المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لارسا الجميله



مأمون البورسان
12/04/2008, 07:56 AM
بغداد أعظم حدائق الدنيا وأجملها وأبهاها

حافظت على إرثها الأسطوري منذ أن كانت معلقه في بابل

إلى أن انبسطت لشطرين ... كرخ ورصافه

تتنفس في الصباح عطر النخيل ... ثم تجدل للشمس ضفائرها الجميلة، وتطلقها لتمرح قليلا في السماء، تحقن الأرض

بالنور.

ثم تعود إلى دفء أمها بغداد في اليوم التالي

ونحن زهور الحديقة ونخيلها وفراشها وطيورها وأعشابها نتنقل فيها كما الأغصان تداعبها الريح، تارة هنا وأخرى هناك


ألحان الصباح تنبعث من كل مكان, وأطياب الشاي المُهيل والقهوه تضمخ المقاهي والأرصفه

وأصوات الباعة وضحكات الحياة وصباح الخير وصباح النور من كل جوانبك

تمسح بغداد وجوهنا بنسائمها العليله وقد اغتسلت بالماء والصابون ومشطت شوارعها النظيفة بماء الزهر

لتطل علينا بوجه من دجلة ونخيل وأهلها الطيبون وأبنيتها الأنيقه

الأطفال بسدراتهم المدرسية الأنيقة وقباتهم الحلوة الى المدارس ... وأنا الى لارسا أشد رحالي

كل يوم في الثامنه صباحا ...

هي غير لارسا المدينه البابليه القديمه ..التي سجلت عناوين المجد العربي والإنساني ...

وليست لارسا زوجة الاسكندر التي دفنته بالذهب ثم قالت له مُأبنة ( في حياتك كنتَ تكتنز الذهب..واليوم لم يجد الذهب

خير منك ليكتنزه ) ... !

إنما لارسا من أحلى مقاهي الدنيا التي أعرفها. مكانه في أحد فنادق بغداد الكبرى

أشخص إليه أحيانا من شارع السعدون، وأحيانا من شارع الرشيد، أو أدلف إليه أحيانا من النهر كمارد علاء الدين

أصل فأجد صديقي أحمد قد سبقني في أغلب الأحيان ينتظرني على الطاولة ذاتها، وقد طلب لنا إفطارنا البغدادي الشهير.

القشطه والعسل وانواع التمور الفاخره والقيمر والعسل... وماهي إلا دقائق حتى يسري في كل ردهات المكان همس

أشبه بأزيز نحل في خليه : ( لارسا وصلت ... وصلت لارسا ) لارسا تلك الفاتنه العراقيه ...

يعقب التهامس سحابة من العطر كأنها سجادة استقبال لضيف عظيم يظهر لنا من بين تجلياته. والأضواء. وألحان

البيانو :

لارسا ... !

لتملأ المكان حضورا وهيبة ووقاراً ولوحه بكل الألوان والحكايات بملابسها العباسيه، كأنها العباسه تبعث من جديد ... !

يتراكض من على يمينها والشمال العمال والموظفون والخدم. هذا ينحني وآخر يبسط يديه مرحبا. وهناك من يسبقها لترتيب طاولتها المطلة على دجلة، ورئيس الخدم يرافقها ليسحب الكرسي، ثم يدفعه بأناقةحين جلوسها ... فتبدو لك كل

المجواهرات النفيسة والأحجار الكريمة الخرافية تحفها من كل أطراف جسدها الفارع كأنها الجند حول الملكه ..

تتفحص المكان بنظرة سريعه بعيناها النجلاوين اللتين إن وقعن على عينيك تبقى صورتهما معلقة على أهدابك حتى

ينقضي اليوم ...
ثم تعلن لارسا للجميع بأن ينفضوا من حولها برشقة مترفه من يديها الناصعتين وأصابعها النبيله ... ليهدأ المكان وتنتهي

مراسم الاستقبال ... كأننا هبطنا للتو بمركبة فضائية تستقر على شكل هوتيل
يتبسم لي صديقي الدمث أحمد ليهمس ( بغداد الصغرى ) أبادله الأبتسامة ونواصل إفطارنا، ثم نغادر المكان بعد التاسعة

ونتجه إلى أعمالنا ...

