• نهاية الرأسمالية.. بقلم أوفي جان هويزر

    نهاية الرأسمالية.. بقلم أوفي جان هويزر


    عام 2008م يشهد تحقيق نبوءات بحث منشور عام 1997م


    سقوط الماركسية وانتحار الرأسمالية


    أمور عديدة دفعت إلى نشر هذه الترجمة في مداد القلم الآن، بعد مرور أكثر من عشرة أعوام على نشرها للمرة الأولى، تحت عنوان "نهاية الرأسمالية". من ذلك انعقاد لقاء سنوي آخر هذه الأيام لأصحاب الثراء والنفوذ في العالم فيما يسمى منتدى ديفوس، ومنها ازدياد معالم هزيمة حملات عسكرة الهيمنة التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية المتزعمة للدول الرأسمالية المعاصرة، ومنها أيضا وصول مسلسلات الركود والانتعاش، ولعبة الأسهم والعملات، وتضخم الهوّة بين الفقر والثراء، في بلدان العالم الغربي وعالميا، إلى درجة من التسارع تؤكّد صحة التنبؤات المبدئية التي ظهرت في هذا البحث المترجم في حينه، وكان يطرح التساؤلات عن مصير النظام الرأسمالي بعد سقوط الشيوعية وتوحّش الرأسمالية، تارة تحت عنوان العولمة، وأخرى تحت عنوان الليبرالية الجديدة، وثالثة تحت عنوان الرأسمالية المتشدّدة. وقد نشر البحث يوم 12/9/1997م في صحيفة "دي تسايت" الأسبوعية الألمانية المرموقة، وكان بقلم "أوفي جان هويزر"، وأعطي في الصحيفة العنوان المطوّل التالي:
    هل السياسة ضحيّة إرهاب الاقتصاد؟.. هل تقضي العولمة على أسس الديمقراطية؟..
    تنامي الشكوك في النظام الرأسمالي
    نشأة حركة على نطاق عالمي ضدّ الليبرالية الجديدة شعارها:
    السوق الحرّة تقضي على نفسها بنفسها




    الناقدون من اليسار ومن اليمين
    الضوابط المطلوبة
    نخبة "المعرفة" الناقدون من اليسار ومن اليمين
    أخيرا بدأت ثورة البريطانيين على مجتمعهم، لم يعد لدى الطبقة العليا التقليدية ما تقدّمه وعليها التنحّي، وأصبح المطلوب أن يكون التألّق الفكري وحده مصدر القرار في المستقبل في تحديد المركز والدخل المالي، وظهر العمّال المتعلّمون كنخبة جديدة، وبات من المنتظر أن يحصل كلّ فرد في المستقبل على ذاك الذي يستحقّه وفق كفاءاته.
    هذه النبوءة الاجتماعية لعالم الاجتماع البريطاني مايكل يونج من الخمسينات، تبدو وكأنّها أصبحت مع الرأسمالية العالمية في أواخر التسعينات واقعا قائما. وأصبح أنصار اقتصاد السوق يحتفلون بسعادة كبيرة إلى درجة الغرور بالانتصار النهائي للرأسمالية. ينتشر ذلك من أوساط مدرسة شيكاغو كما يمثّلها حامل جائزة نوبل ميلتون فريدمان، إلى أمثال فرانسيس فوكوياما، الذي وصل إلى درجة إعلان "نهاية التاريخ"، وجميعهم يعتقدون بأنّ "مجتمع الإنجازات" قد حقّق ما يريد. وفي ألمانيا لا يستطيع رئيس الروابط الصناعية هانس أولاف هينكل، أو الأمين العام لحزب الديمقراطيين الأحرار جويدو فيسترفيللي كمثال، مواراة الارتياح العميق إزاء التحوّل التاريخي المزعوم، الذي يراد إعداد ألمانيا له.
