• ما بعد الحداثة السمات والأدوات - طارق شفيق حقي

    ما بعد الحداثة السمات والأدوات
    طارق شفيق حقي

    أحاول في هذه المقالة التميز بين أعراض فكر ما بعد الحداثة وبين أدواتها .
    من ميزات ما بعد الحداثة انفصام الشخصية
    سردت الأسوشيتد برس عام 27 كانون الأول / 1987 كشاهد محتمل على حضارتنا:

    " جرت معالجة السيد دوبين كمنفصم الشخصية ففي عيد الشكر، وبحسب الشرطة ، أخذ السيد دوبين ولديه ، بارتلي جويل ، سنتان ، وبيتر دافيد ، 15 شهراً ، إلى شركة كافن – موسكيغن لسبك المعادن حيث يعمل ، ووضعهما في فرن عملاق يستعمل للصهر. ثم أشعله على درجة حرارة 1300 درجة بينما زوجته تنتظر في الخارج في السيارة جاهلة ما يجري ، ودوبين 26 سنة هو الآن تحت الحراسة المشددة من خطر الانتحار "

    التدمير الخلاق عنصر أساسي للحضارة الغربية ولفكر ما بعد الحداثة

    يعتبر التدمير مكون أساسي في الحضارة الغربية وضمان لنجاح وبقاء حضارتها، يقول الخبير غيرهارد آرمانسكي " لم تنتج الإنسانية أبداً ذلك القدر الضخم من التدمير الذي قامت به خلال تاريخها، ولكنه في الوقت ذاته نتج عن هذا التدمير بالذات حضارة ناجحة جداً .... العنف ليس في أطراف التاريخ الأوربي ، بل هو جزء مهم للثقافة الغربي"

    تعريف ما بعد الحداثة
    يعرف ليتوار ما بعد الحداثة :" التشكيك في ما وراء الروايات"
    كمنظر ما بعد حداثي يقول فوكو " علينا تطوير ممارسة وفكر ورغبات بالتوالد والتجاوز والتقطيع وعبر تفضيل ما هو وضعي ومتعدد وتفضيل الاختلاف على التجانس والمتحرر على الموحد والمتنقل المتفلت على النظام"
    الفوضى
    ربما تعود ما بعد الحداثة إلى أفكار نيتشه حيث يشدد على طابع الفوضى العميق في الحياة الحديثة، فيما لا يفهم الفكر العقلاني ذلك ويعجز عن التقاطه.
    وهذا يقودنا للتأكيد أن ما بعد الحداثة هي شكل من أشكال الحداثة لا أكثر ولا أقل .
    هذه النتيجة ليست لأن فكرة الفوضى فكرة حداثية فحسب، بل لعل هذا التقسيم الجديد يعكس حالة أكثر عمقاً حيث لم يرفض أحد أقدم رموز اليسار الجديد " رايموند وليامس الحداثة كمقولة سليمة فحسب بل تقدم أكثر ليصل إلى أن ما بعد الحداثة هي نفسها قناع لحجب التحولات المستجدة الأكثر عمقاً في ثقافة الرأسمالية.
    ولعل حالة ما بعد الحداثة قد انتهت بالفعل ،عام 1988 قال خبير في الاستثمارات كبير في الولايات المتحدة الأمريكية إلى المهندس موشي صافدي في مجلة نيويورك تايمز
    " لقد انتهت ما بعد الحداثة ، هو ذا ما نشعر به "
    تتهم ما بعد الحداثة عموماً بالانقياد الرخيص والمباشر لمتطلبات التسليع والتجارة والسوق ،يقول ألان شوغار رئيس شركة أمستردام :" لو كان هناك سوق لأسلحة نووية محمولة، ومنتجة بكثافة ، لكنّا سوّقناها أيضاَ"


    إن الرأسمالية العالمية تحل مشكلة تراكم المال بالتمدد الجغرافي، لكن هذا التمدد الجغرافي يجلب أحياناً تطورات لا متوازنة تحلها الرأسمالية عبر ثوابت مكانية لمشكلة التراكم الرأسمالي المفرط وبذلك ينقلب تاريخ العالم بحسب الماركسية إلى صراع جيو سياسي فتختلط الرؤى اللاعقلانية بالاجتماعية ، ويصبح الصراع السياسي مشكلة شخصية بين أشخاص ، وتصبح القواعد العسكرية في مناطق الثوابت المكانية كتركيا والسعودية وإسرائيل معسكرات للموت ومراكز للبربرية لا مثيل لها لكنها وإن كانت تسعى لتدمير ما حولها فهي لا شك أنها ستدمر نفسها في النهاية كسمة من سمات ما بعد الحداثة .
    التسليع

