• الأمراض النفسية تحاصر السوريين: مخرجات الحرب!- علاء حلبي


    على هامش حرب دموية اختارت المنازل ساحات لها، ثمة تغيرات كبيرة تطرأ على المجتمع السوري، فتغيّر من شكله وتركيبته، وكذلك أمراضه التي لا تقتصر على الفيزيولوجية، بل تتعداها إلى حدود أكبر، لتغدو «نفسيات» أبناء هذا المجتمع مريضة، تتفشى فيها أمراض تلو الأخرى، فينتج جيلاً مشوهاً، يزداد تشوّهه مع استمرار تدفق الدماء. هذه الصورة قد تلخص الوضع السوري في عامه الخامس من الحرب.

    وعلى الرغم من صعوبة إجراء مسح دقيق لدراسة نسب تفشي الأمراض النفسية، بسبب استمرار المعارك وتشرذم المشهد الميداني، وتعدّد القوى والإيديولوجيات، إلا أن ثمة دراسات مبسطة حاولت تشخيص ارتفاع نسب الأمراض النفسية وأنواعها في سوريا.


    وكشفت دراسة حديثة، أعدّتها وزارة الصحة السورية في شباط الماضي، أن نسبة الاضطرابات النفسية لدى السوريين ازدادت بنسبة 25 في المئة عما كانت عليه قبل الحرب، موضحة أن «40 في المئة من عامة الناس باتوا اليوم يحتاجون إلى دعم نفسي اجتماعي»، وهي أرقام رأى طبيب نفسي أنها «ضئيلة مقارنة بالواقع الذي يشهد تفشياً كبيراً لحالات الاضطرابات النفسية التي تزداد بشكل مضطرد».

    أرقام وزارة الصحة السورية تبدو قريبة من أرقام «منظمة الصحة العالمية»، التي أفادت في تقرير لها نشر في دورية «أصداء من سوريا» أن أكثر من 350 ألف شخص يعانون من مستوى حادّ من الاضطرابات النفسية، وأكثر من مليوني فرد يعانون من مستوى خفيف إلى متوسط من المشاكل النفسية، مثل القلق والاكتئاب، فضلاً عن معاناة نسبة كبيرة منهم من مستوى متوسط إلى حاد من الضيق النفسي، في حين قدّر صندوق الأمم المتحدة عدد النساء في سوريا اللواتي يتعرّضن إلى اكتئاب ما قبل وما بعد الولادة بـ 10 إلى 15 في المئة من الحوامل.

