• المكوّن العسكري في صنع السياسة الخارجية

    المكوّن العسكري في صنع السياسة الخارجية:
    النموذج الأميركي

    الخميس,19 آذار 2015
    جميل مطر

    لا نخطئ أو نبالغ إذا قدّرنا أن الولايات المتحدة بصدد إجراء عملية تقييم شاملة لمجمل سياساتها الخارجية والدفاعية، وتطوير أساليب تنفيذ هذه السياسات والإمكانات المخصصة لها. يدفعني إلى هذا التقدير وإلى إيلائه الاهتمام اللازم أن نقاشاً حاراً يدور منذ فترة حول مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، وحول علاقة هذه المكانة بالإمكانات المادية والبشرية المخصصة لمسائل الأمن والدفاع، وحول التغيرات التي أصابت العلاقة التقليدية القائمة بين الجيش والشعب وأثرها في مستقبل الأمن القومي الأميركي.
    يدفعني كذلك إلى الاهتمام بهذا الموضوع حاجتنا الضرورية في ظروفنا الراهنة الداخلية والإقليمية إلى التعرف وبسرعة وعمق على النماذج المختلفة لتطور العلاقات بين القوى المدنية من ناحية والمؤسسة العسكرية من ناحية أخرى، فكثير من تصرفاتنا صارت تتحسس بأساليب وطرائق غير صحية الثغرات في هذه العلاقة، خاصة أنه لم يعد خافياً أن قوى وتيارات ومؤسسات غير قليلة تحاول النفاذ من خلال هذه الثغرات لتحقيق مصالح وقتية، أكثرها ثبت لنا أنه لا يضع مصلحة الأمن القومي أو مستقبل مصر والعرب في اعتباره.
    أتابع النقاش الدائر في أميركا ليس فقط لأهميته على الصعيد الفكري والسياسي، ولكن لأن حصيلته ونتائجه سوف تصب في النهاية في ساحة الأمن والسلم في الشرق الأوسط، وبدرجة واضحة، وتكاد تكون مؤكدة، في مستقبل مصر العسكري والسياسي. أحد فصول النقاش يركز على ضرورة إعادة النظر في سياسة خفض الإنفاق العسكري. لم يكن غريباً أن تنطلق الدعوة لإعادة النظر هذه من مراكز البحوث ومواقع العصف الفكري اليمينية باعتدال والمحافظة بتطرف، وكان تركيزها، ولايزال، على ضرورة الاستعداد بالضغوط المختلفة على الكونغرس والإدارة الأميركية لإلغاء نسبة الخفض، بل ورفع مستويات الإنفاق في المجالات كافة التي خضعت لترشيد الإنفاق. كثيرة هي الحجج والمبررات، ولكن اقتصر أهمها على النواحي التي حظيت باهتمام النخب السياسية الأمريكية مؤخراً وبخاصة نخبة السياسة الخارجية. 
    مازالت تتردد حقيقة أن السنوات الست من ولاية الرئيس باراك أوباما شهدت تنفيذ سياسة معتمدة ومخطط لها ومعلن عنها خلال الحملة الانتخابية التي جاءت به رئيساً. تهدف السياسة أساساً إلى أن يكون تركيز الاهتمام والإنفاق على عمليات البناء الداخلي وخفض مستوى الاهتمام بالخارج. وعد المرشح الديمقراطي، وكان أوباما، بأنه ينوي إن فاز في الانتخابات سحب قوات أميركا من العراق، والاستعداد لسحبها من أفغانستان، وإغلاق عدد من القواعد العسكرية الأميركية في الخارج. وبالفعل، وعند التنفيذ، جرى تخفيض عدد الجنود وجمدت عقود عديدة مع شركات تصنيع سلاح، وتأجلت مشاريع تحديث قطاعات عسكرية بعينها وبخاصة في مجال السلاح النووي والطاقات المتطورة.
    النتيجة بعد ست سنوات من تنفيذ هذه السياسة، كما يزعم اليمينيون والمحافظون ومسؤولون كبار في البنتاغون، تراجع في مكانة أميركا في الخارج، وصعوبات جمة واجهت جهود المحافظة على الأمن والسلم في أقاليم عدة، بينها الشرق الأوسط، وإنهاك شديد للقوة الأميركية الناعمة مثل الدبلوماسية. صحيح أن السنوات الست شهدت أزمات عويصة، أهمها الأزمة المالية التي صاحبت تولي أوباما الحكم، وبعدها مباشرة انفجرت الثورة العنقودية في الشرق الأوسط، وهي الثورة التي تسببت في حالة ارتباك أصابت منظومات الأمن القومي في عديد الدول الغربية، ومازال الارتباك قائماً في ظل هيمنة جماعات التطرف، وأغلبها تضخم في رحم الثورة المضادة لثورات الربيع، وبفضل سوء أداء قوى غربية وشرق أوسطية عند تعاملها مع ثورات الربيع.
