• كيف هرّبت المخابرات البريطانية والأميركية رواية الدكتور زيفاكو؟

    كيف هرّبت المخابرات البريطانية والأميركية رواية الدكتور زيفاكو؟


    لوك هاردنغ
    ترجمة – أنيس الصفار
    يكشف كتاب جديد أن المخابرات البريطانية كان لها دور حاسم في تهريب رواية "الدكتور زيفاكو" للكاتب "بوريس باستيرناك"، التي كانت محظورة على القرّاء في الاتحاد السوفييتي، وذلك عندما حصل جهاز "إم آي 6" على نسخة من النص الروسي ثم أوصلها إلى وكالة المخابرات المركزية "سي آي أي". وتفيد وثائق لوكالة المخابرات المركزية رفعت عنها السرية مؤخراً بأن ضابطاً في المخابرات البريطانية (لم يذكر اسمه الصريح) قد تمكن من تصوير النص الأصلي لرواية الكاتب باستيرناك، حيث كان الكاتب قد استودع نسخاً من روايته حفنة صغيرة من معارفه الأجانب في صيف العام الذي سبق هذه الأحداث بعد أن تأكد له بوضوح أن السلطات السوفييتية سوف ترفض نشرها. من بين هؤلاء المعارف الناشر الإيطالي "جيان جياكومو فيلترينيللي"، كما أعطى باستيرناك نسخة من العمل لإثنين من العمداء الزائرين من جامعة أوكسفورد هما "إسايا برلين" و"جورج كاتكوف" اللذان التقيا بباستيرناك كل على حدة في منزله الريفي في بلدة "بيرديلكينو" بالقرب من موسكو.
    كيف تسرب النص؟



    ليس من الواضح لغاية الآن إن كان أحد أفراد الدائرة الضيقة اللصيقة بباستيرناك هو الذي سرّب النص إلى عميل المخابرات البريطاني لكي يقوم باستنساخه أم أن جهاز "إم آي 6" قد اختلس نظرة إلى الكتاب بدون علم أو موافقة حائزه. أحد المصادر المحتملة لتسرب الكتاب هو برلين الذي كان من المواطنين الناطقين بالروسية وله صلات واسعة بدبلوماسيين بريطانيين، رغم أنه كان من المعارضين لنشر الرواية في بادئ الأمر، أما كاتكوف فقد كان من المؤيدين. وعندما عاد برلين إلى موسكو قام بتسليم نسخ من العمل إلى شقيقة باستيرناك التي تقيم في مدينة أوكسفورد. كذلك من بين الأشخاص الآخرين المحتملين هم المترجمون، وفيلترينيللي أيضاً الذي أصدر أول طبعة أجنبية من "الدكتور زيفاكو" في إيطاليا في شهر تشرين الثاني من العام نفسه.
    تكشف مذكرة لوكالة المخابرات المركزية مؤرخة في 2 كانون الثاني 1958 أن المخابرات البريطانية قد سلمت المخابرات الأميركية نسخة من العمل الأصلي مؤلفة من 433 صفحة مطبوعة بالآلة الكاتبة. تقول المذكرة: "نرفق إليكم طياً لفافتي فيلم تتضمنان الصور السالبة لرواية "الدكتور زيفاكو" للكاتب باستيرناك. سلمنا هذه الصور "أكس أكس أكس" وطلب منا إعادتها إليه في وقت لاحق."
    تضيف المذكرة أن البريطانيين (ممثلين بالعميل الذي تم حجب اسمه) قد ارتؤوا الإفادة من كتاب باستيرناك وأبدوا استعدادهم لتقديم كل مساعدة ممكنة. بيد أنهم حاذروا من إرسال نسخ بالبريد إلى الاتحاد السوفييتي لقناعتهم بأن الرقابة سوف تعترض سبيلها وتمنع وصولها إلى الأشخاص المعنيين. لهذا السبب يطرحون إمكانية إرسال نسخ بأيدي المسافرين الذين يدخلون إلى منطقة الستار الحديدي."


