• من الذي دفع الثمن؟

    من الذي دفع الثمن؟

    عيد عبدالله الناصر
    05 فبراير 2006
    هذه مقدمة لكتاب بعنوان: من الذي دفع الثمن؟ وهو كتاب يتحدث عن دور الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي أي ايه) في الحرب الباردة الثقافية. الكتاب من تأليف فرانسيس تونور سونديرز ، و ترجمة أسامة اسبر. الكتاب يحمل الكثير من المعلومات المثيرة عن مرحلة مهمة في القرن العشرين، ولأهمية ما جاء في الكتاب رأيت أن اعيد طباعة المقدمة التي تسلط الضوء على أمور كثيرة فصلها الكتاب. وهي تؤكد على أمور حدثت في الماضي وهناك من ضحك عليه، وهي الآن تطبق بشكل مفضوح وغبي فيما يسمى الحرب على الارهاب (أي الاسلام والعرب وكل من يعارض المشروع الصهيوني الأمريكي) وللأسف فان أدوات المشروع الجديد هم بعض المثقفين العرب. ونحن نقترح لمن ينشد معرفة الحقيقة في هذا الجانب قراءة الكتاب للمزيد من المعلومات التي تفضح تلك المرحلة ومن ثم تعري بعض اساليبهم المتبعة هذه الأيام.
    واليكم نص المقدمة كما وردت في الكتاب نصا :
    *************
    “إن طريقة القيام بالدعاية الجيدة هي ألا تظهر أنك تقوم بها مطلقا”. ريتشارد كروسمان
    في أوج الحرب الباردة حشدت الحكومة الأمريكية موارد ضخمة من أجل برنامج سري للدعاية الثقافية في أوروبا الغربية. وكانت السمة الأساسية لهذا البرنامج هي إنكار وجوده. لقد أدارته وكالة الاستخبارات المركزية، الذراع التجسسية لأمريكا بسرية كبيرة. وكانت وسيلة هذه الحملة السرية هي المنظمة من أجل الحرية الثقافية. التي أدراها عميل السي أي أي مايكل جوسيليسون من 1950 غالى 1967م. وكانت انجازاتها – ان لم نقل استمراريتها – جديرة بالاعتبار. وقد امتلكت المنظمة من أجل الحرية الثقافية، في أوج نشاطها، مكاتب في خمس وثلاثين دولة، ووظفت دزينات من الأشخاص، وأصدرت أكثر من عشرين مجلة، وأقامت معارض فنية، وامتلكت مؤسسات إعلامية وسينمائية. كانت مهمتها إبعاد انتلجنسيا أوروبا الغربية عن افتتانها الطويل بالماركسية نحو مواقع أكثر انسجاما مع الطريقة الأمريكية.
    بالاعتماد على شبكة واسعة، وذات تأثير قوي، من رجال المخابرات، والاستراتيجيين السياسيين، والشركات، وروابط العصبة الجامعية، بدأت السي أي أي الناشئة منذ عما 1947، ببناء اتحاد مالي كانت مهمته تلقيح العالم ضد عدوى الشيوعية، وتسهيل حرية مرور المصالح السياسية الأمريكية في الخارج. وكانت النتيجة شبكة محكمة من البشر عملت على جانب الوكالة لتعزيز فكرة أن العالم بحاجة الى سلم أمريكي، الى عصر جديد من التنوير يدعى العصر الأمريكي.
    وكان الاتحاد المالي الذي أسسته السي أي أي – المؤلف مما وصفه هنري كيسنجر ب”أرستقراطية مكرسة لخدمة هذه الأمة من أجل مباديء تتجاوز المشايعه – سلاح أمريكا السري في صراع الحرب الباردة، وهو سلاح،أحدث في الحقل الثقافي ردود فعل واسعة. كان هناك قلة من الكتاب، والشعراء، والفنانين، والمؤرخين، والعلماء، والنقاد في أوروبا ما بعد الحرب لم تكن أسماؤهم مرتبطة، بطريقة ما، بهذا المشروع سواء به أم لم يسمعوا، عرفه أم لم يعرفوه. ان هذه المؤسسة الأمريكية التجسسية، التي لم يتم الارتياب بها أو اكتشاف هويتها، لأكثر من عشرين عاما، شغلت في الغرب، ومن أجل الغرب، جبهة ثقافية معقدة، انفق عليها بسخاء، باسم حرية التعبير. وهذه المؤسسة التي عرفت الحرب الباردة بأنها “معركة من أجل امتلاك عقول البشر”، خزنت ترسانة صخمة من الأسلحة الثقافية تضمنت مجلات، وكتبا، ومؤتمرات، وندوات، وعروضا فنية، وحفلات موسيقية وجوائز.
