• تنميـة الإحسـاس بالجمـال عـن براعة «الاستهلال في القصة»

    تنميـة الإحسـاس بالجمـال عـن براعة «الاستهلال في القصة»
    فيصل خرتش
    صحيفة تشرين

    يبدأ طارق شفيق حقي كتابه بتعريف «الاستهلال في القصة» بقوله: إنه خلق جمالي يدرك ويثمن فيه القاص المبدع ذكاء المتلقي، ويشاركه أفق عمله الأدبي، وينمي لديه أدواته وإ
    حساسه بالجمال، فنمو حدس المتلقي بعد قراءة أكثر من عمل أدبي بارع، ما كان إلا من تنبؤ الاستهلال وصدق نبوءته.
    والاستهلال في القصة( دار الملتقى- حلب) جزء لا يتجزأ من معمار فني متكامل، لأن العلاقة بين أجزاء القصة علاقة عضوية متناغمة في صياغة الأمر الكلي، لأن القصة وحدات متكاملة منسجمة، جمالها في سياقها، ولن ترى جمالها إلا بتكاملها.
    لقد كان للقصة عبر العصور المكانة الكبرى عند الأمم جميعها، تجسد فيها قيمها، وتحفظ بها خصائصها، وتربي عليها ناشئتها، وقد اتضح هذا المديح في القرآن الكريم، فقد قال تعالى: «نحن نقصّ عليك أحسن القصص» وقد ارتبطت بظهور الطباعة والصحافة، وهي أقرب إلى المجتمع العربي، أمّا الرواية فهي ابنة المدن الكبيرة، وتبدأ من ولادة البطل، وتتكلم عن كل حياته حتى مماته، (سيرة سيف بن ذي يزن) فالرواية تنغمس بالتفاصيل وبكل المواقف، فترى الكاتب وكأنه يتكلم على أحداثه هو، ويمكننا إضافة فارق مميّز بين القصة القصيرة والرواية، وهو «القفلة»، فالقصة تنتهي بلحظة تنوير، تجلو كل الغوامض السابقة، والرواية تنتهي بأي شكل من الأشكال، والقصة القصيرة يتحدّد معناها بنهايتها، وتعتمد على التركيز والإيجاز، وبوسع الرواية أن تصوّر حياة الشخصية بكل مراحلها، بينما القصة تكتفي بلوحة واحدة من حياة الشخصية.
    ونرى نوعاً من الاستهلال في الرواية عبر وصف الشخصية الحسي والنفسي، وقد يصف المكان وكذلك هناك نوع آخر وهو البدء بالمونولوج الداخلي، أو حوار يخاطب فيه المتلقي بشكل مباشر، وهذه الأنواع من الاستهلال توجد كذلك في القصة.
    وبراعة الاستهلال، هو أن يشير الأديب في ابتداء عمله إلى عبارة تدل على مجمل العمل، تكون مناسبة للمقصود، تجذب المتلقي وتثير اهتمامه ، وقد تقع في ألوان مختلفة.
    القرآن الكريم يتوسّل عبر أكثر من طريقة فنية تحرك آليات التأويل والاستدلال لدى الإنسان، فالصورة القرآنية إحدى هذه الوسائل، كقوله تعالى: «ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صمّ بكم عمّيّ فهم لا يعقلون»، وهو كثير في القرآن الكريم.
    ويتوسّل القرآن الكريم بالمثل، فهو يعد تلخيصاً وتكثيفاً لقصة كاملة، وقد ضرب الله الأمثال في القرآن كقوله:« فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفُع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال».
    وكثير من قصص كليلة دمنة لابن المقفع تستهل بالمثل ثم تنصرف إلى ذكر القصة، كاملة، كقصة البوم والغربان التي تبدأ بالمثل وتختم به. قال الفيلسوف: «من اغتر بالعدوّ الذي لم يزل عدوّاً أصابه ما أصاب البوم الغربان». وختمت القصة بقوله: «فهذا مثل أهل العداوة الذين لا ينبغي أن يعتر بهم، وإن أظهروا تودّد أو تضرعاً».
