المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طه حسين مفكراً ـــ عبد الغفار نصر



طارق شفيق حقي
08/09/2004, 08:39 PM
طه حسين مفكراً ـــ عبد الغفار نصر

من هو طه حسين؟

ولد طه حسين في الثامن والعشرين من شهر تشرين الأول عام 1889، وتوفي في شهر تشرين الأول 1973 بعد أن شهد عبور الجيش المصري قناة السويس. كتب عليه القدر أن يفقد بصره في سن مبكرة بسبب التهاب في عينيه إذ أخطأ الطبيب في علاجه، وكان ذلك سبباً لمعاناة معنوية ونفسية لازمته طيلة حياته الطويلة ووَلَّدتْ لديه معنى التمرد الرافض للألم النفسي عن فقدان بصره، والتمتع بالحياة في رؤيا مباهجها، وإن كان من أسرة تعتبر في أدنى الطبقة المتوسطة بحسب السلم الاجتماعي.



ومنذ صغره، أرسله والده إلى مدارس الكتاتيب، وفيها تعلم الكتابة، وقراءة القرآن، ومن ثم انتقل إلى جامعة الأزهر، لدراسة الدين الإسلامي والأدب العربي.

شعر طه حسين بضعف أساتذته، وضيق أفقهم في عدم إطلاعهم على الثقافات الأخرى مما جعلهم محافظين يفتقدون إلى المقدرة العلمية العصرية فخاب أمله، وكان يعتقد، أن ما يفترض أن يكون بالأساتذة الأكاديميين غير ذلك، فيصف في كتابه الأيام ثقافة أولئك الأساتذة الشيوخ ويقول:




كان الشيخ يفسر قول تأبط شراً:

فأبت إلى فهم وما كدت آئباً





وكم مثلها فارقتها وهي تصغر





قال الغلام للشيخ: وإذن فما مرجع الضمير في قوله "وهي تصغر" وفي قوله: "وكم مثلها فارقتها" قال الشيخ مرجعه "فهم" أيها الغبي قال الغلام: فإنه قد عاد إلى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ فإنك وقح وقد كان يكفي أن تكون غبياً. قال الغلام: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: "انصرفوا" فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح(1)!

وكم من مرة يصف فيها سلوك الأساتذة عن ضعفهم في اللغة والأدب والنحو قد يكون ذلك أحد أهم الأسباب للانتقال إلى جامعة غير دينية، يتحمل وزر نفقاتها، بعد أن قبل فيها على رغم من فقره وفقدان بصره.

استمر الطالب الذكي بتلقي العلم في الجامعة الجديدة ليتخرج حائزاً على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي. ولم يكن من المفارقات لمعرفة بأن أطروحته كانت عن أبي العلاء المعري الشاعر الفيلسوف وما بينهما من صلة روحية. كلاهما فقد بصره، وكلاهما امتلك عقلاً غير عقل أهل زمانه. ربما أُتهما بالإلحاد أحياناً كون المعري عرف باللامتدين وأن طه حسين شرع يتلقى صفعات ذاك الجيل المحافظ المستسلم للغيبيات الجاهل لأمر المعرفة عندما أصدر كتابه "الشعر الجاهلي" عام 1926، وفيه يُعبِّر عن أسلوب عصره العلمي في مقاربة الموضوع وهو الأمر الذي لم يكن لأهل السلف بل لم يكن منتشراً فعجزوا عن فهمه، وعبّروا عن ذلك بالرفض. وعلى أثره فُصل من مركزه كأستاذ الأدب العربي الكلاسيكي في جامعة القاهرة. لكن الجامعة الأمريكية في القاهرة تحدت قرار رئيس الوزراء /الفصل/ وتعاقدت معه للتدريس فيها.