    شملت عضوية هذا الاتحاد المالي مجموعة متجانسة من المتطرفين السابقين، والمفكرين اليساريين الذين تحطم ايمانهم بالشيوعية بسبب الكليانية الستالينية. خارجين من العقد المعتدل للثلاثينيات، الذي ندبه آثر كويستلر قائلا: “انه ثورة مجهضة للروح، ونهضة مختلة، وفجر تاريخ مزيف”، ترافقت خيبة أملهم مع استعداد للانضمام الى اجماع جديد، لاعلان نظام جديد يكون بديلا لقوى الماضي المستهلكة. وتم التخلي عن تراث المفكر المنشق والمتطرف، الذي يدعو المفكرين إلى فحص الأساطير، واستجواب الامتيازات المؤسساتية، وإزعاج السلطة، لصالح دعم “الفرضية الأمريكية”. وقد أصبحت هذه المجموعة غير الشيوعية، التي ناصرتها ومولتها مؤسسات قوية، مثل كارتل في الحياة الفكرية للغرب مثلما كانت الشيوعية قبل ذلك ببضع سنوات (وصمت كثيرا من البشر أنفسهم).
    يقول شارلي سترين، الراوي في كتاب صول بيلو، موهبة همبولت: جاء وقت .. بدا فيه كأن الحياة فقدت قدرتها على ترتيب نفسها. وكان خليقا بها أن ترتب. وقد أخذ المفكرون هذا العمل على عاتقهم. وكان هذا الترتيب، من زمن ماكيافيللي إلى زمننا الحالي، المشروع العظيم والبهي والمعذب والمضلل والكارثي. وكان رجل مثل هبمولت، الملهم، الداهية، ومختل العقل، يرى أن المشروع الانساني، الكبير و المتنوع للغاية، لابد أن يديره الآن أشخاص استثنائيون. لقد كان شخصا استثنائيا، وبالتالي، مرشحا مؤهلا للسلطة. حسنا، لم لا؟ ومثل كثيرين من نوع همبولت، فان أولئك المفكرين الذين خانهم وثن الشيوعية وجدوا أنفهسم يتطلعون الى امكانية بناء فايمر جديدة، فايمر أمريكية، واذا كانت الحكومة – وذراع عملها السرية، السي آي اي – مستعدة للمساعدة في هذا المشروع، فما الذي يمنع؟
    كان ضم اليساريين السابقين الى المشروع برعاية السي آي اي أكثر قابلية للتصديق مما يبدو. كان هناك تماثل في المصلحة والايمان بين الوكالة وأولئك ا لمفكرين الذين تم استئجارهم، حتى دون علم منهم، ليخوضوا الحرب الباردة الثقافية. كتب مؤرخ أرمريكا الليبرالي البارز آرث شليسنغر قائلا انه لم يكن نفوذ الس آي اي دوما، أو غالبا، رجعيا وشريرا. فبحسب تجربتي كانت قيادتها متنورة سياسيا ومحنكة(4). أما وجهة النظر التي ترى أن السي أي اي ملاذ لليبرالية فقد عملت كاغراء قوى للتعاون معها، أو، اذ لم يكن هذا، فعلى الأقل، للخضوع لأسطورة أن دوافعها حسنة. ومع ذلك، فقد ترافق هذا الادارك بشكل غير مريح مع سمعة السي آي أي كأداة للقوة الأمريكية في الحرب البادرة، قوة تدخلية، لا ترحم، ولا مسؤولة بشكل مخيف. وهي المنظمة التي دبرت الاطاحة برئيس الوزراء مصدق في ايران في عام 1953م، والاطاحة بحكومة آبينز في غواتيمالا في 1954م، وأدارت عملية خليج الخنازير الكارثية في 1961، وبرنامج فونيكس الشهير في فيتنام. وتجسست على عشرات الآلاف من الأمريكيين، وضايقت باستمرار فادة انتخبوا ديموقراطيا في الخارج، وخططت للاغتيالات، وأنكرت هذه النشاطات أمام الكونغرس، وأثناء تنفيذ عملياتها، أرتقت بقن الكذب الى ذروات جديدة، فبأية خيمياء غريبه اذن، استطاعت السي آي اي أن تقدم نفسها لمفكرين من ذوي الأذهان الرفيعة مثل آثر شليسنغر على أنها الاناء الذهبي لليبرالية ا لمدللة؟
    وسعت مؤسسة أمريكا التجسسية نطاق عملها الى حدود بعيدة ليشمل الشؤون الثقافية لحلفائها الغربيين، وعملت كميسر، غير معترف به، لسلسلة واسعة من النشاط الابداعي، واستخدمت المفكرين وأعمالهم كبيادق شطرنجية تدخل في اللعبة الكبيرة، وقد شكل كل هذا تراث الحرب الباردة الأكثر تحريضا. ولم يتصد أحد حتى الآن، وبشكل جدي، للحجج الدفاعية التي قدمها أوصياء الفترة والتي تستند الى الزعم بأن استثمار السي آي اي المالي القوي جاء دون شروط.
