• نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر… د. عبد الوهاب المسيري

    نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر… د. عبد الوهاب المسيري


    د. عبد الوهاب المسيري

    فيلسوف علمانى عدمي ألمانى، أول من عبر بشكل منهجى وصريح عن النزعة التفككية فى المشروع التحديثى والاستنارى الغربى الذى يدور في إطار العقلانية المادية، ومن ثم فهو فيلسوف الاستنارة المظلمة واللاعقلانية المادية بلا منازع. وقد كان ابناً لواعظ بروتستانتى، درس الأدب الألمانى والديانات وفقه اللغات الكلاسيكية. وعين أستاذاً لهذه المادة الأخيرة فى بازل بسويسرا حيث أصبح من المواطنين السويسريين. خدم لفترة قصيرة فى الحرب الفرنسية البروسية (1870 – 1871) فى الجانب البروسى، وعاد إلى بازل بصحة متهدمة، ثم نشأت صادقة بينه وبين الموسيقار فاجنر سرعان ما انتهت حين تصالح فاجنر مع الإمبراطورية الألمانية الناشئة التى كان يمقتها نيتشه. تأثر بفلسفة شوبنهاور وكاتب لانج تاريخ المادية. اعتلت صحته نظرا لإصابته بالزهرى. فعاش فى شبه عزلة فأصحبت عيناه نصف ضريرتين وكانت تنتابه نوبات صداع حادة وآلام جثمانية متعددة. وظل الناس يتجاهلون كتاباته حتى بدأ الناقد الدنماركى ورج براندز (المولود باسم كوهين) فى إلقاء محاضرات عنها فى كوبنهاجن عام 1888. واكتسب نيتشه شهرة عالمية واسعة دون أن يعلم ذلك، وأصيب بانهيار عقلى وجثمانى فى يناير 1889. وبقى مجنونا حتى وافاه الأجل (ولعله قد يكون مفيدا من الناحية التفسيرية دون أى انحراف عن أسس البحث العلمى أن نطرح تساؤلا بخصوص علاقة مرض نيتشه بفلسفته، خصوصا وأنه مرض سرى، أدى إلى خلل عقلى، ومثل هذه الأمراض السيرة لم تكن على ما يبدو أمرا غير مألوف فى القرن التاسع عشر، إذ أصيب بعدواها عد لا بأس به من أعضاء النخبة الحاكمة والثقافية فى أوربا ومن بينهم هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية كما أن فوكوه وريثه الحقيقى مات هو الآخر من مرض الأيدز).

    ومن أهم مؤلفاته: مولد المأساة (1872)، وإنسانى .. إنسانى إلى أقصى حد (1878)، والعلم المرح (1882)، وما وراء الخير والشر (1886)، وأصل نشأة الأخلاق (1887)، ولكن أهم كتبه وأشهرها هو هكذا تحدث زرادشت (1883*. وهو من عيون الأدب والفكر الفلسفى الغربى.

    ولفهم نيتشه لا بد أن نطل إطلالة سريعة على تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، ففلسفته تشكل لحظة تبلور وتحول داخلها فى غاية الخطورة والأهمية، ولا يمكن فهم إشكالات الفلسفة الغربية المعاصرة إلا بفهم محورية فلسفة نيتشه. ولق بدأ تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بظهور العقلانية المادية التى عبرت عن نفسها فى بداية الأمر من خلال النزعة الإنسانية (الهيومانية) فى عصر النهضة التى جلعت الإنسان الواعى مركزا للكون وموضعاً للكمون – ولكن ظهر فىالوقت ذاته فلسفة علمانية جعلت من المادة غير الواعية مركزاً للكون وموضعا للكمون، وتاريخ الفلسفة الغربية هو تاريخ الصراع بين الرؤيتين. وقد تطورت الفلسفة الهيومانية وطرحت صورة للإنسان باعتباره كائنا قادراً على التحكم فى نفسه وعواطفه وعلى غزو الكون وتسخيريه من خلال إعمال العقل،والعقل هنا هو شىء ما داخل الإنسان الفرد والجنس البشرى ككل يجعله يكتشف القواعد الثابتة فى الكون، فكأن العقلانية تفترض وجود ثبات فى عقل الإنسان وقوانين ثابتة في الكون المتغير، بل وتفترض تماثلا بين العقل والكون (والذات والموضوع). وقد تصاعدت هذه النزعة الإنسانية العقلانية فى القرن الثامن عشر، عصر العقل والاستنارة حينما نجحت الفلسفة النقدية والتجريبية فى ان تقضى تماما على الأساس الدينى للمعرفة والأخلاق، وفى أن تجعل المادة المتغيرة وقوانينها هى المرجعية الوحيدة والركيزة الأساسية. ولكنها مع هذا أسست نظما معرفية وأخلاقية تستند إلى نقطة ثبات ما توجد خارج المادة المتغيرة. مثل العقل والطبيعة البشرية وبعض المطلقات العلمانية الأخرى (مثل الحتمية التاريخية – العقل المطلق – الإيمان بالتقدم .. الخ) .. وهى مطلقات تفترض وجود نقطة ثبات ما وتفترض وجود مركز للكون. كما تفترض وجود حقيقة ثابتة وكليات تشير بدورها إلى الكل الذى لا يرد إلى الأجزاء، مما يستدعى فكرة الأصل وما وراء الطبيعة والأساس الميتافيزيقى. ويعد هذا بالنسبة لكثير من المفكرين الماديين الذين يتسمون بالصرامة شكلا من أشكال التخلف وفشلا ذريعا للفلسفة الغربية: أن تؤسس أنساقا أخلاقية (تسم بالثبات والمطلقية وبالتجاوز) بعد القضاء على الأخلاق المسيحية، وأن تفترض وجو معرفة يقينية للعالم الخارجى بعد القضاء على اليقين الدينى، ففى هذا سقوط فى الميتافيزيقا ومحاولة تحقيق التجاوز داخل إطار المرجعية الكامنة. وهو ما يعنى استدعاء الأصول الربانية للإنسان بدلا من أصوله الطبيعية المادية ويشكل عودة للغيبية والثنائية (الدينية) التقليدية بعد أن أخذت شكلا جديدا ذلك أن افتراض وجود مثل هذه الثوابت يتناقض مع الرؤية العلمانية والعقلانية المادية الصارمة التى لابد وأن ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد كامن فى الطبيعة / المادة لا يتجاوزها.

    لكل هذا، كانت الفلسفة الغربية الحديثة فى انتظار فيلسوف يأخذ الخطوة المنطقية المتضمنة فى النموذج المادى، ويحرر الإنسان من أى أوهام متبقية عن الثبات والتجاوز والكلية، ويحقق العلمنة الكاملة للمجال الفلسفى بأن يطهره تماما من “ظلال الإله” (على حد قول نيتشه)، أى من أى قيم وثوابت وكليات وثنائيات وغايات (اخلاقية أو معرفية) تتجاوز المادى والمباشر، ويحطم تمام ما كان الفلاسفة يسمونه فى الماضى (أى قبل نيتشه) مقدسا وخيرا وحقا وجميلا ومطلقا وكليا، ومن ثم يتم القضاء تماما لا على اليقين المعرفى والأساس الدينى للأخلاق وحسب وإنما يتم القضاء أيضا على أى يقين معرفى، بل وعلى مفهوم أو فكرة الأخلاق ذاتها، وعلى أى مركزية لأى كائن إلها كان أم إنسانا، بل وعلى فكرة الوجود الثابت ذاتها وفكرة الكل الذى يتجاوز الأشياء، أى أن العالم بذلك يصبح نسقا سائلا بلا يقين أو معنى أو غاية أو كينونة أو هوية والإنسان يصبح بلا ذات ولا حدود ولا استقلال ولامركزية. وها هو جوهر الاستنارة المظلمة: تحطيم الأوهام الهيومانية وتوضيح العنصر التفكيكى الكامن فى المقدمات الإنسانية الاستنارية العقلانية المادية، ويتم هذا لا بهدف تحرير الإنسان وإنما بهدف تحطيمه هو ذاته وتفكيكه كمقولة ثابتة مستقلة فى عالم الطبيعة المتغير ورده إلى ما هو دونه. وهذه هى قمة الحلولية الكمونية، أن يصبح العالم كتفيا تماما بذاته ، ولا يوجد خارجه شىء ولا يوجد داخله مركز يمنحه التماسك والوحدة والنظام والمعقولية، أى أنه يصبح عالما سائلاً.

