• بالوماريس قرية أورية شهدت أشد حوادث التفجيرات النووية خطورةً





    بدأت مهمة طائرة «بي 52» من قاعدة سيمور جونسون الجوية في غرب كارولاينا حاملة أربع قنابل هيدروجينية. وكانت خطة المهمة تقضي بأن تاخذ الطائرة مساراً الى الشرق عبر المحيط الاطلسي الى البحر الابيض المتوسط، باتجاه حدود اوروبا المتاخمة للاتحاد السوفييتي السابق، قبل العودة الى الوطن. وكانت هذه الرحلة الطويلة تتطلب تزويد الطائرة بالوقود مرتين فوق اسبانيا. وبينما كانت الطائرة على ارتفاع 31 ألف قدم بدأت الطائرة القاذفة عملية تزويدها بالوقود للمرة الثانية من طائرة صهريج. وقال الرائد لاري مسنجر، وهو يستذكر ماحدث: «جئنا من خلف الطائرة الصهريج، وكنا اسرع منها قليلاً، وبدأنا نسبقها قليلاً. وكان هناك اجراء يقضي بانه اثناء التزويد بالوقود اذا شعر مشغل الذراع الحاملة للانبوب باننا اقتربنا منه كثيراً وان الوضع أصبح خطراً، فإنه يتصل بنا قائلاً (انفصلوا عنا)، ولكن أحداً لم يتصل بنا». وكانت الطائرتان تصادمتا عند ذراع حمل الانبوب وجسم طائرة «بي 52»، وحدث انفجار ادى الى فصل الجناح اليساري لطائرة «بي 52».


    اصطدمت الطائرة الخزان (محملة ب110،000 لتر من الوقود) بقاذفة القنابل الاستراتيجية (محملة ب5 أو 4 قنابل نووية حرارية) في موقع يبعد 30،000 قدم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط بينما كانا يحاولان ممارسة عملية التزود بالوقود على ارتفاع 9000 متر. دمرت الطائرة الخزان تماما، عندما أشعلت وقود حمولتها مما أدى إلى مقتل جميع افراد طاقمها الاربعة، ومقتل ثلاثة من افراد الطاقم السبعة على متن بي-52.
    بقيت اثنان من القنابل سليمة، واحدة على إحدى حقول الطماطم وأخرى في البحر. انفجر الصاعق غير النووي للقنبلتين الأخرىين مما تسبب في تحويلهما إلى شظايا وانهمرت سحب غبار من البلوتونيوم على المكان بالقرب من قرية بالوماريس. غطى اشعاع البلوتونيوم مساحة تبلغ نحو 20 كيلومتر من المناطق المجاورة.



    حجم التراب الملوث بالبلوتونيوم في بالوماريس يصل إلى 6000 متر مكعب. غيتي
    كانت الساعة 30:10 من صباح 17 يناير ،1966 عندما سمع جيسوس كاسيدو «انفجاراً مكتوماً» من قرية بالوماريس، ولم يكن لدى هذا الرجل الذي أصبح عمدة القرية أي فكرة بأنه قد شهد أحد أكثر حوادث التفجيرات النووية خطورة في الحرب الباردة، وان سكان القرية الذين يبلغ تعدادهم 1500 نسمة سيواصلون الكفاح حتى بعد مرور نحو نصف قرن تقريباً من اجل التخلص من التلوث الناجم عن التفجير. وفي نهاية المطاف صاروا يعيشون في القرية الأكثر تلوثاً في أوروبا.




    بعد مرور 45 عاماً، على وقوع اربعة تفجيرات نووية بالقرب من القرية، عندما اصطدمت طائرة عسكرية أميركية طراز «بي 52»، وطائرة صهريج للتزويد بالوقود في الجو، ما أدى الى تلويث عشرات الآلاف من الامتار المكعبة من التراب، بقي فيها نحو نصف كيلوغرام من البلوتونيوم، مع انه لم يتم تأكيد ذلك رسمياً.
    ويتزايد خطر الإشعاع النووي مع الزمن ولا يقل. وقال المتخصص في جماعة «أكسيون» للدفاع عن البيئة، اغور بارا: «مع تعفن هذا النوع من البلوتونيوم فإنه يتحول الى مادة مشعة اخرى، تدعى الامريسيوم، وهي مادة مسرطنة جداً، ويمكن ان تنتشر في الجو».
    وأضاف «ويبقى خطر التلوث الحالي محدوداً. ولكن اذا لم تجرِ عملية تنظيف سريعة، فإن المشكلة الصغيرة ستكبر باستمرار. ونظراً الى ان هذا النوع من البلوتونيوم يبلغ نصف عمره 27 ألف عام، فإن هناك فترة طويلة كي يظل بها نشطاً».


