• دعوة من نبي الرحمة و الإنسانية إلى الإنسانية المعذبة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    دعوة من نبي الرحمة و الإنسانية إلى الإنسانية المعذبة
    بمناسبة مولده عليه الصلاة والسلام

    إن هناك من الأشياء ما تتوافق عندها الأنظار , وتتجه نحوها الأفكار من غير خلاف فيها أو حولها , هل يختلف الناس في جمال الحديقة الغناء أو الجنة الفيحاء أو في استحسان الهواء العليل أو الإعجاب بالسماء الصافية والقمر الساطع و النجم اللامع ....؟
    إن الناس جميعا ً لا يختلفون في هذا فليس هناك كافر ينكر ولا مؤمن يصدق , بل الجميع مصدقون . وكذلك ينبغي أن يكون الناس جميعا ً بالنسبة لمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسول الله فلا ينبغي أن يكون هناك كافر ومؤمن , بل ينبغي أن يكون الجميع مؤمنين ومصدقين ومتفقين كما اتفقوا في جمال الطبيعة واستحسان الخير وتعشق الجمال فهو عليه الصلاة والسلام نبي الخير .
    لقد تمثلت فيه الرحمة الهائلة العجيبة على بني قومه ولو كانوا به كافرين وله معاندين .
    انظر إليه وهو راجع من الطائف وقد نزل عليه ملك الجبال يستأذنه في أن يطبق عليهم الجبلين – بعد أن ردته ثقيف على أعقابه مُدْمى القدمين وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم يرشقونه بالحجارة – فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ً )) .
    وفي موقعة أحد وهو عائد وقد كسرت رباعيته و شج ّ وجهه الشريف ودخلت فيه حلقتا المغفر يقول : (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) .
    وإلى مئات من المناظر لا تدري في أيها كانت الرحمة مجسمة , لعلك تقول كانت هذه الرحمة عندما كان ضعيفا ً لا يملك قوة ولا يجر وراءه جيشا ً ولكنك إذا طالعت سيرته الطاهرة وجدت الإنسانية الرحيمة على أتم ما تكون الرحمة وأحن ما يكون الحنان .
    هذا الذي خرج من بلده بالأمس متخفيا ً ليس معه أحد سوى أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – يرجع بعد سنوات قليلة ليدخل مكة ومعه جيش عرمرم وحوله أصحابه يلبسون الحديد لا يظهر منهم إلا الحدق فماذا كان منه مع هؤلاء الذين أخرجوه وآذوه ؟ ماذا كان من السيد الأعظم وقد أصبح أعداؤه ملك يمينه ورهن إشارته ؟ إنه قال لهم : ( ما تظنون أني فاعل ٌ بكم ؟ قالوا خيرا ً أخ كريم وابن أخ كريم . قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ...).
    دلني على رجل بلغت الإنسانية عنده هذا القدر وبلغ بالإنسانية هذا المبلغ ..؟!
    إنك ستعجز وسيعجز الناس جميعا ً عن أن يجدوا رجلا ً مثل سيد الأنام محمد – صلى الله عليه وسلم- رحمة ً وشفقة وحناناً


    هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحلهُ
    أجل لقد كان كما وصفه ربه وكما وصف هو نفسه فقال : ( إنما أنا رحمة مهداة ) ولقد صدق فيما قال فهو رحمة للعالمين , للمسلمين وللكافرين وللحيوان وللجماد .
    أما أنه رحمة للمسلمين فيكفي دليلاً عليه قوله تعالى : (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليكم ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم )) .
    قال الحسن بن الفضل : لم يجمع ِ الله بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا فإنه قال عنه : (( بالمؤمنين رءوف رحيم ))وقال عن ذاته تعالى : (( إن الله بالناس لرءوف رحيم )) .
    وأما أنه رحمة للكافرين فانظر إليه عندما أوصى المسلمين خيرا ً بأهل الكتاب من اليهود والنصارى فقال : (( من ظلم مُعاهدا ً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا ً بغير طِيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة )) .
    ولم يكن هذا مجرد وصية , بل كان قرارا ً نافذاً وطريقا ً متبعا ً ودستورا ً معمولا ً به خلال العصور الإسلامية كلها وعلى تعاقب الحكام والأمراء منذ فجر الإسلام وإلى اليوم .
    فعندما هاجر الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة المنورة وفيها قبائل يهود ما أجبرهم على ترك دينهم والدخول في الإسلام , بل كتب بينه وبينهم وثيقة وادع فيها اليهود وعاهدهم وأقرهم على
    دينهم وأموالهم واشترط عليهم , ولولا الخيانة التي صدرت من اليهود ما أجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عن المدينة , وقد سار على هذا الهدي أصحابه من بعده فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين – رضي الله عنه- يتسلم مفاتيح القدس من بطريركها ويدخلها فاتحا ًمظفرا ًويزور كنيسة القيامة برجاء من البطريريك ويحين موعد الصلاة وهو فيها فلم يشأ أن يصلي هناك , بل صلى خارجها , وكان هذا العمل الجليل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بُعْدَ نظر إذ ربما جاء من بعده من يقول : إن عمر صلى في الكنيسة فلنجعلها مسجدا ً , أضف هذا إلى تلك المعاملة الرحيمة التي كان يعامل بها ولاة المسلمين والمسلمون أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة في أرجاء العالم العربي وإلى اليوم , فإنهم وجدوا منهم التسامح والعدالة والإنصاف ما جعل الخصوم أنفسهم يشهدون بها قائلين (( والله أنتم أرحم بنا من بني جلدتنا ))ويقصدون الرومان ومثل هذا ما اعترف به مؤرخ كبير هو (( غوستاف لوبون )) حين قال : (( ما عرف التاريخ فاتحا ً أرحم من العرب )) .
    والدليل الملموس على هذا كله وجود النصارى واليهود في طول البلاد العربية وعرضها يعيشون حياة كريمة رحيمة ويمارسون حريتهم الدينية وشعائرهم وطقوسهم التعبدية ويطبقون أحوالهم الشخصية بحرية تامة .
    وأما أنه – صلى الله عليه وسلم – رحمة للحيوان فاقرأ معي حديثه عن الرحمة به إذ يقول : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليُحدَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )) بل إن الرحمة بالحيوان بلغت عنده – صلى الله عليه وسلم – أن توعد بالعذاب الشديد من يؤذي الحيوان حبا ً في الإيذاء فقال : (( دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي

    تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت )) ورتب على الرحمة به الجزاء العظيم والثواب الكريم فقال : (( بينما رجل يمشي إذ اشتد به العطش فوجد بئرا ً فنزل فيها فشرب فلما رقي وجد كلبا ً يأكل الثرى من العطش فقال : والله لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ مني فنزل في البئر فملأ خفه ماء ً فرقي فسقى الكلب فشكر الله له صنيعه فغفر له )) , قالوا يا رسول الله أو لنا في البهائم لأجرا ً قال : (( في كل كبد ٍ رطبة ٍ أجر )) .
    هذه التوجيهات الرحيمة من نبي الرحمة ورسول الإنسانية جعلت من كل مسلم (جمعية رفق بالحيوان ) احتسابا ً دون حاجة لإصدار قانون بذلك كما هو الشأنفي البلاد الغربية وكأن الرحمة بالحيوان من اختصاص هذه الجمعية فقط دون سائر الناس , فضلا ً عما نجده عندهم من التناقض العجيب فبينما نراهم يؤلفون جمعياترفق بالحيوان نراهم يسحقون الإنسان ويدمرون وجوده وحياته بما يخترعون من أسلحة فتاكة وما تكلفهم من نفقات باهظة وما تسبب من دمار وخراب ومجاعات عالمية إذ بلغ عدد الجياع في العالم مليارين يعانون سوء التغذية كما يقول – فرانسيس مولارييه – صاحب كتاب ( الجوع أقصر طريق إلى يوم القيامة ) .
    أليس من حقنا أن نسأل الاقتصاد الوضعي في الغرب أو في الشرق عن ماهية الحاجة إلى الكلاب والقطط والقرود بالنسبة لإشباع حاجات الإنسان حتى أن النفقات على الكلاب وحدها بلغت ( 5,4 مليار
    دولارا ً )
    سنويا ً في أمريكا, وان أطعمة الحيوانات الأليفة تكفي لإطعام (120) مليون إنساناً في اليوم الواحد لقد أدى هذا الخروج عن الحد الطبيعي للإنسان بعد أن انقاد لهواه وجعل شهواته سائغة ودوافعه سائقة إلى تدمير جذري للكثير من الحاجات الأصلية الضرورية .
    وازن أخي القارئ بين هذا وبين ما سلف من المبادئ الإنسانية التي جاء بها نبي الرحمة ورسول السلام للإنسان والحيوان على حد ٍ سواء في عدل ٍ ورحمة ٍ .
    وأما أنه رحمة ٌ للجماد فانظر إليه وقد وقف مرة على جبل أحد ذلك الجبل الذي جاءت الهزيمة من قبله وضعف المسلمون في المعركة بسببه حيث خالف بعض الرماة أوامر القائد الأعظم – صلى الله عليه وسلم – ها هو يقول : ( أحد جبل ٌ يحبنا ونحبه ) , فهو يبعث التفاؤل في كل نفس , ولو كان غيره لتشاءم من رؤيته بل من ذكر اسمه للخسارة الجسيمة التي مني بها المسلمون بما فيهم ذاته الشريفة .
    وكثيرا ً ما كان يضرب المثل في الأجر والثواب بجبل أحد ليقرب الصورة من أذهان الصحابة ومن يأتي بعدهم فهو يقول : ( الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا ً من بعدي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).
    أما رحمته بالنباتات والأشجار فتتجلى لنا في تلك الوصايا التي كان يوجه بها أصحابه حين كان يبعثهم في الغزوات والسرايا للفتوحات وكان أصحابه من بعده يتقيدون بها ويكررونها على مسامع الجند كلما وجهوهم نحو الآفاق مذكرين منبهين إلى قوله : (( لا تقتلوا شيخا ً ولا طفلا و لا امرأة ولا تحرقوا زرعا ً ولا تقطعوا شجرا ًولا تذبحوا شاة ً إلا لمأكله )


