• الدين والدولة . . نقاش قديم يتجدد فى أوروبا

    الدين والدولة . . نقاش قديم يتجدد فى أوروبا






    تقرير كتبه : مصطفى الســيد
    لطالما افتخرت أوروبا الحديثة بالعلمانية التي تجنب المؤسسات الدينية الخوص في أي شيء وكل شيء يمس السياسة، لكن يبدو أن هذا الفخر في طريقه إلى التلاشي، خاصة وأن العقد الأخير شهد صعود أصوات من مختلف المؤسسات الدينية فى أوروبا مطالبة ـ على استحياء ـ باستعادة الكنيسة لدورها السابق فى المُجتمع.


    تلك الأصوات الخجولة تصاعدت تدريجيا لتأخذ منحى أكثر جرأة وأشد صراحة، لكنها لم ترقى لدائرة الصراع أو حدة المنافسة، باستـثـناء أصوات قليلة لجماعات سرعان ما كانت تصفها المؤسسات السياسية الرسمية بالتطرف، وكانت الجماعات العلمانية ترى فى تصدى الحكومات للأصوات الدينية مناخا ملائما لتحقيق أغراضها لإخماد التحرك الديني، إلا أن المرحلة الحالية شهدت تطورا أكثر صراحة من قبل شخصيات سياسية ذات وزن كبير، تفجر قضايا من العيار الثقيل، حتى أن البعض أصبح يتكهن بعودة النقاش من جديد حول فلسفة أوروبا فى فصل الدين عن الدولة فى أوروبا.


    أصل العلمانية


    العلمانية منتج ثقافي واجتماعي أوروبي ظهر في أواسط القرن الثامن عشر في فرنسا من بعدها لباقي دول العالم، وذلك نتيجة ظروف دينية واجتماعية وسياسية واقتصادية، وكانت بمثابة انتفاضة النخب العلمية والثقافية ضد الطغيان الكنسي الذي جاوز كل الحدود في تحدي المعقولات ومعاداة الكشوف العلمية في شتى مجالات الحياة، والإصرار علي الوصاية علي العقول والضمائر، والخلط بين الموروث والمكشوف، حتى أصبحت الكنيسة كابوساً يؤرق كل الأحرار والعقلاء، وفي النهاية سقطت الأساطير والخرافات الكنسية، ولكن بأفدح ثمن وهو نبذ الدين والمقدسات بالكلية، ومن ثم ظهرت أوروبا العلمانية بديلاً عن أوروبا النصرانية.


    ومصطلح العلمانية (Secularism) هو ترجمة أكثر تهذيبا وأقل إثارة للترجمة الصحيحة لكلمة تعني «اللادينية» أو «الدنيوية»، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين، وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE، وقد ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر.


    ومدلول العلمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما.


    في تعريفها للعلمانية، تقول دائرة المعارف البريطانية (secularism):هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ(Secularism) عرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة.


    بالطبع، انتقد كثيرون العلمانية بسبب غموض المدلول الحقيقي لاصطلاح العلمانية بالنسبة لكثير من المثقفين فضلاً عن العامة، لكن بالرغم من الكساد الذي بدأت المذاهب الأخرى كالشيوعية والاشتراكية بعد اكتشاف الجماهير لحقيقتها، ما تزال أسهم العلمانية مرتفعة، سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار «الدين لله والوطن للجميع» أو «لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين».


    جدل متجدد


    مؤخرا، خرج رئيس الوزراء الايرلندي الأسبق «جون بريتون» قائلا: “ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يكون منفتحا لتأثير الكنائس.. المتدينين فى أوروبا يتزايد الانطباع لديهم بأنهم فئة غريبة الأطوار، من السذاجة أن يسود الاعتقاد بأن الكنيسة لا يجب أن يكون لها نشاط مؤثر فى السياسة الأوروبية”.


    تصريحات المسئول الأيرلندي السابق التي جاءت خلال اجتماع بالبرلمان الأوروبي حول السياسة والدين، رافضا تنحية المؤسسات الدينية عن التدخل فى الشئون السياسية، تظهر ما يمكن وصفه بـ«حالة توتر» في العلاقة بين الدين والسياسة في أوروبا، وهو ما توضحه هذه الحالة من النقاش الذي يخرج بين الفينة والأخرى حول الشعارات والتعبيرات التى تتضمن عبارات دينية، إضافة إلى الصلبان والزي الديني في المدارس والمستشفيات.


