• حرب كونية على سوريا من الفيتو الروسي إلى الانذار النووي - فاضل الربيعي

    حرب كونية ضد سورية ؟ نعم انها حرب كونية
    من الفيتو الروسي... إلى الإنذار النووي

    ( الثالثة)

    أثارت الأزمة السورية اضطراباً قلّ نظيره في العلاقات الدولية. إنه إضطراب شبيه بالموجات الهائجة التي تسبق الزلزال البحري. وبكل يقين، لم يسبق لأزمة ( محلية) أن عكرّت أجواء وعلاقات الدول الكبرى، مثلما هو الحال اليوم، فالعالم كله، يبدو وكانه يتزاحم هنا وبالمناكب من حول سورية. ومع ذلك، هناك شبه ما، بين ما يجري فيها وبين حدثين تاريخيين وقعا في الماضي القريب، احدهما حدث في مصر 1956 وثانيهما في كوبا 1960. في حالة مصر، لم تكن هناك بالطبع جماعات مسلحة متسللّة من الجوار، ولكن كان هناك من جهة، صراع داخلي عنيف بين عبد الناصر وجماعة الأخوان المسلمين ( المسلحين) الذين قاموا بعمليات عنيفة واسعة، ومن جهة أخرى، توتر سياسي شديد بينه وبين المملكة العربية السعودية.ولذلك، اتخذ الصراع مع عبد الناصر طابع ( المؤامرة) التي حاكت خيوطها اطراف دوالية وإقليمية. وحين وقع العدوان الثلاثي، الإسرائيلي- الفرنسي- البريطاني، لم تجد موسكو مناصاً من توجيه ( اول انذار نووي) لوقف العدوان على القاهرة. وبعد هزيمة المعتدين خرج عبد الناصر اٌقوى زعيم عربي في المنطقة. آنذاك لم تكن موسكو تمزح، وكانت مستعدة للذهاب في موقفها إلى هذا الحدّ من المواجهة مع الغرب. وفي حالة كوبا وحين نشبت أزمة الكاريبي ( او ما يعرف بأزمة خليج الخنازير) مع تدفق آلاف المسلحين المعارضين لنظام كاسترو وتسللهم من شواطئ فلوريدا بدعم أمريكي مكشوف ترافق مع حصار مدمر وعقوبات دولية، عادت موسكو للعب ورقة ( الإنذار النووي). كان الإنذار الروسي او ما يعرف بأزمة الصواريخ النووية، عاملا حاسما في إخماد الأزمة الكوبية. أثر ذلك توقف تدفق الجماعات المسلحة من الشاطئ وانتهت المواجهة. وفي هذه الأجواء تكرّست صورة فيديل كاسترو كزعيم ثوري عالمي حين خرج منتصراً من ( خليج الخنازير).
    في أعقاب هاتين الأزمتين العالميتين،جرت في الأروقة الدبلوماسية والعسكرية صياغة نظام القطبية الثنائية على اسس جديدة.
    الواهمون والمُضللون وحدهم، من لا يريدون تصديق وإدراك أبعاد وحقائق هذا الصراع الكوني. وواحدة من اهمّ هذه الحقائق، انه صراع عالمي يدور بواسطة ادوات إقليمية ومحلية. ومن الواضح الآن- بعد ما يزيد عن عام ونصف- ان العامل الدولي- الإقليمي في الازمة السورية بات عاملا محلياً.لم تعد باريس وانقرة والدوجة والرياض مجرد داعمين ومؤيدين وممولين للجماعات المسلحة. لقد تحولت هذه العواصم إلى ( تنسيقيات) مثلها مثل التنسيقيات المحلية في ادلب وجلب وحماه ودرعا .
    لقد نشأ التحالف الرجعي ( الأخواني- الوهابي- التكفيري) في تعبيراته القطرية- السعودية- التركية ضد سورية في ذروة ما بعرف ب( ثورات الربيع العربي). قبل هذا الوقت بقليل كانت سماء العلاقات بين سورية ودول هذا التحالف تبدو صافية لا تعكرها سحابة واحدة. فلماذا نشأ فجأة مثل هذا التحالف المسلح والشرس فجأة؟ هل يتعلق الأمر حقاً بقيم الديمقراطية والحرية والدفاع عن حرية الشعوب؟ بكل تأكيد، لا؟ الأمر يتعلق بصراع دولي على إعادة صياغة نظام علاقات جديدة، انطلاقاً من الشرق الأوسط الذي تريد الولايات المتحدة الأمريكية مغادرته نهائيا، ولكن فقط بعد ان تطمئن على ترتيبات صلبة لمصالحها الاستراتيحية. كان النموذج الليبي في التغييّر بواسطة القوة الخارجية، حاضراً بقوة في عقول ومخططات المتآمرين على سورية. وكان ثمة وهم تمّ الترويج له على نطاق واسع في محطة الجزيرة ، مفاده أن النموذج الليبي قابل للنسخ بسهولة في الحالة السورية خلال بضعة اسابيع، واذا تطلب الأمر وقتاً أطول يمكن التفكير بمنطقة عازلة او منطقة حظر طيران. ومنذ البداية كانت ( تنسيقيات) الرياض والدوحة وأنتقرة تروج لمنطقة حظر طيران ولتسليح المعارضين.
