• هل كان يوسف الخال عميلاً حضارياً- جهاد فاضل


    هل كان يوسف الخال عميلاً حضارياً؟!

    صاحب مجلة شعر

    • يوسف الخال محّرك ثقافي أكثر مما هو شاعر ذو شأن في حركة الشعر العربي الحديث
    • مجلة شعر دعت إلى ثورة شعرية تُهمل التراث العربي وتستوحي ما عند الأجانب من أساليب وموضوعات شعرية
    • شبه واسع بين الدور الذي قام به يوسف الخال والدور الذي اضطلع به أحمد زكي أبو شادي مؤسس جماعة ومجلة أبولو في مصر
    • يوسف دعا إلى أقصى التجرؤ على التراث العربي الإسلامي وإلى أقصى التساهل مع تراث الغرب
    بقلم: جهاد فاضل : قد تكون الصفة التي تليق بالشاعر اللبناني الراحل يوسف الخال (وهو سوري في الأصل) أكثر من أية صفة أخرى، هي انه كان أحد عّمال الثقافة البارزين في عمره. ففي الشعر لم يكن يوسف الخال ذلك الشاعر الكبير المبدع، سواء في مرحلته الأولى، وهي مرحلة كلاسيكية، أو في مرحلته الثانية التي كتب خلالها اشعار تفعيلة، أو قصائد نثر. فلا أحد يذكر اليوم ان له هذه المجموعة الشعرية الفذة، أو تلك. ولا أحد يعتبر ان مسرحيته الشعرية(هيروديا) كانت فتحا في عالم الشعر المسرحي العربي في القرن العشرين. بل ان الباحث عندما يؤرخ للشعر المسرحي العربي المعاصر، ومن أعلامه أمير الشعراء شوقي وصلاح عبد الصبور، وكذلك عزيز أباظة، قد يسهو عن باله ان للشاعر يوسف الخال مسرحية شعرية اسمها (هيروديا) موضوعها مستل من التوراة أو من الانجيل.. ولا يمكن النظر إلى الأخرى، ومنها (البئر المهجورة) و(قصائد في الاربعين)، و(مذكرات كلب) على انها تؤلف إضافات ذات شأن للشعر العربي الحديث.
    ولكن يوسف الخال، وإن لم يكن هذا الشاعر الكبير، فقد كان محركا أو ناشطا شديد الحيوية في حركة الأدب والثقافة في لبنان وقد تجاوز أثره الثقافي هذا لبنان إلى سواه من الاقطار العربية عندما أسس مجلة (شعر) في الخمسينيات من القرن الماضي، وهي مجلة دعت إلى ثورة شعرية تتجاوز مفاهيم الشعر العربي التقليدية إلى آفاق جديدة تستوحي على الخصوص، ما عند الافرنج وبخاصية ما عند الامريكيين من طرائق وتجارب شعرية جديدة وبصرف النظر عن الأثر الذي أحدثته هذه المجلة في تطور الشعر العربي الحديث، وكون بوصلتها التحديثية سوية أو غير سوية (وحول كل ذلك خلاف شديد بين الباحثين)، فإن (شعر) كانت المنبر الذي كتب فيه نفر من الشعراء الذين اشتهروا فيما بعد منهم بدر شاكر السياب وأدونيس وسعدي يوسف وأنيس الحاج وسواهم.
    على ان دور يوسف الخال كمحرك أو ناشط ثقافي، تجاوز رئاسته لتحرير مجلة (شعر) فقد أصدر إلى جانبها مجلة نثرية حملت اسم (أدب) وجد احتجاب مجلة (شعر) بعدة سنوات، عاد وأصدر عدداً أو عددين منها قبل ان يقفلها نهائياً. كما كانت له اهتمامات أخرى تتصل بالثقافة والفنون منها انه كان صاحب مؤسسة فنية تُعني ببيع أو تسويق اللوحات التشكيلية. فبعد ان اقفلت (غاليري وان) أبوابها في بيروت الغربية، عاد واستأجر في بيروت الشرقية (التي لجأ إليها هرباً من الحرب) مكاناً جديداً لهذه الغاليري في منطقة الزلقا شمال بيروت. ومن نشاطاته الثقافية أيضاً انه أشرف مع فريق عمل من المبشرين الأمريكيين البروتستانت على اصدار ترجمة جديدة للتوراة والانجيل. ولا ننسى جهوده المحمومة في التبشير بما كان يسميه اللغة المحكية ، ودعوته إلى إحلالها محل اللغة العربية. فقد صرف وقتا كبيرا في الكتابة حولها في الصحف، وفي سبيل ذلك خاض معارك كثيرة. فهو إذن محرك أو ناشط ثقافي وليس شاعراً كبيرا أو شاعرا منصرفا إلى الشعر وحسب.
