المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العروبة والعرب في أدبيات الشعوبية



طارق شفيق حقي
22/08/2005, 03:20 PM
[align=center:70609a5944]العروبة والعرب في أدبيات الشعوبية[/align:70609a5944]

تشكل الآداب احد أهم عناصر ثقافة الشعوب وربما هي مصدرها الأول, والآداب بما فيها الشعر، والقصة, والخطبة والحكاية, والمثل والكناية فهي مرآة صادقة كونها تعكس الخلفيات النفسية والأخلاقية للشعوب وتعتبر مقياسا لتحضرها, وعادة ما يكون الأدباء هم حلقة الوصل الأولى التي تربط بين الشعوب فكريا وثقافيا وذلك لما يقدمونه من صور جمالية تخلوا من ألأمراض النفسية وعقد المتييز العنصرية والتفرقة الطائفية والتركيز على أظهار جوانب الشفافية وألأحاسيس المرهفة في الإنسان, إلا أن الحركة الشعوبية قد اتخذت من الآداب وسيلة لزرع بذور العنصرية والكراهية في نفوس أبناء أمتها تجاه العرب خاصة والإسلام عامة وكان الشعر احد أهم أفروع الآداب المستخدمة في هذا الإطار لكونه الأكثر التصاقا في عقول القراء والمستمعين والأسهل حفظا في الذاكرة ولذا نرى أن محمود الغز نوي احد أمراء الفرس واحد أعمدة الحركة الشعوبية في القرن الثلاث الهجري عندما حاول إن يؤجج مشاعر العداء الفارسي ضد الإسلام والعرب كلف الشاعر الشعوبي أبو القاسم الفردوسي بكتابة قصائد شعرية يمجد فيها تاريخ فارس وحضارتها ويشتم فيها العرب وحضارتهم الإسلامية ويحط من شأنهم, وقد تعهد له بأن يعطيه وزن ما يكتبه ذهبا وعلى هذا الأساس وضع الفردوسي ملحمته التي تخلوا من أي شاعرية واسماها الشاهنامه (ملك الكتب) حيث وضع جلها في شتم العرب وتحقيرهم وتمجيد الفرس وملوكهم، وراح العنصريون الفرس يحفضّون أبنائهم ويغذونهم بهذه القصائد وغيرها من الأشعار العدائية.
ومن نماذج الانتقاص والتحقير الذي كتبها الفردوسي في الشاهنامة (411-329هـ) تلك الأبيات التي يقول فيها:
زشير شتر خور دن وسو سمار
عرب را بجايي ر سيد أست كار
كه تاج كيانرا كند آرزو
تفو باد بر?رخ كردون تفو
وقد ترجمها الدكتور محمد علي اذر شعب الملحق الثقافي الإيراني السابق في دمشق وأستاذ الأدب العربي بجامعة طهران هكذا:
من شرب لبن الإبل وأكل الضب بلغ الأمر بالعرب مبلغا
أن يطمحوا في تاج الملك فتبا لك أيها الزمان وسحقا
وهناك أبيات أخرى مماثلة للفردوسي في الشاهنامة ومنها قوله:
سك در أصفهان آب يخ مي خورد عرب در بيابان ملخ مي خورد
وترجمتها: الكلب في أصفهان يشرب ماء الثلج, والعربي يأكل الجراد في الصحراء.
وقد أصبح التهكم والاستهزاء بالعرب وتحقيرهم سيرة الشعوبيين إلى يومنا هذا ولم تقتصر وسائلهم في التعبير عن عدائهم للعرب على هذا الباب من الآداب فقط بل أنهم سعوا في استخدام القصص وألاساطير وسيلة للحط من منزلة العرب وتأليب روح العداء في نفوس الأجيال فارسية اللاحقة ضدهم.
وانطلقت الحملة الشعوبية ضد العرب بعد ما أخذت الحضارة الإسلامية تزدهر وتنتشر بواسطة اللغة العربية التي طغت على لغة الأقوام والشعوب التي فتح الإسلام ديارها انذاك فالعربية إضافة إلى كونها لغة القرآن الكريم, فأنها أصبحت فيما بعد لغة الفقه والآداب وعلوم الطب والصناعة, وكانت مدارس خراسان ونيسابور وغيرها من مدارس بلاد فارس وبخارا وسمرقند عربية خالصة, وقد وضع أساطين العلوم الفلسفية والطبية والأدبية من أبناء تلك الديار من أمثال البيروني والفارابي والرازي جميع مصنفاتهم باللغة العربية وهذا ما أثار الشعوبيين وأغاظهم, حيث أنهم وكما يقول ابن حزم الاندلسي, كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب وكان العرب اقل الأمم عند الفرس خطرا تعاظم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة وقد اتخذ الصراع بين العرب والشعوبية ألوانا مختلفة, فقد وقفوا في وجه انتشار اللغة العربية وللتهوين من شأن العرب والانتقاص منهم ترجم الشعوبيون الشديدو العصبية كتبا في مناقب العجم وافتخارهم ورجم العرب بالمثالب وتحقيرهم.