    طبعة هولندية باللغة الروسية


    بعد تسلم النسخة من المخابرات البريطانية قامت الوكالة الأميركية سراً بإعداد إصدار باللغة الروسية من الرواية تم طبعه في هولندا، وقد شاركت المخابرات الهولندية في تلك العملية. بعد ذلك وزعت الطبعة في شهر أيلول 1958 من خلال معرض بروكسل العالمي، حيث أعطيت نسخ راقية الطبع إلى الزوار السوفييت سراً عبر جناح دولة الفاتيكان. وفي العام 1959 أصدرت وكالة المخابرات المركزية طبعة زهيدة الثمن من الكتاب في مقرها بواشنطن، ثم طرحت الطبعة على أنها من عمل جماعة من المهاجرين الروس المقيمين في أوروبا.
    أطلقت وكالة المخابرات المركزية على مشروع كتاب "الدكتور زيفاكو" إسماً رمزياً هو "أيدينوصور"، وكان واحداً من عدّة مشاريع لنشر كتب تدعمها سراً وكالة المخابرات المركزية ازدهرت خلال فترة الحرب الباردة. كانت الوكالة تنشر كتباً ودوريات ومنشورات ممنوعة وغير ذلك من المواد الموجهة إلى الطبقة المفكّرة في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، والهدف من استخدام هذه القوة الناعمة، على حد تعبير وكالة المخابرات المركزية، كان العمل بلطف على هدم المنظومة السوفييتية من خلال تعزيز الميول والاستعدادات التي تنادي بالحرية الثقافية والفكرية والسخط على من غيبها.
    هذا الدور الذي قامت به وكالة المخابرات المركزية في نشر الرواية داخل الاتحاد السوفييتي يفصّله لنا "بيتر فين"، وهو صحفي يعمل في صحيفة واشنطن بوست، والباحثة الأكاديمية "بترا كوفي" في كتابهما المعنون: "قضية زيفاكو: الكرملين والسي آي أي ومعركة الكتب الممنوعة."


    الكاتب باستيرناك


    كتب "فين" يقول أن علاقة باستيرناك بالحزب الشيوعي وقادته كانت متقلبة إلى حد كبير. فهو قد سبق له أن كتب القصائد في مديح ستالين ولينين، ولكن إيمانه بالدولة السوفييتية لم يلبث أن تزعزع في أعقاب الرعب الذي شهدته أواخر الثلاثينيات. إلا أن باستيرناك نجا من عمليات التطهير وكان السبب إلى درجة كبيرة هو اهتمام ستالين شخصياً بأعماله، ولكن كثيرا من الكتّاب والمؤلفين من زملاء باستيرناك وأصدقائه تم إلقاء القبض عليهم او أعدموا رمياً بالرصاص.
    أنجز الكتاب بعد وفاة ستالين، ولكن السلطات السوفييتية الجديدة رفضته على أساس "تنكره للقيم الثورية الاشتراكية" على حد وصفها. بيد أن شعبة "روسيا السوفييتية" في وكالة المخابرات المركزية، التي يشرف عليها مدير السي آي أي "ألان دالس" المجازة من قبل لجنة تنسيق العمليات والمصادق عليها من طرف الرئيس "دوايت آيزنهاور"، تنبهت إلى أهميته ووجدت فيه السلاح الثقافي المثالي لمرحلة الحرب الباردة، لأن أحداث الرواية تدور خلال العقود التي أعقبت الثورة الروسية حين يفقد بطل الرواية، وهو الطبيب الشاعر "يوري زيفاكو"، تحمسه للبلشفية ويتخلى عن فكرة النضال الثوري ثم ينزوي مع حبيبته "لارا" في منزل ريفي مختاراً حياة العزلة قبل أن يقرر العودة أخيراً إلى موسكو حيث يتوفى في 1929.


    من حق كل إنسان


    كتب "جون موري" رئيس قسم المخابرات المركزية في مذكرة سرية يقول: "لقد كانت رسالة باستيرناك الإنسانية، المنادية بأن من حق كل إنسان أن يحيا حياته الخاصة وهو جدير أن يعامل باحترام باعتباره كائناً بشرياً مهما يكن ولاءه السياسي أو مساهمته في الدولة، تجسد تحدياً جذرياً لمذهب التضحية بالفرد من أجل النظام الاشتراكي." ويمضي موري مستطرداً: "هذه الرواية ليست فيها أية دعوة إلى الثورة أو الانتفاض على النظام، إلا أن هرطقات زيفاكو، المتمثلة بسلبيته السياسية، مسألة جوهرية وفي منتهى الأهمية."
    وفي مذكرة ثانية يوصف الكتاب بأنه "أهم عمل أدبي ظهر لغاية الآن من الكتلة السوفييتية." وتشير ملفات وكالة المخابرات المركزية إلى أن "الدكتور زيفاكو" يحمل قيمة دعائية عظيمة، لا بسبب رسالته الباطنة وطبيعته المحفزة للفكر فقط بل أيضاً بفضل الظروف التي أحاطت بعملية نشره. فمجرد حقيقة أن أعظم كاتب روسي على قيد الحياة عاجز عن نشر أعماله في بلده سوف يستفز المواطنين السوفييت على التساؤل عن طبيعة الخلل الذي يعتري حكومتهم.


