• الهدية-قسطنطين بايوستوفسكي

    الهدية
    قسطنطين بايوستوفسكي
    ترجمة : رزاق الجزائري
    صاغها بتصرف طارق شفيق حقي






    ذاتها الأحاديث المكرورة تعود مع عودة الخريف كل عام ، ربما لم يخلقالله هذه الأحاديث إلا ليجمع أطراف العائلة ، ربما لينسينا عبور الغريب بسرعة ،فالشتاء عندنا طويل و قارس ، والربيع قصير نكاد لا نحس به ، أما الخريف فهو كعصفور نقر نقراً خفيفاً على زجاج النافذة ثم رحل.

    قرب بحيرة الأرجوان ، في كوخ الجد الدافئ فانوس وكانون قديم، ورائحة أشبه برائحة البخور العتيق تصدر من صدفتين ملونتين بالأبيض ومربوطتين بقطعة أثاث، كان هو يعشق سماع ثرثرتنا، يأتي عادة مصطحباً كيساً صغيراً من الفطر ،أو سلة مملوءة بالعنب البري الأحمر، وأحياناً يأتي فقط لسماع أحاديثنا أو قراءة أجزاء من "حول العالم" المجلة المهترئة ، رغم أنه لم يبق منها سوى كومة من أوراق ،كان ذلك الصبي الذي طرق الخامسة عشر هو فانيا محمدوف.

    -
    خذها ، قالها بخجل ، إنها هدية ،عليك أن تعيد زرعها في إناء خشبي، و تضعها في إحدىالغرف الدافئة،هذا سيبقيها خضراء طيلة الشتاء.

    -
    فكرة سخيفة أن تعيد غرس هذه الشجرة ، قال" منيف"،- ألستمن قال أنه يحزن على الربيع استطرد "فانيا".- إن جدي من أوحى إلي بالفكرة ،قال :اذهب قرب مكان حريق العام الماضي ستجد أشجار "الشاي" ذاتالعامين إنها منتشرة و متشابكة مثل" البابونج"حتى إنك لن تجد موطأ قدم،اقتلع إحداهن و أعطها لـ "منيف إسحاقوف "(جد فانيا كان يعرف بـ منيف هكذا)، ذلك الذي يأسف دائماً على الربيع،وستذكره به طوالالشتاء،عندما يحلّ البرد،كما إنه شيء جميل أن يمتع الإنسان ناظريه بالخضرة عندما يلف الثلج السميك الأبيض كلشيء.

    إني افتقد الربيع،قالها" منيف" وهو يفرك الأوراق الخضراءبيديه.
    قمنا بإعادة زرعها ،أتينا بصندوق خشبي مملوء بتربة الأرض وغرسناها فيه،ثم وضعناها بجانب النافذة في الغرفة الأكثر إضاءة والأكثر دفئا في البيت، و في اليوم التالي اعتدلت أغصانها وابتهجت ،وصارت أوراقها تصدر حفيفاً كلما مرَّ بها تيار هواء مقتحماًالمنزل ،هازئاً بالأبواب في حركة هستيرية.

    وحلَّ الخريف لكن شجيرتنا لم تفقد رونقها ولا اخضرار
    وريقاتها، شجيرات السجاد اتخذت لوناً أرجوانيا وشجيرات اليوغا مالت إلى الإصفرار،وقشر الأغصان الأخضر بدأ بالجفاف و الشحوب،تماما مثل شعيرات شيب وخطت رأس يافع ،و الذوائب الصفراء بدأت تظهر هنا و هنا في شجيرات الشاي في الحديقة،أما شجيرتنا فكانتأبعد من أن يغزوها هذا السقم وبقيت نضرةيانعة.

    ذات ليلة اقتحم
    النسيم البارد لبدايات الصقيع نوافذ المنازل،والسقوف التحفت بحبيبات الماءالمتجمدة،و الطرق المصقعة صارت تصدر طقطقة تحت صرير الخطى،فقط هي النجوم تظهرغير مبالية فهي أكثر لمعاناً منها في ليالي الربيعالدافئة.

    في تلك
    الليلة استيقظت على ضجةٍ خفيفةٍ ناعمةٍ صادرةٍ من الظلمة خلف النافذة، و الفجر ينشر خيوطه الأولى ،تدثرت وخرجت إلى الحديقة ،و كان النسيم البارد يخزني في وجهي فيبدد عني بقايا النعاس،طلائع الصباح بدأت تلوح من الجهة الشرقية،وزرقة السماء تراجعت تحت وطء ضباب أرجواني كأنه ناجم عنحريق،هذا الضباب المضيء الذي بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً راسماً في الفضاء البعيد سحباً بلون وردي وذهبي .

    لم تكن هناك نسمة ريح واحدة تهب على الحديقة،لكن الأوراق لم تتوقف عن السقوططيلة الليل ،و شجر الصفصاف الذي فقد كل أوراقه ظهر كئيباً حزيناًشديد الاصفرار.