    أمام هذا القدر الكبير من الاعتداد بالنفس والغرور أصبح ظهور حركة مضادّة بالضرورة مسألة زمن فحسب. جون كينيث جالبريت، الذي يُعتبر رمزا لليسار الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ الهجوم المضادّ المتوقّع، وأعلن في مقالاته ومقابلاته الإعلامية، أنّ هذا التحرّك غير المنضبط لاقتصاد السوق، يقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات، طبقة الفقراء تحت أشدّ درجات القهر، والطبقة الوسطى التي تحمل القسط الأعظم من أعباء الضرائب، وطبقة الأثرياء التي تدفع بالطبقة الوسطى باتجاه الفقر، عبر تحميلها المزيد من الأعباء، كلّما توجّبت على الدولة نفقات جديدة، وإذا استمرّ الأمر على هذا المنوال -كما يقول جالبريت- فلا بدّ أن ينهار المجتمع، وتنهار معه الرأسمالية التي تزعم تحقيق انتصارها الكبير.
    قد يثير الدهشة أكثر أن يسعى بابا الكنيسة الكاثوليكية (السابق يوحنا بولص الثاني) إلى بيان الحدود التي لا ينبغي للرأسمالية أن تتعدّاها، ولكن يمكن أن يثير الانتباه والإصغاء صدور تحذيرات مماثلة عن رجل رأسمالي حتّى النخاع، عندما يطلق شعارات مضادّة للسوق العالمية، وهو جورج زوروس، أنجح من يشتغل في المضاربات المالية الضخمة، والذي انضم في مطلع العام الجاري (1997م) إلى ناقدي الرأسمالية، فبات ممّن يمثّلون خصوم الشبكة المالية العالمية المكروهة. لقد أعلن صاحب المليارات أنّ الرأسمالية غير النزيهة تقضي على الحضارة نفسها. ولا أحد يدقّق في تحليلاته وانتقاداته ذات الطابع الاقتصادي العلمي، إذ يكفي أنّه اتخذ موقفا مضادّا للرأسمالية الخالصة.
    في هذه الأثناء انتشرت الدعوات المضادّة للرأسمالية في أوروبا أيضا، لا سيّما في غرب نهر الراين، كما هو الحال مع الناشرة الفرنسية فيفيان فورستر في كتابها "إرهاب الاقتصاد"، الذي تتّهم فيه الرأسماليين بأنّهم باتوا يدفعون بمن لم يعودوا في حاجة إليهم من العمال إلى حياة البؤس دفعا، وأنّ تلك الفئات التي اعتبرت نفسها نخبة المجتمع تزداد ضراوة في العمل على تحقيق أهدافها الذاتية في الحياة، وقد انحصرت في الأرباح المادية المحضة. والنتيجة التي تستخلصها المرأة التي باتت توصم بأنها "جان دارْك حديثة" هي أنّ "البشرية لم تشهد من قبل ما تشهده الآن من خطر يهدّد أصل وجودها".
    عالم الاجتماع بيير بورديو من باريس يناهض السيطرة الاقتصادية منذ فترة أبعد، ويقول إنّ عمليات "العقلنة والخصخصة" باتت أهدافا بحدّ ذاتها، ولا جدوى في عالم لا يهتمّ إلاّ بالنموّ الاقتصادي والمنافسة والطاقة الإنتاجية، وعلى أوروبا التخلّص من نموذج "تيتماير"، وهو (الذي شغل منصب) رئيس المصرف المركزي الألماني، الذي يستعار اسمه في فرنسا -حيث لا يجد ودّا كبيرا- لوصف النظرة الليبرالية الجديدة عالميا.
