• العلمانية – طارق شفيق حقي

    بداية أدعو كل العقلاء لفهم مصطلح شائك وإشكالي ويمكن تفسيره بتفسيرات متناقضة أحياناً ، أدعوهم إلى فهم السياق التاريخي للعلمانية بقراءة تاريخ أوربا في القرون الوسطى مروراً بتسلط الكنيسة حتى النهضة العلمية الحديثة، لأنه لا يمكن دخول أي حوار دون اصلاح الأرضية العلمية وبعدها يمكن عقد بحث مقارن بشك موضوعي بين السياق التاريخي الغربي والعربي كما أدعوهم لقراءة النقد الغربي لأطروحة العلمانية وللحداثة وللتنوير ، فالعلمانية الحالية في المشرق جلها لا يعادي الأديان وهي تختلف من دولة إلى أخرى وإن لازالت تحمل إشكالية الاصطلاح والدلالة والأثر كما أن الحدث الذي فرض نفسه فيما أسماه الغرب الربيع العربي ساهم في خلق ظروف ومعادلات سياسية ومراجعات جوهرية على صعيد القومية والعروبة والدين لا يعرف شكلها الحالي لكن سيكون لها قريباً حق الولادة والتسمية.

    العلمانية – طارق شفيق حقي
    بسم الله الرحمن الرحيم
    1- تعريف العلمانية
    2- علمانية أم علمانيات
    3- الفرق بين الكنيسة الوطنية وكنيسة الدولة
    4- أصل تسمية رجال الدين
    5- دور ابن رشد وإسبنوزا في تشكيل الفكر العلماني
    6- خاتمة




    1. تعريف العلمانية

    العلمانية بفتح العين: هي ترجمة لكلمة سكيولاريزم secularism الإنجليزية ، وقد استخدم مصطلح " سكيولار " لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عاماً سنة 1648 م عند توقيع صلح " وستفاليا " وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة ، وهو التاريخ الذي يعتمده كثيرٌ من المؤرخين بداية لمولد ظاهرة العلمانية في الغرب.