التدرج العلمي عند طه حسين:





لم يكتف بنيله شهادة الدكتوراه في رسالته عن المعري فرغب بالمزيد، واستطاع أن يتخطى صعوبات جمه إلى أن حصل على بعثة إلى فرنسا رافقه فيها أخوه الذي لم يكن يبالي به بسبب انغماسه بالحياة الأوربية، لكن الحظ عاد وابتسم له عندما تعرف إلى إنسانة سمع صوتها المليء بالحنان والعطف في جو من الحب، فلازمته وشرعت تقدم خدماتها بقراءة المراجع التي يحتاجها، هذه الصديقة "سوزان" أصبحت زوجة له، ويقول منذ سماعه صوتها العذب أنه "لم يعرف قلبه الألم".




تخصص طه حسين بالأدب، والدراسات الكلاسيكية في جامعة مونبليه، وتخرج منها بتفوق، وكان الوحيد من بين البعثة الطلابية المصرية، إذ لم يتخرج غيره من الطلبة في تلك البعثة، ربما يعود ذلك إلى شكل الحياة الغربية وما فيها ما يبتعد عن القراءة والمتابعة. بعدها انتقل إلى باريس ليتخرج من جامعة السوربون وهو يحمل شهادة الدكتوراه عن ابن خلدون. هنا يجدر بنا الإشارة بعد عودته إلى مصر حيث تسلم رئاسة تحرير عدة صحف وشرع يكتب المقالات فيها ولم يثنه حسَّاده المحافظون، وكرههم للانقلاب الفكري الجديد في مصر وعلى الرغم من ذلك عيّن وزيراً للتربية عام 1950 فحقق مجانية التعليم الذي عملت به ثورة تموز 1952.



هكذا أصبح طه حسين عملاق الأدب وعميد النهضة الأدبية العربية، دعا إلى الحفاظ على الثقافة الإسلامية العربية باعتماد الوسائل الغربية في التفكير. فكتب بأسلوبه السهل الواضح، وهو يحافظ على قواعد اللغة واستخدام وسائل التعبير والمفردات بأقصى طاقاتها.




طه حسين والمشروع التنويري:

لماذا الحديث في فكر طه حسين والكتابة عن معارضيه؟ وتعرضه للتهميش بعد ثورة تموز 1952؟ أو لماذا كانت الوقفة في وجه حركة التنوير التي أعلنها عميد الأدب العربي؟ منذ ذاك الزمن وإلى يومنا هذا يتباطأ ؟؟؟؟

الصوت والصورة عجزاً عن تحقيق حلم المجتمع المدني والفكر التاريخي والاستقلال المادي والمعنوي الذي يمنحه قدرة الدفاع عن شخصيته الأسيرة العالقة بمخالب الطغاة في الداخل والخارج.

ومشروع طه حسين التنويري منذ صدور كتابه "الشعر الجاهلي" وما زال يعيش الأمل في أن يسترد ضوءاً خافتاً في ظلمة نتخبط فيها نعجز عن استيعاب العصر، ولا نعرف أي الأبواب نلج، وأي النوافذ يشع منها النور، فاستمرت ظلمة المنزل العربي، وهي مستمرة حالكة تهدد ساكنيه بالعمى الذي لا شفاء منه إذا لم نسرع نحو الباب نقرعه بقبضتنا نفتش عن مصارعه بعقلنا ونخرج من الظلمة بإرادتنا(2) نسترد مع طه حسين ما انقطع عبر التاريخ في وقفة نهضوية جادة في وقت يتفكك مشروعه التنويري الذي يتجسد في مخاطبة العقل، والذهنية العلمانية علَّنا نتمكن من وقف نزيف الجرح ونلحق بمن سبقنا، ونقلع عن التغني بماض آن لنا أن نتجاوزه، وأن لا نكتفي بالوقوف دقائق صمت على دفنه.

كان المفروض أن يزدهر مشروعه التنويري مع انبلاج ثورة تموز في مصر، ونجاح بعض أقطار بلاد الشام في نيل استقلالها. لكن لا النظام العربي الراهن، ولا المجتمع العربي في مصر وبلاد الشام كانا قادرين على استيعاب فكره المتمثل في الصراع بين القديم والجديد، أو بين السلفية والعصرنة، وفي النهاية يرى في المثقف أساس البناء، فلا بدَّ من إصلاح المثقف بتنوير عقله بالعلم حتى يتمكن من استيعاب مفاهيم العصر، فالمشروع في هذا التصور يجسد صراعاً بين مثقفين متناقضين، بين التقليد والتجديد، ولهذا حرص طه حسين على النظر إلى المثقف بجديه، فهو وحده المثقف بعقله الجديد القادر وحده على إصلاح المجتمع.



