• وسكت كنارنا الصيداح

    وسكت كنارنا الصيداح .....


    وبينما كانت تغتالني مشاعر العجز والألم والحزن والغبن والقهر والأسى, وأنا أشاهد وأسمع ما قامت به إسرائيل بعد أن فجرت وطغت طغيانا كبيرا,إذا برسالة قصيرة تصلني معزية في ابن أخي الشاعر الجميل العذب الرقيق الفاتح الجزولي الذي ضاق بالحياة أو ضاقت به الحياة , وإذا الدموع تزيد انهمارا , وإذا الحزن يُحكم قبضته علي , فلعله موسم المصائب والمبكيات والآلام ولعله ابتلاء أراد الله أن أحياه متواليا , وإذا الآلام تترى .
    والفاتح الجزولي لمن لا يعرفه من أبناء مدينة أرقو بشمالي السودان وشعرائها الأفذاذ القديرين المتمكنين , شعره يفيض عذوبة وجرْسا موسيقيا وهو عندي من أهم وأشعر من كتب شعر التفعيلة على مستوى السودان , في شعره عمق وحلاوة وطلاوة, ولعله أفضل شعراء جيله الوسيط على الإطلاق في غير محاباة ولا مجاملة ولو كنت من أهل مثل هذا , لكان هناك من هم أولى بمجاملتي , ولو لعب إعلامنا السوداني دوره كما ينبغي واهتم السودان بنابغيه, لكان لهذا القامة الشعرية الكبيرة وزنه على مستوى العالم العربي على أقل تقدير , ولكن من يهتم بالأدب والفكر , بل ومن في الأصل يتفرغ لمثل هذه الترهات في نظر الإعلام السوداني الهزيل .....فكم قرأنا لشعراء من الوطن العربي ولا عطاء لهم ولا قيمة أدبية ولكنهم يحظون برعاية وعناية الإعلام والدولة التي تبرزهم وتلمعهم وتقدم عطاءهم المتواضع للقراء في حماس حتى أصبح باقلهم سحبان أو قس بن ساعدة الأيادي!!! ولا غرو ولا غرابة , ومن من قبل في عالمنا المعاصر يعرف عبد القادر إبراهيم تلودي ومن منهم يعرف حمزة الملك طمبل ومن منهم يعرف محمد المهدي المجذوب ومن منهم يعرف أحمد محمد صالح صاحب السهل الممتنع أو إبراهيم العبادي أو النور إبراهيم ؟ من ؟ من؟ ومتى كان ذلك؟
    قفزت إلى ذهني مئات الذكريات ... زياراته لي , عذب إلقائه لشعره الفتان الرنان , وسيل يتدفق من ذكريات , وما كنت أحسب في يوم من الأيام أني سأنعيه أو أبكيه أو أقف هذا الموقف الأليم المحزن حقا ....
    إتصل بي مرة هاتفيا وأنا في إجازتي الصيفية بمنزل جد أبنائي حيث تعودت قضاء الإجازة , أحدهم من أصدقاء الشاعر على ما يبدو أو معارفه , وكان الفاتح مسافرا , وطلب مني أن أخبر شقيقه الوحيد بأمر ما حسب وصية الفاتح له , سألته : من أقول له تحدث إلي , فأجاب : الخاتم عبد الله , سألته : هل أنت صديقي وأخي الخاتم عبد الله الخاتم وزير الخدمات بالإقليم الشرقي ؟ فرد بأنه الخاتم عبد الله عدلان الأمين العام للآداب والفنون ( حاليا يشغل منصب الملحق الثقافي بسفارتنا بمصر الشقيقة ) , قلت له : صدفة سعيدة فأنا حسن الشاعر المتقاعد ....استغرب لقولي وسألني: هل الشعراء يتقاعدون ؟ قلت : ألم تسمع قصيدتي (حراسة الرمة ) التي تقول:
    أطلق بالثلاث بنات شعري