    الارتباك الحادث الآن، والغموض المحيط بالسياسات الغربية عموماً والأميركية، خصوصاً إزاء أزمة الربيع العربي والإرهاب، كشفت عن ضعف خطر في هياكل وخطط المؤسسة العسكرية الأمريكية، وفي هياكل وأولويات الحلف الأطلسي. وكشفت أيضاً عن تطور لا يقل خطورة في العلاقة بين المؤسسة السياسية الحاكمة في واشنطن والمؤسسة العسكرية، أحدهما أو كلاهما أثارا موجة من الأسئلة تتعلق بدور العسكريين في صنع السياسة، وبشكل خاص بالتغير الذي طرأ على العلاقة بين الشعب والعسكريين.
    عدنا نسمع عن مسؤولية تراجع المكانة، رأي يعتقد أن خفض الإنفاق العسكري من ناحية، وتراجع عدد وأهمية الانتصارات الملموسة للجيش الأميركي في العقود الأخيرة، يتصدران أسباباً مهمة تقف وراء تراجع المكانة. إن مجرد الشعور بأن المؤسسة العسكرية الأميركية تتعرض منذ ستة أعوام إلى خفض في ميزانيتها وتقليص في قوتها كفيل بأن يؤثر سلباً في صدقية السياسة الخارجية الأميركية، ويحبط كثيراً من أهدافها ويضعف الثقة فيها.
    يعتقد رأي آخر أن القيادة السياسية الأميركية، وعت منذ سنوات غير قليلة إلى حقيقة أن العالم يتغير، وأن القوة الدولية صارت أكثر انتشاراً، وأن قوى عظمى جديدة على طريق النهوض. استناداً إلى هذا الوعي الواثق والمؤكد فكرت هذه القيادة السياسية في أن الطريق السليم لوقف تدهور المكانة لن يكون بزيادة الإنفاق على العسكرية الأميركية، ولكن بزيادة الإنفاق على البنى الأساسية في المجتمع الأميركي، واستعادة القوة والنشاط والحيوية إلى الحياة الاقتصادية . بهذا المعنى، نفهم أن مسؤولية تراجع المكانة تقع على عاتق الرئيس أوباما نتيجة اقتناعه، ومن معه، بأن الأهم في هذه المرحلة هو إعادة بناء الأمة داخلياً قبل تأمينها خارجياً.
    سيبقى هناك دائماً من يتهم أوباما بأن سياسته أدت إلى ضياع شبه جزيرة القرم، وإلى تعميق الأزمة الأوكرانية، وإلى عودة القلق إلى دول شرق أوروبا ودول البلطيق، وإلى انكشاف أوروبا في المواجهة مع روسيا، وإلى تقارب روسي صيني. يتهمونه أيضاً بأن سياساته سبب في أزمة إرهاب شرق أوسطية، يعترف هو بنفسه بأنها لن تجد حلاً قبل سنوات عديدة.
    من ناحية أخرى، لا يخفى على مراقب من الخارج حقيقة أن فكرة «البطل» التي حاول إعلام الجيش الأميركي تثبيتها في العقل الشعبي الأميركي، تراجعت مع تراجع مكانة المؤسسة العسكرية. لم يعد الجيش، كما كان في أوقات ماضية، مصدراً أوحد لأساطير الوطنية والبطولة والشجاعة النادرة، وبالتالي أصبح في حاجة ماسة إلى حملات إعلامية متطورة وجهود خارقة لتحسين الصورة، ليستطيع من ناحية الضغط على المؤسسات المدنية ليحصل على النصيب المتميز في ميزانية الدولة.
    يضيف باحثون أميركيون حقيقة أخرى، وهي أن الجيش الأميركي أصبح يتكون من أفراد ينتمون لطبقات من نوع مختلف عن الطبقة التي كان يتشكل منها قبل عقود. وصف أحدهم جيش أميركا في حالته الراهنة بجيش «قبائلي»، بمعنى أن أفراده ينتمون إلى جماعات صغيرة، ابتداء من العائلة ومروراً بالأقليات، حيث البطالة تنتشر وحيث يكثر طالبو التطوع مقابل الحصول على الإقامة والهجرة. هنا يكمن السبب في ظاهرة انحسار الولاء للوطن لمصلحة الولاء للجماعة والعائلة واللون والعرق.
    تمر السنون والعقود، ويبقى الباحثون في الشؤون العسكرية منتبهين لأقوال الرئيس الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور وبخاصة تحذيره الشهير في خطاب الوداع بضرورة ابتعاد العسكريين عن السياسة، وتساؤله الأشهر تحت عنوان «ماذا يمكن أن يحدث لو أن النفوذ السياسي للجيش ازداد في غياب الرقابة والقيود».
    جار البحث عن معادلة تضمن العودة إلى دعم الجهود الدبلوماسية بقوة عسكرية مناسبة، بشرط الانتباه الكامل والمتواصل لخطورة الفخ الذي حذر من الوقوع فيه الجنرال الحكيم ايزنهاور.

    موقع اللواء
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.