المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التصوير في الشعر الاسلامي لعبد الفتاح الخالدي



طارق شفيق حقي
08/09/2004, 08:32 PM
التصوير في الشعر الاسلامي

كان المأمول ان يترسم الشعراء الاسلاميون خطى القرآن الكريم في التعبير ويحذوا حذوه في الكلام، وينسجوا على منواله في الاسلوب. وبما ان السمة الرئيسية في اسلوب القرآن والقاعدة العامة في تعبيره هي (التصوير) فان من الطبيعي ان يكون (التصوير) هو السمة البارزة في اشعارهم، والقاعدة العامة في تعبيرهم.
لكن هؤلاء الشعراء لم ينهجوا نهج القرآن، وانما نهج الشعراء الجاهليين فوجدت في اشعارهم خصائص الشعر الجاهلي، وبخاصة تشتت الاخيلة، وشرود الخواطر، بحيث اصبح البيت في القصيدة يمثل وحدة قائمة بذاتها، وبذلك تحكمت فيه تقاليد الشعر الجاهلي لفترة من الوقت طويلة.


ولعل السبب في عدم اقتداء الشعراء الاسلاميين بالقرآن في تعبيرهم، هو ان الحاسة الفنية عند هؤلاء كانت اقل من ان تتطلع الى أفقه الرفيع في ذلك الاوان، ولذلك حذوا حذو الشعراء الجاهليين، فصار شعرهم كشعرهم، يبرز فيه المعاني الحسية، والتعبيرات المباشرة.

وبعد منتصف القرن الثاني الهجري، تدخلت في هذا الشعر مباحث الفلسفة وغلبت فيه طريقة العلم طريقة الفن، واصبح هَمِّ الشعراء التجويد في المعاني الذهنية، فصار شعرا ذهنيا.
ونحن هنا سنورد بعض النماذج التي يبرز فيها التصوير والتخييل، وهي نماذج اقل من النماذج التصويرية في الشعر الجاهلي، وهي فلتات عابرة في ديوان كل شاعر اسلامي. باستثناء (ابن الرومي) في العصر العباسي الثاني، الذي كان له عبقرية خاصة في التصوير والتشخيص، وهو يقف فريدا في وسط جموع الشعراء الجاهليين والاسلاميين، متميزا بأبياته المصورة. ويستحق ان يطلق عليه لقب (الشاعر المصور).
من هذه النماذج الفنية الجميلة قول ذي الرمة _ غيلان بن مسعود العدوي _ يصور أيام الوصال مع معشوقته (مية) وأترابها الجميلات:



قد مـر أحوال لهـا وأشهر
وقـد يرى فيها لعين منظر
مجالـس وربرب(قطيع البقر) مصـور
جـم (لاقرون لها )القرون آنسات (يأنسن )خفـر(حييات)
أتراب مي والوصال أخضر
ولـم يغير وصلها المغيـر
والجمال في البيت الاخير الذي يجسم فيه الوصال تجسيما طريفا، حيث يلونه باللون الاخضر، ليشيع فيه النضارة والحياة والبهجة، وليثير في نفوسنا الاحساس بالربيع واخضرار الحياة فيه.
وها هو ذو الرمة يصور لنا اطراف الصحارى التي يغطيها السراب، كأنها قمم جبال تطول وتقصر:
مغمض أطراف الخبوت اذا اكتسى
من الآل جلا، نازح الماء مقفر
ترى فيه اطراف الصحارى كأنها
خياشيم اعلام تطـول وتقصر
فقد شخص لنا ذو الرمة السراب، فها هو مغمض العينين لا يستبين، وها هي الأرض المنخفضة، تظهر من بعيد تحت تأثير السراب (خياشيم اعلام تطول وتقصر). والجمال الفني في تشخيص السراب. ثم في حركته الفنية التي اظهرت للرائي اطراف الصحراء قمم جبال متحركة.
يصور (نصيب بن رباح) حالة قلبه ليلة سافرت محبوبته (ليلى) قائلاً:
كأن القلب ليلة قيـل يغدى
بليلى العامريــة أو يـراح
قطاة غرها شـرك فباتت
تجاذبـه وقـد علـق الجناح
لها فرخـان قد تُركا بوكر
فعشهمـا تصفقــه الريـاح
اذا سمعا هبوب الريح نصا
وقد أودى بـه القدر المتـاح
فلا في الليل نالت ما ترجي
ولا في الصبح كان لها براح
ان السامع لهذه المقطوعة الموسيقية الحزينة، يتأثر لحال الثلاثة، القطاة التي باتت بين نارين، الشرك الذين وقعت فيه، والتفكير في فرخيها وقد باتا وحيدين لاول مرة! والفرخان اللذان احسا بفقد أمهما. وعشهما تصفقه الرياح. وقلب المحب الذي تفتق حزنا على فراق محبوبته.
ومن الصور الجميلة المتحركة في هذه المقطوعة، صور القطاة وهي تجاذب الشرك، وقد تركها الشاعر تجاذبه طول الليل، بينما جناحها عالق فيه.
ومنها عش الفرخين على كف الرياح، تذهب به يمنة ويسرة، وهما داخله مشتتي الخواطر بين فقدان الام، ومصير العش. فاذا سمعا صوت الريح نصبا اعناقهما وفتحا أفواههما ظنا منهما ان امهما جاءتهما بالطعام.
وقد تركنا الشاعر نتملى المشهد بمناظره الثلاثة الحزينة، ونحن نشفق على مصير القطاة، والعش، والفراخ!
وصور (كثير) هيامه (بعزة) قائلا:
واني وتهيامي بعــزة بعدما
تخليت ممـا بيننا وتخـلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما
تهيأ منهـا للمقيـل استقلت
كأني واياها سحابة ممحـل
رجاها فلما جاوزته استهلت
والجمال في هذه الابيات يتجلى في الصورة الحسية المتحركة، حركة ظل الغمامة، الذي يصاحب حركة الغمامة في السماء، تقابلها حركة شعورية في نفس (كثير) وتهيامه (بعزة)، وتتفق الحركتان معا، وتتسقان. فكما ان من يرتجي ظل الغمامة لا يمكنه ان يستريح أو يقيل، لانه كلما هم بالمقيل رحل الظل تابعا الغمامة، فكذلك هيامه بعزة.
وصور مسلم بن الوليد حركة الرياح الشاخصة:
تمشي الرياح به حسرى مولهة
حيرى تلوذ بأكنـاف الجلاميد
وهو هنا خلع الحياة على الرياح، وصورها لنا مخلوقا شاخصا. فهي (تمشي) (حسرى) (مولهة) (حيرى) تلوذ بأكناف الجلاميد). فهذه الصفات الخمس صفات أشخاص آدميين. وان السامع يتخيل الرياح امامه مشتتة الأخيلة، موزعة الخواطر، مقسمة العواطف، فها هي حسرى والهة حيرى، وهذه الثلاث جعلتها تحتمي بالصخور علها تطمئن.
وهي صورة متحركة حية، تثير في النفس مختلف العواطف.
ورسم لنا المتنبي مشهدا استعراضيا متحركا، صور به شجاعة ممدوحه:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الابطال كلمى هزيمــة
ووجهك وضاح وثغرك باسـم
والصورة الجميلة في تصويره ممدوحه (في جفن الردى وهو نائم)، فالردى مجسم، والممدوح نراه في جفنه، والردى يغمض عليه جفنه وينام، وهو يقاتل بشجاعة نادرة. وهي حركة متخيلة رائعة.
ويبقى المتنبي صاحبه في مكانه في جفن الردى، يستعرض المشهد الاستعراضي امامه، يستعرض الأبطال تمر به، منها الجريح ومنها المنهزم، وهو يهزأ بهم، ويهزأ بالخطر ويقابله بوجه وضاح وثغر باسم.
ويرسم لنا المتنبي صورة شاخصة (للحمى) عندما اصابته وهو في مصر:
وزائرتي كـان بهـا حيــاء
فليس تـزور إلا فـي الظـلام