    وكذلك ورد هذا الأسلوب في قصص إيزوب الحكيم، وقد كتب تحت العنوان «حكم وأمثال» ففي قصة «الثعلب الجائع»، تختم القصة بالمثل:«اصبر فالصبر مفتاح الفرج».
    ولو عدنا إلى تاريخ القصة القصيرة جداً فسنجدها في التراث عبر النوادر والملح والأمثال والحكم، وهي تعتمد على تفجير طاقات الكلمات إلى أقصى حدّ ممكن، ويأخذ العنوان شكل الاستهلال الحقيقي والإضافي، ويتجاور مع «القفلة» في شكل علني.
    الأدب النبوي في حديثه الكريم، أعطى للقصة اهتماماً والتفاتاً، ووافتنا الروايات الصحيحة، مجموعة جديدة من هذه القصص، وقد اعتنت القصة النبوية بالاستهلال وتنوعّت أساليبه، واعتمد الحديث الشريف على الغرابة والمقدمات القصيرة والخاطفة والمصغرات، ومثل ذلك في الحديث الشريف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بينما رجل يمشي وقد أعجبته جُمتّهُ وبُرْدَاهُ إذ خُسف به الأرض فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة».
    وقد جاءت عبر ومضة، تصور غرور الرجل وختمت بعقوبة قاسية، وهذه القصة القصيرة جداً كثفت المعاني الكبيرة في جملة، فكان عنواناً للفن في الحديث الشريف.
    وقصص ألف ليلة وليلة، تولد القصص من القصص، وتأتي بقصص العلماء والخلفاء والشعراء والأدباء والمتصوّفة، وترصف قصصهم ضمن هذه الليالي، وهي قصص استقت من فنية التراث العربي الكثير، كما لو أن قاصاً حديثاً صاغ الليلة الأولى وآخر أضاف تقنية لما أضافه هو.
    لعلّ الأدب العربي عرف القصة بشكل شعري جميل، وقد اكتملت عناصر البنية القصصية في شعر عمر بن أبي ربيعة بصوره الفنية الرائعة، وقد حمل لنا الشعر العربي قصصاً شعرية فنية، وظهر ذلك في بعض أشعار امرئ القيس وعنترة والنابغة والصعاليك، وعمر بن الخطاب أمر بترجمة قصص العدل والسياسة ، وأذن عثمان لقاص بأن يقصّ على الناس يومين في الأسبوع. وأجاز علي للحسن البصري أن يقصّ في المسجد، ومعاوية اصطفى شيخاً من شيوخ القصص وأمره بتدوين ما يرويه، ثم اتخذه قاصاً له.
    عرف العرب قصة «الخبر»، وقد حوت كتب التراث كمّا هائلاً من الأخبار، وحوت في صياغتها فنيات تختص بها القصة العربي، وهي: البساطة والواقعية والحيوية، والأمثلة على هذا مستفيضة في بطون الكتب وبعض القصص تبدأ بالاستهلال الشعري، وقد استهل بديع الزمان الهمذاني المقامة البشرية بأبيات شعرية، وغالباً ما كان يختم مقاماته بالشعر.
    والمقامات، وإن كان جلها في الكدية، إلا أنها تعالج موضوعات أخرى، فنجد مقامات تتناول القضاء وبعضها تعالج الخرافات السائدة في المجتمع ، ويرتبط عنوان المقامة باستهلال يكون عنوان المقامة كقوله:«المقامة الأصفهانية ... حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت بأصفهان أعتزم المسير إلى الرّي».
    إذاً ، ينبغي أن يؤتى بالاستهلال، بأعذب اللفظ وأجزله وأحسنه نظاماً وسبكاً وأصحه معنّى، وأن يناسب المقصود، ألفاظه فصيحة وجزلة، ومعانيه بديعة ومناسبة لمقتضى الحال، يجب أن يكون الاستهلال دالاً على ما بعده، كما يجب أن يكون متغير الحضور.

    http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/308530

    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.