    أحد تعاريف العلمانية كما ورد في دائرة المعارف والأديان بأنها :"
    : دين سلبي إنكاري ، وهي كما أشارت دائرة المعارف الأمريكية ترى الخلاص الوحيد والحقيقة المطلقة في العلمانية " وهنا نذكر العلمانية الفرنسية التي تمثل العلمانية الصلبة تقوم على تبني دور سلبي من الأديان ومنع كل الرموز والاجتماعات الدينية في المجال السياسي ، لاحقاً تشكلت العلمانية في تركيا أتاتورك والاتحاد السوفيتي بشكل محارب للأديان وشكلت ما يسمى العلمانية الملحدة.
    ـ علمانية ( secularism ) ما يهتم بالدنيوي أو العالمي كمعارض للأمور الروحية ، والاهتمام بالدنيويات ، وفق ذلك فالترجمة يجب أن تكون العالمانية من العالم وليس العلمانية ، أو الدنيوية بمعنى الاهتمام بالأمور الدنيوية وترك الأفكار الأخرى.
    الفيلسوف الإنكليزي جون لوك كتب في موضوع العلمانية في القرن السابع عشر :
    "من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف، يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.
    وفي معجم أكسفورد بيان معنى كلمة secular كما يلي :
    دنيوي أو مادي ، ليس دينياً ولا روحياً ، مثل التربية اللادينية ، والفن والتربية الموسيقى اللادينية والسلطة اللادينية ، والحكومة المناهضة للكنيسة
    المنتسبون إلى العالم الأرضي " دنيويون " وهم ضد طائفة الكهنة من الإكليروس ورجال الكهنوت( ويعرض التاريخ انضمام صغار رجال الدين وما يسمى قس الأبرشية لحركات التمرد ضد الكهنوت، ذلك أن القس الأكبر كان يعيّن على أربع أو خمس أبرشيات بعدة رواتب وكان يُعطي لقس يعينه جزء بسيط من الراتب، وقس الأبرشية كان يعيش حياة معدمة فقيرة وهو بالأصل غير مؤهل علمياً لأن الدراسة كانت تكلف كثيراً وقتها، فكان هذا أحد أهم عوامل انضمام قس الأبرشية للثورة ضد الكنسية ذاتها للطبقية التي تعانيها وتسلط الكبير على الصغير وانتشار الرشاوي )
    بذلك أحد تعاريف العلمانية : الثورة على الكنسية وتسلطها لا على الدين
    العلمانية
    في أحد تعاريفها : "تنظيم المجتمع بدون الله" وفي أحد تعاريفها التخلص من كل الفكر الغيبي الديني أو غير الديني كالخرافات والميتافيزيقيا ونبذ الرهبنة والاقبال على تطوير المجتمع أو الدنيا، فلم يعد وفق ذلك المفهوم التخلص من تسلط الكنسية بل التخلص من تسلط الله بتعبيرهم، وهنا نلمس تطور دلالة المصطلح وتدحرجه من حالة إلى حالة.
    في دوائر المعارف تزداد الفكـرة وضوحاً ففي دائـرة المعارف البريطانية نجد بخصوص كلمة secularism أنها "" حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها" لتأخذ الفلسفة محل الدين والعقلاني مكان النبي والحاكم مكان الله.
    بعد عرضنا للنهضة العلمية واهتمام طبقات العقلاء في الغرب للتطور الحضاري في المشرق العربي، وعلى سبيل المثال استضافة روجر الثاني للعالم الأدريسي حيث صدمهم بنظرية كروية الأرض وشرح لهم نظرياته العلمية، كما قام أعجوبة العالم وقتها فردريك الثاني باستضافة العلماء المسلمين ولتشبعه بالثقافة العربية رفض تسلط الكنسية التي كانت تمتلك ثلث الأراضي في أوربا فقامت الكنسية ضده بحروب مقدسة.
    في أحد معاني الثورة العلمانية ضد الكنسية هي ثورة ضد الإقطاع الكنسي الذي نهب ثروات الناس.
    أول ذكر لكلمة العلمانية بشكلها الاصطلاحي :
    عرضت لأول مرة في شكل نظام فلسفي بواسطة جورج جاكوب هوليوك حوالي سنة 1846م في إنكلترا ، إنها سلمت لأول مرة بحرية الفكر ، وبأن من الحق لكل إنسان أن يعتقد بنفسه ما يريد" والمعنى الذي أرداه هوليوك كان الابتعاد عن الإلحاد الذي كان سائداً ، ورغم أن هناك بعداً مذهبياً رافضاً للكاثوليكة وهو لليوم ظاهر في تبعية بريطانيا لأمريكا التي تحمل ذات المذهب رغم أن الكل ينظر علينا حول العلمانية.
    لا بد أن نذكر تصريح بوجود معنى للعلمانية مضاد للأديان وقد ذكر في دائرة معارف الدين والأخلاق ، ودائرة المعارف البريطانية بأن العداء قائم بين العلمانية والأديان.
    ولهذه القضية بعد فلسفي تمثل لاحقاً في نشأة العلمانية الصلبة والتي تختلف عن العلمانية اللينة التي تعتمد النشأة التاريخية وهذا يحتاج لمبحث مفصل .
    حيث أن معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة ، ولا يتسم بأي نوع من أنواع الشمول أو الإبهام إذ تمت الإشارة إلى علمنة ممتلكات الكنيسة وحسب ، بمعنى نقلها إلى سلطات غير دينية ، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة ، لكنه لا يمكن تفسير وشرح العلمانية وفق ذلك فحسب لأن المصطلح تدحرج دلالياً وتطور مع كل دولة ومع كل مفكر وصولاً للفهم المشرقي وتطبيقه.
    وحقاً المجال الدلالي للكلمة اتسع وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب والإبهام على يد هوليوك 1817 – 1906م الذي يعتبر أول من صاغ المصطلح بمعناه المعاصر ، وجعله يتضمن أبعاداً سياسية واجتماعية وفلسفية ، وأراد هوليوك أن يُجنب المصطلح مصادمة الأديان فعرّف العلمانية بما يشير إلى الرغبة في الحياد فقال:" العلمانية" : هي الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خـلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض"

