• النثر الفني في الأدب العربي - حسين محي الدين سباهي

    النثر الفني في الأدب العربي وأهميته في التواصل والتخاطب البلاغي ... للتعبير عن الذات و الرغبات

    ان الذي يتتبع الآداب العالمية عموما والأدب العربي خصوصا " يرى أن أول كلام نطق به الانسان هو الشعر ،بل معناه أن أقدم الآثار الأدبية التي خلّفها الانسان هي الشعر .ومن أسباب ذلك أن الادب المنثور يتطلب معرفة الكتابة ،والكتابة اختراع متأخر في تاريخ كل أمة ،وأما الشعر فينقل بالرواية ،كما لايمكن الاعتماد على النثر المرويّ لسهولة التحريف فيه . ثم ان النثر الفني هو لغة العقل أما الشعر فلغة الوجدان .والانسان يشعر بوجدانه قبل أن يفكّر بعقله ،ولذلك لم يظهر النثر الفني الاّ بعد أن أخذت الجماعات بحظّ قليل أو كثير من الرقيّ العقليّ.
    ولم يظهر الشعر العربيّ كما نعرفه في ما وصل الينا من أدب الجاهلية ، وكما نعرفه اليوم ، بل سبق هذا النضوج تطوّر في المعنى وفي المبنى ،وكان هذا التطوّر طويلا" . وقد قيل أن الحداء أصل الشعر وأن أوزان الشعر العربي رتبت على وقع أقدام الابل . ومما لاشك فيه أن الشعر العربي كان ، من أصل وضعه ،ذا ميزات خاصة ، تقوم على ألفاظ منتقاة ،مرتبة ترتيبا" موسيقيا" خاصا" يتألف من ذلك الترتيب ما نسمّيه الوزن الشعريّ ،ثم على ألفاظ تنتهي بحروف متشابهة هي بمثابة قرار لتلك الموسيقى ،تسمى قافية . ويرى بعض النقاد أن السجع سبق الرّجز ،وقد اتفق مؤرخو الأدب على أن الرّجز أقدم أنواع الشعر تاريخا" .وكان الوزن والقافية يساعدان على الانشاد ، كما يجعلان الشعر شديد الارتباط بالغناء ،ولاعجب (فالشعر يشتمل على موسيقى الالفاظ ، والغناء يشتمل على موسيقى الألحان ) .ومما يرجح أن العرب كانوا في بدء أمرهم ينشدون الشعر كما كانوا يتغنون به وذلك وفقا" لما تقتضيه الأحوال .
    ولابدّ من الاشارة هنا الى أن الحديث عن هذا الأدب مهم جدا" في التحليل وفي معرفة الغاية التي يتوخّاها الباحثون من دراسة النثر الفني ، ولمذا يعكفوا على دراسة النثر الفني أصلا" ؟ ولماذا يدرسه الأكادميون والمختصون ، ولماذا نطلق علية النثر الفني ؟
    وهذه المقدمة العامة عن النثر ، وهي من الأهمية بمكان ،تفيد جدا" في التحليل النظري .
    ومن المعلوم أن النثر لغة مشتق من مادة نثر ، التي تدل على.تفريق الشيء من دون نظام .نئر الكلام:صاغه نثرا غير موزون ولا مقفى ، وهو خلاف النظم . فالكلام المنثور هو الكلام المرسل على غير نظام وزني مطرد كما في الشعر . وهو على أنواع ، منه:

    الكلام العادي الذي يتوسل باللغة المحكية السائدة

    ويكون غرضه التواصل و التخاطب بين الناس لتحقيق غايات نفعية أو ابلاغية ، كالتعبير عن الذات و الرغبات ، ونحو ذلك . وهذا النوع لغته ليست أدبية ، لأنها فقدت قدرتها على الادهاش و الاثارة ،فهي سوقية باردة مبتذلة ،تلوكها الألسن باستمرار (لغة مستهلكة).
    أما النثر العلميّ
    وهو الذي يعتمده العلماء في تدوين شروحهم ومعارفهم وعلومهم ،ويقوم كما هو معروف على المنطق ،والفكر السليم .. ومخاطبة العقل ..وشرح الحقائق العلميّة ..وعدم استخدام المجاز الاّ عفو الخاطر ،أو لتقريب الحقائق العلمية الى الأذهان .
    حيث قلّما نجد عالما" متخصصا" يكتب بلغة أدبية مشرقة ، اذ يجب علية أن يكتب بلغة علميّة.
    ومنه أيضا" ..النثر الأدبي أو الفنيّ :
    وهو الذي يعنينا في دراستنا للأدب العربي ،والذي تتوهّج لغته حرارة" وعاطفة" وانفعالا" ،وتكون قادرة على اثارة الدهشة الحيّة ، والانفعال العميق ،والكشف الباهر في كل صياغة جديدة ،فهي لغة ذات سحر خاصّ ،ومن هنا يكون تعريف النثر الفني ، بالقول :(هو ذلك اللون من التعبير الذي يفتنّ فيه كاتبه لاثارة المتعة الفنيّة في نفس القارىء أو السامع ، وقلّما يأتي ذلك عفو الخاطر ). وبتعبير آخر : النثر الفني هو كل كلام يشتمل على جمال في صياغته وأسلوبه ، فهو تشكيل :أي بنية ،لغوي :أداته اللغة ،معرفي :لأنه يهدف الى اثبات معرفة ،أوالتعبير عن فكرة معينة ،أما بالنسبة لكونه جمالي فذلك لكون لغته قادرة على اثارة المتعة الجماليّة ). ومن المعلوم أن الشعر يتناول الأحداث والأفكار بطريقته الفنّية التصويرية ،ككثير من قصائد الشعر العربي ،كما في قصيدة أبي تمّام في وصفه معركة عمّوريّة التي مطلعها :
    السيف أصدق أنباء" من الكتب في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب
    وقصائد المتنبي في وصف معارك سيف الدولة الحمداني . ( فهذا الشعر لايتّخذ كوثيقة تاريخية سياسية من الدرجة الأولى ،بخلاف النثر الذي هو لسان حال الدولة ولاسيما الرسائل الديوانية والمعبّرة عن أحداث التاريخ ).
    فالوصف في القصائد المدحيّة في الغالب تصويريّ ،يقوم على أساس جماليّ في المقام الأول ،أي ان هدفه أولا" تحقيق المتعة الفنيّة في المتلقيّ .
    أما الأساس المعرفيّ فيتمثّل في النثر الذي ينقل أفكارا" محدّدة باطّراد وتتابع ،وعلى نحو وصفيّ تقريريّ ،يعتمد البراهين العقلية والتفصيل الدقيق للأفكار ،والجدل ،والبعد عن التهويل والمبالغة ،والقرب من الحقيقة في كثير من الأحيان . فالنثر لغة العقل أولا" ، والوجدان ثانيا" . أما الشعر فلغة العاطفة والوجدان .
    وقد ذكر أبو حيّان التوحيديّ (ت 414هجرية )أنّ النثر من قبل العقل ، والنظم من قبل الحسّ ( يقصد به الشعور والعاطفة ) .الاّ أن ذلك لايعني أن الشعر لايقرّر ويصف ويحتجّ ،أو أنّ النثر لا يرمز ويعمّم ويكون شديد التكثيف والايحاء ، ويعتمد التصوير والمبالغة والتهويل بقصد التأثير والدعاية ،وغير ذلك ،كبعض الرسائل الديوانية ،والخطب السياسية ،ورسائل الخميس التي كانت تقرأ على شيعة العباسيين في خراسان ،وهم أنصار الدولة ،ولهذه الرسائل شهرة عظيمة ، تقوم مقام الاعلام السياسي في عصرنا . وكانت تكتب في زمن كل خليفة عباسي . وموضوعها تأييد الدولة والاشادة بالخليفة وبيان حقّه في الخلافة دون سواه . ويدخل في اطار النثر الفني أيضا" رسائل الخميس في العصر العباسي ..والتي كان لها الأثر الكبير في الحركة الأدبية في ذلك العصر .. والمقصود بها رسائل الجيش ، لأنه مقسّم الى خمس فرق ،كانت تكتب من الخلفاء العباسيين موجّهة الى خراسان ، حيث الجيش الذي تمكّن العباسيّون من خلاله من ازالة الدولة الأمويّة في المشرق ،وكانوا يسمّون باب خراسان في بغداد باب الدولة ، لأن رايات الدولة العباسيّة أقبلت من خراسان .
    والمهم في الأمر كلّه أنّ أدبية النص النثريّ وجماليته قد تفوق أدبية النص الشعريّ ، فقد يكون الشعر نظما" ذهنيّا" جامدا" لا روح فيه ، وانما فكر ومعرفة ، ووزن وتقفية ، كما هي حال المنظومات العلميّة ، وكثير من شعر العلماء . فالحكم غالبا" على شعريّة النص ، أو أدبيّته يعود الى رجحان الوظيفة الجمالية على الوظيفة المعرفية .
