• الشهود

    الشهود

    حيث ينتهي بك العمر تبدأ المعرفة بالولادة مرة أخرى

    كثيراً ما تحب الذاكرة الخبيئة في داخلي أن تسرد ما مرَّ بها دون معالجة العقل ، هكذا كما كانت كالحجارة المتساقطة إلى الوادي لا إشارة تمنعها ولا شرطي يتعجب.
    كما الحجارة المتساقطة من رأس الجبل تتساقط الأحداث من حولي
    لا يجدي الحرف تحذيراً لها
    لقد تساقطوا من حولي وكان بعضهم يريد أن يسقط معي أو فوقي
    مللت الحديث عن الحجارة ,ومن الحجارة ما هو أشد غلظة من قلب الإنسان
    مللت الحديث عن الإنسان وغلظة قلبه وكذبه وخداعه لنفسه.
    واعتصر الألم قلبي حتى ذبل بعضه ولا أدري له علاجاً
    ما عاد هذا الإنسان يغريني فكل الوجوه أصبحت تحمل شكلاً واحداً ، تختلف في التفاصيل وفي الساحة العامة تتشابه كثيراً
    ما عدت أحب تفسير الوجوه وتأمل التجاعيد المتكاثرة
    يجتاحني شعور يغرقني وأحب الحديث عن الحيوان
    كان لي قطة شهباء جميلة كلما أعطيتها طعاماً طلبت المزيد
    وإذا قلت لها : ألا تشبعين صاحت بيَّ بحنان
    لذلك كان الحيوان حيواناً لا يفهم ولا نفهم ما يريد ولا يمكن التواصل معه إلا بالعطف ، ومن لم يعطف على الحيوان ويعرف هذه اللغة لن يعرف التعاطف مع الإنسان.
    بين أكوام أخشاب البناء في حينا وجدت قطتين صغيرتين جداً ، كانتا جائعتين وقد غابت عنهما أمهما ولا شك أن هناك من قتلها أو دهسها بسيارته، طلبت من حارس الأخشاب أن يذهب ويأتي بشيء من الخبز لهذه القطط التي تموء جوعاً وخوفاً وغربة، لقد غابت أمهم ولا أعرف كم يوماً غابت عنهما، عاد الحارس بقطعة خبز، اقتربت منهما فهربتا خوفاً تحت الركام اقتربت بكثير من الهدوء والحنان ، ووضعت لهم قطعة الخبر وعدت على أمل أن تأكلان منها
    شغلت عنهما وبعد ساعة كانتا تلعبان وتتقافزان ، هي الحياة تسير وتنسيهما ما شغل بالهما.
    في اليوم الثاني عدت للمكان كان المطر غزيراً قطعت الشارع فأسرعت نحوي سيارة كبيرة كادت تدهسني، عبرت مسرعاً نظرت في منتصف الشارع فرأيت إحدى القطتين ميتة ودمها افترش الطريق ، كانت شقراء صغيرة لم تستطع أن تجد لها مكاناً في هذه الحياة فتسارعت لها عجلات السيارات لتعطف عليها وتقتلها وتبقي أختها وحيدة تعاني غربتين
    بحثت عن القطة الثانية فلم أجدها
    عند الظهيرة عدت للمنزل فشاهدت ما لم يصدقه عقلي
    كانت القطة الصغيرة تقترب من كلب كبير مخيف وهي تموء له ، وتشكي هذه الحياة تشكي له الإنسان الذي قتل أمها وأختها وحرمها الطعام والرحمة، الكلب الضخم يقترب منها وعلى غير جبلّته يحنو عليها ويقبلها من رأسها مرات عديدة وهي تفرح به وتعيد الالتفاف حوله
    يا الله، لقد منحك هذا الكلب ما لم يقدر الإنسان منحك إياه
    أمسكت الجوال ووثقت هذا المشهد العجيب الذي تعجب له قلبي، لقد أدخل الله الرحمة على قلب الحيوان المفترس فعطف على فريسته المعتادة والتي جبل على افتراسها ، بينما افترس الإنسان الحيوان الصغير الذي جُبل على رحمته والعطف عليه.
    في اليوم التالي وجدت جثة هذه القطة وقد قتلها أطفال الحي رمياً بالحجارة
    ذبل قلبي كشجرة عجوز في فصل خريف، وحملت جثتها جانباً
    ما ذنب هذه القطط الصغيرة أن تعيش هذه الحياة المؤلمة، وهذه الأحداث المظلمة ، ما ذنبها أن تعيش بين الحيوانات المفترسة تقتلها بلا شفقة ولا رحمة.
    بات ذلك الكلب أكثر شخصية أحترمها وأعجب منها، فقد وضع الله فيه سراً وأخذ من بني آدم كل الأسرار
    كان يفترش الرصيف ولكما رأيته نظرت في عينيه بتمعن، أقرأ فيها ما لا أجده في عيني بني آدم
