• الاستشراق الإسباني والتراث العربي الإسلامي بالأندلس

    الاستشراق الإسباني
    والتراث العربي الإسلامي بالأندلس
    (ميغيل أسين بلاثيوس نموذجاً)
    *** بقلم: د. فريد أمعضـشو(*)

    يندرج الحديثُ عن الاستشراق والمُسْتشرقين في ضمن سياق عامّ أثير حوله نقاش مُستفيضٌ منذ أمد بعيدٍ، وهو الحديث عن العلاقة بين الغرب والشرق في أبعادهما المختلفة. فقد اعتاد كثير من علماء الغرب ومفكّريه، ردحاً غيرَ يسير من الزمن، النظرَ إلى هذين الكِيانين الحضارييْن بوصفهما مختلفين تماماً، من مُنطلَق أن الشرق شرق، والغرب غرب، وهما لا يلتقيان! (على حد عبارة كيبلينغ) وتعمّدوا أن يقدّموا صورة نمطية للشرق والشرقيين؛ صورةً قوامُها التخلف الحضاري، والإغراقُ في التأمُّل الحالِم، والإيمان بالخُرافة والأسطورة. على حين جعلوا الغربَ منطلقَ التحضر والتمدُّن، ومنبـعَ التفكـير العقلاني والعلم والعمل. وعلى هذا الأساس، «كان الشرق، تقريباً، اختراعـاً غربياً، وكـان منــذ القِدَم الغـابر مكـاناً للرَّمْنَسَة (رومانس)، والكائنات الغريبة المُدْهِشة، والذكريات والـمَشاهد الشابِحة، والتجارب الاستثنائية»([1]).

    إن هذا التصور «المُجْحِف» للعلاقة بين الغرب والشرق أثار حفيظة كثير من رجالات الفكر والأدب في أوربا وغيرها؛ فبادروا بإعلان رفضهم المطلق له، مؤكِّدين أن طرفيْ هذه العلاقة متكاملان على نحْو جَدَليّ؛ بحيث لا يُتَصَوَّر قيام أحدهما من دون الآخر، ولا تُنتظَر حياة أحدهما وفاعليته في غياب الآخر أو تعطيله أو إقصائه. لذا، فإن الاستشراق ـ كما هو شأن الاستغراب أيضاً ـ «نزوع في الاتجاهين إلى فهْم الآخر، والنفاذ إلى صميم وَعْيه بدافع الحبّ، لا الكراهية، وذلك بُغية التوصل إلى وجود مشترَك لا تَنفي الذاتُ من خلاله الذاتَ الأخرى، على أساس الاعتقاد في هُوية ديناميكية نسبية متغيّرة مشروطة بالتعدد الماثل في نواة الذات الواحدة ماضياً وحاضراً وإمكاناً مستقبَلياً»([2]).

    ويؤكد إدوارد سعيد أن الذاتيْن المشار إليهما؛ أي: الغرب والشرق، ليستا متمايزتين مبدئياً، ونمَطيتين أصلاً؛ بحيث تقترن إحداهما بالخُمول والتخلف، بخلاف الأخرى التي ترمز إلى الجدّ والتقدم، بل إنهما ـ في حقيقة الأمر ـ وُجودان مختلفان حقا، على أكثر من مستوىً، ولكنهما مترابطان ومتكاملان في الواقع، وعبر التاريخ، ولكلٍّ منهما ذاكرتُه وخصوصياته. فالشرقُ، كما يقول سعيد «ليس حقيقة خاملة من حقائق الطبيعة، وليس مجرد وجود ثمّة بالضبْط. كما أن الغرب نفسَه ليس مجرد وجود ثمة. وينبغي أن نأخذ بجِدِّية ملاحظة فيكو العظيمة أن البشر يصنعون تاريخهم، وأن ما بمقدورهم أن يَعْرفوه هو ما صَنَعوه، وأنْ نسحب هذه الملاحظة لتنطبقَ على الجُغرافيا؛ ذلك بأن مواضع وأقاليم وأقساماً جغرافية، كالشرق والغرب، من حيث هي كياناتٌ جغرافية وثقافية ـ دون أن نقول شيئاً عن كونها كيانات تاريخية ـ هي من صُنْع الإنسان. ومن ثَمَّ، فإن الشرق، بقدْر الغرب نفسِه تماماً، هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر والصور والمُفرَدات التي أسْبغت عليه حقيقةً وحضوراً في الغرب ومن أجل الغرب. وهكذا، فإن كلاًّ من هذين الكيانين الجغرافييْن يدعم الآخَر ويعكسه إلى حدّ ما»([3]).

    إن وعي «الذات» بأهمية «الآخر» وضرورته بالنسبة إلى وُجودها ـ ونقصد بالذات، هنا، تحديداً، الشرق، وبالآخَر الغرب ـ هو الذي وجّهها، بالدرجة الأولى، إلى الاهتمام بهذا «الآخر» المختلِف عنها، وإلى ظهور الخطاب الاستشراقي في الغرب، والذي يضرب بجذوره في عُمق تاريخه الفكري والحضاري. بحيث أكد بعض المؤرِّخين أن الاستشراق بدأ على أيدي طلاب العلم الذين وفدوا على حاضرة الأندلس، وأخذوا العلوم والمعارف من علمائها وفلاسفتها وأدبائها ذوي الأصول المشرقية الإسلامية، ونقلوها إلى عُموم أوربا انطلاقاً من القرن الميلادي الثامن. وذهب آخرون إلى أن الاستشراق بدأ مع تغلُّب المسلمين على بيزنطة وروما، واستيلائهم على المناطق التي كانت تخضع لهما في المشرق والمغرب العربييْن معاً، وحدوث احتكاك واسع بين الحضارتين الإسلامية والرومانية. وأرْجع بعضُهم ظهور الاستشراق إلى الحروب الصَّليبية بين المسلمين والمسيحيين، وزعم مؤرخون ودارسون آخرون أن هذا الخطاب إنما هو نَتاج البعثات التبشيرية التي وجّهها الأوربيون إلى الشرق منذ بواكير عصر النهضة([4]). وأيّاً كان تاريخ انطلاق الاستشراق في أوربا، فالثابتُ أن ملامحَه لم تتضحْ، بصورة أجْلى، إلا مع أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، بالتزامُن مع ظهور الحركة الكولونيالية وخروج الأوربيين من قارّتهم لغزو أماكن أخرى في آسيا وإفريقيا على الخصوص.

    وبلغ الدرس الاستشراقي أوْجَهُ خلال القرن الماضي لعدة عوامل موضوعية؛ أبرزها «استقلال الدول العالمثالثية التي خضعت للقُوى الاستعمارية الغربية، وتفسُّخ عقلية أغلب المستشرقين مع انتهاء عصر الاستعمار، وظهور جيل جديد من المستشرقين الشباب الذين أظهروا نقائصَ الهيمنة الغربية وحلقات الضعف في النموذج الحضاري الغربي، والخُصوصية القومية الحضارية وحقّها في التحرر والنمو الذاتي... وظهور العلوم الإنسانية وتطورها الذي أحدث صدْمة في أذهان المستشرقين للوقوف على مدى قصور الاستشراق التقليدي وأدواته ومناهجه»([5]). وقد حاز البريطانيون والفرنسيون قصب السبْق في مجال الاستشراق الحديث، وظلت دراساتهم، في هذا الصدد، هي المهيمِنَة، وإنْ كانوا يقصرون الشرق، آنئذٍ، على مناطق جغرافية محدودة. ودخل مصطلح الاستشراق (والمستشرق) القاموس الإنجليزي منذ 1779، والمعجمَ الفرنسي انطلاقاً من عام 1838... وقد استمر الأمرُ كذلك إلى حدود حواليْ منتصف القرن العشرين، حيث آلت السيطرة على الشرق والاستشراق إلى الولايات المتحدة الأمريكية. يقول إدوارد سعيد: «الاستشراق يشتقّ من علاقةِ تقاربٍ خاصةٍ قامت بين بريطانيا وفرنسا والشرق، الذي لم يكن في الحقيقة ليَعنيَ، حتى أوائل القرن التاسع عشر، سوى الهند وأقاليم الكتاب المقدّس. فمنذ بداية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، سيطرت فرنسا وبريطانيا على الشرق والاستشراق. أما منذ الحرب العالمية الثانية فقد سيطرت أمريكا على الشرق، وهي تتناوله كما تناولتْهُ فرنسا وبريطانيا ذات يوم. ومن ذلك التقارب، ذي القوة الحيوية الخَصيبة خصْباً هائلاً باستمرار رغم كونها دائماً تجْلو القوة الأعظم نسبياً للغرب (بريطانية أو فرنسية أو أميركية)، ينبع الجسد الضخم من النصوص التي أسمّيها استشراقية»([6]).

