رجل من غير هذا الزمان قصة قصيرة
by
, 03/03/2010 at 03:27 PM (2933 Views)
رجل من غير هذا الزمان
ـ هذا الرجل يقف وكأنه في قفص زجاجي , ينظر شزراً وكأنه ابن غير هذا الزمان وكأنه لا يحس بطعم الواقع تحت لسانه , يحمل رأياً متفرداً أيما تفرد ينكره قومه أشد إنكار , يقف متأملاً هذه الحشود التي تدخل قلعة حلب , كأن هذا اليوم عيد فيه احتفالات واجتماعات الحرس على الأبواب عليه ثياب أنيقة , يتعجب الغريب لها ويظنهم أمراء أو ملوك .
الطرق تتلألأ , الأدراج غسلت وزينت الممرات وأنيرت القلعة فغدت كأنها سراجاً وهاجا ً يلتمع في هذا الليل المظلم ويحسبها القادم من البعيد كأنها من غير هذا الزمان كأنها قلعة شيدت لما سيأتي من الزمان وما يتحضر له القوم من احتفالات في قاعاتها وساحاتها .
الممتلكين فكراً ثاقباً ورأياً ناضجاً أورثته لهم خبرة الزمان وأكد ذلك السير الطبيعي للتطور , وباركه اطمئنان الإنسان لغدرات الأيام , وقلبها لموازين البشر , وسأل نفسه ذلك الواقف وهو يحمل فكرة في رأسه , ماذا تراهم سيفعلون وتحرقت نفسه فضولاً , ما بال هذه الجموع تقدم وتحتشد , كبار العلماء وكبار القادة والأمراء والمفكرين والأدباء والشعراء يدخلون هذه القلعة والناس يتفرجون عليهم مذهولين مسرورين , الأولاد جمدوا على غير العادة , حشود تتقدم كل يدخل بدوره .. نظام دقيق وتسائل هل لي من مكان واستشاط فضوله وتدافعت أهواؤه وراودته المغامرة وخفت له العواقب , فلمعت الفكرة وبان له الرأي , أسرع نحو أحد الوفود وسلم على أحد المدعوين سلاماً حاراً , وظل يسلم عليه ويسأله عن أحواله وأخباره وأهله وأقربائه وكأنه صديق قديم ,
حتى دخل معه جوف القلعة والحراس لا ينكرون مجيئه , وفي ساحة القلعة عقد مؤتمر حفته الهيبة والوقار وزانه جلال الأفكار والآراء فكان كل خطيب يأتيه الدور يقف ويبدي فكره حول موضوع شغلهم وأرادوا له حلاً . لصلاح هذه الأمة ولرقي شعبها العريق , لقاء فكري يتناقل القوم الرأي ويقلبوه والكل متقد الفكر والعاطفة وقد نرى أحدهم يهمس لجارة : أنظر هذا هو العالم الجليل وذلك المفكر الوقور وبجانبه الأديب المعروف والشاعر شاغل الناس ,
كل جلس في مقعده المخصص من هذا المجلس وهذا الزمان , ترى أحدهم فلا يعجبك منظره وتواضعه وما إن يتكلم حتى ترى بحراً يتدفق وشموساً تتلألأ وحكمة تنثال , كل كان هذا حال الجميع إلا صاحبنا وكأنه ابن غير هذا الزمان يمقت هذه الاجتماعات الغليظة , يقتله التفكير العقلي الجامد الذي لا يجد حلاوة فيه , ويكره إيغال المتكلمين في المجردات التي لا يجد لها قيمة أو وزناً ,
ويمقت العموميات المعرفية التي يتفق عليها القوم وكأنهم درسوا في صف واحد , ينظر يميناً فيرى القوم صامتين جامدين وكأن الطير على رؤوسهم , وكلهم إدراك ووعي وتلهف وشوق لما يقال في المجلس , ويهزون الرؤوس معاً وكأنهم شخص واحد , تفتح أفواههم في ذات اللحظة وكأنها فم واحد , ينظر شمالاً فيرى قوم الشمال نظيراً لليمين , وقد أصبحوا كأنهم رجل واحد .
