• المريب والعجيب في صفقة الغاز-فهمي هويدي

    المريب والعجيب في صفقة الغاز
    فهمي هويدي

    كل الذي جرى في مسلسل بيع الغاز المصري لإسرائيل يظل مثيراً للشك وغير قابل للتصديق. ورغم أن المحكمة الإدارية العليا أجازت المبدأ وأدانت إجراءات تنفيذه، إلا أن محكمة التاريخ لن ترحم أحدا من الضالعين في الاثنين، سواء ظهروا في الصورة أو غابوا عنها.
    ـ 1ـ
    الصحف التي صدرت صبيحة يوم الأحد 28 شباط أبرزت على صدر صفحاتها الأولى قرار محكمة مجلس الدولة بإباحة تصدير الغاز لإسرائيل، معتبرة أن إقامة علاقات تجارية معها بعد معاهدة السلام من أعمال السيادة الخارجية التي لا تخضع لولاية القضاء. وكان واضحا أن الصحف «القومية» رأت في الحكم انتصاراً لسياسة الحكومة في التعاقد على بيع الغاز، إلا أن قراءة الحكم بهذه الصورة يعد سيراً على درب الذين وقفوا في قراءة الآية القرآنية عند عبارة لا تقربوا الصلاة، ذلك أن الحكم شكك بعد ذلك في موقف الحكومة إزاء عملية التنفيذ. ودعا إلى وقف تنفيذ قراري مجلس الوزراء ووزير البترول لأنهما لم يتضمنا آلية للمراجعة الدورية لكمية الغاز المصدر وأسعاره خلال مدة التعاقد حماية للصالح العام المصري. كما دعت المحكمة إلى إلغاء الشرط الذي يضع سقفا لأسعار البيع لإسرائيل، لكي يتماشى مع تطور أسعار الغاز والبترول في السوق العالمية.
    حيثيات الحكم لم تذع بعد، لكن صحيفة «الشروق» نشرت في يوم 3/3 جانبا منها نسب إلى الحكومة ارتكاب ثلاث مخالفات في تصديرها للغاز، الأولى أنها وافقت على تحديد كمية الغاز الطبيعي المصدرة لإسرائيل بسبعة بلايين متر مكعب سنويا «تزداد في حالة وجود فائض». مما يشكل إجحافا بحق المواطن المصري.
    المخالفة الثانية أنها وافقت على تحديد سعر التصدير بحد أدنى 75 سنتا أميركيا للمليون وحدة حرارية، وحد أقصى دولاراً ونصف الدولار في حالة وصول متوسط سعر خام البترول إلى 35 دولارا للبرميل، وهو ما يعني أنه لا مجال لزيادة سعر التصدير، حتى إذا ما تجاوز ذلك الحد، كما هو الحاصل حاليا.
    المخالفة الثالثة أن الاتفاق تم على سريان العقد لمدة 15 عاما، على نحو غير قابل للمراجعة في ظل أي تطورات جذرية يمكن أن تحدث خلال تلك الفترة. وهو ما يتناقض مع التشريعات الحاكمة لاستغلال هذه السلعة الاستراتيجية.
    مما ذكرته صحيفة «الشروق» أيضا نقلا عن الحيثيات، أن المحكمة أكدت أن الأوراق المقدمة من الحكومة لم تثبت حدوث تغيير في أسعار الغاز وكمياته منذ صدور قرار وزير البترول في هذا الشأن عام 2004، كما أنها لم تفسر امتناعها عن إعادة عرض الأمر على مجلس الوزراء، رغم مضي عشر سنوات على صدور قرار التصدير، لإعادة النظر في احتياجات السوق المصرية.
    ـ 2 ـ
    هذا الحكم يعد نهائياً وغير قابل للطعن فيه، لكنه يثير عديداً من الملاحظات والأسئلة الحائرة. من الملاحظات أن المستشار محمد الحسيني رئيس مجلس الدولة، الذي رأس المحكمة، كان قد وجه رسالة حين عيّن في منصبه في العام الماضي، أعلن فيها أن المجلس لن ينظر في القضايا السياسية، نظرا للظروف الخاصة والملاءمات التي تحيط بها، لكنه لم يستطع أن يفي بذلك، ووجد قلب السياسة حين نظر القضية التي نحن بصددها الآن.
    من تلك الملاحظات أيضا أن اعتبار بيع الغاز إلى إسرائيل قرارا سياديا يبدو غير مسوغ وغير مفهوم، ذلك أن فقهاء القانون يعتبرون أن القرار السيادي هو الذي تصدره القيادة في ضوء خياراتها السياسية وليس بصفتها سلطة إدارة، وهو ما ينطبق على تشكيل الوزارة وإعلان الطوارئ أو الدخول في حرب أو الاتفاق على هدنة. أما الاتفاق على بيع سلعة استراتيجية مثل الغاز أو بيع سلعة استهلاكية مثل البصل والبطاطس، فلا يمكن أن يعد قرارا سياديا.