    يتّضح لمَنْ يتصفّح كتابات المفكرين والمنظِّرين عن الاستشراق عدمُ اتفاقها على تعريف محدَّد موحَّد لمفهومه، بل قُدِّمت له جملة من التحديدات المختلفة، أحياناً، في منطلقاتها وتصوراتها وحدودها. ويبدو أنه من غير المُسْتساغ الخوضُ في هذا المضمار من دون استحضار مجهود المفكر والناقد والمقارنيّ الأمريكي، ذي الأصل الفلسطيني، إدوارد سعيد (1935- 2003م) في تعريف الاستشراق، وتناوُل القضايا المتمحِّضة له بكثيرٍ من العمق والتفرُّد، وتقديم صورة أخرى عن الإسلام والمسلمين مغايرةٍ لتلك التي كان يسعى الإعلام الأمريكي، والغربي عموماً، إلى نشرها، وتصحيح العلاقة بين الغرب والشرق في اتجاه بناء جسور من التواصل الفعّال والمُثمِر بينهما. ولم يقف عند حدِّ إظهار روح التناقض بين الرؤية الغربية للشرق وبين هذا الأخير بوصفه واقعاً مغايراً، حقيقةً، بل ذهب اهتمامُه إلى أبعد من ذلك.. إلى دراسة تكوين الخطاب الاستشراقي وفحْصه وتفكيكه من الداخل([7])، يساعدُه ـ على ذلك ـ معرفته العميقة بأصول الحضارة الغربية وطبيعة نظرتها إلى الآخر المختلف عنها، وتمكُّنُه من اللغة الإنجليزية، وتسلحه بوعي منهجي رصين. يقول أحد دارسي فكر إدوارد سعيد مؤكداً تميُّزَ مقاربته للاستشراق: «لا أعلم حتى الآن أيَّ دارسٍ من الدارسين العرب أو الأوربيين استطاع أن يرتقي بدراسة موضوع «الاستشراق» إلى مستوى التحليل الفكري المنهجي كما ارتقى به إدوارد سعيد؛ ذلك أن إدوارد سعيد لا يدرس ظاهرة الاستشراق دراسة تاريخية أو ببليوغرافية، على نَحْو ما نرى عند جلّ الدارسين، وإنما يدرسها بوصفها تنطوي على إشكالية معقدة نُسجت خيوطها بأسلوب جديد لمعرفة جديدة تتصل بعلاقتنا مع الآخر»([8]).

    «الاستشراق»، من الناحية اللغوية الصرفية، مصدر قياسي مشتق من الفعل المَزيد «استشرق» (على رأي نُحاة الكوفة)، وتفيد أحرف الزيادة في هذا الأخير (الألف والسين والتاء) معنى الطلب. وعليه، يكون اصطلاح «الاستشراق» دالاّ على طلب الشرق؛ أي: دراسة هذا الكِيان الحضاري تاريخاً ولغةً وثقافة ومعتقداً وتقاليدَ ونحْو ذلك مما يتصل به. وهو أمرٌ يجعل الاستشراق موضوعاً خصيباً لعلماء من حقول معرفية شتى، كلّ منهم يتناوله من زاويته الخاصة. يقول إدوارد سعيد معرِّفاً الاستشراق: «سيكون جليّا للقارئ... أنني أعْني بالاستشراق عدداً من الأشياء هي جميعاً، في رأيي، متبادَلة الاعتماد. إن الدلالة الأكثرَ تقبُّلاً للاستشراق دلالة جامعية (أكاديمية). وبالفعل، فإن الملصقة ما تزال مستخدَمة في عدد من المؤسسات الجامعية. فكلُّ مَنْ يقوم بتدريس الشرق، أو الكتابة عنه، أو بحْثه ـ ويسري ذلك سواء أكان المرء مختصا بعلم الإنسان (أنتروبولوجياً)، أو بعلم الاجتماع، أو مؤرِّخاً، أو فقيهَ لغة (فيلولوجياً) ـ في جوانبه المحددة والعامة على حدٍّ سواءٍ، هو مستشرق، وما يقوم هو أوْ هي بفعله هو استشراق»([9]). ودراسة الغرب لهذا الشرق لم تكن ترَفاً أو أمراً ثانوياً، بل هي ـ في الواقع ـ مدخلٌ أساسٌ لا غنى عنه لتحديد ذلك الغرب، الذي لا سبيل إلى تحديده ـ في نظر علماء الغرب ـ إلا بمُقابِله الآخر، بوصفه وجوداً حقيقياً قائماً ذا خصوصيات كثيرة. ومن هنا، فالعلاقة بين الغرب والشرق مبنية على التكامل بأوْسَع معانيه. وقد انطلق إدوارد سعيد من هذه الحقيقة الواقعية لتقديم تعريف آخر للاستشراق بوصفه «طريقة للوصول إلى تلاؤم مع الشرق مبنية على منزلة الشرق الخاصة في التجربة الأوروبية الغربية. فالشرقُ ليس لصيقاً بأوربا وحسْبُ، بل إنه كذلك موضع أعظم مُسْتعمَرات أوروبا وأغناها وأقدمها، ومصدر حضارتها ولغاتها ومنافِسها الثقافي، وأحد صورها الأكثر عمقاً وتكرارَ حدوثٍ للآخَر. وإضافةً، فقد ساعد الشرق على تحديد أوروبا (أو الغرب) بوصفه صورتها وفكرتها وشخصيتها وتجربتها المُقابلة. بيد أنه لا شيءَ من هذا الشرق تخيُّلي صِرْف. فالشرق جزءٌ تكاملي من حضارة أوروبا وثقافتها الماديتين»([10]). وقد قامت هذه الدعوة إلى التقارب بين الغرب والشرق، وتبنّاها قطاع واسع من العلماء والمفكرين في أوربا وأمريكا، في سياق خاصّ دأبَ على إقامة حدود صارمة بين الكيانين، وفي ظل قيام تيار فكري بنى تصوره للاستشراق على أساس أنه أسلوبٌ «قائم على تمييز وجودي (أنطولوجي) ومعرفي (إبستمولوجي) بين الشرق و(في معظم الأحيان) «الغرب»([11])، يرمي، في جوهره، إلى «السيطرة على الشرق، واسْتِبْنائه، وامتلاك السيادة عليه»([12]). وقد تقبّل هذا التمييزَ جمهورٌ كبير جدا من الكتاب، من مشارب واهتمامات متنوعة، وجعلوه منطلَقَهم «لسلسلة محكمة الصياغة من النظريات والملاحِم والروايات والأوصاف الاجتماعية والمَسارد السياسية التي تتعلق بالشرق وسُكّانه وعاداته وعقله وقَدَره وما إلى ذلك»! ([13])

    يشير مدلول «الشرق» إلى جغرافيا واسعة، وتاريخ ممتدّ، وكِيان ثقافي غنيّ وعريق. إنه، ببساطة، مقابل وجودي ومعرفي وحضاري للغرب. وليس العرب والمسلمون سوى جزء من هذا الشرق الكبير. ويُؤْثِر بعضُهم وصْفَ المهتمين ببحْث تاريخ العرب وثقافتهم ولغتهم ونحو ذلك بـ«المُسْتعرِبين»، وإطلاق مصطلح «الاستعراب» على عملهم ذاك. وهذا الاصطلاحُ أقدمُ من الاستشراق في الثقافة العربية؛ إذ استُعْمل فيها منذ عصر بني أميّة. فقد جاء في بعض كتب الأدب والأخبار أن الحجّاج بنَ يوسف الثقفي سأل ابن الفرية، وهو من أفصح خطباء العرب، عن أهل البحرين، فأجابه بأنهم «نبط استعربوا»، وعن أهل عمان، فأجابه بأنهم «عرب استنبطوا»، وذكر أن ذلك «يكون إما لغة أو انتساباً أو لعلاقة أخرى»([14]).

    ويُقرّ كثيرون بدور هذا الاستشراق في خدمة الشرق وأهله، وبسَبْقه إلى ذلك. فعن طريقه عُرف هذا الشرق، ونُفض الغبار عن تراثه وتاريخه ومختلِف جوانب حياته، ودُرس دراسة علمية معمّقة. وممّن أكّد ذلك كلود كاهين الذي دافع عن فكرة أن «الاستشراق هو الذي أخذ بزمام المبادَرَة في دراسة الشرق. ولولا ذلك لكان الشرقيون عاجزين عن أنْ يقولوا عن ماضيهم نصفَ ما يقولونه الآن»([15]).