ومن جملة ما وضعوه في هذا الشأن يمكن أن نستشهد بعدد من الكتب ومنها, كتاب مثالب العرب لهشام بن الكلبي حققه نجاح الطائي وأعادت نشره دار الهدى في بيروت عام 1998م, كما ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى وهو من يهود فارس كتبا كثيرة تعرض فيها للعرب منها كتاب(لصوص العرب) وكتاب (أدعياء العرب) كما ألف كتاب (فضائل الفرس), وألف عيلان الشعوبي كتاب الميدان في مثالب العرب واتساقا مع هذا التوجه العنصري فقد ظهر شعراء وكتّاب آخرون في عصور متتالية مواصلين النهج الشعوبي الذي اختطه أسلافهم, وظهر من بينهم مهيار الديلمي (428ﻫ) وهو فارسي الأصل من أهل بغداد وقد غلا في أفكاره حتى قال له أبو القاسم ابن برهان: يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى أخرى فيها مجوسيا وأسلمت فصرت تسب الصحابة.
ولمهيار هذا ديوان شعر في أربعة أجزاء يتفاخر فيه على العرب بقومه, ويقول في إحدى قصائده:
لا تخالـي نـسباً يخفضني أنا من يرضيك عندَ النسبِ
قومي استولوا على الدهر فتى ومشوا فوق رؤوس الحِقبِ
عممـوا بالشمس هأماتِـهم وبنوا أبياتـهم بالشـهبِ
فأبي " كسـرى " على إيوانهِ أين في الناس أبُ مثل أبي
لقد استمرت المدرسة الشعوبية التي كان من أعمدتها الفردوسي والخيام وأبو مسلم الخراساني و أبا بكر ألخرمي الرودكي ومحمود الغزنوي تتناقل بين أحفادهم جيل بعد جيل حتى وصلت إلى اللصفويين الذين ألبسوها ثوبا جديدا وهو الطائفية, وقد تلبس الصفويون التشيع وادعوا النسب العلوي رغم أن المؤرخون الفرس يؤكدون أن إسماعيل ألصفوي قد ولد من أم ارمنية وأبا أذري وكان جده صفي الدين الاردبيلي شيخ طريقة صوفية سنية, إلا أن المصلحة القومية والروح العنصرية دفعتهم إلى التلبس بلباس التشيع وذلك لكي يضمنوا بقاء مدرستهم وانتشار أفكارها العنصرية.
وقد دأب الصفويون على شتم العرب بحجة الثأر لأهل البيت وقد أمروا كتابهم ووعاظهم بوضع الروايات والكتب التي ملؤها الشتم واللعن للصحابة والخلفاء والقادة العرب الذين كانت لهم القيادة في فتح بلاد فارس ونشر الإسلام في ربوعها.
ومن جملة ما وضعته المدرسة الصفوية, كتاب بحار الانوار للمجلسي الذي جاء بمئة وعشرون مجلد وقد دون فيه ألمجلسي ما طلبه الصفويون من الروايات والقصص التي تساعد على نشر بذور الفتن والتفرقة العنصرية والطائفية وقد جاء هذا الكتاب وهو يحمل بين دفتيه أفحش الجمل واغلضها ضد الرموز العربية الإسلامية.
ومن الكتب الأخرى التي وضعت في هذا الشأن كتاب (مفاتيح الجنان) لصاحبه عباس ألقمي وهو أيضا محمل بالسباب واللعنات للعرب وذلك كله بحجة الدفاع عن أهل البيت متناسين أن الأمام علي عليه السلام قد نهى شيعته عن السب والشتم وهذب أخلاقهم حيث قال (اكره لكم إن تكونوا سبابين) إلا أن هؤلاء الشعوبيين عادوا الأمام علي وتجنوا عليه بزعمهم الانتساب إلى مدرسته, وخير من كشف ضغينتهم وأوضح حقيقتهم هو شاعرهم الرودكي الذي قالها بصراحة:
عمر بشكست ?شته هجبران عجم را برباد فنا داد ر? وريش جم را
اين عربده وخصم خلافة زعلي نسيت با آل عمر كينه قديم أست عجم را
وترجمتها: أن الصراع والعداوة مع العرب ليس حبا بعلي والدفاع عن حقه في الخلافة, ولكنها
البغضاء والعداوة لعمر الذي كسر ظهر العجم وهد حضارتهم.
وهكذا بقيت المدرسة الصفوية الشعوبية على ديدنها فكلما أرادت إن تكيل الشتم والسب للعرب لجأت إلى اتخاذ الدين والمذهب غطاء لنفث سموهما, وهاهو شيخ السبابين مصباح اليزدي احد كبار أساتذة الحوزة الصفوية يفرد أكثر من مئة صفحة من كتابه سيرة سيد المرسلين لسب العرب ويدعي إن ما حمله القرآن من تحذير ونظير إنما هو موجه للعرب على وجه الخصوص, وأن الأقوام التي انزل الله عليها الغضب وأبادها كانت أقوام عربية وقد سميت بالعرب البائدة، والمعنيون بالجاهلية هم العرب تحديدا, وهناك الكثير من الأوصاف الشائنة التي ينسبها للعرب.