    ويرجع أول استخدام لكلمة علمانية عند هوليوك إلى شهر ديسمبر سنة 1846 م عندما أوردها في مقال نشره في مجلة " ذي ريزونور " أي "المجادل العقلاني " ، والسبب أنه شعر مع بعض زملائه وأسلافه مثل " توماس بين " و "ريتشارد كارليل " و "روبرت تيلور " أن المسيحية لم تعد مقبولة لدى أكثر فئات المجتمع ، وقد مست الحاجة إلى استبدالها بمبدأ حديث فكان هو " العلمانية " وقد سماها أتباع روبرت أدين بـ " الدين العقلاني "

    وكان لجهود تشارلس برادلاف 1833 - 1894 م دوراً كبيراً في ترسيخ المبادئ العلمانية الجديدة ، وإضفاء طابع الإلحاد عليها ، وذلك عندما استلم رئاسة جمعية لندن العلمانية سنة 1858 م بدلاً من هوليوك ، واشترك سنة 1860 م في تحرير مجلة " المصلح القومي " التي حلت محل سابقتها " الريزونور " وأسس الجمعية العلمانية القومية سنة 1866 م.
    اندثرت مجلة " المصلح القومي " سنة 1881 م لتحل محلها مجلة " المفكر الحر " التي زادت من جرعتها الإلحادية ، فكانت لا تكف عن الاستهزاء بالأناجيل ، والسخرية من الذات الإلهية ، إلى درجة أنها طالبت بمحاكمة أصحاب الأناجيل الأربعة لأنهم يجدفون على الله فهم يقولون بأن الله ، ضاجع عـذراء يهودية وأنجب منها طفـلاً غير شـرعي أسماه المسيح.

    2-علمانية أم علمانيات ؟
    جاء في كتاب هرطقات عن الديمقراطية و العلمانية والحداثة والممانعة العربية
    لجورج طرابيشي - دار الساقي ما يلي:
    فالعلمانية لا تقوم إلا في بلاد قلة مثل : أمريكا - فرنسا - تركيا – المكسيك"
    الدول نصف علمانية : ألمانيا - بلجيكا - هولندا
    دول شبه علمانية : إسبانيا - البرتغال – إيطاليا
    فحتى الأمس القريب كانت الكاثوليكية لا تزال هي الديانة السائدة أو الرسمية في هذه الدول ، فدستور البرتغال لعام 1951 ينص على أن الكاثوليكية هي " دين الأمة البرتغالية " وقد تبنت إسبانيا عام 1978 دستوراً حديثاً يضمن الحرية الدينية للأفراد ، ولكنه يؤكد في الوقت نفسه على وجود علاقات تعاون بين الدولة والطوائف ولا سيما الكاثوليكية.
    أما بريطانيا واليونان فهي دول دينية أي دول لا علمانية
    والملكة في بريطانيا هي رئيسة الكنيسة والأساقفة الانغليكانيون أعضاء شرعاً في مجلس اللوردات.
    والكنيسة الانكليغانيكة هي كنيسة الدولة بمعنى دين الدولة
    ولا شك أنها باختلافها تضمن حرية المعتقد والمساواة"
    كانت أول دولة مسيحية هي أرمينيا والتي اتخذت الكنيسة الأرمينية الرسولية دينًا رسمياً
    "في أوروبا تطورت المنافسة بين الطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية برعاية الدولة في القرن السادس عشر، حتى صلح أوغسبورغ عام 1555 وقد أنهت رسمياً الصراع الديني بين الطائفتين وصنعت انفصالاً قانونياً دائماً للمسيحية داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة. سمح البند "Cuius regio, eius religio" الشهير بالوثيقة للأمراء الألمان باختيار إما اللوثرية أو الكاثوليكية ضمن أراضيهم، وتنتهي بتأكيد استقلالهم بدولهم. أعطيت الأسر فترة كانوا خلالها أحرار بالهجرة إلى مناطق أخرى ذات دين يرضونه. في إنكلترا البروتستانتية فرض ملوكها أنفسهم في 1533، رؤساء الكنيسة الأنجليكية بدلًا من البابا، بينما في اسكتلندا كنيسة اسكتلندا قابلت دين الحاكم." عن ويكبيديا
    بمعنى كان صلح أوغسبورغ بداية تحول المذاهب المسيحية لأديان وتفرقها عن بعضها ، والمحزن في النص أعلاه أن نقرأ عن بند يتيح الهجرة للأسر المخالفة مذهبياً أو بشكل أدق دينياً ، وإن إذ تطالع تاريخ المشرق ستجده متحفاً للأقليات والقوميات والملل والنحل حتى يومنا هذا بل قبل الاحتلال الأمريكي للعراق وعبثه بالعامل الديني بشكل قسري مخبري.