    والاستشراق، في الواقع، استشراقاتٌ، لا استشراقٌ واحد، تتفق في غايتها وهدفها الأساس، وتختلف في بعض الجزئيات والتفاصيل، على مستوى المرجعيات والخلفيات والرؤى المنهجية المعتمَدَة؛ مما يُضفي عليها طابعَ الخصوصية. ولعل أهمّ المدارس([16]) في الاستشراق، خلال القرن العشرين، الذي ازدهرت فيه الأبحاث الاستشراقية وتطورت كمّا وكيْفاً، الاستشراق الإنجليزي (جيب ـ مارجليوث ـ توينبي...)، والفرنسي (ماسينيون ـ رودنسون ـ أندريه ميكال...)، والروسي (بوشكين ـ كراتشكوفسكي ـ بتغولييف...)، والألماني (فاجنر ـ بروكلمان ـ نولدكه...)، والإسباني (كوديرا ـ ريبيرا ـ بَلاثيوس...)، والأمريكي، وإنْ تأخر ظهورُه مقارنةً مع التيارات الاستشراقية المذكورة؛ ذلك بأنه لم يَعرف انطلاقته القوية إلا مع أواسط القرن الماضي، بعد توطُّد علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وانفتاحها على أبنائه باستقبالها أعداداً متزايدة من مُهاجِريه، وبإيفادها دارسين وأساتذة ومبشِّرين إلى الشرق وإقامتها مراكزَ علمية هناك توّجت، في بلاد الشام، بتأسيس الجامعة الأمريكية في بيروت، وفي مصر بإنشاء جامعة بالاسم نفسِه في القاهرة. ولا يَستبعِد بعضُهم أن تكون دراسات إدوارد سعيد (مثل: الاستشراق (1978) ـ قضية فلسطين (1979) ـ تغطية الإسلام (1981) ـ بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية (1986) ـ الثقافة والإمبريالية (1993) ـ السلام والسخط (1995)...) هي التي فتحت شهيّة الأمريكيين لإيلاء مزيدٍ من الاهتمام لدراسة شؤون الشرق عامة، وما يتعلق منه بالعالم العربي والإسلامي خاصة. ومن أقطاب الاستشراق في أمريكا روجر أوين؛ أستاذ سعيد، الذي أبرز، في كتاباته النقدية التحليلية، جملة من سَلبيات الاستشراق الغربي الكلاسيكي، وانتقد تعاملَه مع الآخر/ الشرق من منطلق علاقة مَرْكز بهامش؛ كيانٍ متفوق بآخرَ متخلفٍ! وحاول أن يصحّح عدداً من نقط قصور ذلك الاستشراق. والواقعُ أن نظرة الاستشراق، بشتى اتجاهاته، إلى الشرق لم تكن موحدة ومُنْصفة دائماً، بل إنه كثيراً ما انحرف عن قواعد البحث العلمي، وجانَبَ جادّة الصواب، وخالَفَ الحقائق؛ فأصْدَر أحكاماً على هذا الشرق تبْخسه، وتستخفّ بإسْهامه في بناء صرْح الحضارة الإنسانية، وتلصِق به ما هو منه بَراءٌ. الأمر الذي قاد إلى ظهور ردود فعل عنيفة، أحياناً، من أبناء هذا الشرق تُجاه أولئك المستشرقين، وكتابات مضادّة للوقوف في وجه ادّعاءاتهم وتصحيح كثير من أغاليطهم وأفكارهم الخاطئة.

    وإذا ما اقتصرْنا، من هذا الشرق، على العرب، لتبيان موقفهم من الدراسات الاستعرابية، التي تناولت تاريخهم وحضارتهم ومعتقدهم وغيرَ ذلك، نجد أن منهم مَنْ يُهوِّل ويضخِّم ويبالِغ في تقدير جهود المستشرقين في خدمة التراث العربي تحقيقاً وضبطاً ونشراً ودراسةً ونقداً، وكأنّ العرب أنفسَهم لم يقوموا بأي دور في هذه السبيل، على الرغم من تاريخهم المعروف في مجال العلم والأدب والمعرفة عموماً. ومُتَبَـنُّو هذا الموقف «الاسْتِلابي» من صُنْع مدرسة الاستشراق نفسها، ومن خرّيجي معاهد البعثات الغربية المنتشرة في عدد من مناطق الوطن العربي، ومن الكُتاب الذين بهرتْهم المَدَنِيّة الغربية ببَهْرَجها ومظاهرها، حتى جعلتهم لا يبصرون فيها إلا الأضواء الزاهية. ومن العرب فريقٌ هوَّن من شأن الاستشراق، وأنكر أي فضْلٍ له على التراث العربي أدباً وفكراً وعلماً، ونظر بعين الريبة إلى كل ما يصدر من المستشرقين تجاه تراثهم الحضاري، وتعامَلوا معه بأقصى درجات الحيْطة والحَذر. وهذا مذهبُ بعض حُرّاس التراث، الغَيورين عليه، الخائفين على أنْ تمتدّ إليه أيادٍ «خبيثة» فتعبث به تشويهاً وتحريفاً وطمْساً. والواقع أن كلاَ الفريقين متطرِّف في رأيه، لم يُصِبْ عين الحقيقة فيما اعتقَدَه؛ لأن الاستشراق ليس خيراً كلّه، وليس شرّا كله. بل يجمع بين الأمريْن معاً، وإنْ كان ذلك على نحْو غير متوازن في الغالب! ولذا، اتخذ كثير من علمائنا ومفكِّرينا وأدبائنا موقفاً وَسَطاً، في هذا الإطار، بين المهوِّلين المادحين والمُهوِّنين القادحين؛ موقفاً ذا رؤية مُنْصفة للاستشراق، في علاقته بتراث العرب وحضارتهم، تقرّ للمستشرقين بما لهم من أفضال وأيادٍ بيضاء على هذا التراث، من دون أي إحساس بالحَرَج أو ما شابَه ذلك، وتنبّههم ـ بالمقابل ـ على هفواتهم ومزالقهم ومكامن قصورهم في تناول شؤون العالم العربي قديمِها وحديثِها. ويشقّ هذا الفريقُ طريقه، بصعوبة، بين صَخَب المهولين والمهونين! ([17]) وإنّا لَنَميلُ إلى رأي هذا الفريق، لوَجاهته وصوابه؛ ذلك بأن للاستشراق دوراً ثابتاً ومهمّاً، لا يمكن أن يُنكره أي دارس مُنصف، تجاهَ تراثنا الفكري والعلمي والأدبي. فبفضل جهودهم تعرَّف القارئ العربي على كثير من كُنوز هذا التراث، وبفضلهم عَرفت مخطوطاتٌ عدة من ذلك التراث طريقَها إلى النشْر والوجود الفعلي. كما أنهم قدّموا دراسات عميقة في هذا المسَاق، موظِّفين طرائقَ منهجية ناجعة، ممّا جعل نتائجها تَلْقى قَبولاً واضحاً في أوساط مثقّفينا، الذين لم يكونوا يترددون في الاعتراف بما للاستشراق والمستشرقين من فضْلٍ على تراثنا. ومنهم ـ على سبيل التمثيل ـ عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) التي ثمّنت مجهودات هؤلاء المستشرقين الموضوعيين، وشهِدت لها بالجدِّية والعمق والفَرادَة، حين أكدت أن هؤلاء قد «بلغوا في دراستهم الجادّة للشرق والعربية والإسلام من التخصُّص والاستيعاب حدّا مُذهلاً. أقول هذا وأنا من أزْهَد الناس في مِثْل هذه الألفاظ الضخمة، لكني لا أجد هنا سواها ما يصف صَنيعَ هؤلاء الأجانب الغُرباء»([18]). وفي السياق نفسِه، أكد محمد الطنجي هذا الفضل الكبير لبعض رجالات الاستشراق تُجاه حضارتنا، ودورَهم في فتح أعيُننا على كثير من كنوز تراثنا الثقافي والحضاري؛ وذلك بقوله إن «خدمة المستشرقين للحضارة العربية والمدَنية الإسلامية، وحتى لعلوم الدين الإسلامي، لا تُنكر. وقد فتحوا بأبحاثهم وترتيبهم لموضوعات هذه الحضارة والمدنية مجالات شتى أمام هذه المدنية العريقة في العظمة والمجْد، والتي خلّفت للعرب ذِكراً شاهداً بما كان لهم من خدمةٍ للعلم والفلسفة والمعرفة»([19]). وأقرّ صلاح المنجد، شأنَ آخرين غيره، بسبْق المستشرقين إلى نفْض غبار النسيان والإهمال عن تراثنا الفكري والأدبي والمعرفي بنشْره، وإخراجه إلى الناس محقَّقاً، متوسِّلين، إلى ذلك، بمناهج علمية دقيقة تركت أثرها الواضح في صفوف الباحثين العرب، وحاولوا ركوبها على سبيل التقليد، فجاءت محاولاتهم ـ في هذا الإطار ـ موفقة حيناً، وغير موفقة أحياناً. يقول: «كان المستشرقون قد سبقوا إلى نشْر هذا التراث منذ أكثر من مئة عام، فنَشروه متّبعين نهْجاً علمياً دقيقاً... وشاء العرب أن يحذوا حذوَ المستشرقين في تحقيق النصوص؛ فنجح أناسٌ أوتوا العلم والمنهج العلمي، وأخفق آخرون أعْوزَهم المنهج الذي ينبغي اتباعه في النشر. وحاول هؤلاء ستْر نقصهم هذا بالغضّ مما نشر المستشرقون... ثم زاد الاستخفاف بما نشر المستشرقون وبالمنهج الذي اتبعوه، عن جهل بالمنهج العلمي وعصبية ضدّه... ومن الإنصاف أن نقرر أن المستشرقين كان لهم فضل السبْق في نشر تراثنا العربي... وأنهم أولُ مَن نبّهنا إلى كُتبنا ونوادر مخطوطاتنا، وأنهم وضعوا بين أيدينا نصوصاً لوْلاهم لم نَعْرِفْها»([20]). وإن اعترافَنا بالإسهام الإيجابي لمستشرقين في خدمة تراثنا، لا يمنعنا ـ بالمقابل ـ من الاعتراف بحقيقة أخرى مضادّة، وهي أن كثيراً من المستشرقين المُغرضين الحاقدين لم ينصفوا هذا التراث، بل كانت كتاباتهم عنه «سُموماً» أضرّت به، وسَعَتْ إلى تشويه صورته الحقيقية، وطمْسها ظلماً وعدواناً، وقدّمت معطيات مغلوطة عنه؛ مما جعل كثيراً من الباحثين المدققين المحققين لايلتفتون إلى كتاباتهم، ولا يعتمدونها في أبحاثهم، بل يكتفي أغلبهم بانتقادها والتنبيه على نقائصها وعلى عدم سلامة نيّات أصحابها!