هذه مدرسة الشعوبيين وهذه سمومهم الفكرية التي بذروها في عقول أبنائهم وغزوا بها عقول وأفكار العديد من أبناء امتنا تحت يافطة الولاء لأهل البيت، ولكنهم...... يمكرون.
ــــــــــــــــــــــ
كاتب وسياسي عربي من الأحواز
e-mail: almousawi17@hotmail.com

غير مسجل
29/01/2011, 09:51 PM
بسم الله الرحيم
تحية عروبية وبعد : أهدي لكم كتابي هذا لكم ولكل عربي غيور وأنني متنازل عن افة حقوقي لمن أراد أن ينشره أو يستفاد منه في بحث أو غيره . وأرجوا ان تأخذوه بالقبول ( الجزء الأول )
عبد اللطيف ذياب أحمد
ألف ليلة وليلة والتراث العربي
الإهـداء
إلى كل عربي آمن إيماناً مطلقاً بأصالة تراث الأمة العربية .
إلى كل عربي عمل ويعمل صادقاً على إحياء التراث العروبي الأصيل ، تحقيقاً وطبعاً ونشراً وتوزيعاً ، ليضعه في متناول المثقفين العرب .
إلى المفكر العروبي الحق ، الذي أسهم ويسهم في تقديم الدراسات والبحوث الجادة عن تراث الأمة العربية ، والعمل بإخلاص في سبيل تطهيره من أدران وقاذورات الشعوبية السوداء الحاقدة على كل ما هو عربي ومسلم .
إلى المناضلين العروبيين الذين وهبوا حياتهم في سبيل إعادة العروبة إلى أصالتها وصفاءها ماهوياً ووجودياً وحضارياً .
إلى هؤلاء جميعاً أهدي كتابي هذا ، ومن الله التوفيق .
بسـم الله الرحمن الرحيم
لم تتعرض قضية للتشويه مثلما تعرضت له قضية التراث الثقافي للأمة العربية بشكل عام ، والتراث الثقافي الإسلامي بشكل خاص ، هذا التراث الذي أبدعته الذات العربية من نتاج في كل ميدان من ميادين الدين والأدب والفلسفة والفن والعلم والاجتماع والسياسة والتاريخ والأخلاق ، وغيرها من الميادين الأخرى ، والذي احتوى على كل نوع من أنواع الفكر ، وعلى كل ضرب من ضروب المعرفة ، التي طبعت هذا التراث بطابع خاص ووسمته بسمة خاصة تميزاه عن غيره من التراثات الأخرى .
وقد جاء هذا التشويه على أيدي أعداء العربية والإسلام ، قديماً وحديثاً ، فقديماً عملت الشعوبية ؛ الحاقدة على كل ما هو عروبي ؛ إمكاناتها المتاحة على تشويه تراث الأمة العربية ، وذلك بتحميله كل فاسد ومعارض ومناقض لما هو جيد وممثل للقيم والأخلاق العربية الأصيلة . وحديثاً على أيدي المستشرقين والتغريبيين ، بما حيك حوله من مؤامرات تخريبية هدامة ، كانت قد استهدفت تشويهه ومسخه وتزويره والعبث به وتعطيله .
وليس كتابي هذا في جوهره دراسة أو بحثاً حول الشعوبية أو الاستشراق ، وآثارهما المدمرة على الأمة العربية ، كما أنه ليس بدراسـة تحليلية لحكايات ألف ليلة وليلة ، وإنما هو في حقيقته دعوة عروبية عامة ، وللمفكرين العروبيين خاصة ، أهيب بهم فيها ليقفوا الموقف العروبي الثوري المسؤول اتجاه هذه المؤامرات على تراث أمتنا العربية الأصيل ، والقيام بواجبهم ومسئوليتهم العروبية اتجاه هذا التراث العظيم ، وذلك من خلال استكشافه وإخراجه لحيز النور ، وتحقيقه ودراسته وطبعه ونشره ، وأخيراً فرز وإظهار التراث الشعوبي المتداول على الساحة الثقافية العربية في هذا العصر ، ودراسته وتبيان شعوبيته وخطره على الأمة العربية ، ليتسنى للشعب العربي التعرف عليه واجتنابه .
وأرجوا أن يكون كتابي هذا مساهمة جادة في تحقيق تلك الدعوة ، إذ في ذلك يكمن غرضه الأول والأخير .
وقد اعتمدت في كتابي هذا على نسخة ألف ليلة وليلة المصورة بالأوفست مـن قبل مكتبـة المثنى فـي بغداد عن طبعة بولاق عام ( 1252 هـ) ، واعتمادي على هذه الطبعة بالذات له أسبابه الموجبة وذلك لكون طبعة بولاق تُعتبر من أقدم الطبعات هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى لكونها تعتبر أصدق طبعة لكتاب ألف ليلة وليلة لم يتلاعب الناشرون والمحققون بها ؛ تصحيحاً وتهذيباً ، كباقي الطبعات الأُخرى .