في كتابه الأيام: وكان الشيخ على ذلك من أهل مصر، أو قل من أقصى الصعيد، وكان قد احتفظ بلهجته الإقليمية لم يغير منها شيئاً لا في الكلام ولا في القراءة ولا في الغناء، وكان الشيخ على هذا كله غليظ الطبع، يقرأ في عنف، ويسأل الطلاب ويرد عليهم في عنف، وكان سريع الغضب، لا يكاد يسأل حتى يشتم؛ فإن ألحّ عليه السائل لم يُعفه من لكمة إن كان قريباً منه، ومن رمية بحذائه إن كان مجلسه منه بعيداً(3)".

وفي مكان آخر يتحدث الفتى عن الشيخ فيقول: وازداد رأيه سوءاً حين استقبل السنة الثالثة من حياة الأزهر، فالتمس لنفسه أستاذاً يقرأ في الفقه شرح مُلاّ مسكين على الكنز فَدُلَّ على أستاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء، فذهب إليه وجلس في حلقته، ولكنه لم يكن ينفق دقائق حتى أحس حرجاً عظيماً.

رأى نفسه مضطراً إلى أن يبذل جهداً شديداً لمقاومة الضحك، وذلك أن الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة كما كان يقول الأزهريون، فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب، أو يفسرها من عند نفسه إلا قال هذه الجملة مرتين "قال قال ثم قال إيه(4).




لم يكن طه حسين ساخراً من الدين في دعواه على الشيخ، على الرغم من قصوره وبسبب ضعف إمكاناته، مثقفاً له. فقد حارب طه حسين الشيخ والزمن الذي أنتجه على السواء. فكم هو البون شاسعاً بين مثقف أنتجته المدينة والمدنية في مدارس الغرب ومعاهدها تعرف فيها ومن خلالها على آخر ما توصل إليه العلم في زمانه. وبين أستاذه الشيخ الذي عاش في قريته وهو نتاجها، إما خريج مدرسة دينية متواضعة، أو نال تعلمه في زاوية مسجد اختصرت شؤون الدنيا وكومتها في روح أستاذه الشيخ.




طه حسين أراد في هذا أن يخرج على التقليد، والعقل الكلاسيكي المتأرجح بين التخلف، والجهل من دون القدرة على تجاوز أسوار التخلف، أو رؤيا الشيخ التقهقرية: "ومن منكم يكون حريصاً ألا تبطل صلاته فليتبعني". اختزل الفكر والممارسة والعصرنة والنهضة في ذاتية جاهلة، أراد فيها الشيخ أن يخلط –إضافة لذلك- بينه وبين الحقيقة لتبدو عقليته المغلقة سياجاً حياتياً لمجتمع يعجز عن قهر ذاته، فيلوِّح بشارات الدين وهي الأقرب للسيطرة على العقول داخل هذا السياج ويصنع سلاحه في ردع العقل الطامح إلى رؤية الآخر، أو الهادف إلى الاستقلالية للمعرفة بأشكالها وتلاوينها المتماشية مع روح العصر.

وعندما نقول الآخر، أول ما يتبادر للذهن صورة الأوربي التي يجثم على صدورنا وتأسر ألباننا منذ ما قبل التحرر من النير العثماني، يتساوى مع هذه تبيان المنهجية والعقلية والأيديولوجيا التي نقلت الإنسان الأوربي المنفتح العارف من ظلمة العصور التي تحكمت بها الكنيسة إلى وضوح نهار المعرفة. لم يكن ذلك بنكران الدين، أو الهجوم عليه، أو السخط على رجالاته المتنورين فـ "مارتن لوثر" وتلامذته من بعده جدّدوا روح الكنيسة بغض النظر عن شكل الاحتجاج الذي عنونه التاريخ بالاختراق اليهودي للكاثوليكية. إنما أنتج ذلك معياراً حدد علمانية نهوض الإنسان من كبوته التاريخية. في أن الدين لله والوطن للجميع، أو بتعبير أكثر جدية فك الارتباط بين الدين والسياسة وتنزيه الدين عن التوظيف السياسي، حتى لا يحصل تلاعب بالدين فيتحول إلى قوة سياسية مخيفة، في رؤيا محمد أركون.



