• الثورة الفيتنامية انتصرت على أمريكا بفضل التعليم

    لعب التعليم دوراً كبيراً في دعم حالة الصمود النادرة التي أبداها الشعب الفيتنامي، إزاء نوعين من أكثر أنواع التدخل والاحتلال عنفاً وشمولاً، وهما الاستعمار الفرنسي والتدخل الأمريكي، إذ لا شك في أن الثقافة والحضارة الفرنسية كانت رأس الحربة في آلة الاستعمار الفرنسي، ولا شك - كذلك - في أن هيمنة الثقافة الأمريكية وغرورها وعنفوانها وافتتانها بذاتها، وعدم اعتدادها بغيرها من الثقافات زادت حجم الأعباء وضخامة التحديات التي فرضت على الشعب الفيتنامي، الذي وجد نفسه يقاوم على أكثر من جبهة، واكتشف أن جبهات القتال لن تصمد إلا إذا صمدت جبهة التعليم والثقافة.
    وتلخصت فلسفة التعليم في إعلاء قيمة الاستقلال، وعدم الخضوع، ورفض الاستسلام، وعدم تصديق أن اختلال الكفة في ميزان القوى المادية يبرر القبول بإملاءات القوى الاستعمارية سواء كانت فرنسية أو أمريكية.
    لعب الاستعمار الفرنسي الذي دام قرابة الثمانين عاماً دوراً كبيراً في تخريب العقل الفيتنامي، وحاول أن يفرض سياجاً كثيفاً يحول بينه وبين العلم الحديث، وكانت إدارة الاستعمار الفرنسي توقن أن الجهل هو منبع الاستقرار، وأن أي تهاون يسمح للفيتنامي بولوج دنيا العلم الحديث، سوف يكون ضربة مباشرة للوجود الاستعماري الفرنسي في هذا البلد.
    لقد فرضت اللغة الفرنسية لتكون لغة الإدارة والتعليم في كافة المراحل، وكادت اللغة الفيتنامية تتحول إلى لغة ميتة. وللوقوف على حجم هذه المأساة والمؤامرة في الوقت نفسه، لك أن تعرف - بالأرقام - أن عدد الذين يعرفون مبادئ القراءة والكتابة لم يكن يتجاوز 50 ألف نسمة، عام 1938م، من مجموع عدد السكان الذي كان يبلغ 23 مليوناً! وحين اشتعلت ثورة التحرير الفيتنامية ضد الاستعمار الفرنسي في الأربعينيات والخمسينيات، أدرك قادة الثورة أن التعليم ركيزة أساسية للمقاومة، وأن التعليم ليس فقط مجرد نظريات ومعارف طبيعية وإنسانية، ولكنه - بالدرجة الأولى- منهج حياة وأسلوب مقاومة وطريقة في الكفاح، فليس مهماً أن يعرف الإنسان أكثر ما لم تؤد هذه المعرفة إلى امتلاكه لروح المقاومة وجوهر الانتماء، والتمسك برسالة، والعمل لغاية سامية تخدم المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه الإنسان المتعلم.
    وعلى هذا الأساس، تقرر في عام 1958 وضع خطة لمدة ثلاث سنوات، يستهدف تنفيذها القضاء على الجهل والأمية، وبالفعل لم تنقض السنوات الثلاث، حتى كان 90% من النساء قادرات على إجادة القراءة والمطالعة، وممارسة الكتابة. وطوال فترة الاستعمار الفرنسي، لم يكن في فيتنام إلا 200 طالب فقط في الجامعات والمدارس العليا، ولم يكن في فيتنام إلا جامعة واحدة، كان معظم طلابها من الفرنسيين!
    ولكن النهضة التعليمية التي رافقت ثورة التحرير رفعت هذا الرقم ليكون 200.000 طالب جامعي في فيتنام بحلول عام 1960م.
    وفي خلال خطة السنوات الثلاث، تم افتتاح دراسات تكميلية بالمصانع والمزارع أشرف عليها طلبة الجامعات والمدارس العليا.
    وفي ختام السنوات الثلاث، كان 70% ممن هم في سن التعليم، قد وجدوا فرصة كافية للجلوس في مقاعد الدرس، وتلقي العلم الحديث بصورة مؤسسية منتظمة.
    وكان لهذا كله أثر كبير في إمداد ثورة التحرير بالمزيد من الكوادر المؤهلة علمياً، وتجديد دماء القيادات المهنية والفكرية التي أصلت ودعمت فكرة وروح المقاومة والاستقلال في ربوع البلاد.
    وقد قضت هذه الخطة على مخلفات السياسة التعليمية السلبية التي اتبعها الاستعمار الفرنسي، والتي كانت ملامحها تتضح في نسبة الطلاب الفيتناميين إلى الطلاب الفرنسيين.
    فالمدارس الابتدائية كادت تكون مقتصرة - فقط - على استيعاب أطفال الجالية الفرنسية كبيرة العدد، حيث كانوا يمثلون 90% من مجموع تلاميذ المدارس الابتدائية الذين بلغ عددهم 30ألفاً، وفي المدارس الثانوية كان الطلاب الفرنسيون يمثلون 80% من مجموع عدد الطلاب الذي كان يدور حول خمسة آلاف طالب، أما في الجامعة الوحيدة، فقد كان الفرنسيون يمثلون الأغلبية الكاسحة بين عدد طلابها الذي بلغ أقصى رقم له 720 طالباً.
    وفي مناهج التعليم العام أدخل الفيتناميون مقررات التربية الوطنية والعسكرية، وشجعوا البحوث التي تتناول موضوعات الحرب والنضال من أجل الحرية واحترام حق الإنسان في أرضه وبلاده.
