• الأسس العلمية للسوبر حداثة

    السوبر حداثة تدرس الأكوان الممكنة. إذا نظرنا إلى الأكوان الممكنة مجتمعة ستبدو حقائقها غير مُحدَّدة. لذا، تعتمد السوبر حداثة على اللامُحدَّد من أجل الوصول إلى المعرفة. هنا يكمن اختلاف السوبر حداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. بالنسبة إلى الحداثة، الكون مُحدَّد ومعروف. أما بالنسبة إلى ما بعد الحداثة، فالكون غير مُحدَّد ومن غير الممكن معرفته. أما السوبر حداثة، فتؤكد على أنه بالرغم من أن الكون غير مُحدَّد من الممكن معرفته لأن من خلال لامحدوديته من الممكن تفسيره.
    اليوم، يقدِّم الفيزيائي ميشيو كاكو في كتابه "الأكوان المتوازية" الأسس العلمية للسوبر حداثة، فيظهر لنا أن النظريات العلمية المعاصرة تؤدي إلى نتيجة أن الأكوان الممكنة موجودة فعلاً. وبما أن السوبر حداثة هي دراسة للأكوان الممكنة، لذلك يعرض كاكو للأسس العلمية لها. وتقدم ميكانيكا الكمّ أساساً علمياً محورياًً للسوبر حداثة. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، مبدأ اللامُحدَّد يحكم عالَم ما دون الذرة، أما السوبر حداثة فتستعين باللامُحدَّد من أجل دراسة الظواهر والحقائق كافة. هكذا ميكانيكا الكمّ تدعم السوبر حداثة وترينا مدى قبولها. من جهة، يدافع الفيزيائي كاكو في كتابه الجديد عن أطروحة مفادها أنه توجد أكوان ممكنة عديدة ومختلفة. بالنسبة لكاكو، المعرفة كامنة في التفاصيل وليس الشيطان. كما يؤكد على أن نظرية الأوتار تؤدي إلى وجود أكوان ممكنة مختلفة وعديدة. بالنسبة إلى نظرية الأوتار، كل شيء في الكون يتكوّن من أوتار وتذبذباتها؛ فمع اختلاف أنغام الأوتار تختلف الجسيمات. الذرات تتكوّن من جسيمات، والجسيمات (كالإلكترون والفوتون) تتكوّن من أوتار. باختصار، العالَم سيمفونية أوتار. لكن نظرية الأوتار تستلزم وجود أبعاد عدة بالإضافة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزماني. في هذه الأبعاد الإضافية، تتذبذب الأوتار فتؤدي إلى نشوء القوى المختلفة الحاكمة للكون. هذه الأبعاد تلتف حول نفسها بحيث لا نراها في عالمنا. وبما أن الكون يحتوي على هذه الأبعاد المختلفة بهندستها العديدة والمتنوعة، وعلماً بأن قوانين الطبيعة تعتمد على هندسة الطبيعة، فمن المتوقع أن تُشكِّل هذه الأبعاد العديدة أكواناً مختلفة في قوانينها وحقائقها. هكذا تؤدي نظرية الأوتار إلى نتيجة أنه توجد أكوان عديدة ومختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يشير كاكو إلى حقيقة أنه تم اكتشاف بلايين من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار، وكل حلّ من هذه الحلول يصف كوناً متناسقاً رياضياً ومختلفاً عن الأكوان الأخرى التي تصفها الحلول الأخرى للنظرية. هكذا، تدل نظرية الأوتار على وجود أكوان عدة. من جهة أخرى، وبالنسبة إلى النظرية الكوزمولوجية المعتمدة حالياً، نشأ الكون من خلال التقلبات الكمية القائمة في العدم، وبما أن العدم يمتد إلى مساحات شاسعة، إذن من الممكن علمياً نشوء أكوان عديدة في أمكنة مختلفة من العدم. تضيف هذه النظرية أنه بعد نشؤ عالمنا، تعرض إلى تضخم هائل، لذا يبدو العالم مسطحاً ومتجانساً. وبما أن الكون قد مرّ بمرحلة تضخم في بدايات تكوّنه، إذن من الممكن أن الآلية ذاتها التي أدت إلى تضخمه ما زالت تعمل مما يؤدي إلى نتيجة أن عالمنا بالذات قد تضخم في مراحل مختلفة. هذا التضخم المتوقع للكون في مراحل مختلفة، يتضمن إمكانية أن يلد عالمنا أكواناً مختلفة. هكذا تُنجب الأكوان أكواناً أخرى. فالانفجارات العظيمة تحدث باستمرار وتنتج عوالم مختلفة. ليست العلوم فقط هي التي تُعنَى بدراسة الأجسام الضخمة كـ "الكوزمولوجيا"، بل العلوم التي تدرس عالم ما دون الذرة هي أيضاً تؤكد على وجودها. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، عالم ما دون الذرات محكوم بمبدأ اللا مُحدَّد. وتقول هذه الميكانيكا إنه من غير المُحدَّد سرعة الجسيم ومكانه في آنٍ معاً. لقد عَبَّر العلماء عن هذا القانون الطبيعي من خلال قولهم إن قط شرودنغر حي وميت في الوقت ذاته. وبما أنه من غير المُحدَّد مكان الجسيمات وسرعتها، إذن من غير المُحدَّد ما إذا قد أُصيب قط شرودنغر بطلق ناري ومات من جراء ذلك أم لم يُصَب ولم يمت. لكن من المستحيل أن يكون قط شرودنغر حياً وميتاً في الوقت ذاته لأنه من التناقض أن يكون كذلك. من هنا، استنتج بعض العلماء أن عالمنا يتكوّن من أكوان مختلفة بحيث قط شرودنغر حيّ في بعض تلك الأكوان ولكنه ميت في بعض الأكوان الأخرى، وبذلك نتجنب التناقض. هكذا، تفترض ميكانيكا الكمّ أنه توجد أكوان ممكنة ومختلفة. لقد رأينا عرض الفيزيائي كاكو للحجج والنظريات العلمية المختلفة التي تُلزِمنا بوجود الأكوان الممكنة، لكنه أيضاً يُقدِّم دفاعه الخاص على النحو التالي: بمجرد السماح لإمكانية نشوء عالم واحد، نفتح الباب أمام احتمال نشوء عوالم ممكنة ولا متناهية. بالنسبة إلى ميكانيكا الكمّ، الإلكترون لا يوجد في مكان مُحدَّد بل يوجد في كل الأمكنة الممكنة حول نواة الذرة. لكن الكون كان أصغر من الإلكترون، وإذا طبقنا ميكانيكا الكمّ على الكون ككل، تصبح النتيجة أن الكون يوجد في كل الحالات العديدة والمختلفة والممكنة في آنٍ معاً. وهذه الحالات الممكنة والمختلفة ليست سوى الأكوان العديدة. من هنا، يستنتج كاكو أنه لا مفر من الاعتراف بإمكانية وجود الأكوان الممكنة. هذه الأكوان التي نتحدث عنها ليست المجرات المختلفة في عالمنا، بل المجرات جزء من عالمنا الواقعي بالذات. إن الأكوان الممكنة قد تشبه عالمنا وقد تختلف عنه، وبعض هذه الأكوان الممكنة تختلف في قوانينها الطبيعية وحقائقها وظواهرها عن الأكوان الممكنة الأخرى وعن عالمنا الذي نحيا فيه. يعتقد الفيزيائيون اليوم بقوة أن هذه الأكوان موجودة. نظرية الأكوان الممكنة ليست مجردة فقط، بل لديها تطبيقات تفسيرية في العلم والفلسفة. مثلاً، يستشهد كاكو بالعالِم الفيزيائي ريز Rees الذي يفسِّر وجود عالَم كعالمنا من خلال وجود الأكوان الممكنة. يقول ريز: "بما أنه توجد أكوان ممكنة مختلفة وعديدة إن لم تكن لا متناهية، إذن ليس من المستغرب أن يوجد عالم كعالمنا له قوانينه وحقائقه الخاصة به. مثال ذلك، إذا دخلنا إلى متجر لبيع الثياب حيث توجد ثياب بمقاسات مختلفة وعديدة، لن يكون حينئذٍ من المستغرب أن نجد ثوباً بمقاسنا. هكذا ليس من الغريب أن يوجد عالمنا بالذات". للسوبر حداثة اليوم تطبيقات مختلفة، منها التطبيق التالي: بما أنه توجد الأكوان الممكنة، إذن لكل عالم ممكن قوانينه وحقائقه التي قد تتشابه وقد تختلف جذرياً عن قوانين وحقائق العوالم الأخرى. على هذا الأساس، بالنسبة إلى السوبر حداثة، توجد أكوان ممكنة تشبه جداً عالمنا الواقعي لكن تختلف عنه في بعض حقائقها. من الممكن أن تنشأ في تلك الأكوان عقول مختلفة عن العقل الموجود في عالمنا الواقعي، ومن الممكن أيضاً أن يتجسّد العقل في أدمغة مختلفة جداً عن بعضها البعض وتحديداً مختلفة عن أدمغتنا، كما أنه من الممكن في تلك الأكوان أن يوجد العقل في آلات كالكومبيوترات المتطوِّرة بدلاً من أن يوجد فقط في أدمغة بيولوجية كأدمغتنا. وبما أن هذه الأكوان شبيهة جداً بعالمنا، إذن من الممكن أن يتجسّد العقل في تجسدات مختلفة في عالمنا، وهذا هو موقف السوبر حداثة. بالنسبة إلى السوبر حداثة، من العقل غير محدد، لذا من الممكن للعقل أن يتجسد في تجسدات مختلفة. لذلك، تتمكن السوبر حداثة من تفسير إمكانية تنوع العقل واختلافه. أخيراً، لقد رصد الفيزيائي كاكو في كتابه "الأكوان المتوازية" المعالم الأساسية لنظرية الأكوان الممكنة وكيف أن النظريات العلمية تستدعي وجودها. كما رأينا أن نظرية الأكوان الممكنة ليست نتيجة علمية مجردة، فقط بل لها تطبيقها العلمي والفلسفي وتدخل في صلب السوبر حداثة. كادر: -كل شيء في الكون يتكوّن من أوتار وتذبذباتها ومع اختلاف الأنغام تختلف الجسيمات -توجد أكوان ممكنة تشبه جداً عالمنا الواقعي لكن تختلف عنه في بعض حقائقه
    تعليقات كتابة تعليق

    اضغط هنا للدخول

    رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.