    لتبقى كل واحدة بجحر

    وسمع عددا من أبياتها فأصر على أن أرسلها له أو أن يأتي هو بنفسه ليأخذها مني , وجاء الفاتح عثمان الجزولي من سفره فسلمته القصيدة ليسلمها للأديب الكبير الخاتم عبد الله عدلان , وحصل وأعتقد أنه قام أو فكر في نشرها بمجلة الخرطوم ...إذ لا أعرف ما جرى ... وأصيب الأخ الخاتم بوعكة خفيفة ألزمته البيت , فزاره الابن الفاتح الجزولي وعاد إلي ليضحك ويردد بيت شعري :
    أحب المال لا شرها ولكن

    أريـــد به مساعدة لغيري

    ويقول :أصحيح تريد به مساعدة لغيرك أم تريد أن تبني به الطابق الثاني ....كان الفاتح كثيرا ما يشاغلني ببيت من أبيات تلك القصيدة ولفترة ممتدة وكان قد نقل لي إعجاب الأخ الأستاذ الخاتم بالقصيدة وترديده لبعض أبياتها .
    وأهم ما برز طوال يوم أمس الأول من يونيو من ذكريات ... ويعلم الله أن دمعي يجري حارا مؤثرا على خدي ... يوم أن جاءني وفي يده قصيدة له, عام 1996م, كتب على أعلى غلافها: أستاذي الشاعر الفذ حسن إبراهيم ...وتحت هذا مهر اسمه بقلم أخضر اللون حبره ... وأذكر أنني قرأت القصيدة في وجوده وأعجبتني حقيقة ... ولكني لم أطق ما فيها من تناقضات ...حب كبير وقرار نفذ بالانفصال عمن أحب , وسألته كيف يستقيم ذلك ؟ كان رده مثاليا صادقا مقنعا حتى الثمالة وإن كنت لا أستطيع البوح به والكتابة فيه حين كان حيا وبعد موته ... المهم كان إنسانا مثاليا متحضرا راقيا في تصرفه هذا الذي ظننته متناقضا مع مضمون القصيدة... وعدته أن أتناول القصيدة بالدراسة وربما الكتابة والنقد والتحليل ... وقد أصبح في دار صدق ويعلم الحقيقة كاملة ولا أستطيع أن أنقل غير الحقيقة له , فقد شغلتني الحياة ولم أكتب شيئا عن تلكم القصيدة الرائعة ولم أتناولها لا بنقد ولا مدح ولا ذم وظلت حبيسة مخزوناتي مع جملة من القصاصات والكتب والمستندات .... وذهبت بمجرد انبثاق الذكرى مساء الأمس واستخرجتها وقرأتها ولكن هذه المرة بأسى بالغ :
    وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى

    لـوداد أخـوان الصـفـاء مضــيعــا

    خاللـــت توديـــع الأصادق للنوى

    فمـــتى أودّع خلـــي الــتوديعــــا

    وذلك كما يقول أبو العلاء المعري .
    رحم الله ابن أخي الفاتح الجزولي , وهل تنقصني الجروح والأحزان حتى تضيف إلي كما هائلا من الحزن والألم ؟ وهل حقيقة أنك اقتنعت بأن عالمنا يزخر بالمتناقضات والمآسي والآلام والغش والتباعد والتباغض والحقد والكراهية والغدر والخيانة والكذب والنفاق فآثرت أن ترحل سريعا ؟؟أما أنا فسأبقى وفيا لموهبتك المتفردة وسأبدأ ومنذ الآن بنشر قصيدتك وكما كتبتها بلا رتوش ولا حرف زائد أو ناقص لعلي أن أفي بوعد كنت قد قطعته على نفسي ولم أنفذه وحان موعد التنفيذ , ومن يدري , فلعلي أن أتناول القصيدة تشريحا ونقدا وبكل ما فيه من وجوه تبرز محاسنها ومساويها معا وبلا مجاملة وكما عهدتني ... أنشر القصيدة ليقرأها الآلاف على مختلف المواقع والمجلات والصحف عسى ولعل أن يتفق معي الكثيرون على انها تستحق فعلا أن تقرأ .
    دمت بخير في جنات النعيم مع من يحبرون .....
    أما قصيدتك فها هي ......

    وداع ...