    3 - الفرق بين مصطلح الكنيسة القومية والكنيسة الوطنية
    ضمنت بعض دساتير الدول الأوربية مصطلح الكنيسة القومية أو الوطنية
    وذكر الدستور لعبارة الكنيسة الوطنية يعني دين الدولة رغم أنه يعني واقعياً مذهب الدولة لكن المذاهب المسيحية أو التي نعتبرها كذلك هي في الحقيقة أديان مسيحية تفرقت كنائسها عن بعضها ومن ثم الدول التي رعت تلك الكنائس ، وإن عدم ذكر دين الدولة في دستور أي دولة يعني أنها علمانية، فبريطانيا تذكر في دستورها بأن الكنيسة الوطنية أي دين الدولة هي الكنيسة الإنجليكانية (والتي كانت في السابق كنيسة كاثوليكية حتى تم فصلها من قبل الملك هنري الثامن في عام 1534) ) ، وهذا لا يعني دولة ثيوقراطية كما يظن البعض ويخرج السلطة من تسلط الكنيسة بل بالعكس يضع الكنيسة تحت سيطرة الدولة بمجرد ذكر ذلك في دستور الدولة كمثال على الدولة الثيوقراطية دولة الفاتيكان حيث أنَّ البابا هو الرئيس الروحي الأعلى للكنيسة الكاثوليكية وهو يتمتع بعدة صفات كخليفة القديس بطرس، ونائب المسيح على الأرض.