ويجدر بي هنا تنبيه القارئ الكريم إلى ملاحظة هامة ، وهي أن العبارات والأمثلة التي استأنست بها من كتاب ألف ليلة وليلة ، قد ثبتها على علاتها دون تعديل ولا تحوير ولا تهذيب ، حيث أني تركتها على ركاكتها اللغويـة وأخطائها الإملائية والنحوية ذلك قصد لا أظنه يخفى على القارئ الكريم .
ولقد وزعت مادة كتابي هذا ، على ستة أبواب :
الباب الأول - المدخل : بينا فيه مفهوم الشعوبية بإيجاز ، وبينا فيه مؤامرة المستشرقين على تراثنا العروبي الأصيل ، ثم بينت الأساليب الشعوبية المتبعة في كتاب ألف ليلة لبث سمومها ضد الأمة العربية ، وتشويه كل ما هو عروبي أو يمت بصلة لأمة العرب .
الباب الثاني - العرب في ألف ليلة وليلة : قدمت له لتبيان الصورة الحقيقية للإنسان العربي ، ودوره الفاعل في عمارة الكون ورقي البشرية ، ثم بينت أسباب العداء الذي تكنه الشعوبية لأمة العرب ، الذي حدا بها في هذا الكتاب وأضرابه من الكتب الشعوبية ، أن تجهد نفسها بإظهار العربي بصورة مغايرة ومناهضة ومناقضة لحقيقته الحقة التي جبل عليها ، ثم بينت غايتها من ذلك ، وهي إسقاط هذه الصورة البشعة وتكريسها لدى قارئ الحكايات الشعوبية وإقناعه بأنها هي الصورة الحقيقية لأبناء الأمة العربية .
الباب الثالث _ الإسلام في ألف ليلة وليلة : ويحتوي على مقدمة تبين العلاقة الصميمية بين العروبة والإسلام ، وكيف أن هذه العلاقة كانت السبب وراء عداء الشعوبية للإسلام ، مستمدة عداءها له من عدائها للعرب ، كما بينت فيه كيف أُستغل الإسلام لتشويه الإسلام والعرب معاً ، وذلك عندما صُبغت الحكايات بالصبغة الإسلامية، ومما سهل عليها التجديف على الدين الإسلامي، ولم يسلم من هذا التجديف حتى القرآن الكريم ، وأحاديث سـيد الأنبياء وبني آدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سهل عليها الازدراء بفقهاء وقضاة الإسلام وحياكة الأكاذيب عنهم .
الباب الرابع - الخلق العربي في ألف ليلة وليلة : بينا فيه الترابط الوثيق بين الأخلاق العربية والدين الإسلامي ، ثم بينا عمل الحكايات التخريبي في تشويه المضامين الحقيقية للصفات الأخلاقية التي يتحلى بها الإنسان العربي كالمروءة والنجدة والعرض والشرف ، والقرى والكرم والوفاء والأمانة والإباء والشمم ، والصدق والإخلاص ، وغيرها من الخصال والمحامد العربية البارزة .
الباب الخامس - الحياة العربية في ألف ليلة وليلة : بينا فيه مفهوم الحياة العربية الحقة ، وأظهرت الركائز الأساسية التي تقوم عليها هذه الحياة ، ثم بينت الكيفية التي عملت بها الحكايات لتشويه هذه الحياة عن طريق إسقاط العيوب المرتبطة تاريخياً بأمة أخرى على الأمة العربية ، لتظهر هذه الحياة ترفل بالتحلل الأخلاقي ، مبنية على العنف والجهل قائمة على التواكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة وعدم الشعور بالمسئولية ، متبعة في ذلك التشويه والتزوير والتحريف .
الباب السادس - السلطة العربية في ألف ليلة وليلة : تناولت فيه دور السلطة بالنسبة للدولة ودورها في الحفاظ على الدين والدنيا ، ثم تكلمت عن محاولة الحكايات في تشويه حقيقة السلطة العربية ، وعن أسباب تركيز هجومها الجنوني على بعض أعلام الأمة العربية من أمثال الخليفة هارون الرشيد والقائد العربي أمير العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي وغيرهما ، وغاية الحكايات من إظهار حكمة وعدل وسياسة الملوك الفرس ووزرائهم .
تلكم كانت أبواب هذا الكتاب ، تعرضت لها بإيجاز ، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في الكشف عن حقيقة هذا الأثر الشعوبي الأسود ، الذي لا يمت بصلة لتراث الأمة العربية كما أرجو أن يكون هذا الكتاب مساهمة جادة لتحقيق تلك الدعوة القومية التي دعونا لها .
والله ولي التوفيق
عبد اللطيف ذياب - سورية - دير الزور 1428 – 2007
البـاب الأول : المـدخل
الشعوبية حركة عدائية مضادة ، ذات طبيعة عمياء ومقاصد تخريبية هدامة ، تقوم في جوهرها على مناهضة الأمة العربية ، والغض من شأنها والزراية بماضيها ، والفخر عليها بحضارات الأمم الأخرى ، والكيد لدينها الإسلامي الحنيف ، والتواطؤ ضدها تواطؤاً كلياً في كل زمان ومع أَيَّة أمة ودونما أيُّ شرط ، منطلقة بذلك من حقدها الأسود على العرب ، وكراهيتها لهم وهوسها الجنوني بالثأر منهم وتمزيقهم والقضاء عليهم بأي شكل من الأشكال أو وسيلة من الوسائل أو أداة من الأدوات .