يرنو طه حسين، في مشروعه التنويري إلى تحقيق مبادئ متطابقة مع الغرب الحضاري دون الانغماس فيه: "علينا أن نأخذ بـ "طريق واضحة بينة، واضحة مستقيمة، ليس فيها عوج ولا التواء... هي واحدة، ليس لها تعدد، وهي تسير سيرة الأوربيين وتسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون شركاء هذه الحضارة(5)" ويتابع موضحاً في مستقبل الثقافة في مصر: "أنا لا أدعو أن ننكر أنفسنا ولا إلى أن نجحد ماضينا، ولا إلى أن نفنى في الأوربيين. إنما أنا أدعو إلى أن نثبت لأوربا، ونحفظ استقلالنا من عدوانها وطغيانها ونمنعها من أن تأكلنا(6)".




لم تكن الصهيونية في صراعها التاريخي مع العرب والإسلام قد حققت أولى خطوات مشروعها أو كسب موطئ قدم في فلسطين عندما أعلن طه حسين عن مشروعه التنويري منذ أن طرح "الشعر الجاهلي" وتندر له رجال الدين الرسميين من دون أن يدركوا أن: "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكوماتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم(7)".




لم ينجح العرب في اجتياز أسوار التخلف، منذ زمن ابن رشد الذي كان أحد أبرز أسباب النهوض الأوربي في ذاك الزمن، أو قراءة، طه حسين الذي رسم الخطوط المضيئة لمقاومة أوربا وأصول الحداثة والتحديث، ما زالت تسيطر على سلوكياتنا وعقليتنا الخوف من الغرب والخشية من حداثته ورميها بالإلحاد ذلك كان أهم أعمدة التنوير في إفشال المشروع الصهيوني لو آمن به العرب وقبلوه فكراً وممارسة وها هو الغرب يجثم على بلاد الرافدين لينهك شعباً له حضارة تاريخية وأثبت تاريخياً جدارته وعبقريته.