    لقد انبثق هذا التحالف من قلب أزمة أعمّ واعمق، لا بين سورية وبين هذه البلدان؛ بل في الساحة الدولية حيث بلع التجاذب بين السياسات والمصالح ذروته. وكانت الحرب القذرة والمأسوية ضد ليبيا التي لعب فيها هذا التحالف دوراً حاسماً في اسقاط حكم الزعيم الليبي معمر القذافي، مؤشراً خطيراً عن طبيعة الأدوار المنوطة ببعض القوى الإقليمية. ومن أهم وأخطر هذه المؤشرات، تبرير وتسويغ مفهوم التغيير بالقوة؟
    منذ البداية كان خيار التحالف الرجعي الخليجي- التركي، هو إعادة انتاج النموذج الليبي في سورية.
    وبطبيعة الحال، لم تكن قيم الحرية والديمقراطية لتعني أي شئ بالنسبة لهؤلاء المتآمرين، بمقدار ما كانت وسيلة لجذب اهتمام وتعاطف الجماهير المضللة والمخدوعة، وللتغطية على طبيعة الأهداف الحقيقية للحرب على سورية. ولعل ابلغ وصف لهذا التضليل والتلاعب، ما قاله المندوب الروسي تشوركين تعليقاً على دعوة سعود الفيصل وزير الخارجية السعودية ( إلى تسليح المعارضة السورية) حين قال: انه وهو يصغي الى خطاب سعود الفيصل عن التسليح ظن للوهلة الأولى انه يصغي لتشي غيفارا لا لسعود الفيصل.
    وحدهم، المصابون بعمى الأوهام وقصرالنظر السياسي، من لا يريدون تصديق الحقيقة القائلة، ان الولايات المتحدة الامريكية سوف تغادر المنطقة نهائياً عام 2014 حين تنسحب من أفغانستان، وانها بالفعل، تعيد هيكلة استراتيجياتها السياسية والعسكرية في آسيا، لمواجهة تحديات كبرى قادمة مع صعود الصين، وأن هذا القرار حقيقي لا مجرد ( تمنيات) أو ( اوهام) أو محض تحليلات متفائلة. ومنذ بضع سنوات فقط، راجت في أوساط مراكز الأبحاث الاستراتيجية الأمريكية وأوساط البنتاغون كذلك، نظرية ( الانتقال من الهيمنة إلى الشراكة) لمواجهة التحديّات المستقبلية التي تواجه الأمريكيين. وفي قلب هذا النظرية تبلورت استراتيجية الانسحاب من المنطقة، ولكن فقط بعد وضع الترتيبات النهائية ( لأسلمة) المنطقة، بمساعدة الجماعات الإسلامية على الإمساك بزمام الأمور.
    ومن دون شك، فلهذا الانسحاب اسباب وبواعث مختلفة تتصل بصورة جوهرية بتغيّر علاقات القوة الدولية، وتهاوي المكانة الإقتصادية الأمريكية إلى الحضيض، وصعود قوى دولية فتية واكثر قوة اقتصاديا. وهذا امر مألوف ومشهود في تاريخ الصراعات الدولية، فالقوى العظمى تخلي مكانها في المسرح التاريخي وباستمرار لقوى جديدة صاعدة، سواء بالقوة أم بالتوافق والتراضي على حدود الانسحاب وضمانات المصالح، فقد أخلت الثنائية الإسبانية- البرتغالية التي كانت تتحكم في عالم القرن السابع عشر- الثامن عشر، المكان لثنائية فرنسية- بريطانية، ظلت تتلاعب بمقدرات العالم منذ الحرب العالمية الأولى 1914، ولكن هذه سرعان ما اخلت مكانها لثنائية جديدة، أمريكية- سوفيتية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. الأمريكيون انفسهم، حلوّا محل البريطانيين المنسحبين من آخر مستعمراتهم في الخليج العربي عام 1970
    اليوم، يبدأ عصر جديد تتهيأ فيه أقطاب جديدة لتحل محل القطبية الأمريكية المهيمنة . الفارق الجوهري بين ما حدث امس وما يحدث اليوم يكمن هنا: ان العالم ينتقل من ( الهيمنة) إلى ( الشرااكة). اي من الثنائيات الى الأقطاب المتعددّة ولذلك، سوف يتوقف والى حد بعيد، أي فهم عميق لما يجري في سورية - لا بصورة عاطفية وسطجية وإنفعالية كما هو شائع في المواقف والتحليلات- على معرفة طبيعة هذا المتغيّر المذهل في علاقات القوة، فالولايات المتحدة الأمريكية سوف تترك المنطقة في عهدة قوى جديدة ، تلعب دور الوكيل الإقليمي لصالحها وفي خدمة استراتيجياتها.
