• شوارع تنزف .. أحيانا

    شوارع تنزف .. أحيانا !


    ( 1 )


    امرأة .. احتل الشيب أركانها ، تجلس فى تحدٍّ غريب لكل شىء ، أراها .. فتتمثل لى صور بطلات الماضى ، اللاتى صرعن ما اعترض سبيلهن ، واعتلين الأتراح .. بعلو صوتها ضجيج الشارع .. تسب حينا .. وتتوعد أحيانا ..

    قضمت ذرات الخوف فى شجاعة نادرة التكوين .. بعينيها بريق يوحى بذلك .
    عهدها الناس بهيئتها : جالسة فى مكان بعينه من الشارع العام ، إلى جوارها حقيبة سفر لا تفارقها ، تلوِّح بيدها متوعدة .. ولسانها لا يكف عن كيل السباب .. لعدو لا يراه أحد سواها ..
    يأتى صوت أحد المارة :
    ـ إنها المجنونة التى كانت تسكن حينا .. !
    لا أكاد أصدق .. أصرخ فيه أن يصمت ..
    أمرُّ عليها فى يوم آخر .. أجد أثرا ليد الأيام على وجهها ؛ كصفعة من نار تؤجج الضلوع .. تبدو منهارة .. صامتة .. لا تسب ولا تتوعد .. مطأطئة الرأس .. فلم أر شعلة التحدى والعناد فى عينيها ..
    أشهق ملتاعا :
    ـ هل نالت منك المحنة .. سيدتى ؟!
    أغرق فى خضم الجموع المذعورة .. الهاربة من زحام الشارع ووهج الشمس .. أذوب بينهم كقطرة فى محيط ..
    لا شىء يبقى الآن .. إلا رائحة الأجساد العفنة .. !



    ( 2 )


    صورة لرجل بأحد أرقى شوارع العاصمة ، ممدد بشكل مقزز ، فى ثياب رثة .. يبدو غارقا فى بوله .. يتوسد الرصيف العارى ، إلى جواره مذياع ضخم الحجم من طراز قديم ، يحمل أثيرا نبغضه وأخبارا للأحزان .. وعلبة سجائر مستوردة .. وزجاجة خمر فارغة من نوع فاخر ..
    يتسلل إلى أذنىَّ صوت المذياع العتيق ، معلنا على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلى ؛ أن القدس هى العاصمة الأبدية لكيانه ، وأن المفاوضات مع العرب تجرى على قدم وساق .
    تتجسَّم المأساة على كل الوجوه .. لعدو كسرنا .. قاتلنا بكل ضراوة ، حتى استلب منا الروح .. والقدرة على الصمود .. والمقاومة حتى آخر رمق .. !
    والليل يرخى سدوله ليخفى الكثير من الملامح ، وتتوه معالم الأشياء ، وتصبح الصورة أكثر قتامة ..
    أسأل مرافقى :
    ـ من هذا ؟
    يأتينى صوته ضاحكا :
    ـ يبدو أنه أفرط فى الشراب .. !
    أزداد تخبطا فى حيرتى ، والدهشة تعتصر كيانى .. وسؤالى يأتى أشد سذاجة :
    ـ ولماذا ؟
    ضحكات فضولىِّ كان يعبر إلى جوارنا تقتحم هدوء الليل ، مفسحة المجال عن أسنان أكلت عليها الأيام وشربت ، حتى تحطمت .. يلوك أسطورة غابرة لبطل عربى رابط على الثغر ، كان يقاتل على صعيد تتعدد فيه الجبهات ، وتتضاعف المخاطر ..
    يأتينا صوته من مكان سحيق :
    ـ إنه .. يشرب .. لينسى .. !
    أقترب منه أكثر .. يغوص متبددا وسط الظلام .. ليموت سؤال على شفتى .



    ( 3 )


    ـ ألا تعرف أين فوزى ؟
    أرفع عينى إلى محدثتى ، أجدها عجوز فى الثمانين من عمرها ، تحمل معاناة لا حدود لها .. وحلما مكسورا .. أسألها بدهشة :
    ـ من فوزى ؟
    فتدور حول نفسها متفحصة المارة .. فى شارع يعبره الملايين كل يوم .. وهى تقول :
    ـ إنه ابنى ..
    يأتينى صوت زميل العمل ؛ فى همس :
    ـ إنه المجنون .. فوزى .. ألا تعرفه ؟
    تتنهد المرأة فى أسى ، وهى تمسح دموعا تسللت من عينيها المرهقتين :
    ـ مسكين فوزى .. ابنى .. لم أره منذ ثلاثة أيام ..
    ثم تتوه بعينيها الزائغتين بين العابرين .. تواصل :
    ـ أتراه يأكل ؟ أتراه ينام ؟
    فيجيبها زميلى :
    ـ لقد كان هنا بالأمس .. وقال إنك تركته وذهبت إلى ابنتك ..
    تزداد دموع الأم تسللا .. ويأتى صوتها أشد لوعة وأكثر حزنا :
    ـ أبدا .. أبدا .. لم أتركه ..
    تتجه نحوى .. تتضرع متسائلة :
    ـ أستاذ .. هل رأيت فوزى عندما جاء بالأمس ؟
    أجيبها بأسى :
    ـ لا .. بكل أسف .
    فتدور حول نفسها ثانية ، قاطعة الطريق على أحد المارة :
    ـ هل رأيت فوزى .. ابنى .. ؟
    وتعود أدراجها دون أن تسمع جوابه .
    تضيع وسط زحام الشارع ، تغيب عن ناظرىّ وخاطرى .. مخلفة صمتا .. وفراغا .. !
    ثم تظهر أمامى فجأة وبعينيها اصرار غريب .. تمسك بخناقى .. تهزنى بكل وهنها وضعفها ..
    تصرخ بيأس يضاعف خسارتها :
    ـ فوزى .. ولدى .. !
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : شوارع تنزف .. أحيانا كتبت بواسطة عبد المنعم جبر عيسي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.