تأثير المقامة
by
, 06/05/2010 at 05:43 PM (3657 Views)
[QUOTE=الهدار إسماعيل;101549][FONT="Arial"][SIZE="5"]
تأثير المقامة
في الفن السردي الأوروبي
اعترف كثير من المهتمين بالأدب الأندلسي بكون المقامة كانت جسرا لمرور القصة إلى إسبانيا وعموم أوروبا، وذلك استنادا إلى المقارنات التي عقدوها بين المقامة والأدب السردي في أوروبا، وانتهوا إلى هذه القناعة بعد أن توصلوا إلى كثير من أوجه التشابه بين الفنين.
بدأ فن المقامة في الانتشار في أواخر القرن الرابع الهجري، وأبرز أعلام هذا الفن في المشرق الحريري والهمذاني، ثم إنه: «قدر لهذا اللون من الأدب الانتشار الواسع في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكثر المقلدون لهذا اللون من الأدب»(1)، وقد عرف الأندلسيون المقامة عن طريق من رحل إليهم من المشرق، كما: «قدر للأندلسيين الوافدين إلى المشرق الاطلاع على هذا الفن الأدبي، وخاصة من أسعدهم الحظ وأقاموا في بغداد، وبعد أن أتموا دراستهم عادوا إلى بلدهم ونشروا هذه المقامات»(2)، فلقيت قبولا من طرف الأندلسيين، ونالت حظها من المعارضة والشرح والنقد والتعليق، ونسجت على منوالها مقامات مشهورة كمقامة أبي حفص عمر الشهيد، ومقامة أبي محمد بن مالك القرطبي، ومقامة عبد الرحمن بن فتوح، ومقامة ابن المعلم.. ثم إن هناك من توجه لشرحها كمحمد بن سليمان المالقي، وعبد الله بن ميمون العبدري الغرناطي، وأبي العباس الشريشي، وعقيل بن عطية. ويبقى أن أبرز من تأثر بهذه المقامات السرقسطي وتسمى مقاماته بالمقامات السرقسطية وهي المعروفة باللزومية وهي خمسون مقامة عارض بها مقامات الحريري، ومقامات البطليوسي، وابن المرابع الأزدي صاحب مقامة العيد، وابن القصير الفقيه، ولسان الدين بن الخطيب، بالإضافة إلى مقامتين لمحارب بن محمد الواد آشي، والمقامة الدوحية أو العياضية، ومقامة ابن غالب الرصافي، وغيرها كثير.
والمقامة هي حكاية عن حيلة تافهة بطلها متشرد ظريف يتقمص في كل مرة شخصية معينة، فهو: «مرة قرَّاد يسير بقرده ليجمع الناس في حلقات فيضحكهم ويأخذ من أكياسهم، وهو مرة واعظ محترف يلج المساجد لتدمع عينه ويرتل آيات الذكر ورقائق الوعظ وسير الصحابة.. وهو مرة ثالثة ينحط إلى دركات وبيئة فيسرق أكفان الموتى، ويجَمِّل خادمه ليوقع في حبه المتهورين»(3). ويتوخى صاحب المقامة من ذلك الوصول إلى قلوب الناس وكسب مودتهم بمقدرته اللغوية وألاعيبه اللفظية وذلك بالإغراق في السجع والصنعة البديعية، حتى أن الدكتور عبد الله بن علي بن ثقفان سمى المقامة بالقصة اللغوية(4)، وهذا ما جعل الأندلسيين: «يطلقون اسم المقامة على كل قطعة من النثر المنمق المرصع بالأشعار النفيسة»(5).
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن تأثيرها في الأدب الأوروبي، خاصة السردي منه، فإن كثيرا من الباحثين تحدثوا عن: «تأثير فن المقامات في الأدب الأوروبي تأثيرا واسعا متنوع الدلالة، فقد غذت هذه المقامات قصص الشطار الإسبانية بنواحيها الفنية وعناصرها ذات الطابع الواقعي»(6). وتعلق حبيبة البورقادية عن هذا اللقاء الأدبي بقولها: «وهذا اللقاء التاريخي هو الذي يشرح وجوه الشبه الكبيرة بين المقامات وقصص الشطار في الأدب الإسباني، وقد فضل الكتاب الإسبان أن ينسجوا على منوال قصص المقامات الواقعية عوض أن ينسجوا على منوال قصص الرعاة، واستطاعوا بعد جهد جهيد أن يقربوا بين قصصهم وواقع الحياة، وأثروا بذلك تأثيرا كبيرا في الآداب الأوروبية»(7). ثم إن المقامة حولت أنظار الأدباء من الجري وراء الخيال - وذلك بنسج قصص الحب والفروسية والرعاة - إلى الواقعية، وتقريب الفرد من المجتمع، ودعته ليفتح عينيه على واقعه، لذلك: «اتجه الكتاب الروائيون بإيحائها إلى التحدث عن أحوال المجتمع وظروف الأغمار من الناس.. ثم أبدعوا روائعهم في هذا الاتجاه الواقعي متناسين هذه الأحلام الهادئة التي كانوا يملأون بها قصصهم الخيالية»(8).
