتها مع الوصف التوراتي. ويعزو انحياز المستشرقين إلى الرأي القائل بان فلسطين هي عينها ارض الميعاد الى رغبة واسعة في أوروبا للتخلص من اليهود، هناك تيارات سياسية واجتماعية في أوروبا كانت تعمل على محاربة اليهود وإيجاد الوسائل للتخلص منهم، وذلك بسبب الهيمنة الاقتصادية اليهودية ودورهم المالي المخرب القائم على المراباة، ولا زال هناك توجه أوروبي يعمل على أوروبا خالية من اليهود.

    يولي الربيعي اهتماما خاصا للقدس في بناء نظريته التاريخية، وهو يعتقد بشكل أو بآخر أن القدس يمكن اعتبارها حبكة التاريخ، القديم والحديث. إن الصراع حول القدس يختزل كامل الصراع الدائر حول الهيمنة على فلسطين والمنطقة العربية، وهذا ما دفع الربيعي لإفراد مؤلف كامل تحت عنوان (القدس ليست أورشليم)، وهناك دلائل متزايدة أن القدس ستكون بالفعل بؤرة صراع حضاري وسياسي وعسكري كبير، ربما يعيد رسم جغرافيا جديدة لمنطقتنا.

    واجد من المناسب في هذا السياق الإشارة الى احد الروايات الأدبية التي صدرت منذ سنوات للروائي العراقي «سعد سعيد» وهي رواية «الدومينو»، رواية الدومينو تتحدث عن حقبة تاريخية تكون فيها الدولة العربية هي الدولة العظمى في العالم، وتكون القدس وما جاورها من مناطق هي عاصمة الدولة العربية الموحدة، وهذا يؤشر أن أزمة القدس والصراع حولها سوف يزداد بوتيرة متسارعة، وسوف تتكشف لاحقا طبيعة الصراع الحضاري الذي يدور في منطقتنا، الروائي سعد سعيد يعتقد هو الآخر أن القدس هي حبكة التاريخ، ولن يكون بالإمكان فهم خيوط التاريخ ومساراته إلا من خلال هذه الحبكة.

    يعمل فاضل الربيعي في خطين متوازيين، الخط الأول يتمثل في إبطال الرواية الاستشراقية التي ربطت بين فلسطين التوراتية وفلسطين التاريخية الحالية، والخط الثاني هو نفي أي صلة أو امتداد مزعوم لبني إسرائيل وصولاً لما يعرف باليهود اليوم، والخط الثاني يكتسب خطورة بالغة اليوم في ظل العربدة الصهيونية ومشروع إسرائيل الطموح بابتزاز الدول العربية والحصول على تعويضات تقدر بمئات المليارات لكافة اليهود المتضررين عبر التاريخ، وصولا إلى أملاك اليهود التي صودرت أثناء البعثة المحمدية، وتأتي يهودية إسرائيل التي يسعى لها الصهاينة اليوم، كمشروع خطير يحاول الاستيلاء على الإرث اليهودي العالمي المادي منه والروحي، وتكريس إسرائيل كممثلة وحيدة لهذا الإرث، بما في ذلك احتكار ارث النصوص المقدسة، والتي دخلت كما أسلفنا في نصوصنا المؤسسة. وتتلخص خطة الربيعي في التفريق بين بني إسرائيل كعشيرة او قبيلة وبين اليهودية كدين، ويرى الربيعي ان الخدعة اليهودية باعتبار الدين بمثابة العرق يجب ان لا تنطلي علينا، بنو اسرائيل عرق، واليهودية ليست عرقا، وحتى لو افترضنا جدلا ان هناك حقوقا تاريخية لبني اسرائيل، فان هذه الحقوق لا تؤول بأي حال من الأحوال الى اليهود، أو الى دولة يهودية مزعومة، ويضرب مثلا على ذلك، ان المسلم الماليزي ليس بالضرورة عربيا او قرشيا، وبالتالي من السخف الادعاء بان المسلمين في أنحاء العالم يستحقون الإرث القرشي، اذا كان هناك ارث، لان قريش هي قبيلة او عرق بشري ، والإسلام ديانة مفتوحة لكل البشر بغض النظر عن أعراقهم، وتعد هذه المسالة من أقوى المحاججات التي يسوقها الربيعي لقطع الصلة المزعومة بين اليهود وبني اسرائيل، ويصرح الربيعي ان النص القرآني يفرق هو الآخر بين اليهود وإسرائيل، كما ان الكثير من الباحثين لا يعتقدون باي صلة بين اليهود الحاليين وقبيلة بني إسرائيل، والتي يعتقد انها احدى القبائل العربية الجزرية، وأهم هؤلاء هو الباحث الآثاري العراقي احمد سوسة، والذي هو من اصل يهودي.