    وهنا لابدّ من الاشارة الى أن النص في العقل العربي يتحدد بناء" على جدلية المفاضلة ، حيث تتموقع النصوص تراتبيا" ،فالأسبقية للنص العلمي الذي تقام على أسسه في زعم العقل العربي معالم التطوّر المادي ، ثم بعد ذلك يأتي النص الأدبي الذي لامحل له في عالم الواقع حيث يهيمن عليه التخيّل .
    الاّ أنه يثير حساسيّة القطيعة مع المنجز النصيّ التاريخيّ ،ويبدو لي من خلال متابعة التنظيريّة أن مربط الفرس هو في عدم القدرة على تجاوز هذا المنطق الذي يغرّب الفعل الشعريّ العربي داخل أطر الآخر التنظيريّة ، وهو ما أدّى بالفكر العربي الى عقد مراجعات لا داخل البنينة (مفهوم بارثي ) الشعريّة ، بل في المحيط الابداعي للمنجز النصيّ عامة ، حيث راح محي الدين اللاذقاني في كتابه (( آباء الحداثة العربية )) يبحث عن جذور تأصيلية للنص العربي الحداثي في انتاجيته النصيّة المتنوّعة ، منقبا" عن تلك العلائق التأسيسية للنص الحداثي الشعري في انطراحه النثراني ، فيقارب الحلاّج ويرى أن في (( طواسينه الارهاصات الأولى لقصيدة تتململ داخل قيدها الفراهيدي وتحاول أن تخلق شكلا" تعبيريا" جديدا" يتسع لتجربة فذة وغنية .)) .
    ولمّا كانت اللغة فعلا" يتوازى مع حركية الحياة الانسانية ، فيمارس الانسان فعله في اللغة ، فان اللغة بوجودها الحي ، هي " فعل يحيل الى الواقع ، ويعرف بكونه يمارس على أرضه " ،لذا ،يمكن أن تصبح اللغة مشاعا" انسانيّا" كبيرا" وواسعا" في آن ، لاحتمالات التغيير التي تحدث في طريقة القول والتركيب ، والانبعاث والتجدد ، والانطلاق من حيويّتها ، لتجاوز أي فعل مكرر ، أو مسعى مبتذل ، أو نمط سائد معزول عن القيم المتغيّرة والمتجددة في الحياة . ولعل هذا ما يجعل كثيرا" من الأفعال تبدو وكأنها " فعل مشبوه ، لاتسمح ممارسته أن يكون ذا فعالية تذكر ، قياسا" بالأفعال المتكاملة التي تتعلق بالانسان والتي يوصف بها تحرّكه " .
    وقد يؤدي هذا الكلام الى أن الاعتقاد بأن العرب لم توله أهميّة ، والواقع أنهم عدّوه عنصرا" هاما" ، وفارقا" في تشكيل الخطاب الشعري ، لكنهم في الوقت نفسه ، أدركو أنّه عنصر من عناصر البنية الايقاعية ، التي مردّها الى الطبع والذوق ، وبمعنى آخر ، أدركوا أنّ الايقاع كامن في الذات المبدعة ، وما الوزن الاّ بعدا" من أبعاده ، زيادة على أنّ البحور الشعريّة بتنوّعاتها الايقاعية ، ما هي الاّ استقراء لتقنيّات ايقاعيّة متداولة لشعر شعراء عاشوا : "قبل وضع الكتب في العروض والقوافي " ، وأنّ شعريّة الشعر ، كامنة في هذا البناء الايقاعي ، الذي كثيرا" ما يستمد النثر الفني بعض خصوصيّاته ، لذلك نراهم يلحّون على أهميّة الوزن لأنّ : " للشعرالموزون ايقاعا" يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه . فاذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى ، وعذوبة اللفظ ، فصفا مسموعه ، ومعقوله من الكدر ، تمّ قبوله واشتماله عليه " .
    وتجدر الاشارة الى أن النثر الفني في الأدب العربي يسير الى مأزق من وجهة نظري الخاصة ..لأن لغته ذات سحر خاصّ ،تثير المتعة الفنيّة في نفس القارىء أو السامع ، _ كما أسلفنا عند الحديث عن النثر الأدبي أو الفني – وقلّما يأتي ذلك عفو الخاطر ...فهو –أي النثر – يتحرك بخطا واسعة ، وتتقدم على بقيّة الأشكال الأدبية والابداعية الأخرى ، في الوقت نفسه فان النثر الفني الابداعي لايجد الدراسة النقديّة الكافية ، وبالتالي فانّه سيحدث جماليّات يغيب عنها النقد .. وعن رصّدها ، النقد – كما هو معروف – واسطة بين الشعر والمتلقي ، وعندما يغيب النقد فان النثر سينحرف الى مسارات أخرى .........

    المراجع والمصادر :
    -تاريخ الأدب العربي – حنّا الفاخوري
    - الفن ومذاهبه – شوقي ضيف
    -النثر العباسي – للدكتور : قحطان الفلاح
    -مقدمة للشعر العربي –أدونيس ، دار العودة ،بيروت ،ط1-1971.
    -قضايا الابداع في قصيدة النثر – يوسف حامد جابر ، دار الحصاد ،دمشق –ط1، 1991.
    -شعرية الشعر – قاسم المومني ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط1 ، 2002 .
    -الذائقة العربية لم تعتد بعد الايقاع في قصيدة النثر : للناقد الدكتور /محمود الضبع ، جريدة البعث .


    • حسين محي الدين سباهي
    • سوريا – القامشلي –ص. ب : 811
    • كاتب وشاعر

    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : النثر الفني في الأدب العربي كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.