    الفكر الرأسمالي ما بعد الحداثي تميز بالتسليع، فأمريكا خاضت أفشل الحروب التقليدية في العالم وأكثرها تكلفة في أفغنستان وفي العراق، وفي الأخيرة يصرح بأن تكلفة الحرب بلغت 3000 مليار دولار ولعلها تجاوزت ذلك بأضعاف.
    لكن من هزم الجيش التقليدي أقوى الجيوش في العالم، لقد كانت حركات صغيرة ومجموعات وأحياناً مجرد أفراد، أدرك العقل الرأسمالي أنه يمكنك هزم خصمك بأكثر من وسيلة حيث تعد الحروب التقليدية أكثر الحروب غباوة ، فإذا كانت غاية الحرب كسر إرادة العدو فيمكنك كسر إرادة عدوك بالأدوات الأكثر ابداعاً ، هنا سلّع الفكر الأمريكي تقنيات خصومه وأضاف لها التوجيه المتطور والمعلومات الدقيقة فحقق ما لم يكن يحلم به لو خاض حرباً تقليدية.
    وهذا ما يسمى بالجيل الرابع للحروب ، والذي حاضر ماكس مانوارنج التابع لمعهد الدراسات الاستراتيجية ssi strategic studies institute
    united states army war college
    حاضر في معهد دراسات الأمن القومي – إسرائيل
    وكانت المناسبة : المؤتمر السنوي لأمن نصف الأرض الغربي التاريخ 13/8/2012
    مما جاء في هذه المحاضرة :

    " لم نعد نرسل قوات نظامية عبر الحدود على الأقل أغلب الأحوال ، والقوات العسكرية ليست نظامية ليست كلها رجال فيها نساء وليسوا كلهم بالغين بل فيهم أطفال .....الحرب هي الإكراه سواء غير قاتلة أو قاتلة كما اعتدنا في الماضي
    الكلمة الأخرى: الدولة الفاشلة " ليست حدثا إنما عملية بخطوات تنفذ ببطء ، وبهدوء كافي

    إذا فعلت هذا بطريقة جيدة، ولمدة كافية ، وببطء كاف، وحميد بشكل كاف ( باستخدام مواطني دولة العدو) فسيستيقظ عدوك ميتاً.

    التدمير الخلاق كأداة لتقدم الرأسمالية

    التدمير الخلاق بحسب " شومبيتر" هو الصورة التقدمية لتطور رأسمالي يستهدف الخير العام ، لكنه حقيقة كان الشرط الضروري لتقدم القرن العشرين وقبيل الحرب العالمية الثانية كتب غروترد شتاين عن بيكاسو عام 1938 " : " لأن كل شيء في القرن العشرين يدمر ذاته ولا شيء يبقى ، يستطيع هذا القرن أن يدعي مثل هذا الشرف، وكذا بيكاسو ، ابن هذا القرن فهو يعطيك الإحساس الغريب بأرض لم يرها أحد من قبل، وبأشياء يجري تدميرها كما لم يحدث من قبل . لقد كان لبيكاسو مثل هذا الشرف"
    تقدم نيتشه برفع الذاتية فوق العلم والجمال والعقلانية والسياسية وتقدم " بالتدمير الخلاق" كشرط جوهري للحداثة ، وعلى الحداثي أن يدمر من أجل أن يخلق كالفكرة التي سادت بين طبقة المثقفين السوريين " إعادة البناء" لقد كانت الوجه الآخر للهدم فكيف لك أن تعيد البناء دون هدمه، لقد كانت أكثر الأفكار خطورة على العقل العربي عموماً والسوري خصوصاً ولم نكن نمتلك جرأة نقد المصطلحات الغربية لغياب العقل النقدي وتحوله لشكل من أشكال الاستعباد الفكري.