يثور طه حسين على القديم بكل أشكاله، ويثور على النظم التي عاشت في ظل الهيمنة الدينية، لم يقتنع بشيوخ الأزهر ولا بعلمهم، فالأزهر لا يستطيع أن ينهض بتعليم اللغة العربية في مدارس الدولة ولا ينبغي أن ينهض بهذا التعليم لأن ظروفه الحاضرة لا تتيح له ذلك(8)، وهو يعني تحرير المعرفة من السلطة الدينية بعد أن رأى عجزها المزمن دون أن يكون في ذهنه هجوم على الدين إنما ميز بينه وبين السلطة الدينية التي تتمثل برجاله الرسميين ليدافع عن موضوعية المعرفة بعد أن فهم قوانين المعرفة وحداثتها يبتعد بنفسه عن السقوط بين حدي الإيمان والإلحاد أو بين العقلانية واللا عقلانية ذلك هو الموقف الصعب الذي اختاره وكافح من أجله واعتبره مشروعاً. هذه المسألة هي قضية لم يدركها أنور الجندي في كتابه "طه حسين في ميزان الإسلام" عندما وجه له تهمة الإلحاد يعني إنكار الله ومثل هذا الموقف من أنور الجندي هو موقف مشابه لموقف قضاة محاكم التفتيش الشهيرة التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى(9)، ربما اعتمد على رفض طه حسين لسلطة الشيخ باختصاصاته المتميزة التي تتعدى اللغة والدين والموعظة إلى الأيديولوجيا السلطوية أي تجديد أو نقد أو شك يؤدي إلى زعزعة كيان وسلطة الشيخ وهذا ما جعل الفتى يشتد ضيقه بالأزهر، وأهله. وفي الحق أنه قد قطع الصلة بينه وبين الأزهر في دخيلة نفسه وأعماق ضميره(10)، هي الأسئلة التي تحير الإنسان الباحث الدارس لفكر طه حسين الذي رفض أن يكون ذاك الشيخ معلماً وقاضياً وموجهاً دينياً وسياسياً وخطيب يوم الجمعة والمتحدث في كل المناسبات. الذي لا يسمح لغيره بالحديث، وكأنه خليفة الله على الأرض وهو لا يفقه في الدين والحضارة إنما يتقن الاستبداد والانحطاط وقمع الحريات. إنه فاقد كل شيء إلا الجهل والتخلف والتسلط، فالعلمانية والعقلانية تعني عند طه حسين التقدم والديمقراطية وهذا لا يتم في مدارس الجهل والغباء. فالديمقراطية لا تتفق مع الجهل إلا أن تقوم على الكذب والخداع(11). وفي سبيل توعية السواد الأعظم من الشعب طمأن طه حسين مجتمعه على دينه إذ ليس على حياتنا الدينية بأس من الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية وأن الدين مقوم من مقومات الشخصية الوطنية(12)، وأصحاب العقلية السلفية، أو الجامدون في أماكنهم، والقابعون في الزوايا المظلمة. لم يدركوا مقولة طه حسين، فكتب أنور الجندي كتاباً اتهمه من خلال كتابه "الأدب الجاهلي" من دون أن يتعمق فيه إنما أراد إعادة إثارة هذه المشكلة من جديد. وبالتالي تلك التهم لا تستند إلى دليل، في حين ينتهي رئيس نيابة مصر الذي حاكمه إلى أن يقول: "ونحن نرى أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه(13)".




لكننا نعود لتوضيح مشروع طه حسين التنويري وكما قدمنا أنه درس القرن الثامن عشر عصر التنوير، وتأثر بأولئك العباقرة الذين كانوا سبباً أولياً في نهضة وتقدم شعوب أوربا. فعاد ليوضّح مشروعه في بناء الدولة السياسية، والمجتمع المدني، وتعميم الثقافة، وربطها بالتقدم من أجل سيادة مجتمع نهضوي يقوم بناؤه على أرقى المفاهيم التقدمية التي طرحته البورجوازية في ذلك الحين بوصفها مسألة مطابقة تماماً لمطالب العقل، وماذا يطلب العقل، أو ما هي مشروعاته سوى مطلب تاريخي، ومطلب بشري، ومشروع طه حسين السياسي الذي يتلاءم، والتطور التاريخي، والمطلب الإنساني الذي هو الديمقراطية، حرية الفرد، والتفكير الحر، ووضع مفاهيم جديدة تتجاوز القديم بتقهقره، وقيام دولة علمانية تنفي الأساس الديني كعلاقة قائمة بين الدولة والمجتمع، والتأكيد على علاقة الإنسان بربه وهو ما نريده الصلة الخاصة المنفردة بالإنسان. وهنا يوضح أن الخصومة لم تكن تنشأ بين العلم والدين أو بين العقل والدين! حتى دخلت فيها السياسة فأفسدتها(14)، فإبعاد السياسة عن الدين وإبعاد الدين عن السياسة يحافظ على جوهرهما وعلى أصالتهما وهذا لا يتم إلا في جو إصلاح سياسي وثقافي واجتماعي وتربوي، والعملية الإصلاحية التربوية المجتمعية التي تتناول سواد الشعب والأكثرية المحبة للدين الذائدة عنه التي تبذل في ذلك كل ما تستطيع من قوة وجهد من دون وعي، ووعي الذات التي يجب أن تكون مثقفة، ومدركة. هنا يجب أن تبرز الأهمية المفكرة والرجل المثقف والنخبة الواعية في أن تنهض، وتغير من وعي هذه الأكثرية، والمعلم المربي قائد الجيل عليه أن يربي جيله وفق متطلبات العصر المتقدم هذه هي عقلانية طه حسين التي تفترض لغة يفهمها الناس ويحمل وزرها النخبة المثقفة والمثقفون العرب هم المطالبون والمسؤولون في النفاذ إلى عقول الناس من أجل فهم الخطاب العقلاني في مضامينه السياسية والأيديولوجية والثقافية عندها يتمكن القارئ من فهم خطاب الكاتب، وأبعاده وفلسفته الحضارية.