    ورأى الطبيب النفسي الدكتور تيسير حسون، خلال حديثه إلى «السفير»، أن الحرب ساهمت بشكل كبير في ارتفاع نسبة الإصابات بالأمراض النفسية، موضحاً أن «معدل الإصابة بالاضطرابات النفسية الحادة أو الكبرى (كالذّهان) ارتفع إلى نحو الضعف (من 2 في المئة إلى 4 في المئة تقريباً)، في حين ارتفعت حالات الإصابة بالاضطرابات النفسية، المتوسطة والخفيفة، بشكل كبير».
    وخلال حديثه، يفرّق حسون بين «الاضطرابات النفسية»، التي تتمتع بمجموعة من الأعراض والعلامات التي تشكل هوية قابلة للتشخيص وتتطلب علاجاً، و «المشكلات النفسية» الناجمة عن الصدمات وردات الفعل، مشيراً إلى أن المشكلات النفسية متفشية بشكل كبير في مختلف شرائح المجتمع.
    وعلى الرغم من تفشي الأمراض والاضطرابات النفسية، يشرح الطبيب النفسي أن «ثمة نواحي إيجابية في هذه القضية في ما يتعلق بقبول المجتمع للأمراض النفسية على أنها أمراض تتطلب العلاج، وليست وصمة عار أو جنون كما كان شائعاً قبل الأحداث»، موضحاً أن نسبة ارتياد العيادات النفسية ارتفعت أضعافاً بعد الحرب، وهو أمر ناجم عن ازدياد وعي المجتمع هذه القضية.
    ومن خلال دراسته وملاحظته للمرضى النفسيين، يؤكد حسون أن الأمراض النفسية لا تقتصر على مناطق الصراع، أو المناطق الساخنة، بل تتعدّى ذلك لتصل إلى مختلف المناطق السورية، «رغم أن مناطق الصراع تشهد ارتفاعاً للاضطرابات الكبرى، كما يظهر ذلك في مراكز إيواء النازحين من مناطق الصراع، والذين تظهر لديهم نسب مرتفعة من الاضطرابات النفسية الكبرى. الأمر الذي يمكن أن يعطي مؤشراً آخر على مدى ارتفاع الإصابة بالاضطرابات النفسية الحادة، خصوصاً في ظل الارتفاع المضطرد في عدد المهجرين من مناطق الصراع الذين يفوق عددهم 11 مليون مواطن سوري داخل سوريا وخارجها».
    وأمام هذه الصورة المظلمة للأوضاع النفسية للسوريين في ظل الحرب، يشكل الأطفال الحلقة الأضعف والأكثر تضرراً، خصوصاً ممن نشأ في مناطق ساخنة تشهد اشتباكات وأعمال عنف، حيث سجّل ارتفاعٌ كبيرٌ في نسبة الاضطرابات النفسية لدى الأطفال القادمين من تلك المناطق، في حين لم يسلم الأطفال القاطنون في المناطق الآمنة من تفشي هذه الأمراض.
    وعن الأمراض التي ارتفعت بين الأطفال جراء الحرب يقول الطبيب النفسي «تظهر حالات عديدة أبرزها التبول، التأتأة، الكوابيس، التراجع الدراسي، زيادة التشبث والتعلق بالأهل، العنف، الانزواء والخوف».
    وفي وقت يشهد فيه المجتمع تفشياً للأمراض النفسية، تعاني سوريا من «نقص حادّ» في عدد الأطباء والاختصاصيين النفسيين، حيث لا تضم دمشق سوى نحو 45 طبيباً نفسياً، في وقت تخلو فيه مساحات شاسعة ومدن كاملة من مختص أو طبيب نفسي، الأمر الذي قد يساهم بدوره في زيادة «ظلامية» المشهد الإنساني الذي تنتجه الحرب في سوريا، ليغدو المجتمع مشوّهاً في حال لم يتم تدارك الوضع، وهو أمر يبدو أنه صعب في كثير من المواقع على الأرض السورية الخاضعة لسيطرة إيديولوجيات القتل، والتطرف الديني الذي بدأ يأخذ طابعاً «منظماً».
    تعميم العيادات النفسية
    تفيد إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن «هناك نحو أربعة من كل خمسة أشخاص يعانون من الاضطرابات النفسية والعصبية الإدمانية في البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض، الأمر الذي يجعل معدل الإصابة بهذه الاضطرابات أكبر بكثير في ظل الحرب.
    وأمام النقص الحاد في عدد الأطباء والاختصاصيين النفسيين في سوريا، عملت وزارة الصحة السورية، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، على إقامة ورشات تدريبية ودورات خاصة، ضمن برنامج «رأب الفجوة» الذي أطلقته المنظمة الأممية في العام 2008 لتأهيل الكوادر الطبية على تشخيص ومعالجة الأمراض النفسية، حيث عممت هذه التجربة، الأمر الذي أفسح المجال أمام المصابين بهذه الأمراض لتلقي العلاج عبر المستوصفات الحكومية.
    ويرى طبيب نفسي أن هذه التجربة ساهمت بشكل كبير في إبعاد المصابين بهذه الأمراض عن العيادات النفسية، وجعلت المعالجة أقرب للمواطن عبر ارتياده مركزاً يعالج الأمراض الفيزيولوجية، الأمر الذي أدى لاتساع الشريحة التي بدأت تتلقى العلاج، منوهاً في الوقت ذاته إلى أن «النسبة الأكبر من المقبلين على هذه المراكز، وحتى على العيادات النفسية هم من أبناء الطبقات الاجتماعية الدنيا، ما يمكن أن يعطي مؤشراً على مدى ارتفاع نسبة الثقافة النفسية في المجتمع برغم الحرب».
    وبموازاة ذلك، قامت وزارة الصحة بتقييم شامل لاحتياجات ومصادر دعم الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، وأمنت الدواء، بالتعاون مع المنظمات الدولية، إثر تعرض الكثير من معامل الأدوية في سوريا لعلميات التخريب جراء الحرب.
    وقامت وزارة الصحة، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بتدريب 35 مرشداً ومعالجاً نفسياً على تقديم خدمات الصحة النفسية والمعالجات النفسية المختلفة في غالبية المحافظات، كما تم تدريب المئات من مرشدي الصحة النفسية والموجهين التربويين، وفق مدير الصحة النفسية في وزارة الصحة الدكتور رمضان محفوري.

    السفير
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.