وكانت الغالبية العظمى الممثلة للشعوبية تتكون مـن عناصر أعجمية ، وخاصة العناصر الفارسية المجوسية ، الذين عزَّ عليهم زوال ملكهم ، كما عزَّ عليهم ما رأوه من العرب وما آلو إليه من قوة وسيادة وتقدم وحضارة وقيادة وريادة ، فتحركت في نفوسهم المريضة هذه النزعة العدوانية التي تنكرت لكل ما هو عربي، وحطت من قيمته وشأنه ، مع تفضيل كل ما هو غير عربي تفضيلاً كاملاً ، والإعلاء من مكانته وقدره ، وعملت بكل ما في وسعها على تجريد العرب ، من جميع ما يتمتعون به من مزايا وخصال وفضائل ومكارم ومواهب وكفاءات ، وعلى اختلاق الأكاذيب والأباطيل والأوهام ، وتزوير الأحداث والوقائع والحقائق ، وحوك الدسائس والمؤامرات ضدهم ، وعلى الافتراء عليهم ، بتحميلهم النقائص والمثالب والعيوب ، وعلى إغمادهم حقهم في كافة ما قدموه للعالم وللبشرية من خدمات حياتية جُلى ، وأعمال حضارية رفيعة ، وقيم إنسانية مثلى ، وعلى إحلالهم أدنى مراتب الشعوب ، وإنزالهم أحط منازل الأمم ، يقول ابن قتيبة : أعاذنا الله من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد وبغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة ، وتلحق بها كل رذيلة ، وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان ، وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف ، وتغضّ من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر بالشجا ، وتطرق منه إلى القذى .
وهدف الشعوبية الأول والأخير في عدائها هذا ، هو تقويض الكيان العربي القومي كلياً ، فقد كرست كافة قواها وإمكاناتها ، على تخريب الدعائم الأساسية الأصيلة لهذا الكيان ، والتي تتمثل في الإنسان العربي ، والدين الإسلامي ، ولأخلاق العربيـة ، والحيـاة العربية ، والدولة العربية .
وقد اتخذت الشعوبية في سبيل تحقيق هدفها الأسود ، مختلف المجالات والميادين الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، مسرحاً لنشاطاتها التخريبية الهدامة، مبيحة لنفسها إباحة كلية استخدام كافة الأساليب والوسائل والسبل ، لا سيما اللاأخلاقية منها ، من غش ومكر وخداع ، ومن تلفيق وتزوير ، ومن كذب ونفاق ودسيسة ، فوضعوا المؤلفات الكثيرة ، وضمنوها بالكثير من أكاذيبهم وأضاليلهم ، وحاكوا القصص والحكايات التي لا تمت إلى واقع الحال بصلة ، وألبسوها لبوساً عربياً إسلامياً ليتسنى لهم بلوغ مآربهم وغاياتهم الشعوبية .
- 2 -
وقد انطلت هذه الأكاذيب والأباطيل على الكثير من المؤرخين والمفكرين العرب القدماء منهم والمحدثين ، فأخذوها على علاتها وقبلوها بدون أي تحقيق أو تمحيص ، يقول ابن خلدون في ذلك : وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهِموا فيها وابتدعوها ، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها ، واقتفى تلك الآثار الكثيرة ممن بعدهم واتبعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ، ولا رفضوا تُرهات الأحاديث ولا دفعوها ، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب قليل ، والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل ، ويقول أيضاً : وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها إلى أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط .
ومن هنا قسم التراث العربي إلى قسمين متمايزين ، التراث الثقافي العروبي الأصيل ، والتراث الشعوبي الهجين ، فالأول استمد مادته من صلب الفكر العروبي للأمة العربية ، والذي كان مطابقاً مطابقة كلية لخصائص وسمات الأمة العربية ، أما الثاني فهو التراث الذي استمد مادته من مصادر فكرية غريبة فارسية على الخصوص ومن هندية ويونانية ورومانية وغيرها ، والذي من ثم كان مبايناً ومناقضاُ ومناهضاً تماماً لخصائص وسمات الأمة العربية.
ومثل هذا التراث الشعوبي الشاذ ، أصبح هو التراث الأثير بل الأثير جداً لدى المستشرقين اليوم ، ولدى أتباعهم من التغريبيين ، فقد اعتنوا بهذا التراث الشعوبي الأسود عناية فائقة ، وأجهدوا أنفسهم في البحث عنه واستكشافه وتجميعه ، ومن ثم تحقيقه وطبعه ونشره وتوزيعه ، وصنعوا الدراسات الواسعة والدقيقة والبحوث المستفيضة عنه ، وبالغوا كثيراً في تعظيمه وإعلاء شأنه ، ذلك ، لا لكونه ذا قيمة فكرية مميزة أو أهمية معرفية بالِغة أو مكانة علمية دقيقة ، وإنما لشعوبيته فقط ، هادفين من وراء ذلك إظهاره على التراث العروبي الأصيل وتغليبه عليه ، وبالتالي هادفين إلى جعله أداة من أدوات تخريب الفكر العربي الحديث .