وفي سبيل الوضوح النظري لهذه الغاية يطرح علينا طه حسين لماذا نعلم اللغة العربية؟(15) فاللغة هي الأداة وهي الوسيلة وهي الغاية وهي الأسلوب الذي يتفاهم به بنو البشر وبصورة أوضح هي أداة التفكير لأننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير والتفكر غير ممكن إلا في صورة ألفاظ فنحن إذن نفكر بهذه اللغة ولا نغلو إن قلنا أنها ليست أداة للتعامل والتعاون فحسب وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور بالقياس إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضاً(16). ثم يوضح طه حسين رأيه عندما يرى أنها ليست للدين فقط وليست لغة رجال الدين أو هم وحدهم الذين يؤمنون بها فهي لغة كل الشعب ولذلك ليس تعليم اللغة وقفاً على الأزهر الشريف(17)، ما دامت هذه اللغة سبيل الإنسان إلى الاستمرار في الحياة يجب أن تخرج عن إطار الوسيلة إلى غاية ما، فقد كان الأدب عند الذين يعلمونه ويحتكرونه وسيلة منذ كان عصر الجمود العقلي والسياسي بل قل إن اللغة كلها وما يتصل بها من علوم وآداب وفنون لا تزال عندنا وسيلة لا تدرس لنفسها(18)، والإنسان العربي أو قل المثقف العربي ينظر إليها وعقيدة التقديس في رأسه دون أن يتخطى أن للغة أهدافاً أخرى يجب تحقيقها ولنجاحه يجب أن يخضعها للنقد، والتحليل، والشك، والرفض، ثم الإنكار عندما يكون ذلك واجباً لأن هذه الأشياء كلها هي الأشياء الخصبة حقاً(19).




وما دمنا في وضعانية الشك واليقين في مجتمع تقليدي ما زال رهين العصور الوسطى في تخلفه وعجزه عن النهوض سواء أكان في مقارعة الاستعمار، أم في إيقاظ الشعور النهضوي في طرح النهضة في كل أبعادها، فهو –أي طه حسين- يعرض نفسه للمخاطر، وسوف يواجه صعوبات قد يكون العزل عن الجمهور المصري من أولويات الخطاب الذي سيواجهه، عندما يرى(20): "أن البحث عن تاريخ الجاهليين ولغتهم وأدبهم جديد لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر سيزورون عنه من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة وذخر الأدب الجديد".



هكذا يكون قد حدد طه حسين طريق البحث والاستقصاء في الأدب وتاريخه وأرى أنه قد هيأ نفسه لموجات من النقد هي أشبه بعواصف في صحراء نفوذ، لكنه يمضي في موقفه رغم قناعته في طريقة تفكير أولئك الرافضين لمنهجه: "إنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان، ولا اطمئنان، أو هم لم يرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان، وقد خلق الله لهم عقولاً تجد في الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضاً"(21).