فرشت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت فــي عظامـي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعــه بأنواع السقـــام
اذا ما فارقتني غسلتنـــي
كأنا عاكفان علــى حــرام
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعهـا بأربعـة سجـــام
اراقب وقتها من غير شوق
مراقبــة المشـوق المستهـام
ويصدق وعدها والصدق شر
اذا القـاك في الكرب العظـام
والأبيات مشاهد رائعة، لانه استخدم في التعبير التصوير والتخييل والتشخيص.
ويرسم لنا أبو العلاء المعري صورة فريدة ساخرة، يحملها كل سخريته بالحياة والاحياء. يقول:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحـ
ـب فأين القبور من عهد عـاد
خفف الوطأ مـا اظن اديم الار
ض الا مـن هذه الاجســـاد
وقبيح بنا وان قــدم العهــ
ـد هوان الآبـــاء والاجداد
سر ان اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العبــاد
وعندما يسمعه السامع تدب على مدى بصره في خياله شخوص تنبعث من رفات، وتنبعث في نفسه صور شتى وسمات. يرى وهو يسير وجه الارض وقد تحول الى اجساد يطؤها بقدميه، فما يملك الا ان يستمع الى المعري ويخفف الوطأ أو يتوقف عن المسير. او يسير في الهواء!
ويتابع المعري سخريته من الناس والحياة في نفس قصيدته فيقول:
رب قبر قد صار قبرا مرارا
ضاحك من تزاحـم الاضــداد
ودفين علـى بقايـا دفيــن
فـي طويل الازمان والآبـــاد
فاسأل الفرقدين عمن أحسـا
من قبيل وآنسا مــن تـــلاد
كم أقامــا على زوال نهـار
وأنــارا لمدلج فــي ســواد
والقبر هنا حي بالتشخيص، فهو يقف ضاحكا متعجبا من الاضداد الذين ينزلونه، وسخرية القبر الشاخصة تتسق مع سخرية المعري النفسية بالاحياء ومطامعهم ومطامحهم وعداواتهم وخصوماتهم.
ورسم لنا محمد بن سفر الاندلسي صورة فنية لنهر اشبيلية بالأندلس:
شق النسيم عليه جيــب قميصه
فانساب مــن شطيه يطلب ثاره
فتضاحكت ورق الحمـام بدوحها
هزؤا، فضـم مـن الحياء ازاره
والجمال في الصورة يتجلى في التشخيص والحركة، فالنسيم شاخص يشق جيب قميص النهر، والنهر يلحق بالنسيم في اخذ الثأر، والحمام ضحكت منه لما رأته، والنهر يصيبه الحياء فيستر نفسه.
وصور لنا البحتري الحياة في عيد النيروز في الربيع في مشهد حي رائع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كــاد ان يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى
اوائل ورد كن بالأمــس نومـا
يفتقهـا بـرد الندى فكأنـــه
يبـث حديثـا كان قبل مكتمــا
فمن شجر رد الربيــع لباسـه
عليه كمـا نشـرت وشيا منمنما
ورق نسيم الريح حتـى حسبتـه
يجيء بأنفـاس الأحبـة نعمــا
ونختم هذه النماذج بايراد نماذج (للشاعر المصور) ابن الرومي تتجلى فيها عبقريته في رسم الصور الفنية، ومقدرته على التشخيص الحي المتحرك.
ويصور لنا ابن الرومي مشاعره الداخلية، ويعرض علينا لوحة نفسية فنية رائعة عندما يذكر لنا موقفه من الأسفار:
اذاقتني الاسفار مـا كـره الغنى
الـي وأغراني برفـض المطالب
فأصبحت في الاثراء أزهد زاهد
وان كنت في الاثراء ارغب راغب
حريصا جبانا اشتهي ثـم انتهى
بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب
ومن راح ذا حرص وجبن فانه
فقير أتاه الفقر مـن كل جانــب
تنازعني رغب ورهب كلاهما
قوي، وأعياني اطـلاع المغايــب
فقدمت رجلا رغبة في رغيبة
وأخرت رجلا رهبـة للمعاطــب
أخاف على نفسي وارجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقــب
الا من يريني غايتي قبل مذهبـي
ومن أين والغايات بعد المذاهــب
ويرسم ابن الرومي صورة للاحدب حية واضحة السمات، بارزة الملامح:
قصرت أخادعه وطال قذالــه
فكأنـه متربص ان يصفعــا
وكأنما صفعت قفــاه مـرة
وأحس ثانية لهــا فتجمعــا ويصور ابن الرومي سرعة عمل خباز فنان ماهر، وتحول الرقاقة في لحظة من كرة الى دائرة قوراء:
ان أنس لا أنس خبازا مررت بـه
يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبـصر
ما بين رؤيتها في كفـه كــرة
وبين رؤيتها قــوراء كالقمــر
إلا بمقدار مــا تنداح دائــرة
في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر
------------------------

بقلم صلاح عبد الفتاح الخالدي