- 3 –
وحكايات ألف ليلة وليلة ، في طليعة هذا التراث الشعوبي الشاذ ، الذي نال الأثرة والمكانة المرموقة لدى المستشرقين ولدى أتباعهم من التغريبيين، فجعلوها قبلة أنظارهم ومدار عنايتهم منذ أن ترجمها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان في بداية القرن السابع عشر ، يقول الدكتور فليب حتي عند كلامه عن أدب العرب في العام الألف الميلادي : ومن أدب هذه الحقبة انتقى الغرب كتاباً واحداً أولاه اهتمامه هو كتاب ألف ليلة وليلة وأصله قصص فارسية قديمة نقلها إلى العربية الجهشياري المتوفى عام 942 ، إلا أن القصاصين المتعاقبين أضافوا إليه قصصاً أُخرى كثيرة ، كما أضافوا اسم بطلة هذه الرواية،شهرزاد، وعلى تعاقب الأجيال أُلحقت بهذه المجموعة حكايات كثيرة جديدة ، من مصادر لا تحصى ، هندية ويونانية وعبرانية ومصرية وشرقية مختلفة الصفات والألوان 00 والواقع إن الإقبال على هذا الكتاب هو في الغرب أكثر منه في الشرق (5) .
وأجهد المستشرقون أنفسهم في البحث عنها واستكشافها وتجميعها ، تقول سهير القلماوي في ذلك : لم يقتصر هم الغربيين على نقل هذا الأثر إلى لغاتهم وإنما أنتجت تلك التراجم المتعددة آثارها العلمية والأدبية ، وكان أهم ما شغل بالهم البحث عن أصل ألف ليلة وليلة وفي ذلك اتجه البحث ناحيتين هامتين ، الأولى هي محاولة اقتناء النسخ المختلفة لعلهم يصلون إلى الأقدم ، فعثروا على نسخ مختلفة متعددة ، والثانية هي البحث النظري عما قد يكون أصلها (6) ، وحيث بذلوا كل ما في وسعهم من أجل تحقيقها وطبعها ونشرها وتوزيعها ، فقد طبعت من قبلهم كثيراً (00ويكفي أن نعرف أن الليالي طبعت أكثر من ثلاثين مرة مختلفة في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر وحده ، وإنها نشرت نحو ثلاثمائة مرة في لغات أوربا الغربية منذ ذلك الحين وقد انتشرت انتشاراً واسعاً في أوربا وأمريكا ، بحيث غدت لا تخلو مكتبة عامة ولا خاصة منها ، وليس هذا إلا بفصل الهالة الدعائية التي أُحيطت بها .
وحيث انكبوا طويلاً على وضع الدراسات الواسعة الدقيقة والبحوث الشاملة المستفيضة عنها ، وحسبنا أن نعرف أن أول من نبه إلى وجود الحكايات وأول من انفرد بدراسة هذا الأثر الشعوبي الأسود،هم المستشرقون ، وقد أظهروا هذه الحكايات في دراساتهم على أنها الصورة التأريخية الصادقة للمجتمع العربي الإسلامي ، وما كان عليه أصل هذا المجتمع من طبائع وعادات ، وما كان لأهله من أخيلة وأفكار ، وعقائد وآراء ؛ ومصداقاً على ما نقول ؛ ما نراه واضحاً عند المستشرق الإنكليزي ( لين ) حيث جمع ما علق به على ترجمته لحكايات ألف ليلـة وليلـة بكتاب كبير وسمه باسم ( المجتمع العربي في القرون الوسطى ) (7) ، بل أنهم قدموا هذه الحكايات ، لقرائها ، على أنها هي الشرق الإسلامي بعاداته وأخلاقه وأديانه ، وأنها الصورة الصادقة له ، فمن قرأ كتاب ألف ليلة وليلة ، فكأنما قد رحل إلى الشرق الإسلامي ، فسمعه ورآه ولمسه لمس اليد ، هذا مما سهل أكثر على انتشار هذا الكتاب في أوربا الاستعمارية الطامعة في بلاد العرب والمسلمين .
وحيث بالغوا كثيراً في تعظيمها والإعلاء من شأنها ، حتى وصفها الباحثون والمصنفون ؛ من المستشرقين ؛ بأنها الممثل والمعبِّر الوحيد والأصيل عن التراث العربي الإسلامي، ووضعوها ضمن شوامخ إبداعات البشرية قاطبة.