    أما الأسئلة التي تثيرها القضية فهي كثيرة، منها على سبيل المثال:
    ÷ لماذا أحيطت العملية بالسرية الشديدة منذ بدئها في شهر نيسان من عام 2000، بحيث لم يعلم بها أحد إلا حين نشرت الصحف الإسرائيلية صورة توقيع الاتفاق التي ظهر فيها وزير البترول المصري مع وزير البنية التحتية الإسرائيلي «اليه سويسا» وهما يتصافحان ويتبادلان الابتسامات بعد التوقيع؟ (هل تذكر قصة السور الفولاذي الذي تقررت إقامته بصورة سرية بين سيناء وقطاع غزة، ولم يعلم به المصريون إلا بعدما نشرت الخبر إحدى الصحف الإسرائيلية).
    ÷ لماذا لم يعرض هذا الاتفاق الذي وقع في 13 نيسان سنة 2000 على مجلس الشعب المصري، شأن غيره من الثروات الطبيعية والسلع الاستراتيجية التي ينبغي أن يعرض أمر التصرف فيها على المجلس؟
    ÷ لماذا امتنعت الحكومة طوال العامين اللذين نظرت فيهما قضية وقف تصدير الغاز أمام القضاء عن تقديم أي بيان أو مستند إلى مجلس الدولة يبين نص العقود الموقعة أو الأسعار التي اتفق عليها أو أي تعديلات ادعت الحكومة أنها أجرتها على بنود الاتفاق؟ وهو ما اضطر الدفاع إلى الاعتماد في معلومات الاتفاق على المصادر الأجنبية.
    ÷ لماذا امتنعت وزارة البترول عن إعادة النظر في الكميات المصدرة طوال السنوات العشر الأخيرة، رغم علمها بتزايد معدلات الاستهلاك في داخل مصر، بما لا يسمح بتصدير أي «فائض» إلى أي دولة أجنبية؟
    ÷ مَن المسؤول عن المأزق الذي أصبحت مصر تواجهه الآن، حيث أصبحت تشتري الغاز من الشريك الأجنبي لكي تبيعه إلى إسرائيل بدولار ونصف الدولار، الأمر الذي يحمل الخزانة المصرية كل صباح مبلغ 12 مليون دولار، تدفعها مصر إلى الشريك الأجنبي لكي تفي بالتزامها إزاء إسرائيل (المعلومة الأخيرة وردت في مذكرة الدفاع التي قدمتها الحكومة إلى المحكمة).
    ÷ ما الحجم الحقيقي لمخزون الغاز في مصر، الذي تبالغ فيه وزارة البترول بحيث ترفعه إلى 77 تريليون قدم مكعبة، فيما يذهب رأى الأغلبية الساحقة من الخبراء إلى أن المخزون في مصر يمثل نصف هذه الكمية؟
    ÷ هل يُعقل أن تشتري إسرائيل الغاز من مصر بسعر الوحدة يتراوح بين 75 سنتا ودولار وثلاثين سنتا، حين بدأ يصل إليها في أول ايار 2008، في حين أن سعر السوق في ذلك الوقت كان 13 دولارا، الأمر الذي يعني أننا نخسر في كل وحدة ما يقارب 11 دولارا (للعلم إسرائيل تحصل من مصر يوميا على 665 مليون وحدة والسعر الآن 15 دولارا لكل وحدة).
    ـ3ـ
    في العام الماضي أصدرت محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار محمد أحمد عطية حكمها بوقف تصدير الغاز إلى إسرائيل، الذي تم الطعن به أمام المحكمة العليا. وكان الحكم قد اعتبر قرار وزير البترول ببيع الغاز معدوما لمخالفته أحكام الدستور والقانون. أما الحيثيات التي وردت في الحكم فإنها أثارت نقاطا عدة من بينها ما يلي:
    ÷ ثبت من أوراق الدعوى أن الغاز الطبيعي المصري يباع بسعر لا يتناسب البتة مع السعر العالمي السائد.. ومن شأن ذلك إهدار جزء من ثروات مصر وعوائدها، التي كان يمكن لو أحسن التصرف فيها أن تعود على المجتمع بخير وفير.
    ÷ إن هذا التصرف من جانب السلطة يهدر يوميا على خزينة الدولة ملايين الدولارات، الأمر الذي يفقدها جزءا كبيرا من ثروتها وموردا مهما من مواردها، وهو ما يتعارض مع اعتبارات الصالح العام الذي ينبغي أن تسعى إليه جميع أجهزة الدولة، كما أنه لا يستقيم مع ما تقضي به نصوص الدستور من حرمة الملكية العامة وإلزام كل مواطن بواجب حمايتها.
    ÷ إن جهة الإدارة بإصدارها القرار المطعون فيه (القاضي بتصدير الغاز)، الذي لا يمت للمصلحة العامة وللمجتمع، ويهدر جزءاً مهماً من ثروة البلاد الطبيعية التي وهبها الله للشعب، تكون قد انحرفت بسلطتها وأساءت بشدة استعمالها.
