• الفقيه في خدمة السلام

    الفقيه في خدمة السلام

    في أبوظبي حيث كنت الأسبوع المنصرم حضرت منتدى «تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، الذي التأم برعاية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير خارجية الإمارات، وبالإشراف العلمي للعلامة عبدالله بن بية، وبحضور عدد كبير من علماء الأمة ومفكريها.
    المنتدى أراد له منظموه أن يكون خطوة نوعية أولى في معالجة المأزق الحاد الذي تعرفه المجتمعات المسلمة في الوقت الراهن، وقد مزقتها الفتن والحروب الأهلية والصراعات العقدية والطائفية، وتحول دينها من مقوم وحدتها وأساس كينونتها إلى عامل تفريق وتشتيت وتمزق لنسيجها الداخلي. ولقد أرجع الشيخ بن بية هذا المأزق إلى الفوضى الفكرية العارمة، التي تعم الحقل الديني في غياب ضوابط منهجية دقيقة، تحدد إمكانات تأويل واستثمار النص الشرعي في تدبير الوقائع الراهنة، فاعتبر أن هذه الفوضى «تطورت إلى نزاعات وخصومات كلامية سرعان ما استحالت إلى حروب حقيقية بالذخيرة الحية، فسفكت الدماء المعصومة واستبيحت الحرمات المصونة في مشهد غابت فيه الحكمة وانتزعت من قلوب الأطراف المنخرطة فيه الرحمة». الاستشهاد الذي أوردناه هنا تضمنته الوثيقة المرجعية للمنتدى، وهي كتاب ألفه الشيخ بن بية بعنوان «تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع»، ويتعلق الأمر بعمل علمي نفيس يُشكل خلاصة النموذج الذي بلوره المؤلف منذ سنوات باسم «فقه الواقع والتوقع»، ولا شك أنه إضافة نوعية وإبداعية للحقل الأصولي وللمنهجية التأويلية الإسلامية.ما أراد المنتدى أن يصل إليه وفق هذه الرؤية هي الخروج من ثقافة الفتنة التي تحملها التيارات المتشددة والمتطرفة التي حملت سلاح التكفير والفتنة ضد الدولة والمجتمع، وركبت موجة الحراك الثوري العربي لتقويض الكيانات الوطنية القائمة وتمزيق اللحمة الاجتماعية، مما يقتضي من العلماء أن يستمروا في تأدية الدور الذي اضطلعوا به تاريخياً، وهو صيانة وجود الجماعة التي هي حاضنة الدين والأمينة عليه.من هنا أهمية فقه جديد للواقع في بعديه التشخيصي الراهن والمستقبلي المنظور، مما شكل محور مشروع الشيخ بن بية التجديدي الإصلاحي الذي انطلق فيه من قراءة مبتكرة للمدونة الأصولية الكلاسيكية تمحورت حول ثلاثية التأويل والتعليل والتنزيل التي هي الدائرة الدلالية للنص التكليفي. وإذا كان الأصوليون اعتنوا في السابق ببعدي التأويل (آليات القراءة والتفسير) والتعليل (أنماط القياس)، فإنهم لم يعمقوا النظر في البعد المتعلق بالتنزيل الذي أطلقوا عليه في المصطلحات الأصولية مفهوم «تحقيق المناط». ومع أن "الشيخ بن بية" لا يدعي- تواضعاً- إنه يضيف إضافات جديدة إلى المنهجية الأصولية في هذا المنحى الثالث، إلا أنه في الحقيقة يتجاوز بوضوح التحديدات الكلاسيكية (تطبيق القاعدة على آحاد صورها أو بيان علة الأصل)، ليحول تحقيق المناط إلى مرتكز المنهجية الأصولية في اطاريها المرجعيين: النص والواقع بما أنه هو المنظور التشخيصي للواقع الذي بدونه لا سبيل لتنزيل المعيار الشرعي في سياقه الاجتماعي والتاريخي.