    ولأنّ رأس المال قد سلك سبيل "العولمة" فانتزع نفسه من سائر القيم الاجتماعية والإنسانية، بات على الأوروبيين أن يوحّدوا قواهم ضدّه، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي آندريه جورتس، الذي يريد إجبار الرأسماليّين في بلده على تسديد ضرائب مرتفعة ليمكن الحفاظ على شبكة الضمانات الاجتماعية، كما قال في مقابلة له مع صحيفة فرانكفورتر آلجيماينه. ويرى أنّ عملة أويرو الجديدة أساس لدولة أوروبية كبرى يمكن أن تحول دون المنافسة القائمة على الأجور العمالية المنخفضة، عن طريق ما تدخل فيه من اتفاقات تجارية. أمّا الرأسماليون فيمكن -حسب قوله- أن يستخدموا العملة الأوروبية الموحّدة عن طريق تأويل شروطها تأويلا مبالغا فيه، واتّباع منطق معوّج في ضمانها، لتصبح الوحدة النقدية وسيلة تقضي بصورة كاملة على أسس الضمانات الاجتماعية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
    يتحدّث اليسار الغربي بصيغ جديدة عن تجدّد الصراع الطبقي، ويجد التأييد على ذلك. في كندا اكتسب الأديب جون ساول شهرته الشعبية كناقد للرأسمالية، وهو لا يميّز بين عقيدة السوق وبين الفاشية أو الماركسية من حيث أنّها فكرة شمولية مطلقة، فالاتجاهات الثلاثة تعتمد على جماعات مصلحية مسيطرة وتنظر إلى التقنية التي لا حدود تضبطها، نظرة التقديس، وبات مدراء الأعمال والمصرفيون والمستشارون يتقاسمون أسباب السلطة والقوّة فيما بينهم، ويوجّهون -كما يقول ساول- حملة مضادّة لكيان الدولة، أوجدت أجواء تنذر بالأخطار في ظلّ الدعوات الملحّة إلى "الخصخصة" والإنجاز. لقد أفرغوا بذلك أسس الديمقراطية من مضمونها، ولم يجدوا مقاومة تستحقّ الذكر، لأنّ السياسيين أصبحوا يتبنّون ما يطرحه هؤلاء من أفكار وصيغ تلقائيا ويتقبّلون "العولمة" دون تفكير. وهكذا أصبح باستطاعة الشركات الكبرى أن تدفع الدول إلى الصراع ضدّ بعضها بعضا على المواقع الأفضل اقتصاديا في العالم. وينتهي ساول إلى التذمّر الشديد من أنّه لم يتوفّر من قبل ما يتوفّر الآن من قدر هائل من الأموال، ولكن دون أن يوضع منه في خدمة الصالح العام ما يكفي. ويرى ردّا على ذلك أنّ على الدول أن تضع الحدود في وجه المضاربين الماليين بدلا من أن تلهث معهم في سباق محموم على تخفيض الضرائب لصالحهم.


    الضوابط المطلوبة
    منذ كارل ماركس كان ناقدو الرأسمالية يتبنّون نهجا تقدّميا يستهدف قلب النظام القائم، ولو بالقوّة، ولا تسري هذه القاعدة الآن، فالتقدّم بات يهدّد موقعه الذاتي بنفسه، ولهذا أصبح نهج الناقدين نهجا محافظا. فبينما تظهر الليبرالية الحديثة وكأنها ستقتلع العالم من قواعده، بات خصومها يريدون الحفاظ على ما يوجد من قبل، كعالم مستقرّ على العمل، وعلى الدولة الاجتماعية، وعلى التوزيع التقليدي للدخل. ويقول الاقتصادي اليساري القديم روبرت هايلبرونر من نيويورك، إنّه أصبح من العسير على المرء أن يكون اشتراكيا حقيقيا، بل يكفيه في الوقت الحاضر "مجرّد الدفاع عن بعض مصالح الفقراء".
    وعلى النقيض ممّا كان يصنع الماركسيون بات كثير من الناقدين الآن يدافعون عن الرفاهية على المستوى الوطني، لا الأممي، فهم يطالبون بأن يسددّ أصحاب رؤوس الأموال الضرائب في بلادهم، وأن يوجدوا أماكن للعمل، وهنا يشكو المتشكّكون من أنّ المجتمعات الصناعية على وشك الانهيار، ناسين في ذلك كيف كانوا هم يتحدّثون بصورة تقليدية عن بقية العالم. فكثير من الدول في جنوب شرق آسيا وفي أمريكا الجنوبية وجدت الرفاهية والسلام السياسي عن طريق الرأسمالية. صحيح أنّ هذه الدول تشهد المزيد من الفوارق في حجم الدخول المالية أيضا، ولكنّ وسطي المستوى المعيشي لغالبية السكان ارتفع في هذه الأثناء، وحيث يتحقّق النموّ الاقتصادي لا يريد أحد الدخول في حرب أهلية.