    واعتبر الفيتناميون أن طريقة التدريس من العوامل المهمة التي تحدد مدى نجاح العملية التعليمية، فالطريقة الجيدة في التدريس تمكن الدارس من التعلم بسرعة وسهولة وبفهم أيضاً. وهذه الطريقة تتميز بالبساطة التي يستطيع المدرس ذو الخبرة المحدودة أن يطبقها بسهولة، ولا تتعارض مع نفسية الطالب ولا تشق عليه، بل تستثيره وتحفزه على العمل والتحصيل الذاتي.
    كما حرص الفيتناميون على النواحي النفسية وبخاصة علم النفس التعليمي وعلم اللغة اللذين تقوم عليهما طريقة التدريس، وكان الاهتمام بالغاً بالتدريس عن طريق الإذاعة والتلفاز دون الاستعانة بالمدرسين عند جهاز الاستقبال. فإذا كان لدى مدرس الراديو أو التلفاز المهارة الكافية فإن الدروس يمكن أن تكون فعالة ومسلية في الوقت نفسه. لقد كان هذا الأسلوب فعالاً في المناطق الريفية والمناطق النائية، حيث لا تتوافر أعداد كافية من المدرسين.
    ومن الدروس التي تستوقف الدارس تجربة الثورة الفيتنامية ضد الاستعمار الفرنسي، أن المقاومة أدت إلى ازدهار كل جوانب الحياة، بما يمكن معه القول بأن المقاومة كانت بعثاً نهضوياً وحضارياً لهذا الشعب الذي ربما لو لم تكن هذه التجربة القاسية مرت به لكان قد فاته قطار التاريخ.
    لقد تطور الإنتاج الاقتصادي وازدهر خلال الحرب، فرغم أن الغارات الجوية الفرنسية لم تنقطع في أية ساعة من الليل أو النهار، فإن معدل النمو الاقتصادي وصل إلى 6.5% سنوياً!
    ورغم إبهار وإغراء الثقافة والحضارة الفرنسية، إلا أن الشباب الفيتنامي لم يستسلم لهذا الإبهار ولم يقع في حبائل هذا الإغراء، وعلي العكس من ذلك، عاد إلى هويته، واستمسك بخصوصيته: مثال ذلك أن 700 من إجمالي 1000 طالب هم إجمالي طالب كلية العلوم السياسية قد انخرطوا في سلك المقاومة، وقد سجل معظم طلاب الجامعات والمدارس الثانوية والمعاهد الفنية أسماءهم في سجلات المتطوعين للقتال!
    وكانت الحصيلة الختامية: هزيمة الجحافل الفرنسية!

    التورط الأمريكي!
    وفي منتصف الستينيات، تدخلت القوات الأمريكية في فيتنام بأوامر صادرة مباشرة من الرئيس الأمريكي الأسبق «ليندون جونسون»، في وقت كان الشعب الفيتنامي قد اكتسب خبرات غير محدودة من تجربته في ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، وأمدت هذه الخبرات الشعب الفيتنامي بالقدرة على مواصلة التحرير ضد آلة الحرب الأمريكية المتقدمة دون إحساس بالدونية.
    أقبلت النخب الفيتنامية وجماهير الناس، إقبالاً شديداً وحماسياً وتنافسياً على تعلم اللغة الإنجليزية، ليس للتقرب للأمريكان، ولا للحصول على فرصة عمل لديهم، ولا للهجرة إلى أمريكا، ولكن لفهمها وإدارة معركة التحرير ضدها بأفضل أسلوب وأرشد طريق!
    كان أهالي هانوي - العاصمة - يتلهفون على تعلم اللغة الإنجليزية، كي يتمكنوا من قراءة الصحف الإنجليزية والأمريكية، ومتابعة الإذاعات الأمريكية، للتعرف على سياسات واشنطن وخططها تجاه فيتنام ورغم ضراوة الحرب فقد:
    - استمرت العملية التعليمية تزاول مهامها دون انقطاع.
    - انفتحت المدارس والجامعات على المسألة الوطنية من زاويتين:
    الأولى: متابعة سير المعركة، ورسم خرائط للأماكن التي تغير عليها الطائرات الأمريكية، وتوعية جماهير الشعب.
    الثانية: إمداد ثورة التحرير بالمتطوعين المؤهلين علمياً.
    لقد واجهت مسيرة التعليم صعوبات كبرى مع ازدياد قصف الطائرات الأمريكية، وسقوط بعض الضحايا من أطفال المدارس، يقول وزير التعليم آنذاك «لي نغوين فان هوين»: «لقد نقلنا كل مدارس المرحلة الابتدائية إلى مقر الجمعيات التعاونية الزراعية. وكان لدينا قبل الغارات الجوية الأمريكية مدرسة حديثة في كل قرية إلا أننا اضطررنا بسبب أعمال القصف الجوي إلى نقل التلاميذ منها إلى قاعات دراسة متباعدة عن بعضها البعض بضع مئات من الأمتار. وكانت مدارس المرحلة الإعدادية موجودة في مراكز الأقسام، إلا أنها نُقلت الآن إلى مختلف القرى. وقد اضطررنا إلى تجزئة هذه المدارس وقلبها إلى وحدات أصغر مما كانت عليه. وفي كثير من المقاطعات هناك مدرسة في كل قرية. وقد اتخذت كل هذه التدابير لحماية تلاميذنا من آثار القصف الجوي.
    ما أطفال المرحلة الثالثة - الأكبر سناً - فبوسعهم أن يؤمنوا حماية أنفسهم بأنفسهم
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.