• توطين العِلم واستخدام اللغة العربية أداة للتدريس الجامعي في الوطن العربي

    توطين العِلم واستخدام اللغة العربية
    أداة للتدريس الجامعي في الوطن العربي
    د. تيسير الناشف

    لا حاجة إلى التذكير بأنه يوجد علماء عرب متميزون في الوطن العربي. ولكن ثمة مشكلة وهي أنه لا تتوفر إمكانيات لإجراء البحث العلمي. إن أحد العوائق الماثلة أمام النهضة العلمية عدم وجود عدد كاف من المؤسسات التي تُعنى بالبحث العلمي، وقلة الموارد المتاحة في المؤسسات القائمة، وعدم قيام نظم للحكم في الوطن العربي بوضع وتنفيذ سياسة تتبنى وضع وتنفيذ مشاريع النهضة العلمية، وعدم تكوين الكوادر العلمية المؤهلة على نحو مستمر ومصمم فعلا لإجراء البحوث العلمية اللازمة في تحقيق النهضة العلمية. ومما من شأنه أن يسهم في توفير تلك المؤسسات والكوادر وضعُ المشاريع الحضارية النهضوية. وفي صدارة هذه المشاريع مشروع توطين العلم في الوطن العربي.
    وفي كثير من بلدان المنطقة لا يوجد مفهوم المواطنة. والمواطنون هم الذين يمكنهم أن ينشئوا البنية الأساسية العلمية وليسوا الرعايا الذين لا احترام لهم. وحتى يتفانى العلماء العرب في إنشاء هذه البنية يجب أن يكفوا عن كونهم رعايا، ولكن يجب أن يكونوا مواطنين. ومن شأن تعزيز مفهوم المواطنة العربية وإنشاء البنية الأساسية العلمية أن يسهما إسهاما كبيرا في إنشاء ورعاية توطين العلم في الوطن العربي.
    ويمثل عائق آخر أمام النهضة العلمية، وهو عدم شيوع مفهوم شمولية البحث العلمي، بمعنى أنه، لتحقيق البحث العلمي، يجب الاهتمام الجاد بكل أجزاء أو مجالات النهضة العلمية: المجال الإداري والمجال التربوي والمجال الاقتصادي والمجال السياسي والمجال التكنولوجي والمجال الثقافي ومجال الدراسات النفسية ومجال علم الفضاء والفلك ومجال الفيزياء والكيمياء ومجال النواة ومجال الرياضيات والمجال الالكتروني. في ميدان البحث العلمي كل جزء من هذه الأجزاء يتأثر بالأجزاء الأخرى ويؤثر فيها من ناحية اكتمال جبهة أو دائرة البحوث العلمية. من شأن قيام المؤسسات الجامعية والأكاديمية بهذه البحوث التكاملية في كل مجالات الدراسة في الوطن العربي أن يعزز تنفيذ توطين العلم في الوطن العربي.
    وثمة في جامعات ومؤسسات حكومية عربية مَنْ يقيس النشاط العلمي قياسا كميا، أي يقيسه بطول الوقت الذي ينفقه الباحث في المكتبة أو في الحرم الجامعي. بيد أن طول الوقت الذي ينفقه ذلك الباحث ليس بالضرورة مقياسا صحيحا للنشاط العلمي. ما يفوق ذلك أهمية هو جو الحرية والانطلاق الفكري والبحثي الذي يتمتع ذلك الباحث به في وطننا العربي، ما من شأنه أن يعزز مشروع التوطين العلمي العربي.
    ومما يعيق أو يؤخر تقدم البحث العلمي عدم وجود مجتمع علمي متطور وذي تقاليد راسخة وعريقة في مجال البحث العلمي. وينشأ المجتمع العلمي بنشوء مؤسسات علمية وبحثية ودراسية مترابطة ترعى البحوث الجادة التي لها عندها حرمة راسخة وعميقة، من قبيل الجمعيات والرابطات الدراسية العلمية. من شأن إيجاد مثل ذلك المجتمع العلمي المتطور المستلهم لحضارتنا العلمية العريقة أن يسهم في تعزيز التوطين العلمي العربي.