    وممّا لا شك فيه أن الاستشراق الإسباني يعد أحد أبرز التيارات الاستشراقية التي قدمت خِدْماتٍ جليلةً للتراث العربي الإسلامي، في مجالات الفكر والأدب والعلوم، تجميعاً وتكشيفاً وتحقيقاً ونشراً ودراسةً وترجمة، منذ القرن الثاني عشر الميلادي، ولاسيما ما يتعلق منه بالحقبة التي قضاها المسلمون في بلاد الأندلس؛ لأن هذه الحقبة التاريخية من عُمْر إسبانيا الحالية كانت مزدهرة علميا وثقافيا وحضارياً، وأعْطت إشعاعاً قوياً لتلك المنطقة وَصَل مَداه إلى عموم أرجاء أوربا التي كانت تتخبّط، عَصْرئذٍ، في ظلمات الجهل والتخلف والهمجية، على حين كانت الحضارة العربية الإسلامية تعيش أوْجَها مشرقاً ومغرباً، وتنشُر أنوارَها على العالم أجْمَع. وقد اعترف كثيرٌ من المستشرقين الإسبان بأهمية فترة الوجود الإسلامي بالنسبة إلى إسبانيا ماضياً وحاضراً، ومنهم بيدرو مونتابيث الذي أكد أن «إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام وحضارته. وكانت بذلك باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوربية المُجاوِرة»([21]). ولذلك، فقد شكّل طرْد المسلمين من شبه الجزيرة الإيبيرية نهائياً، عام 1492، خسارة حقيقية مؤلمة لهذه المنطقة، التي فقدت، بسبب ذلك، وَهجَها العلمي والحضاري، ودخلت، مجدّداً، في غيابات التخلف والركود والتقهقر في مدارج التحضر والعلم. يقول الكاتب الإسباني أنطونيو غالا، المعروف بمواقفه المتعاطِفة مع الثقافة العربية والإسلامية: «عندما تمّ تسليم غرناطة، أصبحت إسبانيا فقيرة منعزلة لمدة قرون، وأصبحت الدول المسيحية بها هَرِمَة بعد أنْ أفَلَت شمسُ الحضارة السامية العربية الإسلامية. عندئذٍ، انتهى عصر العلم والحكمة والفنون والثقافة الرفيعة والذوق والتهذيب»([22]).

    والواقعُ أن للاستشراق الإسباني عدةَ خصوصيات تميّزه من باقي الحركات الاستشراقية في الغرب؛ منها احتكاكُه المباشر بالثقافة الشرقية، ممثَّلةً ـ بالأساس ـ بالتراث العربي الإسلامي في بلاد الأندلس الذي شُرع في بناء صرْحه منذ القرن الهجري الثاني، وتأثرُه بها منذ وقت مبكر، وتناوله كثيراً من متونها الأدبية والفكرية والعلمية، بالدرس والتحليل، باعتماده جملة من الرؤى المنهجية الفعّالة. ولم يخرج دافعُ أهل الاستشراق الإسبان الأساسيُّ إلى الاحتفال بتلك الثقافة عموماً، وبالتراث العربي الإسلامي في الأندلس خصوصاً، عن الهدف الرئيس الذي يقبع وراء الاستشراق الأوربي والغربي بصفة عامة، والمتمثل في وَعْيهم بضرورة استحضار «الآخر» لدى إرادة تحديد هُويتهم، والتعرف إلى أنَاهُم، وهذا الآخر إنما هو التراث الذي ذكرْناه آنفاً، لاسيما وأنه يشكل جزءاً لا يتجزّأ من ذاكرة إسبانيا وهويتها الحضارية الممتدّة في أعماق التاريخ. يقول محمد عبد الواحد العسري، وهو باحث مغربي مهتم بالدراسات الاستشراقية الإسبانية على وجه التحديد، مؤكداً هذه الفكرة، في حوار أجْرِي معه: «لا يجب أن ننْسى أبداً بأن اهتمام المستشرقين الإسبان بهذا التراث قد اقتضتْه منهم ضرورة تعرُّفهم إلى ذاتهم، وتحديد هويتهم الغربية، وتأسيسها بالنظر إلى نقيضها والمختلف عنها؛ أي إلى آخَرها: الشرق، المتمثل، في حالتنا هذه، في التراث العربي الإسلامي الأندلسي. ولا غرو في ذلك، ففكرة الذات، أو الأنا، في الفكر الأوربي، لا تقوم ولا تكتسب معناها إلا في مقابل مفهوم «الآخر». وعندهم؛ أي: لدى الأوربيين، أو على الأصحّ في الفكر الأوربي، بأن الهوية لا تُوجِد الغَيْرية، بل العكس هو الصحيح. ناهيك عن أن مفهوم «الأنا» في الفكر الأوربي يقتضي في ذاته ضرورة وجود «آخر»، ليكون موضوع سيطرة هذه «الأنا» وهيْمنتها عليه. وغنيٌّ عن البيان بأن الاستشراق الذي نتحدّث عنه، مهما تميَّز عن غيره من الاستشراقات الأوربية القُطْرية الأخرى، فإنه يصدر مِثلها عن هذا الفكر وتصوّراته عن الأنا والآخر. لذلك، لا يجب أن يغيب عنّا أبداً بأن أي استشراق لا يمْكنه أن يبتعد أبداً عن فكرة أوربا، كما لا يمكن أن يفهم، من حيث كونُه طلباً غربياً للشرق، خارجَ إشكال الهوية والغيرية»([23]).

    إن نظرة المستشرقين الإسبان إلى التراث العربي الإسلامي بالأندلس لم تكن بالصورة المذكورة دائماً؛ أي: مَبنية على الاعتراف الصريح بفضله العميم على إسبانيا وعلى أوربا كلها، وقائمة على اعتبار ذلك الموروث الغني جزءاً أصيلاً من التاريخ الإسباني، ولحظة من لحظات إشعاعه الفكري والثقافي، ومحدِّداً مركزياً للذات الإسبانية وهويتها الحضارية المتميِّزة. بل إن ثمة مستشرقين إسبانيّين لهم نظرة مُخالِفة لهذا التراث، تصل أحياناً إلى حدّ استصغاره وإنكاره. وعلى العموم، يمكننا تقسيم حركة الاستعراب الإسباني، التي أخذت في الانتعاش منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلى أقسام، حصرها أحدُهم، وهو الباحث المصري حامد أبو أحمد، في أربعةٍ أساسيةٍ([24]). بحيث ينظر أحدها إلى الإسلام والعروبة وتراثهما نظرة استخْفافٍ تضْمر حقداً دفيناً لهما، ولا يدع أي فرصة سانحة تمرّ دون أن يكيل السباب والنعوت القادحة للعرب والمسلمين في الأندلس، وفي غيره من بلاد دار الإسلام، بعيداً عن روح البحث العلمي الموضوعي، ويعد كلاوديو ألبُرْنوس من أبرز مُتبَنِّي هذا الموقف تجاه التراث العربي الإسلامي. ويضم القسم الثاني جماعة من المستعربين الإسبان (مثل رامون بيدال) الذين اتجهوا، بأبحاثهم، إلى النّبْش في جذور الثقافة الإسبانية، التي يشكل ميراث العرب والمسلمين في الأندلس أحدَ روافدها الأساسية، ولكنهم لم يكونوا متخصِّصين في دراسة ذلك الميراث، بل كانوا يعتمدون على كتابات غيرهم ممّن عُرفوا باهتمامهم الكبير بالبحْث في الثقافة العربية الإسلامية الأندلسية. ويضم القسم الثالثُ جماعة من المستشرقين والمستعربين المتخصصين الذين بذلوا جهداً كبيراً في التنقيب في التراث العربي الإسلامي ببلاد الأندلس، وبحْثه، ودراسته بعد تحقيقه وفهرسته؛ على نحْو ما فعل ريبيرا، وأنخيل غونثاليث بالنسيا، وغارسيا غوميث، وفيرناندو دي لاگرانخا، وبيدرو مونتابيث، وكارمن رويث براï******و، وبلاثيوس. ويمثل القسمَ الرابع لفيفٌ من المثقفين الإسْبان المعاصرين الذين لم يعرفوا اللغة العربية، ولكنهم أدركوا أهمية التراث الفكري الذي خلّفه مسلمو الأندلس، طَوالَ مدة وجودهم في إسبانيا، من خلال الاطّلاع على الكتابات التي أنجزها مُسْتعربو القسم السابق بالأساس؛ فبادَروا بالتوسُّع في دراسة هذا التراث، واستيحائه فيما يكتبونه شعراً ونثراً، وتعلم العربية، أحياناً، بوصفها المفتاحَ الذي به يستطيعون التعمُّق في تناول ذلك التراث الزاخر، وفهْمه بعمق. ومن هؤلاء خوان رامون خيمينيث، ومانويل ماتشادو، وفيديريكو غارسيا لوركا، وخوان غويتيسولو الذي آثَرَ الاستقرار في مراكش منذ سنوات.