    كان هناك بين الدوائر الفكرية في أمريكا وأوروبا الغربية استعداد متواصل لتصديق أن السي آي اي لم تكن مهتمة الا بتشجيع التعبير الثقافي الحر والديموقراطي. ويقول خط الدفاع هذا، وهو أشبه بشيك على بياض: لقد قدمنا المساعدة الى الناس فحسب كي يقولوا ما كانوا سيقولونه بأية طريقة. وتضيف الحجة أنه اذا كان المستفيدون من تمويل الس آي اي يجهلون الحقيقة، واذا كان سلوكهم بالتالي لم يجر تعديله، فلا يمكن اذان أن يكون استقلالهم كمفكرين نقديين قد تأثر.
    غير أن الوثائق الرسمية المرتبطة بالحرب الباردة الثقافية فضحت بشكل منظم أسطورة الايثار هذه. وكان من المتوقع أن يعمل الأفراد والمؤسسات الذي مولتهم السي آي اي كجزء من حملة اقناع واسعة، ومن حرب دعائية، عرفت فيها الدعاية بأنها كل جهد منظم أو كل حركة تهدف الى نشر معلومات أو عقيدة معينة عن طريق الأخبار، والحجج الخاصة أو بواسطة مغريات مصممة للتأثير في أفكار وأفعال أية مجموعة محددة (5). وكان العنصر الأساسي في هذا المسعى هو الحرب النفسية، التي عرفت بأنها استخدام طاقات الأمة المخطط للدعاية ولأنشطة أخرى غير المعركة من أجل ايصال الأفكار والمعلومات المفبركة للتأثير في آراء ومواقف، وعواطف، وسلوك الجماعات الأجنبية بأساليب تسهل انجاز الأهداف القومية. وعرف أيضا النوع الأكثر فعالية من الدعاية بأنه ذلك الذي يجعل التابع يتحرك في الاتجاه الذي ترغب به لأسباب يعتقد أنها أسبابه (6). لا فائدة اذن من تفنيد هذه ا لتعريفات. فحقائق الدبلوماسية الثقافية الأمريكية لما بعد الحرب مبعثرة في الوثائق الحكومية.

    عملت السي آي اي بلا تردد، من أجل تمويه استثماراتها، وفق فرضية تقول ان المداهنات سوف ترفض اذا قدمت بشكل علني. أي نوع من الحرية يمكن أن يقدمه خداع كهذا؟ ولم تكن هناك بالطبع حرية من أي نوع على جدول الأعمال في الاتحاد السوفيتي، فقد تم حجز أولئك الكتاب والمفكرين الذي لم يرسلوا الى معسكرات العمل لخدمة أهداف الدولة. وكان من المشروع بالتأكيد، معارضة ذلك المناخ من اللاحرية ولكن بأية طرق؟ هل كان هناك أي مسوغ حقيقي لافتراض أن مباديء الديموقارطية يمكن بعثها في أوروبا ما بعد الحرب وفقا لآلية أوروبية داخلية؟ أو لعدم افتراض أن الديموقراطية يمكن أن تكون أكثر تعقيدا مما هو متضمن في تمجيد الليبرالية الأمريكية؟ الى أية درجة كان مسموحا لدولة أخرى أن تتدخل سرا في العمليات الأساسية للنمو الفكري العضوي، وللجدل الحر، ولتدفق الأفكار غير المكبوح؟ ألا يجازف هذا أن ينتج، بدلا من الحرية الحقيقية، حرية ذيلية، يعتقد فيها البشر انهم يتصرفون بحرية، بينما هم في الحقيقة مقيدون الى قوى لا يمتلكون سيطرة عليها؟
    يثير انخراط السي آي اي في الحرب الثقافية أسئلة أخرى مزعجة: ألم تشوه المساعدة المالية العملية التي يتطور من خلالها المفكرون وأفكارهم؟ ألم يتم اختيار الناس لمراكزهم على أسس غير الكفاءة الفكرية؟ ما الذي عناه آرثر كويستلر حين سخر من دائرة بغايا الهواتف الأكاديمية الدولية في المؤتمرات والندوات الدولية؟ هل كانت السمعة مضمونة أو محمية من خلال الانضمام الى اتحاد السي آي اي المالي؟ كم من هؤلاء الكتاب والمفكرين الذي اكتسبوا جمهورا عالميا لأفكارهم كانوا في الحقيقة كتابا من الدرجة الثانية، ووكلاء دعاية سريعي الزوال، وكان من المحتوم أن تدخل كتبهم أقبية مكتبات الكتب المستعملة؟