    هنا تظهر مجموعة أخرى في لشبونه بموقف يقول إنّ السوق العالمية لا توجد طبقة من الفقراء فقط، بل تسبّب حروبا اقتصادية أيضا، وهذا ما تتبنّاه مجموعة من العلماء حول أستاذ العلوم الاقتصادية الإيطالي ريكاردو بيتريلاّ. وتقول هذه المجموعة في وثيقة أصدرتها، إنّ الرأسمالية سعت للسيطرة المطلقة في القرن الماضي أيضا عقب الثورة الصناعية. آنذاك كافحت بعض الدول سلطة رؤوس الأموال، عن طريق القوانين المضادّة للاحتكار والمثبّتة للضمانات الاجتماعية، ولكنّ الرأسمالية لم تعد خطرا وطنيا بل عالميا، ولهذا وجب على البشرية أن تواجهها بصورة مشتركة. وتدعو المجموعة المذكورة إلى تجمّع ضخم على مستوى المواطنين بسلطة أكبر من الأمم المتحدة، لإرغام الشركات الكبرى على وضع نفسها داخل نطاق المصلحة العامّة. وبموجب ذلك لا ينبغي أن تكون سياسات التعليم والأسرة والبيئة والصيغ الاجتماعية في خدمة المستثمرين، بل ينبغي أن تكون الاستثمارات في خدمتها.
    ويتنامى هذا الائتلاف ضدّ الرأسمالية باطّراد. في مدريد عقدت أوساط اليسار البديل مؤخّرا "قمّة عالمية بديلة" تحت عنوان الدفاع عن الإنسانية ضدّ الليبرالية الحديثة، ودعوتها موجّهة ضدّ النظام الذي يسمح لأصحاب الأسهم المالية أن يقرّر بشأن التسريح الجماعي للعمال. وفي عام 1996م انعقد اجتماع في المكسيك، البلد الذي تخلّت عنه الأسواق المالية بين ليلة وضحاها في مطلع عام 1995م، وجاء في دعوة منظّمي ذلك الاجتماع ما لا يزال منشورا في شبكة "إنترنيت" حتى الآن، ما نصه: "إنّ الجيش الجديد لرؤوس الأموال والحكومات الفاسدة يتقدّم للسيطرة بأسلوب التدمير الذي يمكّنه من السيطرة، فإعادة التوزيع في العالم كما تجري الآن تقضي على البشرية".
    ويجد ناقدو الرأسمالية مزيدا من الحجج لدى الناقدين الاجتماعيين مثل الأمريكي جيريمي ريفكين، الذي ذكر في كتابه الواسع الانتشار "نهاية العمل" أنّ الاقتصاد سيستغني في المستقبل القريب عن اليد العاملة"، فإذا ترك المرء اقتصاد السوق يتحرّك دون ضوابط، فستنشأ طبقة هائلة من العاطلين وبالتالي من لا يتمتّعون بأيّ حقوق، وهو ما قد يعني نهاية البناء الحضاري القائم. كذلك فالمنظّر العسكري سابقا إدوارد اوتواك الذي أطلق على اقتصاد السوق الحرّة من أيّ عقال وصف "الرأسمالية النفّاثة"، وهو يخشى من أنّ العمال لن يتمكّنوا من تحمّل الخوف الدائم على مكان العمل والمأوى، فتنتشر في صفوفهم الأمراض والمخدّرات، وبالذات أمريكا التي تُعتبر نواة المجتمع الرأسمالي حاليا، يمكن أن تشهد انهيار الأسرة والحياة الاجتماعية.
    الناقدون يطالبون بقواعد وأنظمة واتفاقات جديدة تكافح القوّة المدمّرة في الأسواق العالمية الحرّة، بفرض الرقابة على رؤوس الأموال، والضرائب المرتفعة على الاستثمارات الأجنبية، وتثبيت مقاييس عالية أوروبية أو عالمية للجوانب الاجتماعية والبيئية، بصورة توازن مجدّدا المعركة الدائرة ما بين رأس المال والعمل. ولكن هل لهذه المعركة وجود بعد؟..