    كذلك كانت الرأسمالية تدمر المجتمعات لتتقدم، فإذا كان على الحداثي أن يخلق حقائق ثابتة فعليه أن يمتلك أداة تدمير خلاقة أو الخلق التدميري ليرسخ لهذه الحقيقة ، ولقد امتلكها الغرب وهم الشباب العربي والهشاشة الاجتماعية وتدني مستوى التعليم والشكلانية الدينية والفساد الرسمي .
    كما الفرقة القذرة في بلاد الشام والعراق التي كانت أكثر فكرة خلاقة للبيت الأبيض، فكان على الفكر الحداثي الأمريكي لكي يظهر كالمخلص للشعوب المشرقية، وكالمهدي المنتظر أن يخلق الوحش أولاً ثم يظهر الفارس المغوار الذي ينتقم من هذا الوحش ويستمد من وجود الوحش وجوده هو، عليه أن يدمر هذا المجتمع أولاً ثم عليه أن يصنع على أنقاضه مجتمعاً جديداً.
    وكلامنا عن الحداثي وما بعد الحداثي سواء، وإذا كان علينا أن نفهم هذه الآلية " التدمير الخلاق" هل هي حاجة للحداثة أم هي مجرد آلية، فهي وإن كانت توظف كآلية، لكنها حاجة ملحة لاستمرار المشروع الحداثي.
    إن مشروع أمريكا في احتلال المنطقة وخلق شرق أوسط كبير تورط في مآزق كبيرة، لذلك كان لا بد من التفكير في آليات لتدمير الشرق القديم لخلق شرق أوسط جديد.
    مفكرو الحداثة يبسطون قضية التدمير الخلاق فيقولون إنك إذا أردت أن تصنع طبق عجة فعليك أن تكسر البيض أولاً.
    كسر البيض صار مطلباً وجودياً لتحقيق الأهداف ولتحقيق الذات حتى ولو بلغت النتائج حداً مآساوياً.
    هذه السمات تتجلى في فكر نيتشه حيث عدم الانتظام والفوضى والتدمير والاغتراب الفردي واليأس.
    لقد أخرجت الحضارة الغربية رغم أدواتها العلمية والحديثة غريزتها البربرية والبدائية المتوحشة أيما توحش وهي على استعداد لتدمير العالم في سبيل بقاء سيطرتها عليه.
    وقد يقول العقل وما الفرق ، لكن الفرق شاسع .

    الفروق بين الحداثة وما بعد الحداثة
    إن كانت الحداثة تتسم : بالرومانسية والرمزية فما بعد الحداثة تتسم بما بعد الطبيعية والدادائية
    إن كانت الحداثة تتسم بالتراتبية فما بعد الحداثة تتسم بالفوضى
    إن كانت الحداثة تتسم بالتركيب فما بعد الحداثة تتسم بالتفكيك والنقض
    إذا كانت الحداثة تتسم بجنون العظمى بما بعد الحداثة تتسم بانفصام الشخصية.


    لا أحد يعلم أين تأخذنا ما بعد الحداثة بعبثية ألعابها وغموض مستقبل الفوضى، وكما حذر لينين من النسبية الغامضة وتبيان المخاطر السياسية والفكرية لهذا الفكر، فلقد كان تحذيره في مكانه حيث انفجرت الحرب العالمية الأولى لتكون معركة الإمبرياليات العظمى .
    هل أصبح اللعب تحت سقف الحروب الدموية ميزة للعقل الغربي ؟
    إن اللعب ميزة من ميزات ما بعد الحداثة لذلك قد نرى أحياناً حروباً ومعارك عبثية لا يمكن لعقلنا أن يفهم أنها كانت لوقت مجرد لعبة، كما قد تكون مجرد تجريب فحين يضل العقل الغربي عن تحديد مستقبله وتحقيق أهدافه فإنه يجرب ويعبث ، ولربما سندهش بعد عقود حين نقرأ اعترافات الغرب، إننا كنا نقامر في هذه الحروب كما تورط في قمارة ولا سبيل لديه إلا أن يضع بقيه أمواله أو يقامر ببيته وسيارته حتى.
    لكن مع فارق صغير أن أمريكا تقامر بأموال واستقرار وجيوش الدول الحليفة لها ، وحتى إنها قامرت على أكبر مشروع إعلامي صرفت عليه الأموال الطائلة وهي قناة الجزيرة فقامرت عليها بلا مبالة وأحرقتها في آتون هذه الحروب.
    ونحن اليوم أمام معركة وجودية ضارية وكلما هزم المشروع الغربي في المنطقة كلما ازدادت عصبيته وهمجيته ، وكلما قامر أكثر، وإن كنا عددنا الميزات النفسية لحالة ما بعد الحداثة كالتدمير وانفصام الشخصية فإن أهم عناصرها الانتحار والموت.
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.