    ومع تطور العلوم البيولوجية ظهر أنه يمكن تحقيق هذا الهدف (تطهير الأنساق الفلسفية من كل القيم والثوابت والإحساس بها جميعا) عن طريق تطبيق نماذجها العضوية على المجال الإنسانى. وقد جاء داروين صاحب الغابة الشهيرة الرائعة (وهى كيان عضوى ويُرد إلى مبدأ واحد كامن فى المادة يسمى “الحياة” لا يمكن فهم كنهه تماما) ويعبر عن نفسه من خلال صراع دائم من أجل البقاء، بقاء لا يحققه إلا الأصلح، أى الأقوى، فثمة حركة دائمة فى هذه الغابة، حركة لا يمكن الحكم عليها بمعايير خارجة عنها وتحسم فيها الصراعات من خلال شىء كامن فى كل مخلوق أو فرد: أى قوته. وقد ظهر أن النماذج المعرفية والأخلاقية التى تدور داخل الإطار الداروينى ملائمة تماما للمجتمع الغربى ولرجل أوربا النهم فى منتصف القرن التاسع عشر – عصر الإمبريالية والهيمنة على الكون وافتراس الإنسان والطبيعة. فهو نموذج يبرر عملية الغزو والافتراس باعتبارها تعبيرا عن القانون الطبيعى المادى وعن نواميس الكون، أى أن تطور علوم البيولوجيا وتزايد الهيمنة الإمبريالية يشكلان الإطار المناسب لتصعيد معدلات العلمنة وللوصول بها إلى نقطة التحقق الكاملة.

    وهنا ظهر نيتشه : ابن داروين وشقيق بسمارك (على حد قول جون ديوى) الذى أنجز للفلسفة الغربية ما عجز عنه السابقون عليه، والذى طور رؤية معرفية علمانية إمبريالية لا ينقصها سوى الجيوش والدبابات. وتعود أهميته الحقة إلى أنه ساعد على استكمال الطفرة الفلسفية التى سيتحقق من خلالها النموذج العلمانى المادى ويتعين ويتبلور، فأسس فلسفته انطلاقا من كثير من المقولات الكامنة العدمية للرؤية المادية وأطلق عبارته الشهيرة “لقد مات الإله”، ثم بذل قصارى جهده فى أن يطهر العالم من أى ظلال يكون قد تركها الإله على الأرض بعد موته.

    ويمكننا أن نتجاوز المضمون الدينى الإلحادى المباشر لهذه العبارة لنحدد مضمونها ومن ثم تضميناتها المعرفية التى لا تشمل الإله وحسب بل وتشمل الإنسان والكون. ويساعدنا هايدجر فى هذا حيث يقول إن الإله بالنسبة لنيتشه هو “العالم المتسامى”، العالم الذى يتجاوز عالمنا؛ عالم الحواس: الإله هو اسم عالما لأفكار والمثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم الأخلاقية.

    ويمكننا أن نقول أن العبارة تعنى فى واقع الأمر ما يلى:

    1 -نهاية فكرة الإله المتجاوز والمفارق للمادة: المجاوز للطبيعة والتاريخ: الذى يمنح الكون تماسكا وهدفا نهائيا، أى نهاية فكرة المركز الكائن خارج لمادة. هى حلولية كمونية كاملة.

    2 -إنكار وجود أى حقيقة ثابتة متجاوزة لعالم التجربة المادية المباشرة وعالم الصيرورة.

    3 -كل هذا يعنى إنكار فكرة الكل ذاتها، باعتباره كياناً متماسكا يعلو على الأشياء، أى إنكار فكرة المركز الكامن فى المادة.

    4 -العالم إذن أجزاء لا تشكل كلا ولا مركز لها.

    5 -كل هذا يعنى إنكار فكرة العام والعالمى والإنسانى بشكل عام.

    6 -كل هذا يعنى نهاية الميتافيزيقا، بل ونهاية فكرة الحقيقة فالقضاء على بقايا الميتافيزيقا المتمثلة فى الحديث عن الكل المتجاوز أدى إلى القضاء على الحقيقة.

    وانطلاقا من هذا، أعلن نيتشه أن الإيمان السائد بأن العقل الإنسانى قادر على التوصل إلى علم يستطيع أن يزوده بمعرفة يقينية وأنساق أخلاقية (أى أن يوسع العلم والعقل أن يحلا محل الدين) هو وهم ليس إلا، وأن المركزية التى تخلعها الفلسفة الهيومانية على الإنسان مركزية زائفة، فهو كائن طبيعى ليس له أهمية خاصة. فعند كويرنيكوس،والإنسان يتقدم حثيثا نحو التقليل من شأن الإنسان وقد أصبحت إرادته أن يقلل من شأن نفسه “واحسرتاه”! أين إيمانه بكرامته وفرادته، أين اعتقاده بأنه لا يمكن أن يحل محله شىء فى سلسلة المخلوقات؟ لقد ولى كل هذا بلا رجعة، فقد أصبح الإنسان حيوانا بالمعنى الحرفى الكامل. هذا الى كان فى إيمانه يكاد يقترب من مصاف الآلهة. منذ كويرنيكوس، يبدو أن الإنسان يدور فى سطح مائل، ولذا فإن سقوطه يتسارع إلى ماذا؟ إلى العدمية؟ بل وفكرة الإنسان ككائن مستقل والذات الحرة المستقلة هى وهم آخر. فالذات ليست سوى قناع ووهم ورثناه من عصر النهضة يُرضى غرورنا الإنسانى، بل وأعلن نيتشه أن الطبيعة ذاتها لا قداسة لها، فهى مجموعة من القوى المتصارعة، والحديث عن أى مطلقية – من ثم – هوعبث، فكل الأمور مادية وكل الأمور المادية متساوية. وكل الأمور المتساوية نسبية. إن الفلسفة الحديثة الحقة (حسب تصور نيتشه، تلك الفلسفة التى تحققت فيها اللحظة العلمانية تماما). هى فلسفة تصدر عن فكرة موت الإله وإزالة ظلاله، أى اختفاء أىنقطة ثابتة أو صلبة أو أى مرجعية متجاوزة حيث يجب التحرك داخل إطار مادى طبيعى صارم يتسم بالسيولة الكاملة إذ أنه يساوى بين الأشياء كلها ويسويها. وقد يكون من الأمور التى لها دلالة أن أخذ عبارة وردت فى آخر أعمال نيتشه (1888) كان “ديونيزوس ضد المصلوب” وهى عبارة تعنى “إما أنا أو الإله” أو “إما الواحد أو الآخر”. (وفى عبارة شهيرة أخرى تساءل تيتشه: “إذاكان الإله موجودا فماذا أنا إذن؟”) بمعنى أنه رأى أنه لا يوجد أمام الإنسان سوى طريقين اثنين: إما أن يتحقق الحلم الإنسانىالهيومانى ونكون ما نريد ونستبعد الإله تماما، أو أن نسقط فى العدم دون عزاء أو سلوى، ونقبل مصيرنا فى صمت مأساوى، وقد أدرك نيتشه أن البديل الأول غير متاح، ومن ثم فلا مفر من الثانى، وقد أعلن نيتشه أن أكثر الضيوف بشاعة قد جاءنا، وأننا دخلنا مرحلة العدمية.