    مشفوع بالحب



    إلى العزيزة نجاة مع أجمل أجمل الحكايا


    شعر الفاتح الجزولي

    أحببتك ..عمداً
    فارقتك .. عمداً
    يا أندر لؤلؤة جاء بها غواص ماهر
    من جوف خليج طيب .. أعطتنيها عن طيبٍ
    ومضى
    يا قطعة ماسٍ أصليٍّ
    صافٍ ونقيٍّ
    أخرجها الله من أعمق أعماق
    الأعماقْ
    وأهدانيها سبحانهْ
    شكراً على أغلى درر الأرضِِ
    حمداً على أغلى درر الأرضْ
    أغلى درر الأرض
    تقلدها القلبْ
    عفواً .. صاحبة الدربْ
    عفواً..
    أني فارقتك لما بادلتك حباً اهتز له
    سقف مدينتنا
    وتمدد منه الحائط في قريتنا
    وتشرب عصفورٌ كان يراقبنا ـ ليلَ نهارْ ـ
    اللحن بصحبتنا
    وشهدتك سامقةً فوق الربوة,
    شاهقةً في قمة عمري ,
    باسقة ً في أبرك أرض
    ***
    عفواً..
    ضيعتك ـ عمدا ـ من بين يديّ وفارقتك,
    كي أحفظ هذي الدرة غالية ـ من ضيم
    سنين قادمة قاحلة , وصحارى جرداء
    عفواً .. ثكلتني أمي , وبكاني الشعراء
    أحزن رجل فب العالم صرت,
    وحزني كالجرثومة فتاكٌ يعصف كالأنواء
    يتكاثر تحت مسام الجلد وبين شعيرات الإحساس
    على كل الأشياء
    خفت على قلبك ـ صدقاً ـ من عدوى
    قد تنقل كل جراثيم الحزن إليك ,
    وتفتك بالقلب الطيب والوضاء
    القلب المفعم بالعشق النادر,
    والضارب في أعماق لا تألف غير القلب النادر
    قلبك نادر ..
    أرض..
    بحر ..
    قمر ...وسماء
    ***
    عفواً..
    سيدتي
    أحببتك ـ عمداً ..
    غرس الحزنُ الغمدَ على جسد الحبِّ؟
    أم انتهكت حُرمات الحب الأحزانْ؟
    آهـ .. ياليل زمانْ ...
    الخافق كانْ
    والنابض كانْ
    كان المشوارُ الشائقُ في أزمنةٍ عذريةْ
    كان الزمنُ الغارقُ في أمكنة الوجدِ الناريةْ
    كان الومض على كل بطاقاتي في الإسمِ ..
    وفي المهنة والعنوانْ
    في كل زمان كانَ,
    وكل مكان كانَ,
    وكل أوانْ
    أحببتك ـ صدقا ـ
    يا آتيةً بالوردةِ من فوهةِ بركانْ
    آتية بالزهرةِ من أصلِ العفةِ,
    مانحةً قلبي صمامَ أمانْ...
    ***
    فارقتك ـ عمداًـ
    وفضضت شراكتنا,
    حتى لا نخسر من أموالِ الحبِّ كثيراً
    حتى يبقى الحب كبيراً
    حتى لا نعلن إفلاس القلب
    فلا ...للتصفيةِ العامةِ والإفلاسْ
    لا لديونٍ قد تتراكم يوماً لا نَحْمَل فيه
    سداد ديونْ
    فارقتك ـ عمداً
    كي أحفظ ماء الحب نقياً
    في حدقاتِ العينِ ونونِ النونْ
    كي لا يتلوث دمك الطاهر من حزني ....
    قدرٌ أورثني حبك مع حزني
    هل يتعايش حب مع حزن في بيت
    شجونْ؟
    ***
    سكن الحبُّبسقف البيت لأنك كنت البلسم
    للجرح النازفِ...
    دوما يشفيني حلمك,
    ويعافيني دوما صبرك,
    إلا أن الجسد اكتسب أخيرا كل
    مناعته في الضدِّ وضدِّ الضدِّ
    من الحلم أو الصبر أو الغفرانْ
    آهـ يا ليل زمانْ
    يا حاملةً نار الحزن بيدك اليمنى
    يا آخذة جرحي عني في كل بنانْ
    دونك قلبي
    أضعف من أن يمنع عنك نزيف الدمع
    أو الطوفانْ
    الخافق كانْ
    والنابض كانْ
    في كل زمان كانَ