    4- أصل تسمية رجال الدين :
    جاء في قصة الحضارة :
    "كان الناس في حديثهم العادي في العصور الوسطى يقسمون الخلق طبقتين :
    طبقة رجال الدين وطبقة "رجال الدنيا" وكان الراهب من رجال الدين وكانت الراهبة من نسائه، ومن الرهبان من كانوا أيضاً قسيسين وهؤلاء يكونون "رجال الدين النظاميين" أي رجال الدين الذين يتبعون قانون الأديرة (regula)، أما غيرهم من رجال الدين فكانوا يسمون "دنيويين" أي يعيشون في الدنيا (saeculum)، وكانت طبقات رجال الدين جميعها تمتاز من غيرها بحلق قمة الرأس وبأن يلبس أفرادها مئزراً طويلاً ذا لون واحد أي كان. ما عدا اللونين الأحمر والأخضر، تضمه أزرار بطوله كله من الرأس إلى القدمين. ولم يكن لفظ رجال الدين يطلق على من كان منهم في "الدرجات الصغرى" فحسب ـ أي بوابي الكنائس، وقارئي الصلوات،، وقارئي الرقى، والسدنة- بل كان يطلق كذلك على جميع طلبة الدين ومدرسيه في الجامعات، وعلى كل من حلقوا قمة رؤوسهم- أي دخلوا في زمرة رجال الدين - وهم طلاب ثم أصبحوا فيما بعد أطباء أو محامين، أو فنانين، أو مؤلفين، أو اشتغلوا محاسبين أو مساعدين لرجال الأدب. وهذا هو السبب الذي من أجله ضاق معنى لفظي Clerical، Clerk فصارا "كتابياً" و "كاتباً".
    وحتى بداية النهضة العلمية في القرن السابع عشر لم تعرف أوربا مصطلح " علمانية " اللهم إلا في التقسيم الكنسي الذي عرضناه ، حتى العصر التاسع عشر وبداية تشكل الدولة القومية، وماذا نفهم من ذلك ؟ بأن نهضة أوربا لم تكن تحت شعار العلمانية هي الحل كما يفهم البعض وينادي ، بل سبقها النهضة العلمية التي بدأ بها بداية كوبرنيكس ثم غاليلو ومن ثم نيوتن وهي أساس نهضة أي أمة.
    وطالما أننا ذكرنا هذه الأسماء العلمية الشهيرة والتي اعتبرها المؤرخون الغربيون بأنها افتتحت عصر النهضة العلمية في أوربا، فلا بد أن نشير بأن كوبرنيكس قد سرق علوم العالم العربي المسلم ابن الشاطر وحتى ضمن كتبه ذات رسومات ابن الشاطر دون الإشارة له نهائياً ، وغاليليو قد سرق تجربة العالم العربي المصري ابن يونس وهي تجربة رمي الأثقال المختلفة الكتلة من فوق برج بيزا كما سرق منه اختراع البندول دون الإشارة له، أما عن نيوتن أشهر العلماء الثلاث والتي كانت الفيزياء تعتمد على قوانينه بشكل عام حتى ولادة نظريات أينشتاين، فحتى نيوتن قد سرق علوم الحركة الشهيرة التي تنسب له من العالم العربي أبو البركات ملكا وكمثال القانون الشهير ( لكل فعل رد فعل، يساويه في الشدة، ويعاكسه في الاتجاه) ولكي لا نخرج عن موضوعنا فإن هناك مئات السرقات والمكتشفات التي أغُفلت من أسماء أصحابها العلماء العرب ، وبكل ثقة نقول بأن النهضة العلمية الحديثة قامت على أساس علوم ومكتشفات العلماء العرب المسلمون.
    إن أحد أهم أسباب تعنت الكنسية وقتلها للعلماء لم يكن بسبب رفضها للعلم كما هو شائع، بل لرفضها للثقافة المرافقة لعلوم العلماء العرب والتي تتعارض مع مصالح الكنسية فشنت الكنسية عبر تاريخها منذ بداية الحروب الصليبية حروباً مقدسة ضمن المجتمع الأوربي لكل من حمل الثقافة العربية من الجنود الصليبيين أو ممن رافق الحملات الصليبية ورفض فكرة تسلط الكنسية على المجتمع وهذا أهم عامل لنشأة العلمانية في الغرب ولقد تناولت هذا الأثر بمقالة مستقلة.
    5-دور ابن رشد واسبنوزا في بناء علمانية الغرب
    ابن رشد
    ربما كان تأثير ابن رشد ونشأة المدرسة الرشدية وأثرها في أوربا حتى القرن السادس عشر دور كبير في تشكل الفكر العلماني الغربي، حيث كان الطالب الأوربي يجلس في مسجد من مساجد قرطبة يتعلم الفلسفة أو الفلك وبجانبه رجل يهودي وآخر مسلم بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع كل من يخالفها من الصلاة في كنيستها، هذه الأجواء الحرة في الأندلس كانت كذلك أحد أهم عوامل نشأة العلمانية في أحد مفاهيمها وهي حماية حرية المعتقد.
    "لم يقتصر اثر ابن رشد في الغرب اللاتيني على القضايا الفلسفية واللاهوتية التي كان يدور حولها الجدل إبان القرن الثالث عشر في باريس وبادوا وبولونيا، بل تعداه الى الميدان السياسي. وقد حمل لواء الرشدية في هذا المجال الشاعر الايطالي الشهير دانتي اليغيري توفي 1321 الذي كان من أوائل روّاد العلمانية السياسية في أوروبا. وذلك إبان الصراع بين انصار البابوية وأنصار الامبراطور. ويبني دانتي نظريته السياسية الجديدة في مطلع كتابه "الملكية" de Monarchia على نظرية ابن رشد في العقل الهيولاني الذي دار حوله الجدل في الأوساط الفلسفية واللاهوتية آنذاك. وفحوى هذه النظرية ان هذا العقل واحد يشارك فيه جميع ابناء البشر وهو عقل بالقوة فحسب، خلافاً للعقل الفعّال الذي هو عقل بالفعل والذي يحقق العقل الهيولاني فعاليته "بالاتصال" به. وعند دانتي ان هذا العقل الهيولاني الذي يشترك به جميع البشر يمثل "ماهية الانسان وطاقته الخاصة ويميزه عن سائر المخلوقات العليا او الدنيا". لذا يترتب على البشر كما يقول دانتي "ان يتوخوا كمجموعة واحدة تحقيق طاقات العقل الهيولاني دوماً في ميدان النظر او التأمل اولاً وفي ميدان الفعل او العمل ثانياً" وذلك على مدى العمر. وذلك هو السبيل الوحيد الذي يمكّن البشرية من بلوغ هدفها الأقصى وهو السلام الشامل كوسيلة لبلوغ السعادة الدنيوية."