    ويمكن القول أن البنية الأساسية لفكر نيتشه تأخذ شكل حركة من العالم الموضوعى الثابت المستقر الذى يخضع لمعايير أخلاقية ومعرفية خارجة عنه والذى يمكن للذات الإنسانية الثابتة المستقرة إدراكه إلىعالم متغير لا يخضع لأى معايير سوى تلك التي تنبع منه، عالم الكمون الكامل. وهو عالم ترد فيه كل المستويات المعرفية والأخلاقية إلى مستوى أدنى وأقل تحددا وصلابة هو الذات الإنسانية التى ترد بدورها إلى مبدأ واحد فيذوب الجزء فى الكل ويرد الكل إلى مبدأ واحد له أسماء عدة، وهو فى نهاية الأمر وفى التحليل الأخير مبدأ واحد كامن فى الطبيعة / المادة. وهو يأخذ شكل قوة تدفع المادة وتتخلل ثنايا العالم وتضبط وجوده، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شىء ولا يعلو عليها أحد، وهى النظام الضرورى والكلى للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضا، يحوى داخله مقومات حركته وكل ما يلزم لبقائه وفهمه. ورغم سريان هذه القوة فىالعالم إلا أنه لا يتسم بأى توازن. فهو يتكون من مجموعة من القوى المتناحرة والمتصارعة التى ليسها لها بنية واضحة، لأن المبدأ الواحد الكامن فى العالم مبدأ غير عاقل لا يزودها بأى تماسك أو وحدة أو اتجاه أو غاية، ومن ثم فهو عالم صراعى تحكمه الصدفة والفوضى لا ثبات فيه لقيم أو مطلقات، ولعل السمة الأساسية لعالم نيتشه هى أن الإله بالمعنى المعرفى قد انسحب تماما منه وان ظلاله لم يعد لها وجود. ولنقارن هذا العالم النيتشوى بعالم الفلسفات التقليدية والإيمانية بل وعالم العلمانية فى مرحلة هيمنة الفكر الإنسانى (الهيومانى) التى كانت لا تزال فيه ظلال الإله ممتدة فى العالم.

    1 -العالم التقليدى:عالم مركزه هو الإله (أو المطلق الإنسانى، أى الجوهر الإنسانى) المتجاوز له، الإنسان فيه (بسبب علاقته بالإله أو بجوهره الإنسانى) جزء مستقل عن الطبيعة يختلف عن الحيوانات، فهو مادة وروح، الإنسان بسبب اختلافه عن الطبيعة يمكنه أن يعرفها ويتأمل فيها ويتجاوزها، كما يمكن أن تقوم منظومات أخلاقية متجاوزة لحركة المادة يحتكم غليها الإنسان.

    إن ما يسم هذا العالم هو أن الإله أو الجوهر الإنسانى) هو مركزه المتجاوز له، ولذا فإن ثمة مسافة تفصل بين الإله والطبيعة، تنعكس فى العالم على هيئةمسافة بين الإنسان والطبعيعة وفى سلسلة من الثنائيات: مادة/ روح – فعل مباشر/ تأمل – خير/شر – سبب/نتيجة – جميل/ قبيح.

    2 -عالم نيتشه : عالم انسحب مه الإله تماما (أو حل فى المادة تماما وذاب فيها فأصبح العالم بلا مركز) – الإنسان إذن جزء من المادة/ الطبيعة لايوجد أى فارق جوهرى بينه وبين كل الكائنات الطبيعية الأخرى مثل الحيوانات، فهو جسد وغرائز – الإنسان لأنه جزء من الطبيعة لا يمكنه أن يعرفها ولا يتجاوزها، فالجزء لا يمكنه أن يحيط بالكل أو أن يتجاوزه – لا يمكن ظهور منظومات أخلاقية متجاوزة لحركة المادة، فالإنسان هو جزء من هذه الحركة خاضع لها.

    إن السمة الأساسية لعالم نيتشه هو تصاعد معدلات كمون المركز فى المادة إلى أن يختفى تماما، الأمر الذى يعنى اختفاء المسافة بين الخالق ومخلوقاته، وبين الإنسان والطبيعة، وينجم عن هذا استحالة المعرفة والأخلاق فيصبح الجسد روحا، ويصبح الفعل المباشر هو الفعل الوحيد الممكن. ويصبح الخير هو الشر أو تنتفى ثنائية الخير والشر. بل وتنتفى ثنائية الإنسان والطبيعة. بل وكل الثنائيات الأخرى مثل ثنائية الثابت والمتغير، ويظهر عالم فى حالة سيولة شاملة سيولة لا تسم مجالا دون آخر وإنما تسم كل المجالات الممكنة (الطبيعة والإنسانية).

    وحينما تختفى المسافات تماما يصبح العالم كلا عضويا واحديا مصمتا مغلقا لا مركز له، لا يشير إلا إلى ذاته، ولاتوجد فيه أى حدود تفصل بين الأشياء فتصبح المعرفة مستحيلة والأخلاق كابوسا بل وتختفى الهوية ذاتها فى العالم السائل الذى لا توجد فيه حدود أو ثوابت فتصبح الأنا هو ويصبح الهو أنا، والمقدس نسبيا والنسبى مقدسا والدال مدلولا والمدلول دالا،ويظهر عالم ما بعد الحداثة.

    وما يميز نيتشه عمن سبقوه من الفلاسفة أنه يقابل هذه العدمية الكامنة فى موقفه المادى بغنائية متشائمة عبثية مأساوية، تختلف تمام عن الغنائية المتفائلة للأناشيد الإنسانية (الهيومانية) التى عزفها الإنسان الغربى منذ عصر نهضته حينما قتل الإله (أو نحاه جانبا) وأعلن أنه فىمركز الكون وأنه قادر على إعادة صياغته وتسخيره دون سدود أو قيود وحيثما بدأ مشروعه الاستنارى التحديثى بتفاؤل شديد لاتشوبه أى شوائب ولا تعكر صفوه أى أحاسيس مظلمة. فى كتاب العلم المرح، فى مقطع بعنوان “المجنون”، حين يعلن المجنون موت الإله فهو لا يعلن اكتشافه فى حبور وغبطة وإنما يعلنه وهو يجرى فى السوق صارخا يتألم معلنا “مقتل الإله” (لقد تلاشىالإله؟ بل أقول لكم نحن الذين قتلناه – أنتم وأنا .. كلنا قتلة)، ويسأل أسئلة تدل على حزنه المجنون عل اختفاء الإله: كيف تمكنا من فعل ذلك؟ كيف شربنا كل ماء البحر؟ من ذا الذى أعطانا الإسفنجة التى مسحنا بها الأفق كله؟ ماذا كنا نفعل عندما فككنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين نتحرك الآن؟ بعيدا عن كل الشموس؟ ألسنا فى حالة سقوط دائم؟ إلى الخلف، إلى الجنب، إلى الأمام فى كل الاتجاهات؟ ألا يوجد طريق إلى فوق أو إلى أسفل، إنها أنشودة من اكتشف الاستنارة المظلمة ويعرف أن عصر ما بعد الحداثة والدوال الراقصة والتفكيك الكامل على وشك الإطباق على الجميع.

    أنطولوجيا نيتشه:

    أعلن نيتشه، إذن ظهور عالم يتسم بالسيولة، اختفى فيه مفهوم الوجود الثابت المستقر أساس كل الفلسفات الغربية، الدينية، واللادينية، ولكن نيتشه مع هذا، يرد الكون بأسره إلى مبدأ سماه “الحياة” متفقا فى هذا مع شوبنهاور وغيره من فلاسفة العصر الذين تبنوا استعارة عضوية فى رؤيتهم للكون، ولكن نيتشه يختلف عن شوبنهاور، الذى قال بأن الكائنات تتولد إلى البقاء وأن الحياة هى إرادة الحياة. فنيتشه يرى أن الوجود هو فعلا الحياة، وأن الحياة هى فعلا إرادة، ولكن الإرادة هى إرادة القوة وتقديسها ويعرف نيتشه القيمة بأنها أكبر مقدار من القوة يستطيع الإنسان أن يحصله ويستولى عليه. فالحياة لا تستطيع أن تحيا إلى على حساب حياة أخرى، لأن الحياة هى النمو وليس مجرد البقاء، وهى الرغبة فى الاقتناء، والزيادة فى الاقتناء، وهى التغير والصيرورة بلا ثبات (غابة داروين الرائعة)، وما دامت الحياة نموا ورغبة فى الاقتناء، وفى المزيد من الاقتناء فإنها محتاجة إلى شىء آخر خلافها وخارجها كى تتحقق، فكأن الحياة إذن، إرادة استيلاء على الآخرين، إرادة سطوة واستغلال، وبمقدار شعورنا بالحياة وبالقوة (والحياة مترادفة مع القوة) يكون إدراكنا للوجود، فإرادة القوة هى جوهر الحياة وعن طريقها يمكن تفسير كل مظاهر الوجود فالحياة إن هى إلا صراع وتقاتل ودماء.