    ومن بين هؤلاء المستشرقين الإسبان جميعاً يلوح اسمُ المستعرب الكبير ميغيل أسين بلاثيوس الذي كانت له أيادٍ بيضاء ـ لا يمكن إنكارُها ألبتّة ـ على الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس، إلى حدود سقوط غرناطة في أيدي النصارى أواخرَ القرن الخامس عشر، وخَدَمَها كثيراً؛ كما يتضح من تصفح مؤلفاته المتعددة عن تلك الثقافة([25]). وقد وُلد هذا المستعربُ بسرقسطة، عامَ 1871، لأبٍ متوسطِ الحال (بابلو أسين)، توفي تاركاً ابنَه هذا صغيرَ السن، لتتحمّل أمه مسؤولية تربيته وتعليمه. درَس الابتدائي والثانوي بمدينته، الواقعة ضمن تراب مقاطعة أرَغون، إلى حين حصوله على البكالوريا. وكان يَنوي متابعة دراسته الجامعية في كلية الهندسة، ولكن ظروف أسرته المادية الصعبة لم تسمح له بذلك، لاسيما وأن الأمر كان يستلزم الانتقالَ إلى خارج سرقسطة، وتحمُّل أعباء كثيرة إضافية. لذلك، غيَّر رأيَه ذاك ليلتحقَ بأحد المعاهد الدينية بمدينته، وتخرّج منه، عامَ 1895، قسّيساً، عُيِّن مباشرةً في كنيسة سان كيتانو بسرقسطة. وكان يتردّد، خلال فترة دراسته بهذا المعهد، على كلية الآداب، التي تعرّف فيها إلى المستشرق الكبير خوليان ريبيرا، وتتلمذ له، واستفاد من علمه كثيراً، وتلقى منه مختلِف أشكال الدعم مادياً ومعنوياً. وقد عُرف عن ريبيرا دفاعُه المُسْتميت عن تأثر الشعر الأوربي الوسيط بالشعر العربي الأندلسي، ولاسيما بشقّه الشعبي مُمَثلاً بأشعار ابن قزمان وأزجاله.

    وبعدما أنْهى دراسته الجامعية، في كلية الآداب، عمل مدرّساً لتاريخ الفلسفة في جملة من المعاهد الدينية لَمّا لمْ يستطعْ تحقيق أمْنيته المتجلّية في العمل مدرِّساً للُّغة العربية، لعدم توفر منصب شاغر في هذا الإطار. وحين علم أستاذه ريبيرا بالأمر، وكان يتولى منصب تدريس اللغة العربية في جامعة مدريد، طلب إحالته على التقاعُد قبل بلوغه السنَّ القانونية لذلك، ليفسح المجالَ لتلميذه النجيب، الذي شَغَل منصبَه ذاك، ناهجاً نهْج أستاذه في القيام بالواجب خيرَ قيام، دونما أي تقصير، وأعانه في ذلك ما تحلى به من خُلُق رفيع، وعلاقته المتميزة بطُلاّبه. فقد كان «نموذجياً في سلوكه، دقيقاً في موعده لا يتخلف عن درْسه، ولا يتأخر عن محاضراته، مُجيداً في عمله. لا يبخلُ بشيءٍ على طلابه، ويتخيّر النابهين منهم فيُعْطيهم دروساً خاصة، ثم يدعوهم إلى بيته، ويفتح أمامهم مكتبته، ويُهاديهم نُسخاً من «ألف ليلة وليلة»، وألّف لهم في قواعد اللغة العربية مختصَراً بسيطاً منظماً خير ما ألّف في بابه، يدرُسه الطلاب في شهرين، وبعدهما يستطيعون أن يترجموا نصوصاً من اللغة العربية إلى الإسبانية، وأنْ يحللوا هذه النصوص بمساعدة المعاجم([26]). وأشرف، طوال مدة عمله بجامعة مدريد المركزية، على عدة أبحاث ذات صلة بالتراث العربي الإسلامي الأندلسي وتأثيراته في الثقافة الأوربية قديماً وحديثاً، ورَأَسَ معهد الدراسات العربية الذي أنشئ، عام 1932، بمدريد، وحصل على عُضوية ثلاث أكاديميات؛ هي أكاديمية اللغة الإسبانية، والأكاديمية الملكية للعلوم الأخلاقية والسياسية، وأكاديمية التاريخ. وانتُخِب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق. وحاز شهادة الدكتوراه، من الجامعة التي كان أستاذاً فيها، عامَ 1901، بأطروحةٍ عن اتجاهات الغزالي الصُّوفية والفكرية، بتقدير «ممتاز». وشارك في عددٍ من مؤتمرات المستشرقين؛ كالمؤتمر الدَّوْلي للمستشرقين الذي انعقد في الجزائر عام 1905، والمؤتمر الدولي للمستشرقين الذي انعقد في كوبنهاجن عام 1908.

    لقد خلف بلاثيوس، المتوفى سنة 1944، حوالي خمسين ومائتيْ مؤلَّفٍ ما بين بحثٍ صغير وكتاب متوسطِ الحجمِ أو كبيرِه، نشر أولَها في أواخر القرن التاسع عشر. وباستثناء أبحاث قليلة نُشرت بعد وفاته على يد تلاميذه، فإن الغالبية العظمى من أعماله ظهرت خلال حياته سواء في كتب مستقلة أو في مجلات متخصصة؛ مثل مجلة «الأندلس» التي كان واحداً من مؤسِّسيها، وكانت تُعْنى، في المحلّ الأول، بنشْر أبحاث المستعربين المتمحْورة حول التراث العربي الإسلامي الأندلسي. وتتصل مؤلفات بلاثيوس بميادين الأدب والتاريخ واللغة والتصوف والفلسفة وغيرها، مع تركيزٍ واضح على هذا المجال الأخير، وأقصد التراث الفلسفي والفكري العربي ببلاد الأندلس، بوصفه جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ الفكر الإسباني، وعلامةً من علامات إشعاعه في لحظةٍ مضت، وبوصْف رجالاته «مفكرين إسبانيين، ولكنهم مسلمون»([27]). والملاحَظ أن أكثر أبحاث بلاثيوس وأعماله الأدبية والفكرية تنصرف إلى إبراز أثر الإسلام في المسيحية، وفي الفكر والأدب الأوربييْن.

    اهتم بلاثيوس، منذ بداية شبابه، بدراسة شخصية أبي حامد الغزالي وتوجُّهها الروحي والفكري، وتوِّج ذلك بإنجازه بحثاً عنها لنيل الدكتوراه، أشرْنا إليه آنفاً. وشرع في نشْر دراساته عن هذا المفكر مُذْ بحثه هذا في مطلع القرن الماضي، وتلتْه سلسلةُ مقالاتٍ نشرها بلاثيوس عن الغزالي، عام 1902، بعنوان «علم النفس الإيماني حسب الغزالي، في مجلة «أرغون» بسرقسطة. ونشر، عامَ 1906، بمدريد، بحثاً عن نفسانية الوَجْد الصوفي لدى الغزالي وابن عربي، بعنوان «سيكولوجية الإشراق عند المتصوِّفين المسلمين الكبار: الغزالي وابن عربي في الثقافة الإسبانية». وكتب دراسة، باللغة الفرنسية، عام 1906، أبرز فيها دلالة لفظة «التهافت» لدى كلٍّ من الغزالي وابن رُشد، نشرها في «المجلة الإفريقية» بالجزائر. ونشر بحثاً، بالفرنسية كذلك، عن تصوُّف الغزالي، في منوعات الكلية الشرقية ببيروت، عام 1914. وقدّم قراءةً في كتاب الغزالي الموْسوم بـ«المدخل إلى العلوم»، نشرتها جامعة سرقسطة، عامَ 1924. ونُشر له، بمدريد، عام 1925، ضمن تأليفٍ جماعيّ، بحثٌ عنوانُه «ملخص لعلم قواعد الحقوق لدى الغزالي». وآخرُ أعمال بلاثيوس المنشورة عن هذا الأخير هو «روحانية الغزالي (أو مذهبه في التصوف)»، صدَر خلال فترة الحرب الأهلية بإسبانيا، في أربعة أجزاء معظمُها عبارة عن ترجمة لأهم فصول «إحياء» الغزالي. وترجم قبل ذلك، في 1929، كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد»، مُرْفَقاً بشروحات وتعليقات مستفيضة.