    وقال كاسيدو، الذي اصبح عمدة أقرب بلدة الى المنطقة، وهي كوفاس المنانازورا بالقرب من الميريا في جنوب اسبانيا، والتي تشرف على قضايا بالوماريس، لصحيفة «الإندبندنت» الشهر الماضي، في صباح الذكرى السنوية للحادث: «شعرنا بالضجر من هذا الموضوع على المستوى الرسمي. وفي ظل الظروف الطبيعية فإن من ارتكب هذه الحادثة يتعين عليه ان يقوم بالتنظيف، وإلا فإننا سنبقى هنا الى الابد غير مدركين لما ينطوي عليه تأثير البلوتونيوم في مستقبلنا».


    وعلى الرغم من أن كاسيدو وبقية القرويين يشعرون بالقلق من المستقبل، فإن الماضي لم يكن أقل اثارة للقلق، نظراً الى انه لم يتم الاعلان رسمياً عن النتائج التي توقفت على انتشار البلوتونيوم خلال نصف القرن المنصرم.
    ولعقود عدة بعد وقوع الحادث، استمر تشييد المباني، واقامة المزارع في المنطقة دون أية قيود.
    ولم يتم اكمال تحقيق رسمي على نطاق واسع إلا في عام .2008 وعندها فقط تم فرض سياج على اكثر ثلاث مناطق تلوثاً تبلغ مساحتها نحو 50 ألف متر مربع، وعلى شكل قطع منفصلة عن بعضها. وطبقاً لما قاله بارا فإن احدى القطع البالغة مساحتها 21 ألف متر مربع لا يوجد فيها سوى اسلاك السياج، لمنع المتطفلين من الدخول اليها، ومعظمهم من الصيادين الذين يصطادون الارانب.
    إهمال
    سواء كان سكان بالوماريس يصطادون ام لا، فإن الضرر الناجم عن النشاط الاشعاعي لايزال من غير الممكن تقييمه.
    وتشير تقارير الصحف الى ان نحو 5000 اختبار تم إجراؤها على القرويين، وكان 118 منها ايجابية للأشعة، وكان خمسة فقط يعانون مشكلة صحية متكررة. وكان من المستحيل تأكيد هذا الرقم. وقال بارا: «بصراحة أنا لا اصدق هذه الارقام، اذ انه حتى الان لا يوجد تقرير عام ورسمي بشأن حادث بالوماريس، وانما نزراً قليلاً من المعلومات من هنا وهناك، والتي تم تسريبها عمداً الى إحدى الصحف، ولاتزال القضية برمّتها مغلفة بالسرية والاهمال».
    ولكن الايام القليلة الماضية شهدت بعض التقدم. فقد قال وزير الخارجية الاسباني، ترينيداد جيمينيز، إن الاميركيين وعدوا بتقديم المساعدة في عملية تنظيف دائمة.


    وعقد كاسيدو لقاءً مع السفير الاميركي، الاسبوع الماضي، وتحدثا عن قيام فريق من الخبراء بزيارة المنطقة قريبا. ولكن نظراً الى نصف قرن من الانتظار في هذا التقدم المضطرب، فإن الناشطين مصممون على ان بالوماريس يجب ان تبقى في محط الاهتمام، ويقول بارا الذي عاش نحو 10 سنوات في نيويورك: «حتى وقت متأخر كانت الحكومات الاسبانية تعطي الانطباع بان بالوماريس غير مهمة بالنسبة اليهم. وخلال ادارة الرئيس (الأميركي السابق) جورج بوش الابن، أرسلت الادارة اربعة وفود، ولكن الحكومة الاسبانية عجزت عن الرد على المستوى ذاته».


    وفي عام 2009 وصل الاتفاق الذي يقضي بتقديم الاميركيين 30 الف يورو سنوياً للقرويين من اجل اخضاعهم للفحوص السنوية، الى النهاية. ولم تطالب إسبانيا بتجديده، وتم إلغاؤه.
    بوادر حل
    على الرغم من الاعلانات الاخيرة للنيات الحميدة، التي وصفها بارا بأنها «ودية، ولكن دون آثار عملية»، فإن القضية الشائكة المتعلقة بما يمكن القيام به بالتراب الملوث، والذي يمكن ان يصل حجمه عند تحريكه الى 6000 متر مكعب، ما يعادل سفينة شحن حاويات تقريباً، لا تزال عالقة. ولا تملك إسبانيا مكاناً لحفظ هذا التراب وعلى ما يبدو فإنها تلحّ على الولايات المتحدة أن تأخذ هذه الكمية من التراب الى خارج اسبانيا، ولكن الولايات المتحدة لم تؤكد قبولها ذلك حتى الآن.