    وإرادة القوة هى التى تحرك الأفراد والتاريخ والصراعات العسكرية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثورات الأخلاقية والجمالية والعلاقات بين الأفراد (بما فى ذلك أكثرها خصوصية وحميمية). وهى كلها صراعات لا يمكن فهمها إلا فى إطار هذا الصراع اللامتناهى بين إرادات مختلفة والتى تنبع منها أشكال مختلفة للهيمنة. إن إرادة القوة، بهذا، أصبحت الركيزة الأساسية لفلسفة نيتشه وأصبحت مرجعيتها النائية والأساس الأنطولوجى والأخلاقى الثابت لنسق فلسفى ينكر الثبات ويعلى من شأن الصيرورة باعتبارها الثابت الأوحد، أى أن القوة هى ميتافيزيقا نيتشه الخفية ونقطة الثبات التى تحل محل فكرة الوجود أو العقل فى الفلسفة التقليدية، ومحل فكرة الصدفة فى الفلسفات الطبيعية/ المادية. وهى لا تختلف عن كل من الصدفة أو الطبيعة/ المادة فى ماديتها وعبثيتها ولكنها تختلف عنهما فى درجة الكمون. فالصدفة والطبيعة/ المادة لهما وجود موضوعى، أما القوة فهى وجود ذاتى موضوعى يعبر عن سيولة الذات المادية المتغيرة والموضوع المادى المتغير وعدم تحددهما.

    2 -المنظومة المعرفية:

    الفكر فى تصور نيتشه ليس انعكاسا مشوها للواقع ولا محاولة اجتهادية لتفسيره، وإنما هو تعبير عن إرادة القوة. ويذهب نيتشه إلى أن ثمة مبادئ للفكر والمنطق تستند إليها المعايير التى يصوغها الإنسان ويقرر حسبها ما هو حقيقى زائف وما هو صواب وخطأ (مثل: الذات – الموضوع – الجوهر – الكل – الشىء – العلية – السبب والنتيجة – الشكل والمضمون – الغائية – وجود واقع ثابت ومستقر – تساوى الأشياء المتشابهة – أنه يمكن قياس الأشياء). هذه المبادئ – فى تصوره – ليست أفكارا بريئة من المصلحة أو التحيز ولا ظاهرة ولا أصلية كما قد يترامى لأول وهلة، كما أنها أفكار ليست مادية تماما وإنما هى مجرد أوهام وأساطير وعقائد، واستراتيجيات ابتدعها البعض ليهرب من حالة السيولة والصيرورة الدائمة.

    العقل إذن، وهم. فهو ليس شيئا فى ذاته وإنما مجرد تعبير عن عناصر متلاطمة فى الواقع، فهو مجرد ظاهرة مصاحبة لظواهر أخرى (بالإنجليزية: إبى فينومنون epiphenomenon) . لكل هذا، لا يوجد فى واقع الأمر عقل إنسانى واحد وإنما هناك عدة عقول تتمايز بتمايز الظروف والإرادات. ومن هنا يختلف الرأى بين العقول المختلفة إزاء الأمر الواحد، ولا يوجد عقل كلى يحكم الكون ويسوده فتصبح الظواهر والأحداث معقولة فالعقل الوحيد الذى نعرفه هو هذا العقل الضئيل الموجود فى الإنسان، والأنا المفكرة والذات الثابتة التى لها حدود واضحة وهم، إذ توجد دوافع كثيرة مظلمة لا يدركها حتى صاحبها رغم أنها تحدد سلوكه رغم كل عقلانيته الظاهرة.

    ثمة صيرورة كاملة فى الواقع ولا يوجد عقل إنسانى متكامل شامل، والمنطق ليس نتاج ملاحظة الواقع وإدراك تماثل الحالات، والفكر ليس ثمرة الرغبة فى معرفة الحقيقة ولكن لماذا ظهرت الأفكار الكلية الثابتة ومقولات المنطق؟ يرى نيتشه أن سر ظهورها أنها أساطير واوهام وعقائد تعود بالنفع على أصحابها فتبنى مثل هذه الأفكار يزيد فرص الغزو والبقاء والسيطرة والامتلاك بالنسبة لهم، أما من رفضوا هذا الوهم واستمروا فى التعامل مع الواقع باعتبار أن كل ظاهرة فريدة فقد هلكوا وهكذا ظهر مفهوم الجوهر الثابت، وهو فكرة أساسية لقيام المنطق ولكنها ليس لها أى أساس فى الواقع الموضوعى المادى.

    وبذلك، فقد أخذ نيتشه خطوة حاسمة إذ خلع النسبية والسيولة المعرفية على كل شىء، على الحقيقة الموضوعية وعلى الذات المدركة، وبدلا من ذلك، يفترض وجود أصل حقيقى (بناء مادى تحتى) وهو الفعل المباشر والغريزة والنزوع البيولوجى الخام للبقاء والقوة، ثم يأتى بعد ذلك الفكر بناء فكرى فوقى) الذى لا يشاكل الواقع وإنما يشكل مسوغا وتبريرا لسلوك صاحب الفكر ولأفعاله المادية الغريزية المباشرة النابع من حيويته وكيانه البيولوجى، وهى أفعال بسبب مباشرتها مكتفية بذاتها، فهى كالكائن الحى الذى لا يخضع إلا لقوانينه الداخلية، أو كالذرة التى تندفع بقوتها الذاتية فى أى اتجاه تشاء ولا تهيب بأى شىء خارجها (ولنلاحظ أن الفعل المباشر لا يتسم بأى ثنائية ولا توجد فيه فراغات فهو نظام مغلق تمام مثل عقل الإنسان وهو أيضا كيان منغلق على ذاته لا علاقة له العقول الأخرى).

    وقبولى لفكر آخر هو مجرد إذعان لإرادة القوة المنتصرة وليس فعلا عقليا، لا توجد إذن، حقائق وتفسيرات لها وإنما توجد تفسيرات وحسب هى فى واقع الأمر تعبر عن توازن القوى.

    إن ما بالمعرفة أو الحقيقة هو منظور وحسب، لا يتماثل م الواقع أو يقترب مه وإنما يعبر عن مدى نجاح إرادة القوة فى فرضه، ونجاحه فى أن يفرض نفسه يعنى أنه حقيقى (فالناجح هو الحقيقى والفاشل هو غير الحقيقى). هذا الفكر الذى لا يستند إلى منطق وإنما يستند إلى منطق القوة هو ما يسميه نيتشه الحقيقة الديونيزية (الحقيقة التى يؤمن بها الإنسان الأعلى) وهى حقيقة تحاول أن تهرب من محاولة التفسير وتقبل بحقيقة نهائية وحيدة مأساوية: الصيرورة الدائمة والتعددية اللانهائية.