كأنهم عقل واحد وكأنهم فم واحد , يصغون السمع ويحبسون الأنفاس حتى كأنهم أصنام حجرية , يالهذا الملل ويا لهذا الضيق , مالهؤلاء لا يغادرون في الأمر كبيرة ولا صغيرة إلا وتكلموا فيها , زهقت روحي وأنا استمع إليهم , ما لهذه الحياة كم هي مملة أشد الملل ماذا لو أنهم اجتمعوا في هذا المكان لسماع صوت عذب وعزف على وتر وتمايل قد فارع وعطر فائح ونظرات هائمة وقلوب سكرى
وأغمض عينيه وحلم أنه في غير هذا الزمان زمان يوافق أفكاره , ويشيع الهوى بين الناس كأنه عدوى أو وباء , فتح عينيه فبهت شاهد العجائب والغرائب , يوم كأنه اليوم الموعود , وفود تتقدم كأنها عاد أو ثمود .. تمر من أمامه سيارات فارهة يخاف منها أشد الخوف ويغيب فكره لها , لكنه يرى من بداخلها غادة هيفاء جميلة كأنها جنية من الجان , تحمل ألواناً من الزينة ما عرفها ولا ألفها , القلعة هي هي والناس ما هم بنفس الناس , استعدادات تفوق الاستعدادات ونظام وشرطة وأضواء وأوراق ما هذا الذي يرى ,
وسأل شاب بجانبه عن هذا الاجتماع فقال له الشاب هو يحسبه من فرقة الفنون الشعبية إنه مهرجان الأغنية , فطار عقل صاحبنا وما حط , هو ذا الذي أرادوا وابتغى وحلم وتخيل وتمنى وعندما شاهد وفداً يلبسون لباسه ولج بينهم ودخل القلعة إنها القلعة ذاتها لكن تطورات حصلت لمدرجها , أضواء غريبة عجيبة وأخذ مقعده ,
الكل متزين متعطر وكأنه فلقة القمر , حسناوات ما رأى أجمل منهن , يلبسن لباساً ما رأى أكشف منه , يلحن لحناً ما رأى ألحن منه , واعتلت المغنية المسرح فأحس بقلبه يعلو ويهبط ويوشك أن ينزل إلى المسرح لولا أن شيئاً يمنعه , كان الوقار والهيبة يظهر على وجوه الحاضرين , كبر خيلاء وتصنع وكأن أحدهم ملكاً أو أميراً هذا يلف رجلاً على رجل وذلك يقلب كفيه أو يلعب بشعره وذالك يرتب ثيابه وآخر يلاعب جهازاً بيده لازم الضغط عليه , وبدأت الأنغام تسرى مع نسمات الهواء وتلاعب الأهواء والكلمات بعقول الناس حتى هاج المسرح وماج , نظر إلى اليمين فكانت كل الأيادي يداً واحدة وكانت كل النظرات نظرة واحدة وكأن بحراً من الهيام تتدفق نظر شمالاً فرأى كل الحضور وكأنها خصر واحد يهتز يميناً مرة وشمالاً مرة لا يعرف كيف وقد حولوا هذه القلعة العظيمة إلى مرقص رائع بديع , كل من حوله كانوا كأنهم رجل واحد , يرقص ويغني لاهياً عاتباً
ناسياً سنه ومركزه وعقله وقلبه يطير ولا يحط وصاحبنا ينظر في كل الاتجاهات يحسب القوم نفر من الجان لكنه لم ينظر إلى جانبه , وحين انتبه إلى جانبه شاهد شاباً يجلس وحده يغمض عينه وكأنه يحلم , اقترب منه , اقترب أكثر والتقطت أذناه تمتمات , ذلك الشاب ما له ماذا يتمتم اقترب منه وكأنه يقول : لو أن هذا الجمع اجتمع لفكر أو أدب أو رأي ؟ فبهت صاحبنا وارتجف وفتح عينيه وظن أن ما هذا إلا وهم من الأوهام أو حلم من الأحلام وما رأى إلا رسم جان خبيث , أو همزات شيطان لعين وظل منكراً لذلك الحلم السخيف الذي رآه ووقف وأخذ ويقسم ألف قسم بأن ذلك الحلم ضرب من وهم لن تحمله أرض ولا سماء .