    نخبة "المعرفة"


    المفكّر المختص بإدارة الأعمال بيتر دروكّر من كاليفورنيا يصف الاقتصاد الوطني الحديث بأنّه نظام اقتصادي رأسمالي "سابقا"، فالرأسماليون أنفسهم يفقدون تدريجيا سلطانهم، لأنّ وسيلة الإنتاج الأهمّ لم تعد بين أيديهم، بل بأيدي المتخصّصين ذوي الكفاءات العالية لديهم وأيدي أصحاب الأعمال الحرّة، أو بتعبير آخر بأيدي فئة مركّبة تتألّف من التأهيل المهني والخبرة والعلم. وهذه مواصفات مرتبطة بالفرد، ولا يمكن نقل ملكيتها من شخص إلى آخر، ولهذا فقد استخدم فيلسوف الاقتصاد البريطاني تشارلس هاندي في وقت مبكّر نسبيا تعبير الثورة الاقتصادية لوصف هذا التطوّر، كما استخرج عالم الاقتصاد الفرنسي رينيه باسّيت من التحوّل الجاري حججا جديدة لنقض رأس المال الخاص، فقال إنّ الإنتاج سيكون في المستقبل المتشابك بمثابة ظاهرة جماعية، وفي هذه الآونة بالذات يراد لنا القبول بمنطق الشركة الخاصّة والربح الفردي، وكأنّ ذلك هو العنصر الوحيد الساري مفعوله في ميدان المبادرة والفعّالية المثمرة.
    وعلى أيّ حال فليس لعالم من هذا القبيل علاقة بما كان يتصوّره كارل ماركس عن الرأسمالية، وقد كان يشكو بالذات من حرمان العمال من ملكية وسائل الإنتاج وبالتالي تعرّضهم للاستغلال، وبدلا من هذه المقولة الطبقية القديمة تظهر اليوم أزمة جديدة بين قلّة من المتخصّصين أصحاب الكفاءات النادرة وبالتالي الثمينة، ومن واضعي برامج العقول الألكترونية، والمستشارين، والمتخصّصين في تحليل سوق الأسهم المالية، وبين الغالبية من العمال العاديّين، الذين يوجد فائض كبير من كفاءاتهم.
    تلك القلّة التي تتصرّف مثلا باسم مصرف "دويتشه بنك" في سوق لندن المالية لا يرتبط مصيرها بالمصرف المالي بل يرتبط مصير المصرف المالي بها. فهو الذي يحتاج إلى المواهب ويدفع الأجور العالية من أجلها، وقد استطاع واحد من أصحاب القدرات في المضاربات المالية، أن يجمع من الدخل المالي في عام واحد، أكثر من دخل أفراد مجلس إدارة أعمال هذا المصرف المالي الألماني الأكبر مجتمعين. ويمكن أن ينتقل أصحاب الاختصاص من مكان عمل إلى آخر بين ليلة وضحاها، كما يمكن أن ينتقلوا إلى الأعمال الحرّة. وهكذا تنقلب العلاقة بين العمل الفكري وبين رأس المال رأسا على عقب. ويستطيع الفرد أن يحقّق بإنجازه ما يستحقّ وفق قيمة السوق الآنية، ولكنّه في الوقت نفسه معرّض لمخاطر تقلّبات السوق بصورة كاملة.
    ناقدو الرأسمالية الذين يأخذون هذا التطوّر مأخذ الجدّ يطرحون مطالب مختلفة عمّا كان يطرحه الناقدون التقليديّون، وتكتسب مطالبهم طابعا تقدّميا من جديد. ليستر ثورو، عالم الاقتصاد اليساري من انجلترا الجديدة، يعتقد بأنّ ضغوط التطوّرات المتطرّفة ستؤدّي إلى انهيار البنية الاجتماعية في الدول الصناعية، وهذا ما يدفعه إلى مطالبة الدولة بأداء واجبات جديدة، فنظرا إلى أنّ العلم والكفاءة سيصبحان السبب الوحيد لفوارق الدخل المالي، فسوف يحصل العمال أصحاب الكفاءات في بلدين كألمانيا والهند على أجور مماثلة، وقد تتضاءل بذلك الفوارق بين دولة وأخرى، ولكن فوارق الدخل ستتعاظم داخل الدولة الواحدة، والمعضلة هنا أنّ النخبة الجديدة من أصحاب الكفاءات القادرة على التخلّص من سيطرة رأس المال عليها، سيجعل أصحاب رؤوس الأموال يضعون حساباتهم لآجال قصيرة ويمتنمعون عن الاستثمارات في ميدان التأهيل والتعليم، ولهذا فإنّ بقاء المجتمع رهنٌ في نظر ثورو بإرغام الدولة وأصحاب الأعمال على مزيد من الاستثمارات في ميدان التأهيل.