    3 -المنظومة الأخلاقية:

    الإنسان إنسان طبيعى، جزء لا يتجزأ من الطبيعة/ المادة ليس له أى صفات متجاوزة للطبيعة، مكتف بذاته تماما وهو ليس فى حاجة إلى أى قيم عليا ولا يستمد أى شىء من عالم متجاوز لعالم الطبيعة/ المادة، وهو إنسان ليس له عقل مسبق a priori وليس له روح خالدة ثابتة مفارقة لجسده الفانى الذى يوجد فى حالة صيرورة ولكن مع هذا، تظهر منظومات أخلاقية، هذه المظومات الأخلاقية لا تختلف البتة عن المنظومات المعرفية، فالأخلاق تذوب فى رمال النسبية المتحركة التى تبتلع كل شىء، فالبشر لا يستخدمون الأخلاق إلا لتبرير أفعالهم، فالأصل هو الفعل، وما الأخلاق سوى التبرير والتسويغ، فالقيم إن هى إلا جزء من العملية الإبداعية للإنسان وحركيته (الحق أن الناس قد أعطوا أنفسهم كل خيرهم وشرهم، والحق أنهم لم يتلقوه ولم يجدوه). ومن ثم، فإن بوسع الإنسان أن يضفى أى معنى يشاء على الكون بأى طريقة يراها، فالمعنى مرتبط بالهدف والهدف مرتبط بالنتيجة وبالفعل: سلسلة عضوية متلاحقة لا يفصل بين حلقاتها فاصل، والأخلاق هى معايير صنعها الإنسان لهدف معين، وفى وسعه أن يبدلها إن شاء وأن يضع لنفسه هدفا آخر، فالأخلاق مرتبطة بالنتيجة وبالفعل، أى أنها هى الأخرى حلقة فى السلسلة المتلاحقة (,هذا هو جوهر الفلسفة البرجماتية). فى هذا الإطار يمكن فهم منظومة نيتشه الأخلاقية غير المتجاوزة للمادة، فهو يرفض ابتداءً التمييز بين الخير والشر، لأنه تمييز يفترض وجود قيم ثابتة خارج الإنسان يمكن للإنسان أن يحتكم إليها، وهو تمييز يعود إلى تلك الأخلاقيات الدينية التى أزاحت القيم الطبيعية باعتبارها مصدرا حقيقيا للمطلقية والاساس الراسخ لكل أخلاق، ويقرر نيتشه إعادة تقييم القيم، أى أن يعود بالقيم إلى أصلها الطبيعى المادى، فيرفض أى ثبات أو مطلقية وأى وجود للعالم الخارجى.

    4 -السادة والعبيد:

    ثم يطرح نيتشه رؤيته لأصل الحضارة والأخلاق، فيبين أن الحضارات الكبرى قد نشأت حينما ظهرت طائفة من الأرستقراطيين الممتازين، علىشكل حيوانات مفترسة شقراء (وحش نيتشه الأشقر الشهير) كانت تجوب الأرض فى آسيا وأوربا وجزر المحيط الهادى وتغير على كل الأراضى التى مر بها وعلى هذا النحو الصراعى الداروينى الحيوانى الرائع البسيط نشأت الحضارة اليونانية والرومانية والجرمانية، وعلى هذا النحو استمرت هذه الحضارات إذ أنه كلما مرت هذه الطائفة المفترسة الشقر (المرتبطة بالطبيعة الملتصقة بها) على شعب من الشعوب أخضعته وفرضت عليه سلطانها، واحتقرته وباعدت بينها وبينه من مسافات، مكونة طبقة خاصة متمايزة، وأخذت لنفسها شرعة من القيم والأخلاق تؤكد بها سيادتها واستمرار سطوتها وسيطرتها وتضمن هذه الطبقة لنفسها الاستمرارية والشرعية والسطوة بالحفاظ على قوتها الجسمية والصحية فهىتعنى بكل ما يتصل بالقوة والغزو والحرب والمخاطرة والصيد والرقص والألعاب البدنية، وعلى العموم كل ما يكشف من حيوية فياضة، وهذه الطائفة هى الأقلية دائما، فإنها تعمل جهدها كى تحافظ على صفاتها وتظل نقية لا يتطرق إليها الانحلال من جراء اتصال الشعوب المسودة أو الطبقات الدنيا بها. والطبيعة الحلولية الوثنية العميقة لهذه الطبقة الطبيعية الشقراء المفترسة تظهر فى حديث نيتشه عن أعضاء هذه الطبقة بأنهم يقدسون التقاليد والماضى ويتخذون من ذكرياتهم مجالا للتفاخر وينبوعا للقوة، أى أنه ككيان معنوى ملتف حول ذاته، نصب نفسه مرجعية ذاته، هذا الالتفاف حول الذات يظهر فى أن عبادتهم تأخذ شكل توقير الأجداد وتقديم القرابين لأرواحهم، ولا يلبث هؤلاء الأجداد أن يصبحوا الآلهة التى يعبدها أعضاء هذه الطبقة المفترسة، وعضو الطبقة الأرستقراطية فى عبادته للآلهة من أسلافه يقدس صفاته النبيلة نفسها، أى أننا قد وصلنا إلى أرض القومية العضوية حيث يصبح الإنسان هو العبد والمعبود والمعبد وتتوثن الذات ويظهر الرايخ الثالث.

    انطلاقا من هذا التصور يُقسم البشر إلى أقوياء وضعفاء، يحوى كل داخله معايير الحكم عليه، ومن ثم يوجد نوعان من الأخلاق: أخلاق السادة الأقوياء التى يبررون بها أفعالهم المباشرة وقيم العبيد الضعفاء التى يحاولون هم أيضا عن طريقها تغطية عجزهم وتحقيق البقاء. والسادة قادرون على الفعل المباشر، يتسمون بالقوة والاعتزاز بها، كما يتسمون بغريزة السيطرة وحب الغزو والمخاطرة، يحتقرون الرحمة، ويجدون النعيم فى الانتصار والتدمير ويشعرون بسرور عميق وهم يعذبون الآخر: كل سيد عالم قائم بذاته، فهو مرجعية ذاته، إنسان طبيعى متأله خالق نفسه، عالم عضوى لا تتخلله مسافات ولا يتسم بعدم الانقطاع، كالمادة الصماء أو مثل قوى الطبيعة: كالعاصفة التى تهب وتقف شامخة وراء الخير والشر. فهو قوة محايدة لا تشعر بشىء (تخلص من الضمير ومن الشفقة والرحمة .. تلك المشاعر التى تطغى على حياة الإنسان الباطنية .. أقهر الضعفاء وأصعد فوق جثثهم”). وهو حتى أمام العدم لا يشعر بالتشاؤم فالتشاؤم يعنى توقع المعنى وعدم العثور عليه، والإحباط يعنى رغبة فى التجاوز وفشل فى تحقيقه، أما السادة فلا يشعرون بالتشاؤم لأنهم لا يتوقعون شيئا، شأنهم فىهذا شأن العناصر الطبيعية.

    وقبل أن نسترسل فى الحديث عن أخلاقيات الضعفاء، يجب أن نتوجه إلى بعض الصفات الحميدة التى ينسبها نيتشه للسادة، فهى تشكل – فى تصور البعض – نوعا من التسامى وإطارا جيدا لظهور منظومة فلسفية حديثة. فالارستقراطى السيد يشمئز من الضعة وجميع أنواع الاستخذاء وأبغض شىء لديه الكذب ونحوه من نفاق وملق، وهو لا يعرف أنصاف الحلول والمساومة والمداهنة ويميل إلى العفو عن الآخرين لا لأنه يحب العطف ولكن لأن قوته غريزة، فتراها تفيض بنفسها على الآخرين (كالطبيعة المتدفقة). ومع هذا فإنه لا يقبل مطلقا العفو من الآخرين لأنه بقوته يأخذ ما له دون أن ينتظر حتى يتفضل به عليه الآخرون، وهو يطلب من نفسه أكثر من الآخرين وهو ينتصر علىنفسه وعلى أفعاله ويوجهها.

    ولكن هل تمثل هذه الصفات تساميا بالفعل؟ فى تصورنا أنه لا يوجد تسام أو تجاوز لأخلاق الوحوش الشقر المفترسة، فكل صفات الأرستقراطى تزيد من مرجعيته الذاتية الكامنة ومن ثم فلا يوجد أى مقاييس خارجة عنه، بل يظل هو المطلق ذاته ومن ثم لا يمكن محاكمته كما أن كل شىء فى الأرستقراطى مرتبط بالقوة، فهو حين يعفو فهذا غير ناجم عن حب لأخيه الإنسان أو أى منظومة خلقية متجاوزة له (فمفهوم الأخوة مفهوم غير طبيعى غير مادى) وإنما ناجم عن تدفق غريزى فى القوة أى عن مزيد من الطبيعة والوحشية والإمبريالية، والعطف ليس اختيارا أخلاقيا حرا، وإنما سلوك بيولوجى طبيعى، أى أنه سلوك يتجاوز الخير والشر ولا يتسم بأى تعال أو تسام.