    وعلى الرغم من استحالة فصل العِلم عن المجتمع والعِلم عن السياسة يجب أنْ يُحفظ للمجتمع العلمي مكانه ومكانته المناسبان حتى يستطيع هذا المجتمع أن يؤدي دوره العلمي النهضوي بقدر كبير من الحرية والخيال العلمي.
    واستعمال اللغة العربية أداة للتعليم الجامعي جزء لا يتجزأ من توطين العِلم في الوطن العربي. ولا يمكن تحقيق ذلك التوطين دون جعل اللغة العربية أداة للتعليم في المؤسسات الأكاديمية والدراسات العربية، ولغة البحوث العلمية في تلك المؤسسات في مختلف العلوم، من قبيل الزراعة والطب والتشريح والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات. وقد لا نكون بحاجة إلى أن نذكر، على سبيل المثال، أن الصينية هي لغة التعليم في الصين، واليابانية هي لغة التعليم في اليابان.
    ولتحقيق هذا الهدف يجب ألا تنافس أيُّ لغة اللغةَ الأصلية، لغةَ الأم والمولد، أي اللغة العربية في هذا المجال. فضلا عن أن اللغة العربية لغة الأدب شعرا ونثرا، فإنها لغة العلم والمعرفة والفلسفة. يجب أن تكون الكتابات باللغة العربية المصدر العلمي والفلسفي الدقيق الذي تُستقى منه التحليلات والمعلومات في مجال العلوم، ومنها العلوم الدقيقة من قبيل الرياضيات والطب.
    ومن فاحش الخطأ القول إن هذا الهدف يستحيل تحقيقه. لا شك في أن اللغة العربية هي لغة العلم والفلسفة. كانت اللغة العربية اللغة العالمية لا تنازعها أي لغة مدة خمسة قرون، من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر. ولنا أن نعود إلى فلسفة ابن رشد ودراسة علم العمران (الاجتماع) لعبد الرحمن بن خلدون التونسي اليمني, وبقيت كتب عربية كتبا مقررة في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر. يجب أن يكون التعليم بلغة المواطن، بلغة الوطن، بلغى المواطنة، بلغة الأم، بلغة الضاد، بلغة شعر طرَفة بن العبد وعنترة وعمرو بن كلثوم وزهير بن أبي سلمى وغيرهم كثيرون. نشر استعمال اللغة العربية وإعلاء شأنها ورعايتها في الوطن العربي وفي البلدان المتأثرة بالحضارة العربية والإسلامية من شأنها أن تسهم إسهاما كبيرا في تحقيق النهضة العلمية. لن يحقق التقدم العلمي العربي الذي ننشده بمجرد إنشاء جامعات أجنبية تستعمل لغات أجنبية أداة للتعليم. هذه الجامعات تستلهم بدرجات متفاوتة المنظومة المرجعية القيمية لثقافة اللغة الأجنبية المستعمَلة أداة للتدريس. التعليم الجامعي رسالة وطنية قومية إنسانية ينبغي أن يستلهم القيم المرجعية العليا للشعب والمجتمع. وحتى يستنهض الأستاذ الجامعي العربي طلابه يجب أن يشعر أنه يؤدي تلك الرسالة. وبهذا الشعور تنشأ وتفيض لديه الرغبة في أن يبني هو الإنسانَ العربي الموصوف عن جدارة بالباحث والمحقق والعالِم والمكتشف.
    وحتى لو افترضنا وجود أساتذة أجانب يقومون بالتدريس في جامعات عربية فإن من الممكن القول إنه ليس من شأن كثير منهم أن يواصلوا التدريس مدة طويلة. ولا يخفى مدى الضرر الذي يلحق بعملية التدريس جراء قِصر مدة خدمة الأساتذة الأجانب. وينبغي ألا يفهم من هذا البيان الرغبة في استبعاد اعتماد تبادل الأساتذة العرب والأجانب على المستوى الأكاديمي. وينبغي ألا يؤدي تنفيذ برامج التبادل إلى القضاء على الأغلبية الكبيرة من الأساتذة الأصليين في هيئة التدريس. ويتطلب هذا الموضوع مزيدا من التناول تضيق رقعة هذا المقال عن القيام به.
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : توطين العِلم واستخدام اللغة العربية أداة للتدريس الجامعي في الوطن العربي كتبت بواسطة د. تيسير الناشف مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.