    فاضل الربيعي قدم مقاربات ممتازة وصاغَ عبر كتبه نظرية متماسكة مكتملة الأركان، وقدم في هذه النظرية رؤيا تاريخية بديله عن الرؤية الميثولوجية التوراتية، وعلينا الانتباه ان الربيعي استخدم مناهج بحث علمية، وقدم مقاربات أفادت من تقنيات الأدب المقارن وعلم اللغة المقارن، كما أنه حشد الكثير من الأدلة الجغرافية والانثروبولوجية، وهو في ذلك يختلف كثيراً عن سابقيهِ، الربيعي لم يوظف النصوص المقدسة للاستشهاد في أي قضية من القضايا التي يسوقها، كما فعل بعض الباحثين الذين عملوا في نفس المجال الذي يعمل فيه الربيعي، لان النصوص المقدسة هي نصوص مغرضة، كما ان الاستشهاد بالنصوص لا يعتد به في أي محاججة عقلية، فالعقلانية الحديثة لا تجيز أي استشهاد بأي نص، لان النص لا قيمة له خارج المجموعة البشرية التي تعتقد به.

    والربيعي يدعو الى تجاوز الرواية الميثولوجية بكافة تمظهراتها، سواء التوراتية او القرآنية او الإنجيلية، بل انه يدعو دائما الى الاستناد للمخطوطات والنتاج الثقافي والمعلومات الأثرية القليلة التي أنتجتها المشاريع البشرية التي تسكانت في المنطقة، ان ما يفعله الربيعي يعتبر ثورة كوبرنيقية في مجال الدراسات التاريخية والاثارية، وهذا ما يحتاج اليه العالم لتجاوز التاريخ الميثولوجي الذي عمل على تعطيل وتجميد البحوث التاريخية العلمية.

    الربيعي يبلور ويطرح نظرية جديدة، وهذه النظرية-شأنها شأن أي نظرية جديدة- تستطيع أن تفسر مجموعة من الظواهر العصية على التفسير، وهذا ما يمنحها مشروعيتها وزخمها المعرفي، وأرى بكل وضوح أن نظرية الربيعي الجديدة استطاعت ان تفسر الكثير من الوقائع التاريخية، وتحل الكثير من التناقضات القائمة في الرواية التاريخية، في المقابل فان كل النظريات بلا استثناء تخفق في تفسير مجموعة أخرى من الوقائع، وهذا ما يجعل منها نظرية حيوية وقابلة للتطور، فيلسوف العلم كارل بوبر اعتبر أن القابلية للدحض هو العنصر الذي يشير الى قوة أي نظرية، لان القابلية للدحض هو ما يميز النظرية العلمية من النظريات العلمية، بعكس النظريات العقيمة التي لا يمكن دحضها ولا يمكن إثباتها في نفس الوقت، الرواية التوراتية رواية متماسكة ومتسقة وتتصف بالجمال المستمد من روعة الأدب، وهذا هو شأن الملاحم الكبرى، ولكنها بالمقابل رواية عقيمة أسطورية الطابع، لا يمكن تحليلها وإخضاعها للمقارنة، للإثبات أو النفي.

    نظرية الربيعي ستتعرض الى الكثير من التطويرات بكل تأكيد، وذلك مع تقدمها لتفسير مجموعة جديدة من الظواهر التي عجزت عن تفسيرها في صيغتها الأولية، وهذا ما يفعله الربيعي مع تقدمه في صياغة نظريته، علينا التذكير ان أعظم النظريات العلمية مثل نظرية التطور سجلت إخفاقات، ما دعا أقطاب التطور إلى تطوير بنائها وصولا إلى نظرية حديثة تدعى بالنظرية التركيبية، هي أكثر كفاءة من من صيغة دارون الأولية، ومع كل التغيرات التي حصلت في النظرية، إلا أن مفهوم التطور أصبح راسخا في العلم، وتحول إلى قانون لا يقبل الدحض، وخرج من مسمى النظرية، وأنا أرى بكل ثقة ان عناصر القوة الموجودة في نظرية الربيعي ستؤدي إلى تكريسها قريبا كحقائق تاريخية لا تقبل الدحض.

    ان جهود الربيعي في ربط تاريخ اليمن بالميثولوجيا التوراتية قد أدى إلى التحصل على نتائج ممتازة، وسوف يؤدي لاحقا الى بناء قصة مكتملة الأركان للتاريخ اليمني، الذي يشتكي أصحابه من وجود فجوات وانقطاعات فيه لا يمكن ملؤها الا بالإحداث والأمكنة والشخوص التوراتية، وعندما قام الربيعي بإسقاط كل هذه الأحداث والشخوص والأمكنة التوراتية على جغرافيا اليمن، انحلت الكثير من التناقضات، وهذا ما حدا به الى المضي قدما في استكمال نظريته المتمثلة بحقيقة ان الخروج الكبير وكل التاريخ والممالك والحروب التوراتية قد وقعت كلها في منطقة جغرافية لا تمت بصلة الى الأردن وفلسطين.

    ارى بوضوح ان المستقبل سيكون لصالح هذه الرؤية الكوبرنيقية للتاريخ، وهناك بحوث جادة في جامعات أوروبية، ألمانية على وجه الخصوص، تصب كلها في هذا الاتجاه، ولكن النشاط اليهودي الصهيوني الإعلامي المنحاز والمغرض يمنع ويكبت ويوقف هذه النشاطات البحثية بمختلف الأساليب القائمة على التهديد والوعيد.
    التاريخ : 12-10-2012
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.