لذلك يؤكد(22): "نحن بين اثنتين: إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قاله القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث، والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب، ووفق أبو عبيدة أو لم يوفق، واهتدى الكسائي أو ضل الطريق، وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أنسيت، فلست أريد أن أقول البحث، وإنما أريد أن أقول الشك، أريد ألا نقبل شيئاً مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان، والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم، فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث على الاطمئنان والرضا، والشك الذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود. المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء لا يناله بتغيير ولا تبديل. ولا يمسه في جملته وتفصيله إلا مساً رفيقاً. أما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأساً على عقب، وأخشى أن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئاً كثيراً". وإذن فالسمة الأساسية التي يتسم بها منهج "طه حسين" هي الشك الذي لا يسلم بشيء إلا إذا ثبتت للمرء صحته، في حين أن السمة الأساسية للمنهج القديم هي الثقة بصحة ما انتهى إلينا من القدماء، والوقوف بالعلم عند حد اختيار واحد من المواقف التي وصلت إلينا في كتب تاريخ الأدب فتكون دائرة البحث مقصورة على الاختيار بين البدائل القديمة دون المضي بها إلى اقتراح بدائل جديدة قد تطيح بكل ما وصلنا من علم قديم، وهو ما لا يستطيعه إلا المنهج الذي لجأ إليه "طه حسين" لاعتماده على الشك الذي يضمن للباحث حرية عقلية وتحرراً منهجياً كافيين لاستبعاد ما لا سبيل إلى قبوله قبولاً يستند إلى العقل والبرهان لا إلى سلطة الماضي أو قداسة النصوص أو شيوع الآراء وانتشارها. وهذا الشك هو الصفة الأولى والأساسية لمنهج طه حسين وهو الذي يجعل طه حسين ونقاده وأنصاره على السواء يقررون بأنه استعار هذه الطريقة في التفكير والبحث من "ديكارت" وإن لم يكن من العلم في شيء الاكتفاء بهذا المستوى من مناقشة الشك ودوره ودلالته في تفكير طه حسين، ومنزلته في الرؤية المنهجية لدى طه حسين، وهو ما سنحاول مناقشته لاحقاً لبيان حدود ما لديكارت من أثر في طه حسين من ناحية، وللوقوف على الدلالات المختلفة لهذا الشك من ناحية أخرى.










وفي مقابل الشك الذي هو ماهية منهج طه حسين في دراسة الأدب وتاريخه والتراث بعامة، يبين طه حسين أن ماهية المنهج القديم، المنتجة أساساً للعناصر الجوهرية في المجتمع التقليدي، قائمة في (إغلاق باب الاجتهاد) مما جعل طه حسين يقول عن أتباع هذا المنهج: "هم لم يغيروا في الأدب شيئاً، وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئاً وقد أخذوا على أنفسهم بالاطمئنان إلى ما قال القدماء، وأغلقوا على أنفسهم باب الاجتهاد، كما أغلقه الفقهاء في الفقه والمتكلمون في الكلام"..

ورأى حاسدوه أنه أخذ من مذهب الشك الديكارتي وراح يطبقه على الأدب الجاهلي ويرى يوسف سلامة: "أن منهج طه حسين: "القائم على الشك التاريخي ليس الشك الديكارتي، وإن لم يكن ليعنى أن طه حسين لم يفد من ديكارت، أو من أقطاره، لكن طه حسين ظل أقرب إلى الشك بالمعنى التاريخي أكثر من قربه من الشك بمعناه الديكارتي المنهجي(23).

هوامش البحث:

(1) طه حسين: الأيام- المطبعة المصرية /1938/ ص /137/.

(2) عبد الغفار نصر- قراءات نقدية في الفكر النهضوي. دار عشتروت- 999/ ص /49/.

(3) طه حسين: الأيام –دار المعارف- مصر.

(4) طه حسين: الأيام- ص /115/.

(5) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر. ص /439/ دار المعارف.

(6) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر –ص /439/.

(7) علي عبد الرزاق: الإسلام وأصول الحكم.

(8) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر – ص /31/.

(9) رجاء النقاش: مجلة الهلال- ع /أيار/977/ ص/162/.

(10) طه حسين: الأيام – 182.

(11) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر- ص/113/.

(12) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر- ص /72/.

(13) رجاء النقاش: ص /166/.

(14) طه حسين: من بعيد. ص /207/.

(15) طه حسين: مستقبل الثقافة. ص /304/.

(16) طه حسين: مستقبل الثقافة. ص /306/.

(17) طه حسين: مستقبل الثقافة. ص /307/.

(18) طه حسين: في الأدب الجاهلي. دار المعارف بمصر /958/ ص/56/.

(19) طه حسين: في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر. ص /58/.
جريدة الاسبوع الادبي العدد 901 تاريخ 3/4/2004