    لكل ذلك قد تكون صفة أحد عمال الثقافة، أو أحد الناشطين في العمل الثقافي هي الصفة التي تليق بيوسف الخال أكثر من سواها. مثله في ذلك مثل شاعر مصري آخر يشبهه شبهاً عجيباً هو الدكتور أحمد زكي أبو شادي الذي لا يُذكر الآن إلا كمؤسس لمجلة أبولو التي كانت لسان جماعة شعرية مصرية بارزة تُعرف باسم جماعة أبولو والتي كان من شعرائها علي محمود طه وإبراهيم ناجي. فعلى صفحات مجلة أبولو كتب شعراء كثيرون في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي منهم من خارج مصر أبو القاسم الشابي الذي كان طليعة التجديد في بلاده. كما كتب فيها باحثون كثيرون دعوا إلى تجاوز الاساليب الشعرية القديمة، وإلى بث روح جديدة في القصيدة العربية. فأبو شادي يشبه الخال إذن من حيث تهيئة الظروف والمنابر لحركات شعرية جديدة ومن الظلم انكار هذا الدور الثقافي والتركيز فقط لا غير على الشاعر و الناقد و الكاتب فمجلة أبولو، ومن بعدها مجلة شعر كانتا الوعاء الذي صب فيه نتاج شعراء وباحثين كثيرين وبدونهما ربما لم تتفتح براعم وزهور أدبية كثيرة. فالنادي الثقافي تأسيسا على ذلك ينبغي ان لا تقتصر عضويته على ذوي الالقاب المعروفة كالشاعر أو الناقد وإنما ينبغي ان يكون في عداد حملة هذه العضوية آخرون يمتون بأوثق الصلات إلى هذا النادي كناشر المجلة، وناشر الكتاب وصولاً حتى إلى عامل المطبعة.
    ولتأكيد ذلك نشير إلى انه قد يكون كل ما بقي من الكاتب المصري أحمد حسن الزيات هو انه كان صاحب مجلة (الرسالة) الشهيرة التي كانت ولسنوات طويلة مجلة العرب الادبية الاولى. وقد لا يذكر التاريخ من بين كل نتاج الدكتور سهيل ادريس سوى انه كان صاحب مجلة (الآداب) التي لا تقل فضلا عن (الرسالة) وعن سواها من المنابر الادبية الكبرى في القرن العشرين. فمحركو الثقافة إذن وان لم يكونوا في أحيان كثيرة أدباء كبارا، إلا انه لا يجوز للمرء ان يجحد فضلهم أو ينكر دورهم في حركة الادب في زمانهم.
    من البداية لم تنطلق نظرة يوسف الخال إلى الحداثة الادبية العربية من بوصلة سوية للتحديث ففي محاضرة شهيرة له في الندوة اللبنانية في عام 1957 دعا حرفيا إلى وعي التراث الروحي - العقلي العربي وفهمه على حقيقته، وإعلان هذه الحقيقة وتقييمها كما هي دون ما خوف أو مسايرة أو تردد . في حين انه دعا إلى الغوص إلى أعماق التراث الروحي - العقلي الاوروبي وفهمه وكونه، والتفاعل معه . وهذا يعني انه دعا إلى التجرؤ على تراث العرب (بما فيه تراثهم الروحي) عن طريق تبيان عيوبه ونقائصه وسلبياته، دون خوف أو مسايرة أو تردد. في حين دعا بالمقابل إلى الاندماج بالتراث الروحي - العقلي الاوروبي والتفاعل معه. وهي دعوة تلحق الخال بقافلة فكرية معروفة في تاريخ الفكر العربي الحديث يمكن ان نُطلق عليها جماعة العملا، الحضاريين للأجنبي وثقافاته كان من هؤلاء في مصر سلامة موسى ولويس عوض، وفي لبنان شارل مالك أستاذ الخال في جامعة بيروت الأمريكية.