    والسادة أقلية والعبيد هم الأغلبية، والعبيد غير قادرين على الفعل المباشر، ويسمون عجزهم هذا “الصبر” أو “الإحسان” أو “الطيبة”، وهم مسالمون متواضعون لا مطمع لهم فى غزو، ولا رغبة لهم فى سيادة، يؤثرون السلامة ويبتعدون عن المخاطر ويسمون حاجتهم إلى الآخرين وعجزهم عن الاعتماد على النفس “رحمة”، فكل عبد فى حاجة إلى الآخرين ولا يكتفى أبدا بذاته، ولإخفاء عجزهم والتعويض عنه، ابتدعوا أخلاقيات الضعفاء هذه، فأخلاقهم إن هى إلا نتيجة الذُّحْل (الحقد – الثأر) : أى الشعور المتكرر بإساءة سابقة لقيها الإنسان ولم يستطع أن يردها أو أن يتشفى ممن قدمها لعجز فيه عن رد الفعل فى الحال، فيتحول الشعور إلى طاقة مكبوتة تعبر عن نفسها من خلال قنوات غير القنوات الأصلية الطبيعية ومقابلة العمل بالمثل فيلجأ إلى طرق خفية غير مباشرة ولكن تبنى أخلاق الضعفاء قلب الدنيا رأسا على عقب لأن الأقوياء الذين فى مقدورهم أن يرقوا بالجنس البشرى اضطروا إلى الخضوع للضعفاء والتخلى عن واجبهم نحو تنمية قدراتهم، الأمر الذى أدى إلى توقف الجنس البشرى ككل عن الرقى، وهناك نقط هامة فى تاريخ البشر انتصرت فيها الثقافة العقلية، أى ثقافة الضعفاء من الحاسبين المحاسبين، ففى الحضارة اليوانانية قبل سقراط، كانت هذه الحضارة حضارة عدمية متشائمة، ثم جاء سقراط فكان علامة على انحلال الخلق اليونانى إذ أن قوة الجسد والروح القديمتين أصبحت يُضحى بها شيئا فشيئا من أجل ثقافة عقلية مشكوك فيها، وهى تتضمن انحطاطا شديدا فى قوى البدن والعقل. لقد جاء العلم كان الفن، والعقل بدلا من الغريزة، وانتصر الروح الأبولونية على الروح الديونيزية التى هى دعوة إلى الاندماج المباشر بالطبيعة التلقائية فى صورتها الأولى قبل أن يشوهها العقل الخالص ويبعث فيها الثبات والجمود، ولعلاج هذا الموقف يقترح نيتشه قلب القيم والمعادلات الأخلاقية والعودة بالأخلاق إلى أصلها الطبيعى الوثنى المادى. وعلى الإنسان أن يرفض الترادف المألوف غير الطبيعى بين الخير والشر والتراحم والرحمة ويطرح بدلا من ذلك الترادف الطبيعى/ المادى بين الخير والقوة والغزو والغرور.

    5 -الإنسان الأعلى والمنظومة السياسية:

    صفت فلسفة نيتشه كل الثنائيات وأنكرت وجود المركز وأعلنت ظهور عالم فى حالة حركة وسيولة، ولكنها، مع هذا، عينت نقطة ثبات فيه هى إرادة القوة، والتى يجسدها أقلية من السادة الاقوياء، ولكن السادة أنفسهم تبتلعهم السيولة والصيرورة فهم مجرد وسيلة لغاية أعلى، حبل مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى الهدف النهائى من الوجود، وهو صنو الإله أو المقابل الأرضى للإله، أو هو الإله الحى فى التاريخ، المتجسد فى مجموعة من البشر (الكلمة المطلقة والغاية النهائية).

    ويذهب نيتشه إلى أن سعادة الأفراد وآلامهم وخيرهم وشرهم أمور تافهة يجب عدم الاهتمام بها حينما نتحدث عن الإنسان الأعلى ومستقبل الجنس البشرى، فهدف الوجود الإنسانى يجب ألا يكون تحقيق السعادة للأفراد وإنما تكثيف كل القوى للصعود بالإنسانية فى سلم الارتقاء فى الحياة وتحقيق كل الإمكانات الحيوية، إذ يجب أن يأتى من الإنسان ما يفوق الإنسان، والبشر أجمعهم لم يخلقوا إلا ليكونوا بمثابة السلم له.

    ويبدو أن نيتشه كان يحدد هدفه فى البداية على أنه الجنس البشرى بأسره وأن الإنسان الأعلى سيولد من البشر أجمعين، ولكن يبدو أن طبقة السادة وحدها هى المرشحة أن يولد منها الإنسان الأعلى، ولذا يجب توظيفها هى وحدها فى هذا الشأن، وأهم آلية لتوريد الإنسان الأعلى هى أن تقوم القلة الأرستقراطية (السادة) بنبذ الأديان التى تنفر من الحياة الأرضية (الطبيعة/ المادة) والتى تنقل البشر من مواقع الحياة (الطبيعة المادية) إلى صور وتهاويم لعالم آخر، وتسلم منهم عناصر القوة وتبقيهم فى حالة الضعف والمهانة، وكماه أن ماركس كان يطرح صورة للمجتمع الشيوعى الجديد باعتباره صدى للمجتمع الشيوعى البدائى (فالنهاية لابد وأن تشبه البداية فى الأنساق الدائرية العضوية). فإن نيتشه يرى أن طبقة السادة عليها أن تعود إلى مجدها الغابر حينما كانت جماعات الوحوش الشقر المفترسة تعيش منفردة حسب قوانين الطبيعة، فالإنسان الأعلى، هذا الإنسان/ الإله إن هو إلا الإنسان الطبيعى، الطبيعى تماما المادى تماما، الذى يجسد إرادة القوة وتتجسد من خلاله، وهو على وجه التحديد الإنسان الطبيعى المادى الغربى الأشقر المفترس، رجل أوربا النهم الذى التهم العالم فى عصر الإمبريالية الغربية وأباد الشعوب ودمر ا لكون.

    هذا الإنسان الأعلى لم يخلق ليعيش فى دعة وسلام وطمأنينة فواجبه أن ينمو ويحقق إمكانياته ويرتقى دونما شفقة علىنفسه أو رحمة بالآخرين وهوسيحقق ارتقاءه من خلال الاختيار ا الطبيعي متجاوزا الخير والشر، ولكنه فى ذات الوقت جزء منالغاية النهائية، أى تحسين الجنس البشرى (الذى سيصبح فى واقع الأمر الجنس الغربى الأشقر) إن الإنسان الأعلى يشبه، من بعض الوجوه، ملكة النحلات التى يقوم على خدمتها الشغيلة (الضعفاء والعبيد) ولكنها، مع هذا، ليس لها إرادة مستقلة، فهى يتم حوسلتها تماما مثل الشغيلة أنفسهم، فعالم النحل عالم دقيق رائع رتيب آلى رهيب لا تتخلله أى ثغرات ولا يوجد فيه أى قيم متجاوزة للدورة الكونية أو البرنامج المقرر، يجرى العمل فيه م أجل غاية مجردة تسمى الحياة أو الطبيعة أو الآلة الطبيعية التى تكرر نفسها (أو المجتمع النازى أو المجتمع العلمانى النماذجى الذى تم ضبط إيقاعه تماما)، هذا الإنسان الأعلى المتجاوز للمادة والأخلاق هو جزء لايتجزأ من نسق هندسى، وثمة إشارات مختلفة فى كتابات نيتشه إلى تحسين النسل وتطوير الإنسان الأعلى، أى أن استعارة ملكة النحل لم تكن بعيدة تماما عن ذهنه ومن الواضح أنه، مع موت الإله وسيولة الواقع واختفاء القيم، يموت الإنسان إذ أنه يفقد مطلقيته (أى قدسيته) ومكانته الخاصة ويصبح شيئا مثل كافة الأشياء لا تفصل بينه وبينها أى ثغرات، وإذا كان ثمة تميز فهو تميز ملكة النحلات: فهى شىء جميل ورائع ولكنها فى نهاية الأمر، وفى التحليل الأخير، حشرة طبيعية / مادية وفى التحليل الأخير، حشرة طبيعة/ مادية لا تعى من أمرها ولا تملك منه شيئا، ونابليون هو تجسد لفكرة الإنسان الأعلى، آخر الرومان (الوثنيين) فهو رجل لا يعد به ضميره أثبت أننا يمكن أن نفعل مانشاء وأن نملى إرادتنا وهو يمثل التناقض العميق بين الحرية والأخلاق، فنابليون يقف وراء الخير والشر (وهذا هجوم سافر على كل مقولات كانط الاستنارية الأخلاقية الإنسانية).