    وخَصَّ بلاثيوس الصوفيَّ والمفكر محي الدين بن عربي بجملةِ بحوثٍ نشر أولَها بمدريد، عام 1899. وكتب، في العام 1906، دراسة عن سيكولوجية الإشراق الصوفي لدى ابن عربي والغزالي، ذكرْناها سابقاً. وصدرت له، عام 1907، دراسة، في ضمن كتاب جماعي هو حصيلة تجميع أشغال مؤتمر دولي للمستشرقين، بعنوان «علم النفس عند محي الدين ابن عربي». إلا أن أبرز كتاباته عن هذا الصوفي تلك التي نشرتْها له أكاديمية التاريخ، بمدريد، ما بين 1925 و1928؛ وهي «الصوفي المُرْسي ابن عربي»، و«معلومات عن حياة ابن عربي مستمَدَّة من رسالة القدس»، و«الخصائص العامة لمذهب ابن عربي»، و«مذهب ابن عربي في التوحيد ونظرته إلى الكون». ونشر بلاثيوس، بعد هذه الكتابات، دراسةً أخرى عن ابن عربي، في مجلة «الزهد والتصوف» الفرنسية، بعنوان «مِنْ تصوف ابن عربي: الأحوال والمنازل و الكَرامات»، قبل أن يختم أبحاثه عن هذا العالم بكتابه «ابن عربي: حياته ومذهبه»، الذي عَرَّبه المرحوم عبد الرحمن بدوي، في منتصَف الستينيات، وقِوامُه ثلاثة أقسام أفْرَد أولها للترجمة لابن عربي، وثانيها لبيان مذهبه في التصوف، وضمَّن ثالثها نصوصاً مُترْجَمة من سبعةٍ من كتُبه. ومِمّا حاول المؤلِّف إثباتَه في كتابه هذا تأكيدُ وجود تأثير إسلامي قويّ في التصوف الإسباني المسيحي خلالَ عصر النهضة، ولكنّ دفاعه، ها هنا، لم يستندْ على وثائق مكتوبة أو أدلة ثابتة تبرز حصول ذلك التأثير بالملموس، بل كان أكثره عبارة عن نظرات وفرضيات!

    ومن مفكِّري الإسلام وأدبائه وفقهائه بالأندلس الذين حظوا باهتمام بلاثيوس ابنُ حزم القرطبي الظاهري. ولعل أقدم ما كتبه، في هذا النطاق، دراسته الموسومة بـ«عدم الاكتراث بالديانة في إسبانيا الإسلامية حسب رأي ابن حزم مؤرِّخ الأديان والمذاهب في الثقافة الإسبانية»، وهي مكتوبة بالفرنسية، ومنشورة عام 1907. وكذلك دراستُه «الأخلاق الحكيمة لابن حزم» التي نشرها، في حلْقتين، بمدريد، عام 1909. وترْجَم بلاثيوس إلى الإسبانية، عام 1916، كتاب «الأخلاق والسّير في مداواة النفوس»، الذي عَدّه عملاً شبه أوتوبيوغرافي. وألقى محاضرة، عام 1920، بأكاديمية التاريخ الإسبانية، في موضوع «ابن حزم القرطبي أول مؤرخ للفكر الديني». ونَشرت له هذه الأكاديمية نفسُها، ما بين 1927 و1932، كتاباً عن ابن حزم، في خمسة أجزاء، نشَر بين دفّتيْه تأليفَه المعروف «الفصل بين الملل والأهواء والنِّحَل»، الذي أرَّخ فيه لمختلِف المذاهب والأديان، بدءاً من الإلحاد المطلق إلى إيمان العوامّ الذين يصدّقون أيَّ شيء!، مع دراسة مفصّلة لإسْهامه في نقد الفكر الديني. ولبلاثيوس دراسةٌ عن كتاب «طوق الحمامة في الأُلْفة والألاّف» لابن حزم، أنجزها اعتماداً على مخطوطة الكتاب الوحيدة الموجودة بإحدى مكتبات هولندا العريقة، قبل أن يتولى بتروع¤ نشْرَها فيما بعدُ.

    علاوة على الفلاسفة الثلاثة المذكورين، نجد لبلاثيوس كتاباتٍ عن مفكرين مسلمين آخرين بالأندلس؛ منهم ابنُ باجة السرقسطي الذي كتب عنه سلسلةً من ثماني مقالات، نشرها في مجلة «أرغون»، خلال عاميْ 1900 و1901، وابنُ طُفيْل الذي كتب عنه سلسلة من ثلاث مقالات، نشرها في المجلة نفسِها، عام 1901، وابنُ رشد الذي تناول جانباً من تفكيره وتأثيره في بعض اللاهوتيين المسيحيين، في مداخلته التي شارك بها في تكريم المستعرب الإسباني الكبير فرانسيسكو گوديرا، عام 1904، بعنوان «الرُّشْدية اللاهوتية عند القدّيس طوماس الإكويني». ومنهم، أيضاً، محمد بن مسرة القرطبي، المتوفى سنة 318 هـ، الذي خصَّه بدراسة قيّمة عن سيرته ومذهبه الفكري، ألْقاها بمناسبة استقباله في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية بمدريد، عام 1914، وذكر فيها ـ من ضمن ما ذكر ـ أن ابن مسرة يعد أول مفكر أصيل أنجبته بلاد الأندلس الإسلامية، وكان يُخفي آراءَه وراء زُهْده وتصوفه، وقد ضاعت كتبه كلها، ما عدا «كتاب التبصرة» و«كتاب الحروف»، وتركت أفكاره أثراً بارزاً في فلاسفة الأندلس الذين جايَلوه والذين أتوا من بعده أيضاً.

    إن اهتمام بلاثيوس بالتراث العربي الإسلامي الأندلسي لم ينحصر في المجال الفكري فقط، بل إنه عتنى بجوانبَ أخرى من هذا التراث تصوفاً وأدباً وتاريخاً وعلوماً، ناظِراً إليها بوصفها جزءاً من التاريخ الثقافي الإسباني، أثّرت في أدب إسبانيا وعلومها بصفة عامة. ففي مجال التصوف، كتب، مثلاً، عام 1933، بحثاً أبرز فيه أثر المتصوِّف الأندلسي ابن عباد الرُّنْدي الشاذلي في القدّيس يوحنّا الصليبي منطلِقاً ممّا لاحظه من تشابُه كبير بين مذهبيْهما في التصوف، ومن سبْق أولهما زمنياً. ونشر بلاثيوس دراسة عن أحد زُهّاد ألْميرية، وهو أبو العباس ابن العريف، وعن مؤلّفه الموسوم بـ«محاسن المجالس»، مرّتين؛ مرةً باللغة الإسبانية (مدريد ـ 1931)، ومرةً باللغة الفرنسية (باريس ـ 1933). وفي المجال الأدبي، ترك بلاثيوس عدة تآليف وأبحاث ذكرْنا بعضها سابقاً، ونضيف إليها دراسةً كتبها عن «الحيوان» لأبي عثمان الجاحظ، وإنْ كانت من غير الأدب الأندلسي، ونشرتها له جامعة مدريد، عام 1930. وفي مجال التاريخ، نذكر ـ إلى جانب «الفصل» ـ دراسته، مثلاً، عن «أصل ثورة الموحّدين وطبيعتها»، المنشورة في مجلة «أرغون»، عامَ 1904. وفي المجال العلمي نشير، مثلاً، إلى دراسته التي نشرها بمدريد، عام 1942، عن عالِم نباتيّ أندلسي مجهول. ومن أبحاث بلاثيوس الأخرى التي يحسُن بنا ذِكْرُها، ها هنا، مقالته الرامية إلى «التعريف بالمخطوطات العربية الموجودة في الجبل المقدس بغرناطة»، والتي نشرها في مجلة مركز الدراسات التاريخية لإمارة غرناطة، عام 1912، ودراسته الموسومة بـ«التأثيرات الإنْجيلية في الأدب الديني الإسلامي»، والتي نُشرت في كامبريدج، عام 1922، وأوْضَح فيها أن العلاقة بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية قائمة على التفاعُل، وليس على التأثير الأحادي فقطّ؛ أي تأثير الأولى في الثانية فحسبُ! ومن الكتابات التي كرّسها بلاثيوس لإثبات تأثر الإسْبان بالأدب والفكر الإسْلامييْن بحْثُه المُعَنْوَن بـ«الأصول العربية لرواية العجمية (حمام زرياب)»، والذي ألقاه بمناسبة مشاركته في حفل تكريم رامون مينيديث بيدال؛ المستشرق الإسباني المختصّ في تاريخ إسبانيا خلال المرحلة القُرُوسطيّة، بمدريد، عامَ 1924، وبحثُه عن «المؤثرات الإسلامية في القدّيس طوماس الإكويني، وتورميذا، وباسكال، وسان خون دي لاكروث» (1941)، وكان من أبرز ما كشفه، في هذه الدراسة المعمّقة، سرقة الراهِب الثاني ـ وكان قد أسْلم بتونس ـ لبعض ما ورد في رسائل إخوان الصفا، وعَزْوِه إلى نفسه! ولبلاثيوس درسة نفيسة عن أسماء الأماكن الإسبانية ذات الأصل العربي، عنوانُها «مساهمة في تحديد الأعلام الجُغرافية العربية الأصل في إسبانيا»، نُشرت مرتين، خلال النصف الأول من أربعينيات القرن المنصرم... وتجدُر الإشارة إلى أن عديداً من أبحاث بلاثيوس ومقالاته عن أثر الإسلام في المسيحية والثقافة الأوربية عموماً قد جمعها في كتابٍ ضخم قيّم، أصدره عامَ 1941، بعنوان «تأثيرات الإسلام»، مقدِّماً له بتمهيدٍ مركز أوْضَح فيه منهجه في تأليفه، ومقاصدَه من وراء دراسة المتشابهات والتأثيرات بين الطرفين المذكورين.