    بناء على هذه المقدمة المبنية على موقف ابن رشد من العقل الهيولاني، يتطرق دانتي الى معالجة المشاكل السياسية الرئيسية التي يدور عليها كباب الملكية، وأهمها: هل الحكم المدني كاف لبلوغ هذه الأهداف البشرية؟ مجيباً على طريقة ارسطو بالإيجاب، ومتحدياً بذلك انصار البابوية الذين كانوا يذهبون الى ان الحكام الزمنيين أو الأباطرة والملوك يستمدون سلطتهم من البابا او خليفة بطرس مؤسس الكنيسة. فينقض الأدلة التي كانوا يتذرعون بها استناداً الى الأناجيل او الى "بيعة قسطنطين" الذي كانوا يذهبون الى انه استمد سلطته السياسية من البابا سيلفستر الذي شفاه من مرض البرص. والنتيجة الأساسية التي ينتهي اليها دانتي في هذا الباب هي ان الامبراطور او الحاكم الذي نُصّب لتأمين السعادة القصوى للبشر انما يستمد سلطته مباشرة من الله وليس من خليفة بطرس او البابا. لذا ينبغي ان تكون السلطة المدنية او الزمنية مستقلة عن السلطة الدينية او الروحية وهو ما يعرف بالعلمانية اليوم، فلا يحق للبابا او اعوانه والحالة هذه ان يملوا ارادتهم على الحكام المدنيين كما كانت الحال طيلة العصور الوسطى وحتى زمن دانتي نفسه.

    إسبنوزا
    كما يعد الفيلسوف إسبنوزا من أقدم من تناول موضوع العلمانية ، والتي رحلت عائلته من إسبانيا وفور وصولها لهولندا التي كانت تعيش فترة تسامح ديني قامت العائلة بإعلان يهوديتها كسائر الجالية اليهودية التي عاشت فترة ذهبية أيام حكم المسلمين في الأندلس والتي تعرض لاحقاً للاضطهاد الديني من قبل حكام إسبانيا الجدد والذين كانت محاكم التفتيش فخر صناعتهم ، ولا بد من أن نشير بأن طلاب ابن رشد اليهود كان لهم دور في نقل فلسفته للغرب، وبالأصل فكرة الفصل بين الأدوات الفكرية تعود لابن رشد.

    • لنذكر بعضا لنقاط العلمانية التي أكد عليها إسبنوزا :
    • - واجب الدولة في نشر الحرية :
    • " الهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد أو قمعهم بالخوف، وليس فرض الطاعة عليهم ، وإنما هو، على العكس من ذلك، تحرير كل شخص من الخوف، حتى يعيش في اطمئنان تام...... إن الهدف الحقيقي من الحكم هو الحرية"


    " وهب أن الحرية قد سحقت وأن الناس قد أذلوا حتى لم يعودوا يجرأون على الهمس إلا بأمر حكامهم. فتكون النتيجة الضرورية لذلك هي أن يفكر الناس كل يوم في شيء ويقولوا شيئا آخر ، فتفسد بذلك ضمائرهم ويكون في ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش"