    كان ينظر إليّ بعمق ، كنت أذكره بتلك القطة وكان ينظر بصمت ، لقد اعتاد هذه المشاعر أكثر مني وقد خبر رجال الحي أكثر مني وملَّ منهم لكنه مجبر على العيش معهم.
    حقاً أيها الكلب إنك تخفي أسراراً وتخفي ألماً عظيماً بداخلك، لن يصدق أحد ما يجول بقلبك وما تحمل من كثير مشاهدةٍ وترقبٍ وتأملٍ لمن حولك
    لقد أصبحت شاهداً متخفياً يسجل صغير الأحداث وكبيرها، هل ستنسى القطط الصغار أم أنك ستلاحقها مرة أخرى
    ستعاني من مشاعر متضاربة، وسيثقل كاهلك بها، ستتذكر القطة الصغيرة وكيف لجأت إليك خوفاً وكيف استرحمتك وأنت مخيفها الدائم، وستتحرك بك نوازع الغريزة لتلاحق قطة في الجوار، لكنك حتى ولو قتلتها ستبقى كلباً رحيماً غريباً لم أعرف مثل رحمته بين البشر.
    عدت لمكان العمل وبحثت عن الحارس، قلت له لقد ماتت القطط الصغيرة
    حزن كثيراً وأخفى ما اعتمل في صدره.
    كنت كلما سمعت صوت مواءً التفت لعلي أجد القطتين الصغيرتين
    سمعت صوتاً غريباً صحت بالحارس، ما هذا الصوت
    اقتربنا من كومة رمل فشاهدنا كلباً صغيراً يحك نفسه كثيراً وقد احمر جلده وتساقط معظم شعره
    كان يهرش جسده ويهرش ويهرش حتى أدماه
    أخشى أن يعبث اطفال الحي معه وينقل لهم مرضه، قلت للحارس اطرده من هنا، لكنه عاد بعد ساعات لذات المكان ، كان كلما ذهب لمكان طرده أصحابه ولقد كنت مثلهم أكتفي بالطرد مراقبته وهو يتألم.
    في الليل طارت هائمة من هوام الصيف ولسعتني بقوة ، هرشت مكان اللسعة و هرشت حتى كدت أخرج الدم، سارعت وغسلت المكان بالماء البارد وضعت شيئاً من معقم عليها لعل الألم يخف لكن دون جدوى ، بقيت أحك وأهرش حتى تذكرت ذلك الكلب وحالته المزرية، إذا كان موضع صغير أحرجني ، فكيف بسائر جسده.
    في الصباح سارعت وأخبرت طبيباً بحاجتي لدواء لكلب أجرب ، فأعطاني إبرة وقال أن جرب الكلب لا ينتقل للإنسان غالباً لكن كن حذراً والبس قفازاً.
    حين جلبت دواء للمنزل رفض الجميع الفكرة وقالوا إنه مجرد كلب ، وهل ستعالج كل الكلاب الشاردة في الشوارع ، وماذا لو انتقل لك مرضه ، أمي تقول : يا ولدي إن لديك أطفال وكيف ولو انتقل لهم.
    أبي ينظر لي بازدراء
    وأخي يحوقل ويسبح
    زوجتي دخلت حالة هستيرية مصطنعة
    صممت على حقن الكلب بالعلاج
    في الشارع سألت أهل الحي عنه فقال لي البعض: الكلب الأجرب، إن نساء الحي يجربن السحر عليه قبل أن يجربنه على رجالهم
    ولذلك ترى شعره يهر ويحمر جلده، دعك منه فإنه مسحور
    فقلت لهم أوما دريتم أني أفك السحر؟
    فنظروا باستغراب ودهشة
    في المساء عثرنا على الكلب وبمساعدة الحارس الذي دعس على رقبته، عاجلته بنصف الإبرة تحت جلده، فقام وهو يعرج
    وبعد أسبوع عاجلته بنصف الإبرة المتبقية
    بقي الكلب يرمقني بنظرات خائفة لأن الإبرة ربما أوجعته
    ثم اختفى من الحي
    خشيت أنه مات
    سألت الحارس عنه بعدها فقال، لقد رأه وهو بوضع أفضل
    سر قلبي
    بعد يومين رأيته وقد زال كثير من الاحمرار عن جسده وصارت حركته أفضل، كان جلده من كثرة الحك سابقاً مترهلاً والتجاعيد تملأ جسده كان يخفض رأسه بين جسده ذليلاً حقيراً، اليوم صار يركض.
    على مائدة الفطور تقول أمي إنها شاهدت الكلب وهو بوضع أفضل.
    على مائدة العشاء يقول أبي إن اللحام صار يعطيه بقايا العظام لأن الجرب زال منه .
    بعد أيام شاهدت كلباً أبيض كالثلج قوي البنية ، وقد اكتسى جلده وبر جميل أبيض اللون لكنه كان ينظر لي بنظرة خائفة، يتذكر ألم الإبرة.
    لو رأيته لعجبت مما أمسى عليه، كلب جميل أبيض اللون قوي البنية يركض بسرعة ورشاقة ، لقد عادت إليه عافيته وعاد لحياته .