    وكل مكان كانَ
    وكل أوانْ
    آهـ يا مانحتي أغلى ما مرَّ
    أيام العمر,
    سيحفظها الواحد تلو الآخرمن نبضي
    ولأنك مانحةً ـ أبداً ـ دون شروطْ,
    ضيعتك ـ عمداًـ دون رهانْ
    ***
    ساومت القلب عليك,
    فساومني الحزن عليك,
    وكان الحزن الغالب " عشعش " في الإحساس
    هل يعقل هذا الأمر الناس
    أو أشباه الناس
    إن كان القابض كتلة جمرً
    كالتارك يده لتداعب ماءً بارد
    دون مساس
    قد يعقل ذاك الناس
    إن القابض ذاك الجمر ,
    يخاف الشرر المتطايرأن يحرق أجمل
    أوراق كتبت من ماء الذهب الخالص
    يا ذهبي الخالص
    ضيعه الوجع الخالص
    ضيع من شهدت وجدي
    سراً ..
    أو جهراً..
    ضيعني ..
    ***
    يا شاهدتي ..
    قد كان الزمن الأجمل في عينيك,
    وكانت سكناي بقربك أرفع سكني
    آهـ يا كوب الشاي,
    وطعم السكر من طعم حديثك
    من ملعقة مسحورةْ
    يا أجمل صورة عصفورة
    يا سفراً في سفري
    وجوازاً فيه التأشيرة لدخول الخاطر
    في أول صفحةْ
    يا شعراً في حلي
    أرض تلك وندخلها نحن الإثنين لأول وهلة
    كانت طائرة تنقلنا
    وتطير بنا الأخرى,
    خفنا ـ يوما ـ أن تغرق تلك الكتبُ,
    وما خفنا أن نغرق نحن بعرض البحر الأحمرْ
    جاوزنا كل مدارات الكون وحلّقنا,
    حلّقنا ... وفرحنا في اليوم الأبيض
    حتى كاد جناحي أن يلقى الحزن الأسود
    فوق جناحك
    لا....
    لن أحمل تحليقاً بجناحي المكسور
    كيف أطيرْ؟
    حلمي حلق أبعد مما أتصور
    طار بعيداً عني!
    كيف أغني؟
    لحني صار بحزني رجعاً ممسوخاً لصدى مزمار
    كاد النافخ أن يبدأه في موكب تشييع للقلبْ
    قلب هشمه حيناً وجعٌ ...فتراجع
    هل يبقى اللحن الأول في شقشقة
    العصفور الأول حبل وفاء ومودة
    نبقى نحن كما نحن
    وأنت الأفضل أبداً
    الأنقى ...والأرقى...أبداً
    الحزن دواماً في وجهي
    والبسمة دوماً في شفتيك
    هل يدري من يدري
    أن المركب جنح بعتمة ليل إرتطم
    بصخرات... قَاوَمْنَا؟
    قَاوَمَنَا التيار ...فقاومْنا..
    قَاوَمَنَا الإعياء ... فقاومْنا..
    قَاوَمَنَا الكابوس ... فقاومْنا..
    قَاوَمَنَا الحزن ... فقاومْنا..
    ***
    وتعمدت فراقك سيدتي
    كي لا أهتك أبدا عرض القدسية
    بعد الفجر الوضاح
    كي لا أتراجع او أنزاح
    سالمة سيدتي آملها من دون جراح
    حالمة من قبلٍ أو بعدٍ بجديد يفرحها
    وجديد يشرح بين وريد أو شريان
    أو تحت الضلع الخفق
    فتغمرها الأفراح
    يا طيراً يحمل سيدتي ... حلِّ
    ..وتزحلق
    إنك تعلم أنك تحمل أوفى سيدة
    عاليةٍ , غاليةٍ ضيعها خوفي ـ عمداَ ـ
    ثم بكاها القلب
    وسلامٌ يا هذي
    وكلام بكلام يا أجمل رفقة درب
    ووداع مشفوع بالخفق وبالورد
    ومشفوع بالحب ....
    ـــــ
    عمك المكلوم عليك حقا
    حسن إبراهيم حسن الأفندي

    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : وسكت كنارنا الصيداح كتبت بواسطة حسن الأفندي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.