    في 1966م ظهرت سلسلة من المقالات في نيويورك تايمز كشف عن المدى الواسع من العمل السري الذي قامت به المنظمات الاستخباراتية الأمريكية. وبعد أن نشرت الصحيفة قصص محاولات الانقلاب – كان معظمها غير متقنه – والاغتيالات السياسية على الصفحات الأمامية، بدأتت حملة لتصوير السي آي اي كفيل متشرد، يشق طريقه بصخب عبر أدغال السياسة العالمية، لا يعيقه أي احساس بالمسؤولية. ومن بين هذه الفضائح التآمرية الأكثر درامية تفاصيل حول كيفية اعتماد الولايات المتحدة على مثقفي النخبة في الغرب كي تعطي وزنا فكريا لأفعالها.
    وقد ولد الاقتراح القائل بأن املاءات صانعي السياسة الأمريكية شجعت كثيرا من المفكرين بدلا من أن تشجعهم المعايير المستقلة الخاصة بهم، ولد اشمئزاز واسع الانتشار. فالسطلة الأخلاقية التي تمتعت بها الآنتلجسيا في أوج الحرب الباردة تم تشويهها الآن بشكل جدي، وغالبا ما جرت السخرية منها. ورح الاجماع البيروقراطي يتداعى، ولم يعد المركز يستطيع أن يتماسك. وبينما هو يتداعى، أصبحت القصة نفسها متشظية، وجزئية، ومعدله – أحيانا بشكل فاضح – على يد قوى من اليمين واليسار رغبت أن تحرف حقائقها الفريدة لتحقيق غاياتها. أما الظروف التي جعلت الكشف ممكنا، فقد أسهمت، بشكل مثير للسخرية، في جعل دلالته الحقيقية غامضة. ولما كانت حملة أمريكا المهووسة المضادة للشيوعية في فيتنا، قد جرتها الى حافة الانهيار الاجتماعي، وبعد فضائح بمستوى أوراق البنتاغون، ووترغيت، كان من الصعب دعم الاهتمام أو دعم العنف في الصراع الثقافي، والذي بدا بالمقارنة تافها علاوة على ذلك.
    كتب أرشيبالد ماكليش: ان التاريخ شبيه بقاعة حفلات موسيقية سيئة البناء، ذات زوايا ميته لا يمكن أن تسمع منها الموسيقى (7). وهذا الكتاب يحالو أن يكشف تلك الزوايا الميته. انه يبحث عن صوت مختلف، ويعزف لحنا مختلفا عن ذاك الذي عزفه فنانو الفترة الرسميون. انه تاريخ سري، بقدر ما يؤمن بأهمية قوة العلاقات الشخصية، وبالعلاقات والمؤامرات السهلة، وأهمية دبلوماسية الصالونات وسياسة المخادع. يتصدى لما وصفه غور فيدال بالروايات الرسمية التي اتفقت عليها أطراف كثيرة مهتمة، وكل طرف يمتلك ألف يوم كي ينصب أهراماته المضلله، ومسلاته التي تهدف الى تحديد زمن الشمس. ذلك أن أي تاريخ كان يقوم باستجواب تلك الحقائق المتفق علهيا، لابد له، كما قال تزفيتان تودوروف، أن يصبح فعل تجديف. انه ليس عن الاسهما في عبادة الأبطال و القديسين. بل عن الاقتراب قدر الامكان من الحقيقة. يشارك في ما دعاه ماكس فيبر “تحرير العالم”، وهو يوجد على الطرف الآخر من الوثنية على الطيف. انه كتاب عن تناول الحقيقة من أجل الحقيقة نفسها، وهو لا يستعيد صورا اعتبرت مفيدة للحاضر

    دروب

    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.