    تعجب أهل الحي من حاله فقلت لهم : أوما قلت لكم إني أفك السحر.
    أخبرني أحدهم أن هناك كلباً آخر أجرب في الحارة المجاورة، فعزمت أن أبحث عنه، وحين سألت رجلاً من تلك الحارة قال إنه أجرب وبعض رجال الحي يريد قتله والتخلص منه كي لا يؤذي أطفال الحي.
    قلت له لا يوجد دواء يعالجه ، سخر وقال دواء للكلاب ، إن طلقة واحدة تكفيه.
    سارعت بطلب الإبرة من الطبيب لكنه أعطاني الدواء الخطأ، واتصل بي ليخبرني ، شغلت بعض الوقت عنه وحين تذكرته سارعت إليه كان قد ذهب في إجازة ، بعد أيام ذهبت إليه فأعطاني الدواء الصحيح
    ذهبت لأبحث عن الكلب في الجوار فلم أجده
    سألت عنه والكل كان يراه إما مرَّ من هنا، أو هرب إلى هناك، لكنه اختفى
    ليلاً عزمت على العثور عليه أخرجت الدواء من الثلاجة وسارعت للحي المجاور فسمعت صوت عيار ناري، أسرعت فسمعت صوتاً آخر
    تلاه عواء مخنوق حزين
    وصلت للساحة فشاهدت الكلب الأجرب وقد سالت الدماء منه
    وقد عالج رجال الحي مرضه فأردوه قتيل، لقد وجدوا العلاج المناسب لك أيها الكلب الأجرب، إنه الموت
    وما حاجتك لهذه الحياة بين هؤلاء الوحوش
    لقد ترحموا عليك فأهدوك رصاصة في وريدك تشافي مرضك وتقتلك أنت.
    لن تكون آخر حيوان يرأف به وحوش الإنسان
    لكن أكثر ما يحزن صديقك الكلب الذي شفي ، أنه حظي بفرصة للحياة، ولم تحظى أنت بها، حظي هو بحقنة أعادته للحياة وحظيت أنت برصاصة عاجلت الموت إليك، مت قرير العين فلقد شفيت من جربك ولم يعد جلدك الأحمر يحكك، مت أيها الكلب فلا مكان لك بيننا.



    طارق شفيق حقي
    هذه المقالة نشرت أصلا في موضوع المنتدى : الشهود كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة الأصلية
    تعليقات 1 تعليق
    1. الصورة الرمزية ماجدة2
      ماجدة2 -
      الرفق بالحيوان و التراحم بين الناس و العناية بالأرض و الخضرة دلائل خير و حياة القلوب و المجتمعات ، عكس ذلك يساهم في صناعة المأساة و الأمرّ حينما يصعب ازالتها كونها واقع تجذر بسرعة..
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.