إن هذه الهالة الضخمة عن ألف ليلة وليلة لم يصنعها المستشرقون حباً بالأمة العربية وتراثها الثقافي ، وإنما لغاية استعمارية بحتة ، قاصدين من فعلتهم هذه ما يلي :
أولاً – دفع الإنسان العربي إلى ارتكاب الآثام وعدم الالتزام بالفرائض ، وإلـى تحريضه علـى اقتراف الموبقات ، لأن فـي
ذلك ، إسقاط لإنسانية الإنسان وهدماً للمجتمع ، لأن الفرد المتحلل من روابط المجتمع ومن مقوماته وقيمه وأخلاقه ، غير قادر على تحمل مسؤولية التفاعل الحضاري ، إذ أن عملية التفاعل الحضاري تقتضي الشعور بالمسؤولية والالتزام بقيم المجتمع وأخلاقه والارتباط به ارتباطاً عضوياً ، والتمسك بمثله والانتماء الواعي له ، والعمل وفقاً للمصالح المشتركة بينه وبين مجتمعه .
ثانياً - النفاذ إلى عقول ونفوس أبناء الأمة العربية ، رجاء أن يشوهوا في أعماقهم صورة أمسهم،ويطفئوا نوراً لهم أضاء للبشرية طريقاً وسط الظلمات ، وحتى يقنعوهم ؛ أخيراً ؛ بأن بقاءهم في عالم اليوم رهن بتنكرهم لعروبتهم وعقيدتهم الإسلامية ، وتعلقهم بركاب الغرب " رسل الحضارة وسادة العصر " ، وإذ ذاك يهون عليهم أن يروهم يستبيحون حماهم ، وينهبون خيراتهم ، ويقومون أوصياء عليهم ، يأخذون بأيديهم نحو التمدن الاستعماري الكاذب .
ـ 4 ـ
هذه هي الشعوبية ، وهذه هي بعض من أعمالها التي استهدفت الإنسان العربي وكل ما يتصل بهذا الإنسان من قيم كبرى ، وهذا هو الاستشراق نصير الشعوبية الأول ومحيي آثارها السلبية السوداء ، في سبيل تخريب أمتنا العربية المجيدة ، وفي تعطيل مسيرتها الحياتية الحقة ، وفي الحيلولة بينها وبين أن تؤدي دورها الرسالي المنتظر ، في ريادة العالم وقيادة البشرية وإنشاء الحضارة وازدهار الإنسانية .

عبد اللطيف ذياب
21/02/2011, 06:57 PM
بسم الله الرحيم
تحية عروبية وبعد : أهدي لكم كتابي هذا لكم ولكل عربي غيور وأنني متنازل عن افة حقوقي لمن أراد أن ينشره أو يستفاد منه في بحث أو غيره . وأرجوا ان تأخذوه بالقبول ( الجزء الأول )
عبد اللطيف ذياب أحمد
ألف ليلة وليلة والتراث العربي
الإهـداء
إلى كل عربي آمن إيماناً مطلقاً بأصالة تراث الأمة العربية .
إلى كل عربي عمل ويعمل صادقاً على إحياء التراث العروبي الأصيل ، تحقيقاً وطبعاً ونشراً وتوزيعاً ، ليضعه في متناول المثقفين العرب .
إلى المفكر العروبي الحق ، الذي أسهم ويسهم في تقديم الدراسات والبحوث الجادة عن تراث الأمة العربية ، والعمل بإخلاص في سبيل تطهيره من أدران وقاذورات الشعوبية السوداء الحاقدة على كل ما هو عربي ومسلم .
إلى المناضلين العروبيين الذين وهبوا حياتهم في سبيل إعادة العروبة إلى أصالتها وصفاءها ماهوياً ووجودياً وحضارياً .
إلى هؤلاء جميعاً أهدي كتابي هذا ، ومن الله التوفيق .
بسـم الله الرحمن الرحيم
لم تتعرض قضية للتشويه مثلما تعرضت له قضية التراث الثقافي للأمة العربية بشكل عام ، والتراث الثقافي الإسلامي بشكل خاص ، هذا التراث الذي أبدعته الذات العربية من نتاج في كل ميدان من ميادين الدين والأدب والفلسفة والفن والعلم والاجتماع والسياسة والتاريخ والأخلاق ، وغيرها من الميادين الأخرى ، والذي احتوى على كل نوع من أنواع الفكر ، وعلى كل ضرب من ضروب المعرفة ، التي طبعت هذا التراث بطابع خاص ووسمته بسمة خاصة تميزاه عن غيره من التراثات الأخرى .
وقد جاء هذا التشويه على أيدي أعداء العربية والإسلام ، قديماً وحديثاً ، فقديماً عملت الشعوبية ؛ الحاقدة على كل ما هو عروبي ؛ إمكاناتها المتاحة على تشويه تراث الأمة العربية ، وذلك بتحميله كل فاسد ومعارض ومناقض لما هو جيد وممثل للقيم والأخلاق العربية الأصيلة . وحديثاً على أيدي المستشرقين والتغريبيين ، بما حيك حوله من مؤامرات تخريبية هدامة ، كانت قد استهدفت تشويهه ومسخه وتزويره والعبث به وتعطيله .