    ولعل أهمّ عمل اشتهر به بلاثيوس هو كتابه «الأخْرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية» (La escatologia musulmana en la divina comedia)، الذي هو ـ في الأصل ـ بحثٌ قدّمه بمناسبة تعْيينه عضواً في الأكاديمية المَلَكية الإسبانية، في يناير 1919، وكان بمثابة «قنبلة كبْرى» كما قال عبد الرحمن بدوي([28])؛ لأنه أكد فيه، بالحُجّة والبرهان، تأثرَ الشاعر الإيطالي الكبير دانتي (Dante)، في تأليف ملحمته الخالدة «الكوميديا الإلهية»، بالإسلام وتصويره للعالَم الآخر بفردوْسه وجحيمه، منطلِقاً ممّا لاحظه من تشابُه بارز بين ما ورد في هذه الرائعة وبين ما جاء في القرآن الكريم بشأن الإسراء والمعراج، وما في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعرّي، التي تصوّر رحلة متخيّلة إلى العالم الآخر في قالب قصصي، وما في بعض كتب ابن عربي، ولاسيما «الفتوحات المكّية»... وهذه المُتونُ سابقة، زمنياً، على كوميديا دانتي. إن هذه النصوص جميعَها تصف العالم الآخَر، بطرق تعبيرية مختلفة، متأثرةً، بشكل أو بآخر، بقصة المعراج الإسلامية، الواردة في القرآن الكريم، والتي تحكي صعود النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، ليلةَ الإسْراء، على متن البُراق، إلى السماوات السبع، صُحْبةَ جبريل عليه السلام، وتصف ما شاهده، خلال رحلته، من أحوال الجَنّة والنار، وأصناف المنعّمين والمعذبين. ومن أقوى نُقط التشابُه بين ما ورد في التراث الإسلامي المشار إليه وما جاء في «الكوميديا الإلهية» أن دانتي، كذلك، كان مصحوباً، خلال رحلته، بمَنْ يدلّه على الطريق، وهو «بياتريس» التي رافقته إلى حدّ معلوم، قبل أن يواصل به المَسير هادٍ آخر هو «برناردو». ولم تكن مهمة هؤلاء الأدلاّء، في المتون المذكورة، مجرد الإرشاد والهداية، بل كانوا يدْعون الزائر إلى تأمُّل المشاهد التي تتراءى له، والكونِ الذي يبدو من السماوات العليا غايةً في الصِّغر. وعلى غرار المصادر الإسلامية التي تتحدث عن الصِّراط، تحدّث دانتي عن الأعراف (Purgatorio)، بوصفها طريقاً تتخلله عقبات يصعب اجتيازها والمُرور عليها.

    إن بلاثيوس ـ في الحقيقة ـ لم يكن أول مَنْ أثار مسألة التشابُه بين كوميديا دانتي والتصويرات الإسلامية للدار الآخِرة، بل سَبَقه آخرون غرباً وشرقاً؛ منهم المستشرق الفرنسي بلوشيه، الذي كتب مقالاً، عامَ 1901، بعنوان «المصادر الشرقية للكوميديا الإلهية»، أكّد فيه ذلك التشابه، مرجِّحاً فكرةَ تأثر دانتي بالإسلام في تأليف ملحمته تلك. ومنهم سليم البستاني، في مقدمة ترجمته «للإلياذة» (1904)، التي أجْرى فيها مقارنة بين «رسالة الغفران» و«الكوميديا الإلهية»، خلَص منها إلى تأكيد رأي بلوشيه عَيْنِه. ولكنّ هذين الرأييْن كانا أقرب إلى اللمحات والانطباعات السريعة، التي تفتقر إلى سنَد قويّ، وإلى حُجَج دامغة تُقنِع بوجود تأثير إسلامي في رائعة دانتي. وهو الأمرُ الذي امتازت به دراسة بلاثيوس «الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية»، التي صدرت طبعتها الثانية بمدريد عام 1943، وطبعتها الثالثة بعد وفاة صاحبها (1961)، حيث أكّدت، اعتماداً على منهج قويم في الدراسة، وعلى كثيرٍ من الأدلة والدعامات الحِجاجية، أن للإسلام تأثيراً بارزاً في تلك الكوميديا، وأن فكرتها مستوْحاة منه سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لاسيما وأن بعضهم أثبت أن قصة المعراج الإسلامية تُرْجمت إلى أكثر من لسان أوربيّ، قبل ولادة دانتي عام 1265؛ من ذلك نقْلها إلى اللغة القشتالية، خلال القرن الثالث عشر للميلاد، على يد إبراهيم الطليْطلي، بأمْر من الملِك ألفونسو العاشر.

    إن رأي بلاثيوس الجَريء بخصوص التأثير الإسلامي في كوميديا دانتي جرّ عليه نقداً كثيراً من قِبل مثقفي أوربا الذين كانوا يعتقدون بأصالة ملحمة دانتي، وبأنها مؤلَّفة على غير مثال سابق، ولاسيما من لدُن الإسبان والإيطاليين الذين صُدِموا برأي بلاثيوس، وأدْهشتهم البراهين الساطعة التي قدّمها تأكيداً لوجهة نظره، مما جعل بعضهم يغيِّر موقفه السابق في اتجاه التسليم برأي بلاثيوس لقوته الإقناعية! والمبادرة بترجمته إلى لغات عالمية، وعلى رأسها الإنجليزية والفرنسية.

    ويظل كتاب بلاثيوس عن حضور الأخرويات الإسلامية في عمل دانتي المَعْني، وموقفه المؤكِّد لقضية تأثر الثاني بتلك الأخرويات، «من بين الإسهامات الجيّدة في تاريخ الفكر الاستشراقي الموضوعي؛ حيث فتحت أعيُن الكثير من الباحثين، في الشرق والغرب، على ما أسهمت به الحضارة العربية والثقافة الإسلامية في التراث الإنساني بصفة عامة»([29]). وبالفعل، فقد كان صدور الكتاب منطلَقاً لظهور كثير من الدراسات التي أوْضحت فكرة بلاثيوس في الموضوع، وأكدت تأثير الإسلام في «الكوميديا الإلهية»، سواء أكانت عبارة عن كتب مستقلة، أم مباحث وأجزاء داخل كتب، أم مقالات صِحافية. ومن ذلك، مثلاً، كتابُ «التصوف الإسلامي العربي: بحثٌ في تطور الفكر العربي» (1928)، الذي تطرق فيه صاحبُه عبد اللطيف الطيباوي ـ من بين ما تطرق إليه ـ إلى تِبيان أثر الإسلام في كوميديا دانتي، وكتابُ «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي» لعبدالرحمن بدوي (1965)، الذي أفرد فيه فصلاً كاملاً لإبراز «المصادر الإسلامية للكوميديا الإلهية»، وكتابُ «تأثير الثقافة الإسلامية في »الكوميديا الإلهية« لدانتي»، الذي ألفه الناقد المصري صلاح فضل، عام 1985. ومن المقالات التي عالجت الموضوع الذي نحن بصدده نذكر «موازنة بين الكوميديا الإلهية وقصة المعراج» لمحمد عبد الملك الكتاني (نُشرت في مجلة «دعوة الحق» المغربية ـ ع.8/9 ـ س.7 ـ 1964)، و«الأصول العربية للكوميديا الإلهية» لحسين مؤنس (صدر ضمن العدد 142 من مجلة «العربي» الكويتية، عام 1970)، و«المصادر الإسلامية في الكوميديا الإلهية» للُوسيان بورتييه، ترجمة: ابتهال يونس (منشور في مجلة «فصول» المصرية، في الجزء الأول من العدد الذي خصّصته للأدب المقارَن، مج.3، عام 1983).

