• تأملات شاهد على العصر

    تأملات شاهد على العصر .. 1/2 - محمد الراشد

    إذا كانت فلسفة العلوم وتطبيقاتها التقنية بدءاً من فيزياء الصغائر تعاضداً مع فيزياء الفضاء قد دشنت عهداً جديداً في تاريخ البشرية عبر العصر الحديث قوامه تسخير الطبيعة المادية لخدمة الإنسان فإنها دشنت في الوقت نفسه عهداً جديداً في القتل والدمار للبشرية جمعاء وحولت الإنسان من حضور عقلي ووجداني إلى مجرد رقم تتقاذفه المصالح والأهواء . وما نتاج الحربين الكونيتين وقنابل القتل الجماعي في لحظات لهيروشيما وناغازاكي وما تبعها من همجيات في البوسنة والهرسك وأفغانستان وبلاد الرافدين والصومال وكشمير وصولاً إلى كل الجغرافيات العربية والإسلامية إلا حصاد لهذه التقنية التي ألبست الإنسان أثواب الذل والشنار وأسدلت على الطبيعة رداء الفساد والتشويه بدءاً من ثقب الأوزون وانتهاء بكل ما هو كائن وما سيكون من إساءات للطبيعة التي تنذر باستحالة استمرارية الحياة في أركانها .
    هذا ما قدمه الغرب بشقيه الامبريالي والماركسي لقريتنا الصغيرة الأرض وهو بدلاً من أن يقدم الاعتذارات عن جرائمه بصوت مرتفع أو على استحياء يسارع إلى الاعتزاز بذلك مثله في هذا مثل وحوش ضارية تقتحم قطيعاً من الخرفان فتحولها إلى أشلاء .‏
    وبهذا يكون الغرب قد حطم جدران التاريخ وسحق أرضية الحضارات وكسر ألواح القيم على طريقة الفيلسوف الحيوي ( المفقوع) فريدريك نيتشه الذي راح يتفلسف بمطرقة وفق أبجدية أسلافه من قبل وحتى يومنا هذا .‏
    ولكن أليس للتاريخ حقه في تصعيد خطه النامي على امتداد الأيام كما للحضارات حقها في إقامة صروحها على جبين الزمان !!‏
    إذا كان الغرب قد أنجب قتلة بأردية خشنة أمثال ستالين وهتلر وموسوليني فقد أنجب عدداً لايحصى من القتلة بأردية حريرية في اسبانيا وفرنسا وانكلترا والولايات المتحدة محققاً همجية الإنسان كما جسدها الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز بمقولته الوحشية (الإنسان ذئب على أخيه الإنسان) .‏
    وما حمامات الدم التي تحتل معظم جغرافيات آسيا وافريقيا وأمريكيا اللاتينية إلا حصاد ما أنجزته المدنية الغربية من عقليات افتراسية وتقنيات تدميرية . وبناء على ما تقدم أسارع إلى التذكير بأن من يخسر ثروة يفقد كثيراً ومن يخسر صديقاً يفقد أكثر ومن يفقد الشجاعة تواكبه الهزيمة أما من يفقد لوائح القيم فإنه يفقد كل شيء .وهذا مصير الغرب الذي حصر أهدافه وغاياته بالسيادة متجاهلاً الوسائل المنطقية المتمثلة بالقيم السامية التي من شأنها تحقيق الغايات التي يتطلع إليها . ولهذا حقق سيادة وهمية 00سيادة كريهة00 سيادة مؤقتة جعلته يتبوأ مواقع سيادة قمعية بدأت تتآكل كدماغ مسرطن .‏
    وصورة الواقع الغربي تشير إلى ذلك منذرة بموت سريع ومبشرة بميلاد نداءات المفكر الفرنسي العظيم رومان رولان ( النور سيبزغ من الشرق) وللإنصاف أقول بأن كل ما أشرت إليه آنفاً من انحطاط الإنسان الغربي وهمجيته لا يمثل إلا قادة الغرب واستخباراته ومافياته العسكرية والاقتصادية والسياسية وشركاته المنتجة للسلاح التي تسارع إلى إيقاد الحروب في كل مكان .‏
    لكنما في نفس الوقت أنتج الغرب علماء أفذاذاً ورجالات فكر وآداب وفلسفات عظام رفعوا لواء لوائح القيم الإنسانية والأخلاقية بما لا يمكن احصاؤهم في هذا المجال أمثال تولستوي وكيركفارد وشيلر وكانت وهوسرل ونيقولا برديائف وغوته وجان جاك روسو ولامارتين وهنري برغسون وجان ماري غويو وأرنولد توينبي وعزرا باوند وأرنست همنغواي وغيرهم .‏