    أقصى التجرؤ على التراث والتهوين من قيمته، وأقصى الخنوع أمام تراث الافرنج وثقافتهم وحضارتهم، جعلا الكثيرين ينظرون إلى التحديث الذي حاولت (شعر) بثّه في السوق الثقافية العربية، نظرة مريبة، خاصة وان أسلوب الخال كان فجاً غليظاً في الدعوة فقد كتب مرة انه شاعر لبناني عربي مسيحي . ولم يكن لأيراده هذه الصفة الاخيرة له سوى الرغبة بالاستفزاز والكيد. صحيح ان له اشعاراً كثيرة ذات طابع ديني مسيحي إلا ان أحداً من النقاد لم يحاسبه على نزعته الدينية في هذه الاشعار. ولكنه كان يتقصد الاستفزاز والمواجهة. وكثيرا ما كتب ان المسيحيين العرب هم الذين صنعوا النهضات الثلاث الكبرى في التاريخ العربي: أي النهضة الجاهلية والنهضة العباسية والنهضة المعاصرة. وهي رؤية فاسدة لا تمت إلى التاريخ وإلى البحث التاريخي العلمي بصلة ويبدو ان الخال في تصويره للنهضة الشعرية في الجاهلية على انها نهضة اضطلع فيها الشعراء المسيحيون الجاهليون بالقسط الاكبر، قد اعتمد على كتاب الأب لايس شيخو اليسوعي: شعراء النصرانية في العصر الجاهلي وهو كتاب نصّر فيه شيخو حتى من كان يهودياً كالسموأل، كما نصّر سواه من الشعراء الذين لم يكن وصلهم خبر عن النصرانية.
    وأذكر اني التقيت يوما بالخال وحدثني عن دور السريان العظيم في النهضة العباسية فقلت له: أذكر لي اسما واحداً من المسيحيين العرب في تلك المرحلة ابدع في المجال الفلسفي أو العلمي في حين ان من الممكن ان اورد لك ما لا يحصى من الفلاسفة والعلماء المسلمين في كل باب من أبواب العلم والفلسفة والفكر. اما السريان على جلال ما فعلوه فلم يكونوا سوى نقلة أو تراجمة أي مجرد مهنيين لا أكثر.
    فإذا جئنا إلى النهضة العربية الحديثة وجدنا انها من صنع كل المثقفين العرب إلى أية ملة أو نحلة انتموا. لقد ساهم الجميع فيها ومن ضمنهم المسيحيون العرب كمشروع ثقافي وحضاري لأمة واحدة هي الأمة العربية. ولم يكن في تصور هؤلاء وجود مشروع تقسيمي أو انفصالي كمشروع مجلة (شعر) الثقافي الذي أشرنا إليه.
    ونشير إلى ان يوسف الخال كان في بعض مراحل حياته عضوا في الحزب السوري القومي، وهو حزب يؤمن بوجود أمة سورية منفصلة عن الأمة العربية. وتبرز نزعة الخال القومية السورية بجلاء في دعوة شهيرة له إلى ان يكون للعالم العربي اربع لغات جديدة تحل محل اللغة العربية، هي لغة الهلال السوري الخصيب، ولغة الجزيرة العربية، ولغة مصر والسودان ولغة الشمال الافريقي.
    اما فكرة الالتحاق بالغرب والاندماج بثقافته اندماجا كيانيا تاما فقد أخذها عن أستاذه شارل مالك. وهي فكرة تظهر بوضوح في كتاب مالك: مقدمة لدراسة الفلسفة.
    لكل ذلك يمكن القول ان أفكار يوسف الخال التحديثية أو الحداثية لم تصمد للزمن ولم تكن علمية في جوهرها، وإن اثارت في زمانها الكثير من الجدل والنقاش. فالزبد يذهب جفاء، ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس.
    ثمة قضايا أخرى أثارها صاحب مجلة شعر وأحدثت لغطا كبيرا في زمانها منها مسألة اللهجة العامية أو المحكية كما سماها. فقد دعا إلى تقريب لغة الكتابة من لغة الكلام اليومي، وحاول تطبيق هذا المبدأ عمليا في نثره وشعره. ولكنه لم يقتصر على تقريب لغة الكتابة من لغة الكلام، بل انتقل في الفترة ما بين 1957 و1964 إلى كتابة بعض المحاولات باللغة المحكية.
    ذكر مرة قاعدة من قواعد لغته المحكية التي دعا إليها، وهي: اقرأ كما تتكلم . ومع حلول عام 1964 بدأ يثير موضوع اللغة جدياً على الصعيد العملي متخذا من صفحات جريدة الجريدة منبرا لتجاربه. ولكنه لم يدخل موضوع اللغة من باب الشعر بل من باب المسرح وكانت الفتيلة التي فجرت الموضوع مسرحية الازميل لانطوان معلوف التي قرأها وقال عنها انها فاشلة مثل كل مسرحية بتنكتب، من اليوم إلى مليون سنة، بلغة قديمة خرجت من أفواه الاحياء ودخلت في الكتب .