    لقد تبيّن لنا مما تقدم أن بلاثيوس قدّم خِدْمات جُلّى للتراث العربي الإسلامي الأندلسي، في كثير من ميادين المعرفة، توثيقاً ونشراً ودراسة وترجمة؛ مما بوّأه مكانة مرموقة في تاريخ الدراسات الاستشراقية التي عُنيت بتناول ذلك التراث الخصيب الذي كان يعُدُّه جزءاً أساسياً من تاريخ إسبانيا الفكري والأدبي والعلمي، ومحدِّداً من محددات هُويتها الثقافية. وقد أعانه على ذلك اطلاعُه الواسع على كُنوز ذلك التراث المتوفرة في عدد من المكتبات الإسبانية المعروفة باحتضانها الآلافَ من المخطوطات العربية والإسلامية في مجالات متنوعة ومتعددة، وفي طليعتها خزانة دير الإسكوريال بمدريد، ومعرفتُه باللغة العربية التي تولى تدريسها في جامعة مدريد، كما سلفت الإشارة، بعدما تنازَل له أستاذه ريبيرا عن ذلك المنصب، وتوسّلُه، في كثير من الأحايين، بمنهج علمي رصين في الدراسة أسْعَفَه في الوصول إلى جملةٍ من النتائج الموضوعية الجادّة بشهادة الكثيرين. وانصرفتْ جملة وافرة من أبحاثه وكتاباته إلى إبراز أثر الإسلام والثقافة الشرقية العربية، في الأندلس خاصة، في المسيحية والفكر والأدب الإسبانييْن، وفي عموم الثقافة الأوربية، على امتداد قرون طويلة، انطلاقاً ممّا كان يلحظه من تشابُه بيِّنٍ بينهما، يجعله أمْيَلَ إلى ترجيح مسألة تأثير الثقافة العربية الإسلامية بالأندلس، غالباً، في نظيرتها الإسبانية والأوربية، وإنْ كان يُؤخَذ على اجتهاداته، في هذا الإطار، افتقارُها، في غالب الأحيان، إلى آليات حجاجية إقناعية قويّة، واتخاذها صورة لمحات ونظرات وتخمينات أثبت الدراسون، لاحقاً، صحة أكثرها بالوثائق والبراهين الواضحة. وهذا ما أكده عبد الرحمن بدوي نفسُه في نصٍّ له خَتَم به ترجمته لبلاثيوس، في موسوعته الرائدة عن أهل الاستشراق، آثرْتُ إنهاء دراستي هذه بإيراده كاملاً لانطوائه على بعض المعطيات القيّمة عن تجربة بلاثيوس في البحث الاستشراقي، وأفضاله الكثيرة على التراث العربي الإسلامي الأندلسي. يقول: «لقد كان أسين بلاثيوس طوْداً شامخاً من أطواد الاستشراق، يحتلّ مكانَ الصَّدارة التي يحتلها نلينو (إيطاليا)، وجولدتسيهر (المَجَر)، ونيلدكه (ألمانيا)، ماسينيون (فرنسا)، وكراتشكوفسكي (روسيا)، ودوزي (هولندة). وبه رسخت أقدام البحث العلمي الممتاز في تاريخ الإسلام الروحي في إسبانيا. ولئن كان منهجُه العلمي يستند إلى اللمحات البعيدة واللوامع العبْقرية أكثر ممّا يستند إلى الوثائق والقواعد المنهجية الوثيقة، ويحْفِل بالفروض أكثر مما يحفل بالوسائل الكفيلة بتحقيقها على أصول راسخة، فإن كثيراً من نظراته اللّمّاحة التي بدت في البدْء خيالية، قد جاءت الوثائق المُكتَشَفة فيما بعدُ لتؤيِّدها، فضلاً عن أنها وجّهت، وستوجِّه، البحث في اتجاهات جدِّية ما كان يمكن الانتباه إليها لولا قبساته الوضّاءة هذه. ومن هنا جاء الكثير منها موحياً أكثر منه مُقنعاً. وتقدُّمُ البحث العلمي في حاجة إلى كلا النوعين من الباحثين: أصحاب المنهج المُحكم الدقيق، وأصحاب النظرات اللماحة والقبسات الوضاءة والفروض الخصْبة الجَريئة. ولهذا سيظل أسين بلاثيوس عَلَماً حيّاً من أعلام البحث العميق، والفهم الناقد، والإدراك المُوحي، والوُجدان المَشبوب»([30]) .

    (*) باحث من المغرب.

    * هوامش البحث *
    [1]- إدوارد سعيد: "الاستشراق: المعرفة ـ السلطة ـ الإنشاء"، تر: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط.5، 2003، ص 37.

    [2]- مصطفى الكيلاني: الاستشراق الإسباني والاستشراق الغربي (خوان غويتيسولو قارئاً مختلفاً)، مجلة "ثقافات"، جامعة البحرين، ع.14، 2005، ص 192.

    [3]- إدوارد سعيد: الاستشراق، ص 40، بتصرف.

    [4]- ناصر عبد الرزاق جاسم: الإسلام والغرب ـ دراسات في نقد الاستشراق، دار المناهج، عَمّان، ط.1، 2004، ص ص 14-15.

    [5]- مفيد الزيدي: "الاستشراق والمستشرقون: نحو رؤية منهجية"، مجلة "شؤون عربية"، جامعة الدول العربية، ع.147، خريف 2011، ص ص 111-112، بتصرف.

    [6]- إدوارد سعيد: الاستشراق، ص ص 39-40.

    [7]- إميل أمين: إدوارد سعيد في ذكراه.. بين الإسلام والاستشراق، جريدة "المساء" المغربية، ع.1574، الجمعة 14/10/2011، ص 10.

    [8]- الرشيد بشير بوشعير: موقف إدوارد سعيد من الاستشراق، مجلة "آفاق الثقافة والتراث"، جمعية الماجد للثقافة والتراث، دبي، ع.27/28، س.7، يناير 2000، ص 122.

    [9]- إدوارد سعيد: الاستشراق، ص 38.

    [10]- نفســه، ص 37.

    [11]- نفســه، ص 38.

    [12]- نفســه، ص 39.

    [13]- نفســه، ص 38.

    [14]- محمد الطنجي: من أطوار الاستشراق ومَراميه، مجلة "دعوة الحق"، وزارة الأوقاف بالمغرب، ع.7، س.13، يونيو 1970، ص 23.

    [15]- الاستشراق بين دُعاته ومعارضيه (مقالات مترجمة)، تر: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، ط.1، 1994، ص 36.

    [16]- للتوسُّع في هذا الموضوع، انظر، مثلاً، "الاستشراق والمستشرقون: نحو رؤية منهجية" لمُفيد الزيدي، م.س، ص 112- 122.

    [17]- كمال لاشين: قراءة نقدية في الاستشراق، مجلة "آفاق الثقافة والتراث"، ع.27/28، ص117.

    [18]- عائشة عبد الرحمن: تراثنا بين ماضٍ وحاضر، دار المعارف بمصر، ط 1970، ص 48.

    [19]- محمد الطنجي: من أطوار الاستشراق ومَراميه، ص 25.

    [20]- صلاح الدين المنجد: قواعد تحقيق المخطوطات، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط.7، 1987، ص 7، بتصرف.

    [21]- مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، إصدار: مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، ط 1985، 2/277.

    [22]- نقلاً من كتاب "ميغيل آسين بلاثيوس رائد الاستعراب الإسبايي المعاصر" لمحمد القاضي، من منشورات "المجلة العربية"، الرياض، ع.167، ط.1، نوفمبر 2010، ص 23.

    [23]- أسئلة في خطاب الاستشراق الإسباني (حوار أجْراه محمد بن عمر مع الباحث محمد العسري)، مجلة "التسامح"، مسقط، سلطنة عُمان، ع.2، ربيع 2003، ص ص 218-219.

    [24]- ميغيل آسين بلاثيوس رائد الاستعراب الإسبايي المعاصر، ص ص 19- 20.

    [25]- انظر ترجمة مفصّلة لبلاثيوس في:

    * "موسوعة المستشرقين" لعبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط.3، 1993، ص 121- 126.

    * "ميغيل آسين بلاثيوس رائد الاستعراب الإسباني المعاصر" لمحمد القاضي، م.س، ص 26- 71.

    * "أثر الفكر الإسلامي الأندلسي في الفكر الأوربي من وجهة نظر المستعربين" للحسين الإدريسي، مجلة "ثقافات"، ع.13، 2005، ص ص 175- 176.

    [26]- نقلاً من كتاب "ميغيل آسين بلاثيوس رائد الاستعراب الإسبايي المعاصر"، ص 27.

    [27]- أسئلة في خطاب الاستشراق الإسباني، ص 222.

    [28]- موسوعة المستشرقين، ص 123.

    [29]- ميغيل آسين بلاثيوس رائد الاستعراب الإسبايي المعاصر، ص 65.

    [30]- موسوعة المستشرقين، ص 126.


    عن المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.