    في حين حمل الشرق صورة أخرى للبشرية جمعاء وعلى الأخص في جغرافيات الهلال الخصيب من أوغاريت وأفاميا إلى بابل ونينوى عبر هذه الديار التي كانت مهد الحضارات ومهد الأنبياء على السواء حتى كان ميلاد (اقرأ) التي دشنت عهداً مضيئاً في تاريخ البشرية جمعاء، وما صورة إسبانيا الإسلامية (الأندلس) في العصور الوسطى إلا بيان على ذلك وبرهان لأنها منحت الغرب مفاتيح التقدم الحضاري ومناهجه وعبدّت له مسارات الخروج من عصر الظلمات إلى النور والضياء فكافأها على ذلك بالفتك والقتل والتهجير وصولاً إلى الاستئصال ...‏
    ومع هذا كله أنا لا أمقت الغرب بقدر ما أحزن عليه ولا أحقد عليه وإنما أرثي له لأنني أنتمي إلى أبجديات الوحي الذي أطل على البشرية بـ (اقرأ) وماتلاها من آيات بينات وميلاد علوم وآداب وفلسفات ودول وإمارات اجتاحت مشارق الأرض ومغاربها بضياءاتها وعلومها وجيوشها المسلحة بالحب والدفء والنور إلى درجة فرضت على المفكر الفرنسي غوستاف لوبون أن يقول: (ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب) وذلك بعض من ثمرات اقرأ والعهد الذي دشنته للبشرية جمعاء.‏
    كما أن حمامات الدم التي تحفر أخاديدها في كل مكان بعض من شراسة التقنية الغربية التي دشنت عهداً همجياً للبشرية جمعاء .‏
    انساحت جيوش (اقرأ) في بقاع الأرض فبذرت ورود الحب والعلم والتجانس وحققت ميلاد عبقريات تحولت من الظلمات إلى النور وما الطبري والباقلاني والرازي والفارابي وابن سينا وابن مسكويه وأبو حيان التوحيدي وابن طفيل وابن مسرة وجلال الدين الرومي إلا فيالق حب وأنسنة للناس أجمعين .‏
    واحتلت جيوش تأليه العقل والعلم والتقنية بقاع الأرض ثم ما لبثت أن انسحبت صاغرة وتركت بعدها الكراهية والاحتقار لتلك الجيوش وما حملته معها من ويلات .‏
    وذلكم هو الإشكال الأكبر الذي عسر على العقل الغربي أن يجد له تفسيراً .‏
    ليس هذا فحسب بل إن زحوف هولاكو وجنكيز خان وتيمورلنك حينما اجتاحت جغرافيات اقرأ بعد ضعفها ما لبثت أن احتضنت أبجدياتها وتجانست مع أوراقها وشاركت في أكل ثمارها حتى أن سقوط الإمبراطورية الرومانية وفتح القسطنطينية (استانبول) كان بفاعلية من زحفوا غزاة لجغرافيات اقرأ ثم ما لبثوا أن أصبحوا في عداد حملة ألويتها.‏
    ولكن ماذا عما هو آت ؟!‏
    قد تسارعون إلى إلقاء بسمات ساخرة إذا قلت لكم بأنني لست متشائماً على الرغم من كل ما نحن فيه من فتن ومحن لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل كما على الرغم من كل ما يخطط لنا الآخر من فجائع وزلازل ومكائد تنوء بحملها الجبال وإنني لأكاد أرى أشعة النور أوشكت أن تبزغ من الشرق كما بشر بها المفكر الفرنسي رومان رولان فجغرافيات الحضور العربي الإسلامي على موعد مع الفجر وأبجديات التوهج الحضاري السوري قاب قوسين أو أدنى من الإصباح وإذا كانت (مسرحية) سايكس بيكو قد تمت في غفلة من الزمان فلا ميلاد بعد اليوم لمسرحيات مماثلة لا شرق أوسط جديداً أو كبيراً ولا هراء ولا تقسيم ولا طائفية ولا تجديف فسورية أم الدنيا وأستاذة البشرية جمعاء كانت وما زالت وستبقى ضياء نجوم وكواكب وأقمار ستبقى مشاعل نور وأطياف فكرية وعقائدية وعرقية تشتد وحدتها يوماً إثر يوم وتمد الأزمنة بعبقها الفواح مثلها في ذلك مثل روضة غناء تحتضن الورود والأشجار المثمرة لتعطي أكلها للناس أجمعين .‏

    جريدة الجماهير
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.