    عدت إلى المنزل كان يشع فيه جو حميمي دافئ مع تسلل
    الخيوط الشاحبة الأولى للصباح،وعرجت على شجيرتي داخل صندوقها الخشبي ،فوجئتأن لونها صار مصفراً خلال ليلة واحدة،و تساقطت منها بعض الأوراق بلون الليمون أرضاً ، لم ينفعها دفء المنزل ،بعد يوم من ذلك كانت تماماً بلا أوراق كأنما أرادت أن لا تتميز عن رفيقاتها الأكبرالعارية أمام برد الغابة ورطوبة الدغل الخريفية.كان على فانيا محمدوف وجده منيف أن يكون لهما سعة صدر وتسليم ككل الناس،لقد كان لنا أمل أن نرى شجيرتنا هذا الشتاء عندما تسقط الثلوج وهي نضرة مخضرة تحت الشمس الشاحبة ،واللون الأحمر المتراقص لوهج اللهب الدافئ،ربماتذكرنا بليالي الربيعالدافئة.صديقناحارس الغابة سخر منا عندما أخبرناه بالقصة: إنه قانون الطبيعة، لو أن الأشجار لا تفقدأوراقها قبل حلول الشتاء، فسنُحصي آلاف الأموات تحتوقع الأغصان المتكسرة جراء تراكم الثلوج فوقها ،كما أن الأملاح المضرة ستتراكم فوق أوراق الشجر ،والأبخرة ستتصاعد وتخنق الجو ,والأوراق والأغصان النضرة ستستمر في النمو مجهدة الأشجار التي لا تستطيع جذورها الزحف في الأرضالمتجمدة ،و سيكون الموت المفجع والنهاية الفظيعة للأشجار،فصقيع الشتاء سيجعلها تهلك عطشاً.العجوز" متري"من جهته استلهم عبرة كبيرة من قصة الشجيرة:بني، ،قال لفانيا عندما تبلغ مثل سني تستطيع أن تتحدث كالحكماء،أتعرفأنك لا تتوقف أبداً عن إثارتي ،فهي مسالة تستحقالوقوف عندها،أنت لا تستطيع أن تعي ,أنه في صلبنا نحن الكبار وفي مثل سننا لا يصبح لدينا الكثير من الهموم مما يترك لنا الوقت لنفكر بالكثير ,ونقف على الكثير وكيف للأشياء أن تتشابك،خذ شجيرتكم كمثال، بدون أن أقف على ما قاله حارس الغابة،لأني أعلم ما قاله ،إنه محتال ، فهذاالرجل عندما كان في موسكو- أتصدق - كان يستعملطباخاً كهربائياً،هل تصدق ذلك!.- أصدق ذلك.

    -
    أصدق ذلك ،أصدق ذلك، ردد العجوز متهكماً بفانيا.إنها الكهرباء،وهل رأيت أنت الكهرباء يوماً ،وكيف تستطيع أن تراها وهي غير مرئية كالهواء.

    اسمعني جيداً بالنسبة للشجيرة،الصداقة عند البشر هي حقيقة أم لا،علينا أن نقبل بنعم،فالبشر يعطون قيمة كبرى للإيمان بالصداقة،و هي بالنسبة إليهم رصيد ثمين ومقدس،يتباهون به أمام الأحياء،لكن الصداقة يا صغيري ليست حكراً على البشر،هيعند كل الكائنات،و في كل مكان أينما أدرت رأسك،أقول لك ،هي عند البقر مثلماعند الشحرور ،فلو قتلت مثلاً ذكر الكركي تموت أنثاه حزناً لفقدانه،لأنها بدونه لا شيء،هكذا هي الحال عند الأعشاب والأشجار، فالصداقة و التعايش تربط بينهمأيضاً.

    فشجيرتك لا تستطيع أن تحتفظ بأوراقها في حين أنه في الدغل
    كل رفيقاتها فقدن أوراقهن ،كيف تستطيع أن تستقبلالربيع وهي تنعم بدفء الموقد بينما رفيقاتها كن يقاسين في العراء،كان عليها أن يكون لها ضمير , أمعقول؟!.

    -
    جدي: توقفعن قول أي شيء , أنت دائماً تعتقد أنك على صواب.هل أنت تعب أم ماذا ،دع عنك هذا التهكم لأني لن أسلمبالأمر.ورحل العجوز وأنين ضربات عصاه على الأرض تتردد ،وارتسمت على وجهه ابتسامة رضا ,فقد استطاع أن يفحم الكل هذه المرة،و جعل حارس الغابة يفهم مغزىحديثه، أعدنا زرع الشجيرة في الحديقة قرب السياج،أما أوراقها الصفراء فدفناها بين أوراق" حول العالم" مما وضع النهاية لتجربتنا في محاولة الحفاظ على ذكرى عن الربيع للشتاء.

    قسطنطينبايوستوفسكي،
    *1892-1968*
    Constantin Paoustovski*la tranche d’or*من مجموعتهالقصصية*القطع الذهبي*

    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : الهدية-قسطنطين بايوستوفسكي كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.