    ويبدو أن هناك نظيرا للإنسان الأعلى وهو الدولة العليا، وقد كان نيتشه يرى أن الدولة هى تعبير عن إرادة القوة وأنها المؤسسة التى تُستخدم لتوزيع القوة، وأن المعيارية السياسية تظهر من خلال هذا، وهذه الدولة هى التى يمكن أن تسيطر على العالم، ويصبح مواطنوها أسياد العالم. وقد ذهب نيتشه إلى أنه لو اتحدت المقدرة الألمانية على التنظيم عن مصادر روسيا (المادية والبشرية)، ولو تزاوج الجنس الجرمانى والسلافى وانضم إليه الممولون اليهود، فإن هذه التركيبة يمكن أن تؤدى إلى السيادة والهيمنة على العالم.

    نحن هنا نسمع صوت الشعب العضوى (الفولك) وهتلر وفكرة المجال الحيوى ونرى بذور قواعد الصحة النازية التى أودت بالملايين، وقد تأثر النازيون بالفعل بفلسفة نيتشه الصراعية العلمانية وأطروحاته الداروينية الأساسية فأسسوا الدولة النازية التى حاولت أن تُرشدُ العالم (الطبيعة والإنسان) بأسره وتحوسله وتحوله إلى مادة خاضعة للنماذج المادية والكمية، نافعة للجنس الآرى، واستخدموا مفاهيم مثل: إرادة القوة والإنسان الأعلى وإعادة تقييم القيم وتحسين النسل والقتل والرجم، وقد يكون مما له دلالة أن الفيلم النازى الشهير عن هتلر الذى أنتج عام 1942 كان عنوانه انتصار الإرادة

    6 -العود الأبدى:

    الإنسان الأعلى يتجاوز الخير والشر والثواب والعقاب وكبديل لكل هذا تظهر فكرة محورية فى منظومة نيتشه فكرة العود الأبدى، وهى محاولة نيتشه لأن يستوعب الاستمرار فى الحركة الدائمة والثبات والصيرورة حتى لا يهرب شىء أبدا من قانون الحركة ولذا يتم إعادة تعريف الزمان ويظهر العود الأبدى، إن الدورة الحالية للزمان ستنتهى ولكن لن يتوقف الزمان إذ أنه سيبدأ فى التو دورة أخرى لا تختلف عن سابقتها فى أى شىء، وحينما تنتهى ستبدأ من جديد وبنفس الطريقة، فهو عود أبدى مادى إلى رتيب، والإنسان، كالساعة الرملية سيعود من جديد ويذهب من جديد دائما أبدا، إنها تكرار أبدى لنفس الشىء ولنفس الحياة. ولعل العود الأبدى هو بديل فكرة الخلود ويوم القيامة فىالديانات السماوية، وهى الحل النيتشوى لمشكلة الموت، وهو حل يزيل ظلال الإله تماما ويزيل الأصول الربانية للإنسان.

    والعود الأبدى يعنى تكرار اللحظة بكل ثباتها وصيرورتها، ولكنه ليس تقبلا لمضمون اللحظة الثابتة، وإنما هو تأكيد لصيرورتها، ولذا فأنا أرغب أن تتكرر اللحظة وأن تزول فى ذات الوقت، أى أننى أقبل شكل الوجود الذى تعتبر فيه الصيرورة هى الاساس (ويذكرنا هذا بمصطلح دريدا “الاخترجلاف” أو “لاديفيرانس la difference حيث كل شىء مختلف مرجأ على وشك أن يتحقق ولكنه لا يتحقق أبدا، وبذا تحل مشكلة الذات والموضوع والثبات والحركة، يقول جوته للحظة: “امكثى إلى الأبد”، وهذا يبين رغبته فى ثبات أبدى فى عالم الصيرورة، أما نيتشه فيقول للحظة: “فلتكررى نفسك إلى الأبد” وهو ما يعنى الإذعان الكامل للصيرورة والإدراك المأساوى لأنه لا يوجد أمل فى المستقبل (كما يتصور كانط وهيجل وماركس وكما تزعم الأفكار الأخروية المسيحية)، وإنما سيتكرر نفس الوجود/ الصيرورة دائما وما سيحل محل حياتى الحالية هو نفس الحياة مرة أخرى أى أن الحياة الحالية هى كل ما هناك دون أى أمل فى الخروج منها حتى ولو فىدورة كونية قادمة. وفى هذا أيضا إلغاء لفكرة الهدف فالتكرار هو ثبات الحركة، وهو حركة لاتجاه وتقبل العود الأبدى فى هدوء هو حب القدر (باللاتينية: أمور فاتى amor fati) وهو مايعنى تقبلا كاملا لحدود العالم الكمونى الذى نعيش فيه والإذعان لقوانينه اللا إنسانية باعتبارها الحدود المطلقة النهائية لكل الوجود، وإدراك أن عالمنا عالم ديونيزى سائل يخلق نفسه دائما ويحطم نفسه دائما ويكرر نفسه دائما وبنفس الطريقة عالم بلا هدف يتحرك فى حركة دائرية عبثية، وفى تصور نيتشه أنه، من خلال حب القدر والإذعان للحدود وتقبل الدورات العبثية فإن الإنسان يحقق تحرره من الديانات ذات الهدف المتجاوز، بل ومن أوهام الفكر الإنسانى (الهيومانى) الذى يحاول تحقيق التجاوز داخل الكمون، أى أن الإنسان سيتحرر تماما من الأخلاقيات والأحلام والمستقبل والميتافيزيقا والحقيقة، ومن ثم يتحول عبء الوجود فى الصيرورة إلى مصدر للفرح والغبطة، إذ أن قبول العود الأبدى هو تأكيد أن الإنسان يوجد فى عالم الصيرورة ولا مفر منه.

    7 – فلسفة اللغة والفن:

    وقد ترجمت فلسفة نيتشه نفسها إلى فلسفة فى اللغة وفلسفة فى الفن. أما فى عالم اللغة فقد ذهب نيتشه إلى أنه فى عالم السيولة الكاملة، تختل علاقة الدال بالمدلول فلنأخذ مثلا كلمة “روح. هذه الكلمة تشير (فى الفلسفات التقليدية) إلى كل متجاوز لعالم الجسد والمادة، وهو ما يفترض وجود مسافة بين الروح والجسد. يذكر نيتشه هذا تمام ويؤكد لنا انطلاق من رؤيته المادية، أن الروح فى واقع الأمر تشير إلى الجسد، والجسد “إن هو إلا” ترتيب لبعض القوى الطبيعية وعمليات تجسد إرادة القوة فالدال التقليدى هنا فقد علاقته تماما بمدلوله واكتسب فى فلسفة نيتشه مدلولا جديدا.

