• و جاء رمضان

    و جاء رمضان


    فديتك زائراً في كل عام
    تحيا بالسلامة و السلام
    و تقبل كالغمام يفيض حيناً
    و يبقى بعده أثر الغمام
    بني الإسلام هذا خير ضيف
    إذا غشي الكريم ذرى الكرام
    فشدوا فيه أيديكم بعزم
    كما شد الكمي على الحسام

    إمام الأدب العربي

    مصطفى صادق الرافعي

    يقبل رمضان كسماء شتائية على جزيرة خضراء هي نفوسنا ، فيدركها بغيومه المتلبدة الرمادية اللون التي تملأ الأفق هيبة و رهبة و جلالاً ،
    و تملأ القلوب انتعاشاً بوابلها الهاطل خيراً و إحساناً ، و يخلصها مما لحق بها من أدران السنة و أوصابها ، فتعود النفس بعده زاهية نقية صافية كبركة ماء صنعها الندى فوق نبتة في أوائل الربيع .
    يأتي رمضان على الأمة الإسلامية فيجدد لها دينها ، و يذكرها بأن خالقها جعل موسماً في السنة خالصاً للإيمان و الطاعة ، ينبغي لكل المؤمنين أن يدركوه و يغنموا ما فيه ، فإن تجاوزه أحدهم دون أن ينال منه طيب نشره فهو الخاسر المغبون ، و إن أدركه و سعى فيه بما يلزمه من السعي كان كمن ملك الدنيا بحذافيرها ، فرمضان شهر ليس ككل شهر ، و العبادة فيه ليست كأي عبادة .
    عندما يقبل رمضان يعتري الناس إحساس غريب بوجوب الأخذ بتقاليده المعتادة ‘ فتنار المآذن ، و تعج الأسواق بالزبائن ، و تنتشر الأطعمة الشعبية المخصصة لهذا الشهر دون غيره ، و يتهافت الناس على شرائها لا محبة بها فحسب ، بل محبة بجو رمضان الذي لا يتم إلا بها ، و عندما يقبل رمضان يؤوب الناس إلى ربهم أوبة موسمية عند كثيرين ، و دائمة عند قلائل ، فالشهر الزائر كل سنة يعيد للناس تذكرهم بحق بارئهم عليهم ، فتعج بهم المساجد ، و ليتها تعج بنصفهم خارج الشهر الكريم .
    و يحل رمضان على البشر كقادم يحمل شعلة مضيئة ، و يدعو التائهين في مغارة منسية إلى طريق الخلاص ، فيتبعه كل ذي حلم منهم ، و لا يستجيب له المتعجرفون الحمقى الذين يوقفهم تعجرفهم على شفا جرف هار يكاد ينهار بهم في واد عميق ، فليس أحد ناجياً من ديجور المغارة البهيم إلا من استضاء بتلك الشعلة التي تمر بجانبه ، فإن تجاهلها و نسيها فقد جنى على نفسه كما جنت على نفسها براقش ،
    و رمضان نعمة تفتح ذراعيها للقادمين علهم يفقهون محبتها لهم و عطفها عليهم ، و لكن ما تفعل إن كان أكثر الناس لا يعلمون و لا يفقهون .
    و في تجرد النفس للصيام الذي يمثله رمضان إعجاز نفسي و قلبي عظيم ، ، و سعي نحو الكمال الروحي الذي يقرب الفرد من خالقه أذرعاً لا أشباراً ، فبانتصاب سد الصيام في وجه شهوات النفس الهوجاء المستعرة و منعه إياها من التكالب الذي تعتاده طوال السنة تهذيب و تشذيب لها لتبقى على هذه الحال على مدار السنين و الأوقات ، علها تغير النهج المتفلت الذي لا يعود إلا بالشر على أصحابه و نفوسهم المأزومة ، و التخصيص بالشهر لا يعني حصر الحكم فيه وحده ، بل اتخاذه عهد صلح و تدريب على الطريق المستقيم الواجب سلوكه وحده ، و لهذا صدق من سماه مدرسة الثلاثين يوماً .
    و في اقتران رمضان بالهلال جانب معنوي آخر ، هو ربط المسلم بالقمر المشع في الليل البهيم ، قمر رمضان المنير في ظلام الشهوات الحالك ، و تربص الناس للهلال رنو نحو السماء و روحانيتها الأزلية خلوصاً من الأرض و ماديتها المسعورة ، و تعليم للمؤمنين أن يترقبوه و إن كان فيه صوم و حبس للنفس عن ملهياتها ، فيظهر الشوق الكبير إليه ‘ و التطلع لرؤية الهلال المبشر بقدومه ، لينشر على الأرض سلامه و محبته و رحمته .
    واهاً لك يا رمضان .... ما أجملك ، و ما أنقاك ، و ما أعذب صومك ، فيك نرى أرواحنا تأتلق و تتأجج لتغدو أسرجة وهاجة ، تضيء لقلوبنا طريق الحق الذي لاحق سواه ، و فيك تستروح أجسادنا من عناء الحياة فتذكر أنها ما خلقت لتكون أصلاً ، و إنما لتكون ساتراً لأرواح سكنت هذه الحياة مؤقتاً ، و أن مردها من بعد إلى خالقها لتحوم في سكون اللانهاية ، حيث لا تعب و لا جوع و لا مخمصة بإذن الله ... و الله مع الصادقين و الصابرين .
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : و جاء رمضان كتبت بواسطة عبد الله نفاخ مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.