    متاعب في الترجمة


    بعد أن نشر الكتاب في إيطاليا اتفقت وكالة المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية على ضرورة طرح الكتاب من خلال أكبر عدد ممكن من الطبعات الأجنبية. بيد أن الوثائق تشير إلى مشاعر الإحباط التي شاعت في أوساط المخابرات البريطانية بسبب طول الوقت الذي استغرقته الترجمة إلى اللغة الانكليزية. وقد ألقى جهاز المخابرات الخارجية البريطاني تبعة التأخير على "ماكس هايورد" وهو لغوي موهوب من أوكسفورد انتدبه كاتكوف لترجمة "الدكتور زيفاكو". قالت وكالة المخابرات المركزية: "يبدو أن العمل بطبعة كولنز يمضي ببطء، وبعض السبب في ذلك هو مماطلة ماكس هايورد. كذلك بلغنا أن ثمة صعوبات تتعلق بترجمة القصائد التي وردت في الكتاب وصياغتها بلغة انكليزية سلسة، وأن ستيفن سبيندر قد يتولى معالجة هذه المشكلة." وبالفعل اشتغل سبيندر على صياغة القصائد بالإضافة إلى صقل ترجمة هايورد.


    جائزة نوبل


    في شهر نيسان الماضي كشفت وكالة المخابرات المركزية عن 99 وثيقة سرية من ملف باستيرناك الذي لديها. هذه الوثائق تعرض الدور الخفي الذي قامت به الوكالة لإخراج الرواية إلى جمهور القرّاء في كل مكان من العالم. وكانت هناك شائعات تقول ان وكالة المخابرات المركزية قد أعدت سرّاً طبعة باللغة الروسية من أجل حصول باستيرناك على جائزة نوبل، ولكن الأرشيف يكشف أن ما من نسخ قد أرسلت إلى لجنة نوبل في ستوكهولم. فكل الذي كانت تهدف إليه وكالة المخابرات المركزية هو نشر نص الرواية وإشاعته بين المواطنين السوفييت العاديين. وفي العام 1958 منحت لجنة نوبل باستيرناك بصورة مستقلة جائزة نوبل في الأدب، إلا أن الكاتب أجبر كما يشاع على رفض الجائزة بعد أن انطلقت تظاهرات ضخمة معادية له نظمتها الدولة وانضم إليها كثير من الكتاب زملاء باستيرناك. وفي العام 1960 توفي باستيرناك.
    يعلق "فين"، الرئيس السابق لمكتب واشنطن بوست في موسكو، بأن من الغريب نوعاً ما أن يكون لدى وكالة المخابرات المركزية والاتحاد السوفييتي معاً اعتقاد بقدرة الأدب على تغيير المجتمع في عصر يشيع فيه الإرهاب والطائرات المسيّرة والقتل المستهدف. بالإضافة إلى جهود وكالة المخابرات المركزية في نشر الكتاب ساهم فيلم "الدكتور زيفاكو"، الذي أنتج في العام 1965 وقام فيه الممثل عمر الشريف بدور زيفاكو والممثلة جولي كرستي بدور لارا، في تقديم القصة إلى جمهور أوسع من الناس وتعريفهم بها، كما كتب فين.


    وكالة المخابرات المركزية
    تكشف عن ملفات زيفاكو


    في العام 2009 طلب فين من وكالة المخابرات المركزية لأول مرة أن تكشف عن ملفات زيفاكو، فكان رد الوكالة في البداية هو الرفض، إلا أنها عادت واستجابت فيما بعد. كانت هناك اسماء محجوبة، وهي أسماء لمسؤولين في وكالة المخابرات المركزية أدركتهم الوفاة، ولكن فين وكوفي تمكنا من التعرف على معظم اللاعبين المهمين من خلال الوثائق وعبر مقابلات أجريت مع أقاربهم الذين لا يزالون على قيد الحياة ومن مصادر أخرى. يقول فين: "لقد كانت الوكالة ممتنعة في بادئ الأمر عن إطلاق معظم الوثائق التي لها علاقة بالحرب الثقافية الباردة أو برنامجها للكتب، ولكني أعتقد أنهم في هذه الحالة بالذات لم يروا أن ثمة اساءة إلى وكالة المخابرات المركزية."
    بعد ذلك اتصل المؤلفان بالمخابرات البريطانية ليستطلعا ما إذا كانت الوكالة مستعدة بعد مرور ستة عقود للكشف عن كيفية تمكنها من الوصول إلى النسخة الممنوعة من كتاب "الدكتور زيفاغو"، ولكن المخابرات البريطانية ردت تقول أنها سبق أن اتخذت قراراً بعدم العودة إلى فتح أرشيفها بعد أن قامت بنشر تاريخها رسمياً في العام 2010. ويقر فين بأن الاحتمال ضعيف في أن يتمكن أحد من التوصل إلى حل هذا اللغز ما لم تتوفر أدلة إضافية. يقول: "نحن نعلم حتماً أن الناشر كانت لديه نسخة من الكتاب وكذلك برلين وكاتكوف وعائلة باستيرناك والمترجمين وأشخاصا آخرين. ولكن أي هؤلاء بالضبط كان المصدر الرئيس الذي سرّب النص إلى المخابرات البريطانية؟ في اعتقادي أن أي منهم قد يكون هو الشخص المقصود."


    عن صحيفة الغارديان
    عن الصباح
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.