    من المؤكد أن اسبنوزا يجعل للدولة بوصفها نظاماً سياسياً مسؤولية كبيرة في توجيه رعاياها في الطريق السليم.
    فهو لم يكن من أولئك الفلاسفة الذين يقللون مسؤوليات الدولة إلى الحد الأدنى ، وإنما أكد بالفعل أنه منذ اللحظة التي يتنازل فيها الأفراد للدولة عن بعض حقوقهم في سبيل تحقيق المزيد من الحرية بفضلها ، تصبح الدولة هي المسؤولة عن المستوى الأخلاقي والاجتماعي لمواطنيها، وإذا ظهر أي انحراف عام في سلوك هؤلاء المواطنين فمن الواجب أن تلام عليه الدولة ذاتها لا الأفراد :
    " فمن المؤكد أن الفتن والحروب وكسر القوانين أو خرقها لا ينبغي أن تعزى إلى وجود الشر في الرعايا بقدر ما تعزى إلى سوء حالة نظام الحكم ذاته. ذلك لأن الناس لم يخلقوا صالحين لأن يكونوا مواطنين، وإنما ينبغي أن يجعلوا صالحين لذلك، وفضلا عن ذلك فإن انفعالات الناس الطبيعية واحدة في كل مكان ، فإذا ما استشرى الفساد في مكان ما ، وازدادت الجرائم انتشاراً في دولة دون الأخرى فلا بد أن الأولى لم تمض في عملية توحيد رعاياها كما ينبغي ، ولم تضع قوانينها ببعد نظر كاف، وبذلك تكون أخفقت في استخدام حقها في ممارسة الحكم"

    • ص 232 اسبنوزا – د فؤاد زكريا – دار التنوير

    خاتمة
    لعلنا بعد ها العرض للسياق التاريخي لنشأة العلمانية ولتطور الدلالة بحاجة للوقف عند ما يسمى العلمانية الصلبة والعلمانية اللينة فالثانية ترجع العلمانية وتعرفها بحسب ظرفها التاريخي والتفسيرات الدينية ، بينما الأولى تفسرها من منطلق فلسفي وهذا بحاجة لمبحث مستقل، وإننا إذا تعرضنا لهذا العرض الكلاسيكي لما وقر في أذهان البعض وإن تدخلت به الأهواء والرغبات عوض الموضوعية والعلمية، لا بد أن نذكر ما آلت إليه العلمانية والحداثة الغربية وعصر التنوير من جهود معاصرة للنقد وعلى سبيل المثال سأعرض ما جاء في كتاب " حالة ما بعد الحداثة " لديفيد هارفي إذ يقول :
    " الأزمة الأخلاقية لعصرنا هي تحديداً، أزمة فكر التنوير. فإذا كان صحيحاً أن هذا الفكر قد سمح فعلاً للإنسان بتحرير ذاته " من الجماعة ومن تقاليد العصور الوسطى التي حجبت حريته الفردية" إلا أن إصرار الفكر هذا على " الذات بدون الله " قاد إلى تناقض ذاتي، إذ ترك العقل ، وفي غياب حقيقة الله ، مجرد أداة ومن دون أي هدف روحي أو أخلاقي. وإذا كانت الرغبة والقوة " وحدهما لا يحتاج اكتشافهما إلى نور العقل "، فإن العقل بالتالي يصبح أداة إخضاع لما تبقى . وعليه فالمشروع اللاهوتي ما بعد الحداثي هو استعادة الله من دون ترك قدرات العقل "

    كما جاء في كتاب الجغرافيا السياسية للإيمان: نقد غربي لأطروحات علمانية حول “موت الدين” لثلة من الباحثين أقتبس كلام ستيفن داوسون الذي يقول:
    "أما “أسطورة الليبرالية”، التي ترى أن مواجهة مخاطر العنف الديني تتطلب الدولة الليبرالية الحديثة، وبذلك باتت السياسة علمانية، وبات الدين أمرًا خاصًّا.
    وقد تواطأت تلك الخرافتان معًا لفصل الدين عن السياسة، وهو ما انعكس على نظريات العلاقات الدولية، مثل الواقعية والليبرالية، التي تُعد نظريات علمانية في المقام الأول، والتي بات لزامًا عليها أن تتكيف مع “الصحوة الدينية”، ليتساءل عن إمكانية تضمين الدين في النظريات الراهنة للعلاقات الدولية."
    والحمد لله رب العالمين
    طارق شفيق حقي
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : العلمانية – طارق شفيق حقي كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.