    هذه الوصية الجامعة للرحمة بالعدو والحيوان والشجر والزرع دلالة على عظمة أخلاقه عليه الصلاة والسلام حيث وصفه ربه جل جلاله بقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) فإن مكارم الأخلاق كانت جزءا ً لا يتجزأ من حياته وسيرته في السلم والحرب وسار المسلمون عليها في مواجهاتهم مع أعدائهم شرقا ً وغرباً فما كانوا حملان ودعاء في السلم ووحوشا ً ضارية في ميدان الحرب إنما كانوا إنسانيين حقا ً
    وأخيرا ً لا آخرا ً ولقد كانت حياته – صلى الله تعالى عليه وسلم – جهادا ً متواصلا ً فما ادخر شيئا ً من قوته وما بخل شيئا ً من ماله فكان نعم البشير والنذير وأصبحت حياته كما كانت نورا ً ومنارا ً وقدوة وسوف يرجعون إليه إن لم يكن اليوم فغدا ً يقول الفيلسوف الإرلندي : ( جورج برنارد شو) في حق الرسول العظيم مدحا ً وتنبيها ً ( لقد درست حياة هذا الرجل العجيب وفي رأي يجب أن يسمى – منقذ البشرية – دون أن يكون في ذلك عداءٌ للمسيح وإني لأعتقد أنه لو أتيح لرجل مثله أن يتولى زعامة العالم الحديث لحالفه التوفيق في حل جميع مشكلاته بأسلوب يؤدي إلى السعادة والسلام اللذين يفتقر إليهما العالم كثيرا ً , إني أتنبأ بأن الناس سيقبلون على دين محمد في أوروبا في المستقبل وقد بدأ يلقى القبول اليوم )وقالمثل قوله الفلاسفة والمفكرون من الأوروبيين في عصرنا هذا أمثال ( روجيه غارودي ) صاحب كتاب الإسلام دين المستقبل والدكتور ( موريس بوكاي ) صاحب كتاب ( دراسة الكتب المقدسة في ضوء العلوم الحديثة)وغيرهما ممن اعتنقوا الإسلام وأعجبوا به .
    فصلاة الله عليك يا رسول الله ويا علم الهدى ونبي الرحمة .
    قال تعالى مبينا ً أن دينه سيظهر على الدين كله إن عاجلا ً أو أجلا ً : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) التوبة 33 والحمد لله رب العالمين .


    خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : دعوة من نبي الرحمة و الإنسانية إلى الإنسانية المعذبة كتبت بواسطة خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.