• شرفُ الأستاذ الجامعيّ - د نضال الصالح

    كما أنّ الشهادةَ العلميةَ «ليست.. دليلَ العلم»، بتعبير أحد أبطال رواية نجيب محفوظ «خان الخليلي»، ليست، بآن، دليلَ وعي بقيم الحقّ، والخير، والجمال، فهي لدى قليل أو كثير ليست سوى قطعة من الورق المقوّى أو العاديّ ممهورة بخاتم هذه المؤسسة العلمية أو تلك، أو ليست سوى ضرورة فحسب لهذا العمل الوظيفيّ أو ذاك.

    والشهادةُ العلميّةُ العاليةُ ليست استثناءً من ذلك، فهي لا تتجاوز، لدى قليل أو كثير أيضاً، كونها زينةً اجتماعيةً أحياناً، أو تأشيرةَ دخول إلى مهنة التعليم في المعاهد العليا والجامعات أحياناً ثانية، أو سلّماً للوصول إلى موقع وظيفيّ أعلى أحياناً ثالثة، أو ما سبقَ كلّه، وسواه، معاً.
    أجل، الشهادةُ العاليةُ شرطٌ، من شروط أخرى، لحيازة «صفة» الأستاذ الجامعيّ، إلا أنّ كثيراً من «الموصوف» في معظم جامعاتنا العربية ليس له من «الصفة» سوى ما يعني ذلك الشرطَ وحده، الأمر الذي قد يفسّر ترهّل تلك الجامعات بوسطاء لنقل المعرفة، لا أساتذة جامعات، كما قد يفسّر تلك العطالة التي تفترسُ التعليم العالي العربيّ منذ عقود على غير مستوى.
    وإذا كان من البدهيّ أنّه ما مِن موصوف جدير بتلك الصفة إلا إذا كان وثيقَ الصلة بقيمتين أساسيتين، ومتلازمتين بآن: المعرفةُ الدالّةُ على تلك الشهادة حقّاً لا زيفاً، والمثلُ في كلّ شأنٍ مهما بدا هامشاً لا متناً، فإنّه من البدهيّ أيضاً أنّ هاتين القيمتين، حضوراً أو غياباً، علامة لما سيكون الطالب الجامعيّ عليه بعد تخرّجه، ومن ثَمّ ما ستكونُ عليه حالُ المجتمع الذي ينتمي إليه، فإنْ كان الأستاذ أستاذاً بحقّ كان الحصادُ حنطة، وإنْ لم يكن كان زؤاناً، وفي الحالين معاً «يصرح المحضُ عن الزبدة»، أو «يبدي الصريحُ عن الرغوة»، كما قيل في أمثالنا العربية القديمة.
    ولأنّ التعليم، أيّاً تكن المرحلة التي ينتمي إليها، فعلٌ رسوليٌّ بامتياز، فإنّ قيمةَ القيم في ذلك الفعل هي الشرف، لا بما استقرّت هذه القيمة عليه من موضوعات عامة، كالأمانة، والصدق، والطهارة، فحسب، بل، أيضاً، بما يتجاوز تلك موضوعات إلى ما يعني القداسة في كلّ شأن.
    وما ليسَ من الشرف الأكاديميّ أن تحكم ثقافةُ العصابة وعيَ بعض أساتذة الجامعات، فتتبعثر الأخيرةُ جماعاتٍ بدلاً من أن تكون جامعاتٍ، وتتذرّر كياناتٍ بدلاً من أن تكون كلّياتٍ. وما ليس منه أن يرمي «أستاذٌ» آخرَ بما يخطر، وما لا يخطر، على البال من نعوت ليست منه وفيه، لا لشيء سوى أنّ هذا الآخر يتفوّق عليه علمياً وأخلاقياً، أو لأنّه آثرَ أن يكون لائقاً بصفة الأستاذ الجامعيّ وقيمها، لا موصوفاً مفارقاً لصفته.
    وما ليسَ من الشرف الأكاديميّ أن يُقصيَ «أستاذٌ» آخرَ من أيّ موقع للمشاركة في صناعة القرار، لأنّه اختار أن يكون نفسَه لا سواه، بل لأنّه لم يرتض لنفسه إلا أن يكون «موّاله من رأسه» وضميره، لا ممّا يمليه عليه الملوّثون بثقافة استزلام الآخر، واستتباعه، واستئجاره. وما ليس منه أن يكون مداهناً، وهمّازاً، ومشّاءً بنميم. وما ليس منه أن يسفحَ ماء وجهه وكرامته في تسوّل طلاب الدراسات العليا ليسجلوا موضوعاتهم لديه بحثاً عن المكافأة المالية للإشراف، أو يسعى إلى ذلك بوسائل ناعمة، أو يتقافز بين اختصاص وآخر، أو يلهث وراء صغيرة هنا وأخرى هناك. وما ليسَ منه أن تكون تسمية لجان التحكيم الخاصة بالرسائل والأطروحات محكومة بالعلاقات الشخصية مع المشرف، لا بما يعني الكفاءة العلمية أو دقّة الاختصاص في موضوع الرسالة أو الأطروحة.
    وبعدُ، وقبلُ، ودائماً، فلربّما كانَ أيّ شيء ممّا ليسَ فطرةً ممكناً بالاكتساب، سوى الشرف.

    صحيفة تشرين
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.