    وعاد بعد ذلك لإثارة موضوع اللغة فكرر ان المسرح اللبناني والأدب عموما سيظل مصطنعا مقهورا ما دام يستعمل اللغة العربية القديمة لا الحديثة (أي المحكية). ولكنه اعترف مرة بأنه ليس من السهل تحويل اللغة المحكية إلى لغة أدبية مكتوبة. وقال إن الحل الذي يرتئيه هو النموذج الصالح الذي سيوحد لهجات العرب المعاصرة كما وحد القرآن لهجات عرب الجاهلية. وعندما زار الناقد المصري الدكتور لويس عوض بيروت مرة، وهو من دعاة العامية المزمنين انتهز يوسف الخال الفرصة للإشادة بدعوته الرائدة عام 1947 إلى تحطيم لغة السادة المقدسة وإقرار لغة الشعب العامية مستشهدا بكلام سابق لعوض مؤداه ان التجربة في موضوع اللغة تأتي في المقام الاول والجدل النظري في المقام الثاني.
    ربما هذا هو الذي حدا به بعد ذلك إلى خوض الموضوع عمليا، فقدم أول نموذج (أو مسطرة كما سماها) من اللغة المسرحية الحديثة بترجمة مقطع مشهور من مقاطع مسرحية هاملت عنوانه: منكون أو منكون ، وهو يُترجم عادة: تكون أو لا تكون ! ولم يكتف بالنموذج بل ألحق بالترجمة بعض الملاحظات العامة أهمها: لازم تقرأ مثل ما بتحكى، وهيدا صعب بيحتاج لتمرين ، وملاحظات أخرى خاصة بطريقة الكتابة، وخصوصا المحافظة على حرف القاف، وهاء التأنيث، والضمائر بآخر الكلمة. وبعد ذلك بأشهر، أعلن: المستقبل اللي صار قريب إن شاء اللَّه رح يشهد ولادة حدث عظيم في تاريخ العرب: اللغة العربية الحديثة اللي بتنكتب، وفي الوقت نفسه، بنحكي كذلك كرر هذه الافكار مرارا بعد ذلك. وأخيراً وفي 15 نوفمبر 1964 نقلا عن العدد الأخير من مجلة شعر نشر البيان الرسمي لتوقفها عن الصدور، معلنا انها سقطت صريعة أمام جدار اللغة.
    ومن أشعار يوسف الخال باللهجة المحكية:
    خليك هنا لحظة
    عمر الوفي بيطول
    مع كل قمزة ريح
    فوق السياج. وما
    تقول عندي كهف، والاشباح
    موتى عجدرانه
    اسرارنا بتنام مثل الجفن
    طبق عا أحلامه
    من هيك مسحورين، ومنبقى
    برمية سهم من خلف
    سور كبير، حتى يموت
    بموت البطل بكير.
    خليك ليش تروح
    هو السما معنا، حتى البحر
    بذكر انا وصغير اني طلعت
    قمة جبل، بيموج
    مطرح اصبعك. شو الكهف
    ان كان هيدا لا
    ما تروح اللَّه كبير.
    كبير ما بينشاف
    إلا إذا غمضت: بالتغميض
    بتزول عتمة مغلفة بعتمة.
    ما يجدر ذكره أخيرا ان الكثيرين لم يعجبوا بمحكية يوسف الخال هذه، وفضلوا عليها لهجة سعيد عقل العامية التي تتجلى في بعض اشعاره التي تغنيها فيروز، ومنها مشوار جينا عا الدني مشوار ، وذلك لأن عامية سعيد عقل عامية بسيطة خالية من التكلف والتنظير فهي العامية اللبنانية كما يتكلمها اللبناني البسيط في قريته. في حين ان عامية أو محكية يوسف الخال (كانت مزيجا من عدة عاميات سورية ولبنانية ولم تكن عامية واحدة. والمعروف ان الخال أصله من احدى قرى منطقة وادي النصارى بسوريا وكان من الطبيعي ان يتكلمها واني ضيف إليها عاميات لبنانية أخرى. لذلك اعتبر كثيرون ان محكيته هذه ثقيلة الدم وغير طبيعية، ومن هؤلاء منصور الرحباني الذي ذكر مرارا انه يفضل عامية طبيعية مثل عامية سعيد عقل على عامية يوسف الخال التي يمجها الذوق وترفضها الفطرة. وأيا كان الرأي في هذه المسألة فإن يوسف الخال كان داعية نشطاً لأفكار وقف منها المثقفون العرب وقفة ريبة وحذر معتبرين انها لم تكن أفكاراً بريئة لوجه الثقافة والحداثة!

    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.