• سمات العصر - د علي جمعة

    ولقد بدأت المسألة مع هيجل حيث حاول أن يوجد حلاً لبعض المشكلات الفلسفية التي تنشأ بالأساس في ذهن الإنسان عند تخليه عن الوحي، أو إنكاره له، وتدرج ما قاله هيجل إلى هذا الشعور بالنسبية الذي تحكم في التصرفات والسلوك، وملخص فلسفة هيجل: أن الله موجود، والكون موجود، والحداثة التي يدعون إليها تعني الاهتمام بهذا الكون، إذن هناك طرح يقضي على الخلاف، ويجعل رأينا واحدًا وهو: أن نجعل الله حل في هذا الكون، فيصبح الكون هو الله، والله هو الكون، وهذا يعني أن الماديين على صواب لأنهم لا يرون إلا الكون، ثم جاء ماركس فأخذ فكرة الجدلية من هذه الفلسفة وأنزلها على الاقتصاد والدولة.


    ثم جاء نيتشه (ت 1900)، واعتبر أن كلام هيجل أفضل ما قيل، ولكنه أراد أن يتقدم خطوة على كلام هيجل حيث قال إن الله ليس مفارقا للكون، والمؤمنون يعتقدون أن الرب رب، وأن العبد عبد، وأن هناك فارقًا بين المخلوق والخالق، وهذا اعتقاد أهل جميع الديانات، فهم يعتقدون أن الله شيء والكون شيء آخر، كما قال تعالى في القرآن الكريم: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11]، ثم قال نيتشه: إن الله ليس هناك - يعني ليس خارج الكون- واعتبر أن الله الذي يدعو له هيجل مات؛ لأنه ليس موجودًا، فوافق هيجل في عدم وجود الله خارج الكون، ثم قال إذن فهو ليس موجودًا، والهدف وراء ذلك أن الوحي أيضا ليس له حقيقة إذا كان صاحب الوحي مات فيصبح الوحي والرسالات أسطورة كبيرة، ويكون ليس هناك إلا هذا الكون، وهذا يشير لأمر عجيب، وهو ما يميز العقل أو ما يسمى سمات العقل.

    قد كانوا يريدون الانفصال عن الكنيسة المسيحية تمامًا، والكنيسة واجهت حتى أنكرت علومًا كثيرة كما ذكرنا في موقف البابا بالخطاب المسمى «باسنت» هذا الانفصال وهذه الحداثة بعنف، وحاول هيجل أن يوفق بين أهل الحداثة وبين أهل الإيمان، لكن نتشه قال: ليس هناك شيء حقيقي إلا هذا الكون، ولا وجود لله الآن.
    ولكن هذا المذهب يجعلنا نتساءل: إذا كان الله غير موجود فكيف نحكم على الأشياء؟ كيف نعرف أن الصدق والجمال والخير أشياء ممدوحة؟ وكيف نعرف أن الشر والكذب والظلم أشياء مذمومة؟
    وأصحاب فكرة عدم وجود الله، يدعون إلى النسبية المطلقة، فيقولون ليس هناك ممدوح على الإطلاق، ولا مذموم على الإطلاق، وإنما هذه الأشياء ممدوحة عند من يراها ممدوحة، ومذمومة عند من يراها مذمومة.


    وينشئ سؤال آخر وهو كيف نرى الكون؟ وتقتضي نظرتهم إلى الإجابة عنه بأنه كما تراه، فإذا كانت رؤيتك لهذا الكون أنه كئيب فهو كئيب بالنسبة لك، وإذا كان غيرك يراه سعيدا فهو سعيد بالنسبة له، مما يجعلنا نتمثل قول ربنا تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23].


    فهو قد ألغى الله من اعتقاده وفكره، ووضع مكانه الهوى، وبهذا الشكل يُفقد المشترك في الكلام، وتنعدم فائدة الكلام تمامًا، ثم نشأت بعد ذلك التفكيكية والبنيوية، ثم ديانة الفوضى.
    كنا نذهب للشيخ أو القسيس نُحَكِمه فيما حدث حتى يحكم من الصواب ومن الخطأ، والآن إلى من نذهب لمعرفة الحق والباطل؟ قالوا: الآن تأخذ حقك بالقوة، فإذا كنت قوي فأنت على الصواب؛ لأنه ليس هناك معيار مطلق للحق والباطل، كلها معايير نسبية فما تراه أنت حقًا لمصلحتك الشخصية أراه أنا باطل، وليس هناك ما يلزمني أن أعتقد ما تعتقده ولا ما يلزمك أن تعتقد ما أعتقده إلا القوة، هي التي تفرض على أرض الواقع من الحق ومن الباطل.


    إذن فالواقع هو المعيار والواقع يصنعه الأقوى، فهل هذا يعني أن العلاقة بين الرجل والمرأة ستكون على هذا المنوال، بمعنى أن الرجل سوف يفرض الواقع ويكون هذا هو الصواب لأنه أقوى جسديا؟ والمشكلة إذا تقوت المرأة وأصبحت أقوى من الرجل من الذي يحدد الصواب ويصنع الواقع؟ ففي الستينيات وجدنا المرأة تدخل المصارعة، وتلعب كمال الأجسام.


    هذا ما أراده نتشه وقد انتهى نتشه سنة 1900م، وترك لنا ما يمكن أن نسميه «النسبية المطلقة»، التي أصبحت سمة من سمات العصر، وانتشرت النسبية المطلقة بين رواد الفكر الأوروبي واقتنعوا بها، ولكنها كانت محاطة بمخاوف كثيرة أهمها ضياع الاجتماع البشري؛ حيث سيبغى الناس بعضهم على بعض، ولن يكون هناك مصوغ لإلزامهم بالكف عن هذا الهرج والفوضى.


    قالوا: لابد أن نجعل النسبية المطلقة فكرة قابلة للتنفيذ والتطبيق في حياة الناس، ونستطيع أن نقضي على هذه الفوضى بأن نضع معياراً يتفق عليه الناس في الإقدام على الفعل أو تركه، في القتل والغصب أو تركهما، وانتهوا إلى أن هذه المعيار هو «المصلحة» وهي ما تسمى بـ «الدبلوماسية النفعية» وقال كل من «جون ديوي» و «جيمس وكوهن» وهما يعتبران كهنة العلمانية، حيث جعلا المقياس الجديد الذي يضبط النسبية المطلقة، وجعلا الإنجاز هو القيمة المقدمة على كل القيم باعتباره يحقق تلك المصلحة، فأصبح من سمات العصر «الإنجاز».
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.