    هل أصبحت هذه النخبة الجديدة في المجتمعات الرأسمالية بذلك موضع المحاربة داخل الدولة؟.. هذا ما يراه تشارلس هاندي، ففي ميدان التأهيل وفي ميدان البيئة باتت الشركات الساعية لأرباح عاجلة تعيش على حساب المصلحة العامّة، وأولئك الذين يُدفع بهم إلى البطالة، لا يحصلون على التأهيل اللازم ولا على المعرفة الضرورية من أجل التعامل مع المتغيّرات الجارية في سوق العمل، ليمكن لهم التحرّك بأعمال حرّة. ولا ينتظر هاندي أن يفعل السياسيّون شيئا، فالرأسمالية أقوى من قدرة الحكومات على التصرّف، ويرى أنّ المواطنين أنفسهم وكذلك أصحاب الأعمال يمكن أن يصنعوا شيئا تجاه النظام القائم، ليكسروا أسباب السيطرة القائمة على المنافع الذاتية القصيرة الأجل. ويؤكّد أنّ عدم الرجوع إلى المصلحة العامّة المشتركة سيسبّب انهيار الأسس التي تقوم الرأسمالية عليها.
    وهنا يبدو الخيط الأحمر الذي يجمع بين ناقدي الرأسمالية الآن وقبل مائة عام، وهو أنّ الرأسمالية دون ضوابط تقضي على نفسها بنفسها، فهي لا تمثّل نظام قيم بحدّ ذاته، بل لا بدّ من ضبطها عن طريق نظام قيم من خارج نطاقها، فمطالب الشخص المستقلّ والشركة المستقلّة إذا ما تجاوزت طاقة الدولة كجهة تحفظ النظام، تؤدّي في خاتمة المطاف إلى انهيار اقتصاد السوق. الفارق هو أنّ كارل ماركس كان يعقد الأمل على هذا التطوّر أمّا عالم الاقتصاد النمساوي المعاصر يوزيف شومبيتر فيخشى من عواقب وقوعه.
    ويعجب الفيلسوف الاجتماعي الأمريكي مايكل وولتشر من أنصار الرأسمالية المطلقة، فالمفروض أن يكون واضحا لهم أنّ المجتمع الذي يريدونه، مجتمع لا قيم له. وإذا طال الأمد بالحركة المضادّة لهذه الرأسمالية، وازداد بذلك عدد الناس الذين يشعرون بإقصائهم عن هذا المجتمع وبعجزهم فيه، فإن عملية التصحيح يمكن أن تأخذ أشكالا أشدّ بشاعة، ولا يشكّ المفكر الأمريكي من برينستون في أنّ التصحيح قادم، وأنّ الإحساس بالمصلحة العامّة سيضع دوما الحدود التي يتوجّب على الرأسمالية المطلقة الوقوف عندها، ولكن يبقى السؤال كيف ستكون كيفية هذا التصحيح.
    النبوءة القديمة للبريطاني مايكل يونج، لا ترى أنّ الإصلاح الاجتماعي سيحقّق شيئا فمن يوجّهونه سيسبّبون في اعتقاده مزيدا من المشاكل بدلا من الحلول، وفي الماضي كان لكلّ طبقة زعيمها الموهوب، أمّا الآن فهؤلاء ينتمون إلى النخبة الجديدة التي تمتلك المعرفة، وهنا يفقد الآخرون العذر إذا ما أخفقوا، فالغوغائيّون يتمرّدون ويدمّرون النظام، أمّا مجتمع الإنجاز المطلق فيمنع عن الناس تحقيق تطلّعهم إلى مزيد من المساواة، فينهار بإخفاقه الذاتي.
    أوفي جان هويزر


    ترجمة مداد الأقلام
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.