لا يتسع المقام لعرض هذه الأطروحة الأصولية المبتكرة والعميقة التي بسطها الشيخ بن بية في كتابه المذكور بلغة علمية رصينة وبأسلوب جذاب، وإنما أردنا الانطلاق منها في الإشارة إلى أهمية ما دعا إليه العلامة "بن بية" من ضرورة انفتاح الفقه على العلوم الإنسانية المعاصرة (التي سماها هابرماس العلوم التأويلية- التاريخية) في رصد الواقع ووصفه شرطا أوليا لتنزيل النص على الوقائع المستجدة .ولا بد من التأكيد هنا أن الواقع بالمنظور الفلسفي الاجتماعي الراهن هو واقع رمزي مبني وسردي، في مقابل التصورات اليونانية القديمة التي كانت تنظر إلى الواقع في سياق بنية كونية يفترض فيها أنها تجسد نظام العقل الثابت وتعكس تراتبية وغائية النظام الانطولوجي الذي هو الوجود المثالي الصوري في مقابل العالم الحسي والتجريبي المشترك، ومع أن الفقهاء والمتكلمين مالوا إجمالًا إلى رفض «الكوسمولوجيا» اليونانية التي لا تتلاءم بسهولة مع عقيدة الخلق والحدوث معتمدين تصوراً ذرياً للطبيعة ينفي عنها الفاعلية الذاتية، إلا أنهم تأثروا أحياناً بهذه البنية الكوسمولوجية الأرسطية نتيجة لتأثرهم بالآلة المنطقية الأرسطية، مما لا مجال لتفصيله في هذا الحيز.الواقع في النظرة الأبستمولوجية الحديثة مبني ورمزي حتى في جانبه الطبيعي، لأن المقاييس العلمية التجريبية لا تستكشف معطى قبلياً ثابتاً وإنما تصوغ وتصنع واقعها من خلال الأدوات الرياضية والتجارب المخبرية المصطنعة، وتلك الأبعاد جلية في الواقع الإنساني، الذي هو في كل جوانبه رمزي في مقومه اللغوي التواصلي. كما أن الواقع سردي لأنه لاسبيل للوصول إليه إلا من خلال النص التصوري أو الروائي الذي نصفه به، مما هو قائم في الوقائع الطبيعية وبديهي في الوقائع الإنسانية.ولذا ندرك أهمية ما أُطلق عليه العلامة «بن بية» فقه الواقع والتوقع، الذي هو بالأساس فقه تأويلي ينطلق من المكانة المزدوجة للفقيه من حيث هو صانع معرفة وفاعل ملتزم ومسؤول في مجتمعه، لا يمكنه أن يتهرب من تحمل واجب توفير البدائل الواقعية والعملية للأمة بدل الجمود على النص دون إدراك أن السياق هو الموجه لتنزيله بما هو التعبير عن إرادة الله القدرية، التي لا يمكن أن تتعارض مع إرادته التكليفية.ولا شك أن مسؤولية الفقيه تتمحور اليوم في ما عبر عنه الشيخ "بن بية" من ضرورة تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، بحيث يتخلى الفقيه عن دور السياسي الطامح للسلطة لإقامة الدين في الشأن العام إلى دور «الفقيه الأهلي» (إنْ جازت العبارة)، أي الفقيه الذي يكون سنداً للجماعة والمجتمع، يسعى لرأب الصدع وتسوية النزاعات الداخلية والبينية، ويقدم للأمة الحلول العملية المبتكرة التي تصالحها مع دينها وعصرها. إنه دور عظيم لايمكن أن يؤديه إلا الفقيه.أما السياسة كما صرح علماء الإسلام في العصور الوسيطة، فهي شأن تدبيري لا شأن للفقيه به ولا حاجة له بها، وكلما تحول الفقيه إلى قائد حركي وزعيم أيديولوجي أشعل الفتنة ومزق الجماعة وهدم بالتالي عرى الدين.
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.