وهكذا تتكرر أيامنا على هذا النحو الممتع منذ زمن بعيد الى أن داهمت سماء بغداد الحبيبه جحافل الغربان من كل حدب

وصوب، واستوطنت الفندق الأفاعي السامة، وتهدمت اللذات، وتفرقت الجماعات، وأنقطعت صباحات مقهى لارسا ...

وأنقطعت أخبار الفاتنه لارسا .

ثم التحقنا بقوافل المجد والثوار والمقاومين دفاعا عن العراق... وكانت مجموعتي تضم صديقي أحمد وبعض الفرسان

الأخرين. نودعهم كل يوم في رحلة السماء لينضم إلينا رفاق أخرون. كان من بينهم الفارس المتطوع أبو وطن الذي

ارسل لنا رسالة مكتوبة

مع أحد فرساننا الثقاة

كتب فيها أنه أخرس، ولكنه يجيد الكتابه، وأن دوره سيكون تزويدنا بالطعام كل يوم قبل الشروق عند ضفة نهر دجلة

اليمنى بالقرب من الشاحنه المعطوبة. وافقنا على انضمامه في حينها لدعمنا بما نحتاجه من طعام أو لوازم أخرى

وخصصنا له ( عبدالله ) كي يلتقيه كل فجر في المكان المحدد ويتسلم منه الحاجيات ويسلمه رسالة منّا نكتب فيها قائمة

احتياجاتنا المتنوعة من طعام ومستلزمات طبيه وملابس وأحذية. أبر. خيوط. معجون أسنان ... داومنا على ذلك لفترة

من الزمن ، إلى أن استشهد الفارس عبدالله، رسولنا إلى أبو وطن، فكان لابد أن أذهب أنا شخصيا لأبلغ أبو وطن بأنني

سأكون البديل في استلام المؤونه بعد اليوم .

كانت الطريق طويلة ومتعرجة إلى الشاحنة المعطوبة، والبرد يجمد الأشياء كلها ماعدا القلوب المشتعلة بحب العراق

العظيم ... السماء أطفئت قناديلها، وكذلك الارض ولايهديني إلى المكان شيء سوى بوصلة القلب ...

وصلت الى الشاطئ الذي تعثرت بإحدى حجارته، فوقعت بالماء شبه المتجمد، لتبتل ملابسي. وكان لابد من نزعها

وعصرها بينما أسير باتجاه الشاحنه ... التي وصلتها بعد دقائق ووجدت هناك أبو الوطن ينتظر ملثما بشماغه الأحمر

وعباءته الشتوية. سلمت عليه فأومأ برأسه ليرد التحية. قلت له : أعرف أنك لاتتكلم ولكنك تسمع ... لقد استشهد عبدالله،

وأنا بديله، وسأحضربذات المواعيد و المهمة .. .و أعتذر أني قدمت إليك شبه عارٍ
لقد تبللت ملابسي بعد تعثري على الشاطئ ووقوعي في الماء ...

بينما كنت أتكلم مع أبو وطن لاحظت بأن عيناه بدأت تتسع حتى ملأت نصف وجهه الظاهر. ثم ألقى من يديه كل شيء

يحمله، وتقدم إلي بشكل خاطف ومفاجئ. أمسك بناصية شعري وشدني حتى كاد يضع عينيه في وجهي ...
للوهلة الأولى شعرت بأنني أتقيأ قلبي لهول المفاجأة والخوف والارتباك. لم أعد أسمع شيئا أو أرى سوى ضجيج رأسي

واصطكاك أسناني ...

أماط اللثام أبو وطن فكان لارسا الجميله ... !!

جلستُ بهدوء وفمي فاغر من الدهشه ... بلعت ريقي وفركت عيني لعلي في حلم

ألقت على جسدي المتخشب عباءتها وقالت بصوت متقطع : أهذا أنت !؟

أعتقدت نفسي أتكلم وانا أرد عليها : أنت لارسا ... !!

قالت : لأجل أن نجلس في المرات القادمه في المكان ذاته وعلى الطاولة ذاتها ... علينا أن نكون هنا أولاً.

ثم مضى شبحها يتوحد بالظلام رويدا ... رويدا حتى ابتلعها كامله .

تنبهت على نفسي

والاشياء مبعثره من حولي ...

ولساني معقود بحبال الصدمه ... لم تحل عقدته إلا حينما سمعت صوتي أقول :

لارسا ...

لا أرسى الله لي قلبا على ضفة أخرى .







مأمون البورسان