    وبغضّ النظر عما يمكن ان يحدث الان، يبقى السؤال حول سبب التأخير 45 عاما حتى تم التوصل الى اعلان تنظيف دائم لمنطقة بالوماريس، بلا جواب. كما ان الغضب الشعبي على عقود من اهمال السياسيين في مدريد اختفى بين عشية وضحاها.
    وقال عمدة بالوماريس، خوان خوسيه لوبيز، في الذكرى السنوية الـ45 للانفجار: «لقد أهملونا ونسونا حتى هذه الايام. وجعلونا نشعر بالقلق كل هذه الايام.


    وفي عام 1966 كان سكان بالوماريس يعيشون بسلام تام. وهم لم يسمعوا بالحرب الباردة اصلاً».
    وفي عام ،1966 كان جهل السكان المحليين في هذا المجتمع الزراعي الصغير والمنعزل من جنوب شرق اسبانيا، بشأن الاحداث الدولية، يعني أنه عندما يقع حدث مرعب، ولم يتم اجلاء هؤلاء القرويين من المنطقة، فلن يهتم احد كثيراً. ومن المفارقات ان احد الحراس المدنيين المكلف بحراسة بقايا احدى القنابل أمضى احدى ليالي الشتاء القارسة متلحفاً المظلة التي كانت تحمل القنبلة الى الارض. وقام السكان المحليون بالحفاظ على قطع من القنبلة النووية المنفجرة كتذكارات.
    وقال مانويل غونزاليس، البالغ (80 عاماً)، الذي كان أعاد مسماراً الى احدى القنبلتين: «كان لدي قطعة من احدى القنبلتين استخدمتها كثقل على الاوراق كي لا تطير لأكثر من شهر، حتى أخذها مني احد الجنود الاميركيين».
    إخفاء الحقيقة
    عندما عجز المحققون الاميركيون عن العثور على قنبلة سقطت في البحر على الرغم من استخدامهم خمس غواصات صغيرة ولمدة 81 يوماً، ابلغهم صياد اسماك دفعوا له بعض المال ليكون مرشداً لهم عن مكان وقوع القنبلة بالضبط. وفي الحال اطلق على الرجل الذي اصبح ثرياً «باكو القنبلة».


    ولكن على الرغم من ان الاميركيين نقلوا 1300 متر مكعب من التراب الملوث في اعقاب الحادثة تماماً، وان واحداً أو اثنين من السكان المحليين أثروا من هذه الحادثة، الا ان الضرر البيئي الذي سيستمر لفترة طويلة يفوق اية مكاسب مالية آنية.
    وقال بارا: «تعتبر بالوماريس أكثر المناطق تلوثاً في اوروبا الغربية بالبلوتونيوم».
    وأضاف «في تلك الفترة تآمرت اسبانيا والولايات المتحدة، لعدم اثارة قلق السكان المحليين».
    وفي محاولتهم البدائية للتمويه على ما حدث، بينما يقوم الجيش ببذل كل جهوده لتنظيف بالوماريس من أي قطعة لها علاقة بالقنبلة، قام وزير السياحة الاسباني السابق مانويل فارغا، والسفير الاميركي السابق لدى اسبانيا، انغير بيدل ديوك، بالسباحة على الشاطئ المجاور امام معظم وسائل الاعلام الدولية، (ويقول فارغا الذي اصبح الان عضواً في البرلمان عن الحزب الشعبي انه لايزال يحتفظ بثـوب السباحة الذي استخدمه يومها حتى الان).
    ولكن عالم الفيزياء النووية الاسباني، فرانسيسكو كاستجون، قال لصحيفة «البايس» الاسبانية: «إننا في سباق مع الزمن، وكلما طال الزمن المستغرق في عملية التنظيف ازداد الخطر من العبور وسط هذه القرية».


    ولكن السكان المحليين يشعرون بالضجر من المسألة برمّتها، ويغضبون من فكرة ان محاصيلهم الزراعية، مثل الطماطم، سيتم بيعها تحت علامة تجارية مزيفة، قلقين من قصة الانفجار النووي. وقبل كل ذلك فإن برنامج التنظيف الذي يكلف 30 مليون يورو لم يبدأ.



    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : بالوماريس قرية أورية شهدت أشد حوادث التفجيرات النووية خطورةً كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.