    ÷ إن إجراءات تنفيذ الصفقة شابتها ملابسات تبعث على الشك والحيرة، فقد ثبت أن ثمة سرعة متناهية وتعاصراً مريباً في إنشاء شركة الغازات الطبيعية التابعة للقطاع العام، ثم إنشاء شركة مصرية تابعة للقطاع الخاص «باسم شركة البحر المتوسط» وتعديل نشاط الشركة الأخيرة والغرض منها، ثم منحها فور ذلك ودون غيرها عقد امتياز واحتكار شراء الغاز المصري المصدر لإسرائيل، وهي ملابسات تثير التساؤل عن أسباب ذلك التزامن العجيب وعن السرية والتكتم الشديد الذي فرضته جهة الإدارة حول الصفقة. كما تثير تساؤلا حول دوافع حجب تفاصيل الصفقة عن الشعب ونوابه، وهو ما يتعارض مع الشفافية المفترضة في ديموقراطيات العالم المتحضر. كما أنه يخل بالثقة الواجب توافرها في تعاملات جهة الإدارة.
    ـ4ـ
    إشارات محكمة القضاء الإداري لامست الحقائق المذهلة في مسلسل الصفقة، التي كشفت عن أن الأمر أبعد وأعمق مما بدا على السطح، بقدر ما نبهت إلى أن هناك جزءا غاطسا في المشهد لم يتعرف عليه أحد، ولم يظهر أبطاله في الصورة.
    إذ لا بد أن يستغرب المرء مثلا قيام وزير البترول فجأة بدعوة الهيئة العامة للبترول إلى اجتماع عاجل في 12 نيسان/أبريل عام 2000، لبحث موضوع واحد هو تنفيذ تعليمات تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل عبر الأنابيب وفق الاشتراطات الإسرائيلية، ثم في اليوم التالي مباشرة «13 نيسان» يوقع وزير البترول اتفاقية تصدير الغاز مع وزير البنى التحتية الإسرائيلية، دون تفويض من وزير الخارجية أو رئيس الجمهورية، ودون عرضها على مجلس الشعب «وفقا لأحكام الدستور». وفي وقت لاحق «في 24 ايار» يوجه رئيس الهيئة العامة للبترول كتابا سريا إلى رئيس شركة القطاع الخاص يخطره فيه بأن شركته ستكون البائع الوحيد المحتكر والمخول ببيع الغاز الطبيعي إلى إسرائيل. ويؤكد ضمان الهيئة العامة للبترول توفير الكميات المتعاقد عليها من حصتها أو من حصة الشريك الأجنبي. أي أن تشتري مصر غازها الذي تملكه من حصة الشريك الأجنبي بسعر يقارب 3 دولارات لتبيعه لإسرائيل بـ75 سنتا. ثم في 18 آذار 2001، وبناء على الاتفاقية الباطلة بين الوزيرين المصري والإسرائيلي يصدر رئيس الوزراء قرارا غير معلن يخول وزارة البترول من خلال مؤسساتها حق بيع كمية قدرها 7 مليارات متر مكعب من الغاز المصري إلى شركة القطاع الخاص، وفي اليوم التالي مباشرة «19 آذار» وفي إجراء غير معهود يوجه رئيس الوزراء خطابا إلى رئيس شركة القطاع الخاص يبلغه فيه أنه من دواعي سروره أن يبلغه بأن مجلس الوزراء وافق على أن تتولى شركته تنفيذ الصفقة مع الجانب الإسرائيلي.
    هذا نزر يسير من خلفيات العملية التي، لو تكشف أمرها في أي بلد محترم، لأحدث زلزالا يهز أركان الحكومة والنظام، لكنه في مصر لم يحرك شيئا في المؤسسات الشرعية التي تم تجاوزها والازدراء بها في كل ما تم من خطوات. أما الذين حركتهم الغيرة واستفزهم الحدث فقد كانوا بعض الوطنيين الغيورين، الذين رفضوا الاستسلام أو السكوت عن ذلك الإهدار المعيب لثروة المجتمع وذلك الاحتقار المستغرب للدستور والقانون، وذلك التخاذل المدهش أمام الإسرائيليين.
    إن كتيبة القانونيين الذين يخوضون معركة الدفاع عن ثروة المجتمع وكرامته في ساحة القضاء، تضم نفراً من الشرفاء، سيتقدمهم السفير السابق والمحامي القدير إبراهيم يسري، الذي قال لي قبل أيام، إن قلم الكتاب بالمحكمة العليا رفض أن يسلم مندوبا عنه الصيغة التنفيذية للحكم الأخير لتنفيذ شقه المتعلق بوقف قرار بيع الغاز، لحين وضع آلية لمراجعة كمية وسعر الغاز المبيع وإلغاء الشرط الذي يضع سقفا لسعر البيع.
    إن لوبي تصدير الغاز لإسرائيل في مصر أكبر وأقوى مما نتصور.

    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : المريب والعجيب في صفقة الغاز*فهمي هويدي* كتبت بواسطة رزاق الجزائري مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.