    العلمانيون لديهم إصرار دائم يتمثل فى اعتبار الدين والتدين والإيمان مسألة شخصية بحته، ويتمسكون بإبعاد الدين عن الساحة السياسية، بل ذهبوا إلى أبعد من هذا بالتأكيد على ضرورة حظر دخول المؤسسات الأوروبية فى نقاش مع الكنائس “يقصدون المؤسسات الدينية”، وهي إحدى التوجهات العلمانية، التي يصفها «بريتون» بأنها ساذجة وغير واقعية، مبررا بأنه لا يمكن فصل مُعتقدات الإنسان الدينية عن شخصيته؛ حيث إن المعتقد الديني يؤثر على التكوين الشخصي والسلوكيات وينعكس بدوره على العمل السياسي.


    بين الحرية والتحرر


    تعتبر العلمانية الأوروبية أن “الحرية الفردية” هي أكبر منجزاتها، ولكنها تواجه إشكالية الاضطرار إلى تقييد أحد أعمدتها الرئيسية، وهي الحرية الدينية الفردية، فور تجاوز مفعول القيم الدينية لجدران البيوت والمعابد وبعض الجوانب الضيقة للعلاقة الشخصية مع الآخر، ويزداد التقييد شدة في ميدان القيم المرتبطة بالعلاقات بين الجنسين، بعد وضعها في الصدارة عبر ما يسمى “الثورة الجنسية” أو ثورة التحرر الجنسي، المنبثقة بدورها عما عرف بثورة الطلبة عام 1968، فقد شهدت العقود الماضية الإسقاط التدريجي لسائر “القيم والضوابط العتيقة” وتقنين ما يعتبر بالمنظور الديني “انحلالا مطلقا”، حتى أصبح الاعتراض على ما يسمونه “الزواج المثلي”، أي بين اللوطيين وبين السحاقيات، اعتراضا مخالفا للقانون وتعديا على حقوق الأقليّات.


    كل هذا يظهر للعيان إلى أين وصلت إشكالية العلمانية مع القيم الدينية عموما، عندما نستحضر على سبيل المثال كيف أعرب أحد المرشحين لعضوية مفوضية الاتحاد الأوروبي عن رفضه اللواط من منطلق ديني، فكان موقفه سببا رئيسيا وراء رفض المجلس التصديق على تشكيلة المفوضية (نوفمبر 2004) إلى أن تم تعديلها وإقصاؤه عنها.


    يبدو أن أوروبا وبعد ثلاثة قرون تقريبا من تجربتها أوروبا مع العلمانية وجدت نفسها في معضلة تاريخية وروحية واجتماعية تعصف بمجتمعاتها، التي غاب عنها أثر الدين والإيمان بالمقدسات، تمثلت في تفسخ العلاقات الاجتماعية، وارتفاع نسبة الانتحار، والجنوح الفكري والعقلي والنفسي، فأخذت تفكر في العودة للدين والبحث عن إرثها التاريخي مع الدين والكنيسة، وأخذت أصوات المنادين بالعودة إلي الدين تظهر وتعلو، تشكلت الأحزاب السياسية ذات الخلفيات الدينية المسيحية، وذلك في العديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وفي هولندا أيضا، وأخذت التيارات المحافظة المنادية بأوروبا المسيحية تكتسح الانتخابات في العديد من الدول، في محاولة للحفاظ على مجتمعاتهم من الانهيار تحت وطأة الإلحاد الذي أفرزته العلمانية، بل أن بعضهم أخذ في تطبيق بعض الأفكار التي نصت عليها الشريعة الإسلامية، فطبقت فرنسا نظام الصرافة الإسلامي، وطبقت ألمانيا نظام الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات، وطبقت روسيا نظام الحسبة في نوادي موسكو، والأمثلة غير ذلك كثيرة من شواهد انقلاب أوروبا علي العلمانية وعودتها للدين مرة أخرى.


    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.