    ووحدهم المصابون بعمى الأوهام السياسية من ينظرون بسخرية بلهاء لكل ما يقال ويكتب عن حرب كونية، وأن من يعتقد بهذا هو من أصحاب ( نظرية المؤامرة) لأن كل ما يجري في العالم برئ للغاية ومصمم لاهداف وردية وشاعرية وإنسانية، وأن نظرية المؤامرة هي من تلفيق العرب ومن نتاج خيالاتهم لا أكثر ولا أقل، وأن الغرب لا يعرف هذا النمط من التفكير وليس متآمراً؟ وهؤلاء لشدّة جهلهم، لا يعرفون ان التاريخ البشري برمته، هو نتاج مؤامرات يدبرها الاقوياء ويتواطأ فيها الضعفاء.
    وفي قلب هذه المؤامرة، تقع خريطة سورية وسواحلها الاستراتيجية.
    ولأن الصراع على خطوط الغاز في المنطقة، ليس وحده سبب ( المؤامرة) وليس الباعث الوحيد ايضاَ، فمن الضروري رؤيته في إطار أعمّ.
    ثمة بُعد عسكري غاية في الحساسيّة بالنسبة لجميع القوى المتصارعة. إنه الساحل السوري؟
    ولتوضيح هذا، فسوف أروي الواقعة التالية: بعد الفيتو الروسي – الصيني الأول في مجلس الأمن، سافر روبرت فيسك الصحافي البريطاني الشهير الى موسكو، ليسال الروس عن لغز موقفهم هذا؟ كان فيسك مذهولاً من صرامة الموقف الروسي وثباته وفشل كل الأطراف في زعزعته، ولم تكن لديه ادنى فكرة عن سرّ هذا التعنت. في موسكو سمع فيسك الجواب التالي: سيّد فيسك، لو سقطت دمشق فسوف تسقط موسكو وبكين. انها معركة حياة او موت بالنسبة لنا. إن اسطولنا الحربي الذي يقطع مسافات شاسعة في البحار بين البلطيق والمتوسط، سوف يضطر الى العودة الى البلطيق ثانية في اي مواجهة حربية حين يحتاج لفرشاة اسنان. وفي هذه الحالة، فروسيا من دون سورية ستخرج من معادلة القوة العسكرية في البحر؟ وحين تخرج موسكو من معركة الغاز مهزمة، بانتصار خط غاز( نبوخذ نصر) الأوروبي- القطري،واستيلاء الأتراك على خطوط الأمداد، وتحوّل أنقرة إلى ( دولة ترانزيت) ثرية وأكثر شراسة واستعدادا لدعم التكفيريين الإسلاميين في العمق الروسي لتمريق أحشاء موسكو، فهذا يعني في الآن ذاته، ان روسيا ستخرج ربما ألى الأبد من المعادلة العسكرية والاقتصادية.
    هذان هما العاملان المركزيان في الصراع على مضمون وحدود التغيّر المذهل في علاقات القوة الدولية.
    فإلى أي حدّ يمكن لموسكو ان تذهب؟
    لقد لخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في معرض إجابته على سؤال لقناة «ان بي سي» الأمريكية حدود المجابهة على النحو التالي:
    سيّد بوتين، إلى أي حد يمكن أن تذهب روسيا في الدفاع عن مواقفها في القضية السورية؟ ما أن سمع بوتين هذا السؤال- حسب وصف المحطة- حتى بدا مستفَزّاً بشكل واضح وقال: "اذا أصرت الولايات المتحدة على متابعة سياساتها الخارجية العدوانية ضد الدول ذات السيادة ، فإن روسيا لن تعدم الوسيلة من أجل منعهم من القيام بذلك. و"ستبدو السماء كفروة خروف"، لكل من تسول له نفسه قطع الطريق على مصالح بلادنا" (استخدم بوتين هنا المثل الروسي القديم: "ستبدو السماء كفروة خروف". وهو تعبير شعبي يستخدمه الروس في معرض التعبير عن هول الصدمة والذعر لدرجة تصور السماء كفروة خروف)
    لولا صمود دمشق لما كان بوسع موسكو ان تصمد
    هذه هي الحقيقة
    الم يقل الشاعر ذات يوم:
    لولا دمشق لما كانت طليطلة
    ولا زهت ببني العباس بغدان
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.