    ونيتشه هو من أوائل الفلاسفة الذين شككوا فى موضوعية أى نص، فالحقيقة إن هى إلا جيش من الاستعارات القديمة تكلس واستقر، والرؤية التقليدية تسقط فى ثنائية النص والحقيقة، بينما النص فى واقع الأمر هو مجرد نسيج يوصل جزءا من الحقيقة ويحجب حزءا منها ومهمة المفسر هى الوصول عبر النسيج إلى الحقيقة الكامنة وراء النص. يلغى نيتشه المساحة بين النص والحقيقة ويصفى تلك الثنائية تماما ويقرر أن النص هو فعلا نسيج، ولكن النسيج هو ذاته الحقيقة، والذات المبدعة هى ذاتها جزء من هذا النسيج، فهى كالعنكبوت فى بيت العنكبوت (وهذا هو معنى عبارة دريدا الشيهرة “لا يوجد شىء خارج النص”)، ولايلغى نيتشه المسافة بين المبدع والنص والحقيقة وحسب، وإنما يلغى المسافة بين نص وآخر، وقد طرح فكرة التناص باعتباره حوارا لا ينتهى بين النصوص ، فكل ما نعرفه هو النص والنص لا يحيلنا إلى الحقيقة متجاوزة له وإنما إلى نص آخر، ولذا فإن معرفتنا لا يمكن أن تدعى لنفسها حالة أكثر استقرارا وصلابة من أن تكون نصا، وهذا يعنى أن كل الحدود تختفي بين الذات والموضوع، وبين الداخل والخارج، والمعنى واللامعنى، والمعرفة والرأى، والحقيقة والخطأ، لكل هذا، يذهب نيتشه إلى أنه لا يوجد نص برىء طاهر أصلى، فمثل هذا النص إما لم يوجد أساسا او فقد إلى الأبد، وكل ما نقرأ هو التفسيرات وحسب أو الإحالات إلى نصوص أخرى، والتفسير هنا ليس هو الاجتهاد، أى أن يفترض القارئ أن ثمة علاقة اتصال وانفصال بين الدال والمدلول وأن هذه العلاقة ليست بسيطة ولا مباشرة ولا رياضية وإنما مركبة (بسبب طبيعة اللغة كأداة مركبة للتوصيل تستخدم المجاز). وفى إطار الاجتهاد، على القارئ أن يُعمل عقله لسبر غور العلاقة المركبة بين الدال والمدلول ويطرح معنى للنص، معنى ليس هو بالمعنى المطلق أو الحقيقى أو النهائى للنص، وإنما هو معنى يقارب الحقيقة وقابل للاختبار من قبل قارئ آخر، هذا هو الاجتهاد، أما عند نيتشه فالقراءة ليست البحث عن معنى النص وإنما هى فى الواقع استيراد معنى من الخارج وفرضه على النص، فالنص، مع انفصال الدال عن المدلول أو مع التحام الدال بالمدلول، لا معنى له فى حد ذاته، ومن ثم لا يوجد معنى سوى ما تفرضه إرادة القوة كما هو الحال دائم فى المنظومة النيتشوية، وكما قال أحد النقاد، فإن التفسير عند نيتشه هو وسيلة لأن يصبح الإنسان سيدا أى أن يصبح الناقد غازيا، وحشا نقديا أشقر مفترسا يعبر عن رؤية معرفية أدبية علمانية إمبريالية ويفرض أى رؤية باطنية.

    المفسر، إذن، يفرض تفسيره بإرادة القوة على النص، ولكننا فى عالم نيتشه الصراعى سنكشف أن العكس أيضا صحيح، فالفن هو أداة السوبرمان لأن يلغى المسافة بينه وبين الطبيعة ولأن يلتصق بها ليعبر عنها في صورتها الأولى قبل أن يشوهها العقل، أى أن الفن تعبير عن النزعة الديونيزية الجسدية العارمة المفعمة بالنشوة المحمومة المعربدة قبل ظهور النزعة الأبولونية العقلية التى تتسم بضبط النفس والاتساق والتناغم والرغبة فى التفسير العقلى للكون، والفن بهذا المعنى متجاوز للخير والشر، متجاوز لأى تفسير، فهو تعبير عن الحياة باعتبارها قوى متصارعة) وعن أخلاق السادة، وهو قادر على تغيير العالم والتبشير بالعالم الجديد.

    ويمكن القول أن نيتشه يستخدم نموذجا جماليا لفهم العالم، وهو نموذج جمالى بالمعنى الذى حدده هو: فالعالم ليس له سبب متجاوز، ولا سبب عقلانى كامن فيه فهو علة ذاته، كالعمل الفنى يلد نفسه بنفسه (وفى عبارة عضوية تبعث على الاشمئزاز تبين العدمية المادية عن نيتشه يقول: “براز هذا العالم هو طعامه، وهكذا تحولت المادة الأولى التى يتكون منها الكون فى يد فيلسوف العدمية إلى براز، وهى استعارة استخدمها كل من أرتو ودريدا من بعده). كل هذا يعنى أن العالم منظم ومتماسك ولكن نظامه وتماسكه مثل نظام وتماسك العمل الفنى، أى أنه نظام مؤقت يشبه النظام الذى يفرضه شاعر على قصيدة غنائية صغيرة، نظام لا يضرب بجذوره فى أى واقع وإنما هو وجدان الشاعر وإرادته، كما أن الواقع كالعمل الفنى مكون من استعارات من صنع عقل الإنسان، لذا فهذا الواقع وهم وتعبير عن إرادة القوة، كل هذا يعنى أنه لا توجد حقيقة وإنما توجد طرق فى النظر (منظور). وهى كلها طرق متساوية بسطح الواقع الممتد السائل. وإذا كان الواقع سائلا ووهميا فكذا الذات، فالإنسان مثل الفنان يخترع نفسه إذ لا يوجد ذات ثابتة، والذات من اختراع الذات، والذات هىتعبير عن إرادة القوة وعن الدوافع المظلمة.

    لكل هذا، يرى نيتشه أن الفلسفة والبلاغة هما نفس الشى، فالفلسفة التقليدية تدعى محاولة العقل الواعى، للوصول إلى الحقيقة الثابتة ومع غياب الذات المتماسكة والحقيقة الثابتة، فإن الخطاب الفلسفى هو تعبير عن محاولة الفيلسوف المفسر فرض إرادته على الواقع/ النص من خلال مقدراته وحيله البلاغية المختلفة. ولذا فإن تحليل النص الفلسفى لا يختلف بتاتا عن تحليل النص الأدبى، وكلها تعبير عن إرادة القوة.

    إن عالم نيتشه عالم حلولى كمونى واحدى تماما، حل المركز فيه داخل المادة وأصبح كامنا فيها ثم اختفى، فهى حلولية كمونية بدون إله لا تختلف فى بساطتها وسذاجتها عن الحلوليات الوثنية القديمة، حيث كان الهدف من العبادة لا أن يتسامى الإنسان وإنما أن يغوص فى الطبيعة ويلتحم بها لتتحقق الواحدية الكونية، أى أن فلسفة نيتشه (مثل الحلوليات الوثنية القديمة) تعبر عن الرغبة الدفينة عند الإنسان فى أن يهرب من عبء الهوية ليدخل الرحم الكونى الأكبر. وبدلا من أن يتطلع إلى النجوم فإنه يغوص فى الوحل. ولهذا، فإننا نجد إنسانا بلا إنسانية، وأخلاقا بلا أخلاق، ومعرفة بدون مضمون معرفى، إذ هل يمكن أن تكون هناك إنسانية ومعرفة وأخلاق بدون حدود وبلا تجاوز للطبيعة؟ نحن هنا أمام قيمة ليست بقيمة (فالقوة هى شريعة الغاب وليست شريعة الإنسان، والبقاء ليس قيمة أخلاقية وإنما قيمة بيولوجية، بل إن حلولية نيتشه أكثر راديكالية من الحلوليات الوثنية القديمة، فهذه الأخيرة كانت تدور على الأقل حول مطلق مادى، أما فى عالم نيتشه فإن المركز يختفى تماما ويكتسح العالم طاقة حيوية بلا اتجاه ولانظام ولا غاية ولا بنية، فهىلوجوس (مطلق) بلا تيلوس (غاية) تشبه الإيمان بالأطباق الطائرة أو وجود قوى خفية فى الكون تتحرك ولكنها فى حركتها لا تهدينا سواء السبيل فهو إيمان مطلق لايمكن أن تؤسس عليه منظومات أخلاقية ويظل تجربة نفسية لطيفة أو مريعة.

    ونحن نذهب إلى أن إسبينوزا ونيتشه ودريدا هم أهم فلاسفة المنظومة العلمانية المادية، وأن معظم الفلسفات الغربية التى ظهرت فىالقرن العشرين (بما فى ذلك الصهيونية والنازية) خرجت منتحت عباءة نيتشه وأن فكر ما بعد الحداثة (بكل تياراته) هو امتداد لمنظومة نيتشه الفلسفية. وقد تاثر كثير من المفكرين الهيود من الصهاينة وغير الصهاينة بفكر نيتشه

    *نشر الدكتور عبد الوهاب المسيري هذا المقال/الكتاب ضمن العدد الاول من مجلة اوراق فلسفية والذي خصص بكامله لفلسفة نيتشه ونظرة عليها بعد مئة عام على وفاته.




    عن أوراق فلسفية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.