وأول قصة من هذا النوع في الأدب الإسباني: «كان عنوانها حياة لاسوريو ومحنته، وقد نشرت أول مرة سنة 1555م وفيها وصف لطفل بائس كان ابنا لطحان فقير سجن والده لجريمة صغيرة كانت منه، ومات في السجن دون عائل يرعاه، فبدأ حياته شحاذا يتسول، وقد اهتدى في حرفته الحقيرة بأعمى متمرس كان سيبين له طريق الشحاذة ثم يختلفان بعد حين لشراهة الأعمى وطمعه في ابتزاز صاحبه، فتركه ليعمل خادما لدى قسٍّ محترف يعيش على أموال الصدقات، ويشاهد غرائب عجيبة من بخله وجشعه وأثرته»(9).
وممن تأثر كذلك بالأدباء الإسبان في هذا المجال: «شارل سوريل Chales sorel» في قصته «تاريخ فرانسيون الحقيقي الهازل Vrai histoire comique de francoin»، وقد نشرت بباريس سنة 1922م وهي أول قصة من قصص الشطار في فرنسا على لسان فرانسيون يهجو فيها العادات والتقاليد بواسطة أشخاص من المتسولين ومن يعد في زمرتهم في نظر المؤلف، كما يهاجم مختلف الطبقات في عهده من خلال أولئك الأشخاص»(10). وقد سار على نهجه «لوساج Le Sage» في: «قصته التي يهجو فيها العادات والتقاليد على لسان البطل الذي سُمِّيت القصة باسمه «فيل بلا»(11)، وانتفع بهذا الاتجاه «كويتي Gauthier» في قصته «موت الحب Mort damour». وهذه المقارنات زكت الاعتقاد: «أن قصص الشطار قد حوت نقدا مريرا للأنظمة الإقطاعية التي كانت سائدة في القرون الوسطى يشبه ذلك النقد المرير الذي قدمه بديع الزمان للواقع الإقطاعي في العصر العباسي من خلال مقاماته»(12).
كما أن هناك من الباحثين من يثير تأثير المقامة في الكوميديا الإلهية لدانتي، إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الكتاب بمعزل عن الثقافة العربية الإسلامية وهو الملم بجميع نواحي الثقافة والمعرفة آنذاك: «وقد درس الموضوع بمزيد من الجدية والعمق المستشرق الإسباني بلاثيوس في كتابه المعتقدات الإسلامية حول العالم الآخر في الكوميديا الإلهية، وهو خلاصة دراسة استغرقت عشرين عاما وازن فيها المؤلف بين قصيدة دانتي من جهة وبين الكتب الدينية الإسلامية وبعض الكتب الدينية العربية، كالقرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير والسيرة ومؤلفات المتصوفين، ولا سيما كتاب الفتوحات المكية لابن عربي،ورسالة الغفران للمعري، وقصص الإسراء والمعراج، وانتهى المؤلف في دراسة كل هذا إلى القول بأن دانتي كان متطلعا على أكثر نواحي الثقافة الإسلامية، وأنه استقى من هذا المنبع بعض الصور والمعلومات التي وردت في الكوميديا الإلهية مما يتعلق بالبعث والحشر وخلود النفس ومشاهد الجنة والنار»(13). ونشيرإلى أنه وظف هذه المعاني الدينية وفق تصوره، إذ يقول الدكتور نذير طعمة: «لقد تأثر دانتي بمعمارية المعراج فأفرغها من مضامينها الإسلامية وملأها بمضامين ومواقف تنسجم مع ثقافته ومعتقده»(14).
وهذا يقودنا إلى الربط بين المقامة والفن الروائي، فقد ذكر بيير كاكيا أن: «الفن الروائي لم يجد متنفسا له سوى في المقامة، وهي كلمة ترجمت إلى الإنجليزية بلفظة assembly وإلى الفرنسية بلفظة seance بما يفيد أنه يمكن قراءتها في جلسة واحدة»(15). وينقل بهذا الصدد محمد رجب البيومي عن الفيلسوف الفرنسي «أرنست رينان» هذا الإعجاب بالمقامة التي آثرها على مجموعة بلزاك الأدبية، بحيث أن الحريري قاد شحاذه في خمسين موقفا مختلفا بقوة اختراع عجيبة ودقة وتأمل في الأخلاق والعادات لتعلم المهارة والغرابة التي تنطوي عليها فكرة المقامات. أرادوا أن يضعوا للقرن التاسع عشر مهزلة بشرية يشير رينان إلى مجموعة بلزاك المسماة بهذا الاسم فلم يعرفوا كيف يجلونها في قالب مقبول، في حين حقق الحريري هذه الفكرة للمجتمع الإسلامي في القرن الثاني عشر، أما بلزاك فقد نقصته شخصية أبي زيد التي تكاد تلمسها حتى تفلت(16).
وننهي حديثنا عن المقامة بالإشارة إلى أن التراث العربي الإسلامي ليس هو الوحيد الذي أثر في الفن السردي بإسبانيا، بل هناك تأثيرات مسيحية لا يمكن القفز عنها وتجاهلها، ويؤكد هذه الحقيقة عبد العزيز الأهواني بقوله: «وحين نتجاوز الألفاظ إلى الأخبار والقصص سنجد في كتب التاريخ الأندلسي أمثال قصة البيت المقفل في طليطلة وكيف أمر لنديق آخر ملوك القوط على فتحه، فكان نذيرا بدخول العرب إلى إسبانيا، وقصة بنت يوليان صاحب سبتة مع ذلك الملك وكيف غيرت التاريخ، وكلها قصص أخذت بغير شك من التراث الشعبي المسيحي»(17)
[/SIZE][/FONT][/QUOTE]