وليس كتابي هذا في جوهره دراسة أو بحثاً حول الشعوبية أو الاستشراق ، وآثارهما المدمرة على الأمة العربية ، كما أنه ليس بدراسـة تحليلية لحكايات ألف ليلة وليلة ، وإنما هو في حقيقته دعوة عروبية عامة ، وللمفكرين العروبيين خاصة ، أهيب بهم فيها ليقفوا الموقف العروبي الثوري المسؤول اتجاه هذه المؤامرات على تراث أمتنا العربية الأصيل ، والقيام بواجبهم ومسئوليتهم العروبية اتجاه هذا التراث العظيم ، وذلك من خلال استكشافه وإخراجه لحيز النور ، وتحقيقه ودراسته وطبعه ونشره ، وأخيراً فرز وإظهار التراث الشعوبي المتداول على الساحة الثقافية العربية في هذا العصر ، ودراسته وتبيان شعوبيته وخطره على الأمة العربية ، ليتسنى للشعب العربي التعرف عليه واجتنابه .
وأرجوا أن يكون كتابي هذا مساهمة جادة في تحقيق تلك الدعوة ، إذ في ذلك يكمن غرضه الأول والأخير .
وقد اعتمدت في كتابي هذا على نسخة ألف ليلة وليلة المصورة بالأوفست مـن قبل مكتبـة المثنى فـي بغداد عن طبعة بولاق عام ( 1252 هـ) ، واعتمادي على هذه الطبعة بالذات له أسبابه الموجبة وذلك لكون طبعة بولاق تُعتبر من أقدم الطبعات هذا من ناحية ، ومن ناحية أُخرى لكونها تعتبر أصدق طبعة لكتاب ألف ليلة وليلة لم يتلاعب الناشرون والمحققون بها ؛ تصحيحاً وتهذيباً ، كباقي الطبعات الأُخرى .
ويجدر بي هنا تنبيه القارئ الكريم إلى ملاحظة هامة ، وهي أن العبارات والأمثلة التي استأنست بها من كتاب ألف ليلة وليلة ، قد ثبتها على علاتها دون تعديل ولا تحوير ولا تهذيب ، حيث أني تركتها على ركاكتها اللغويـة وأخطائها الإملائية والنحوية ذلك قصد لا أظنه يخفى على القارئ الكريم .
ولقد وزعت مادة كتابي هذا ، على ستة أبواب :
الباب الأول - المدخل : بينا فيه مفهوم الشعوبية بإيجاز ، وبينا فيه مؤامرة المستشرقين على تراثنا العروبي الأصيل ، ثم بينت الأساليب الشعوبية المتبعة في كتاب ألف ليلة لبث سمومها ضد الأمة العربية ، وتشويه كل ما هو عروبي أو يمت بصلة لأمة العرب .
الباب الثاني - العرب في ألف ليلة وليلة : قدمت له لتبيان الصورة الحقيقية للإنسان العربي ، ودوره الفاعل في عمارة الكون ورقي البشرية ، ثم بينت أسباب العداء الذي تكنه الشعوبية لأمة العرب ، الذي حدا بها في هذا الكتاب وأضرابه من الكتب الشعوبية ، أن تجهد نفسها بإظهار العربي بصورة مغايرة ومناهضة ومناقضة لحقيقته الحقة التي جبل عليها ، ثم بينت غايتها من ذلك ، وهي إسقاط هذه الصورة البشعة وتكريسها لدى قارئ الحكايات الشعوبية وإقناعه بأنها هي الصورة الحقيقية لأبناء الأمة العربية .
الباب الثالث _ الإسلام في ألف ليلة وليلة : ويحتوي على مقدمة تبين العلاقة الصميمية بين العروبة والإسلام ، وكيف أن هذه العلاقة كانت السبب وراء عداء الشعوبية للإسلام ، مستمدة عداءها له من عدائها للعرب ، كما بينت فيه كيف أُستغل الإسلام لتشويه الإسلام والعرب معاً ، وذلك عندما صُبغت الحكايات بالصبغة الإسلامية، ومما سهل عليها التجديف على الدين الإسلامي، ولم يسلم من هذا التجديف حتى القرآن الكريم ، وأحاديث سـيد الأنبياء وبني آدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سهل عليها الازدراء بفقهاء وقضاة الإسلام وحياكة الأكاذيب عنهم .
الباب الرابع - الخلق العربي في ألف ليلة وليلة : بينا فيه الترابط الوثيق بين الأخلاق العربية والدين الإسلامي ، ثم بينا عمل الحكايات التخريبي في تشويه المضامين الحقيقية للصفات الأخلاقية التي يتحلى بها الإنسان العربي كالمروءة والنجدة والعرض والشرف ، والقرى والكرم والوفاء والأمانة والإباء والشمم ، والصدق والإخلاص ، وغيرها من الخصال والمحامد العربية البارزة .
الباب الخامس - الحياة العربية في ألف ليلة وليلة : بينا فيه مفهوم الحياة العربية الحقة ، وأظهرت الركائز الأساسية التي تقوم عليها هذه الحياة ، ثم بينت الكيفية التي عملت بها الحكايات لتشويه هذه الحياة عن طريق إسقاط العيوب المرتبطة تاريخياً بأمة أخرى على الأمة العربية ، لتظهر هذه الحياة ترفل بالتحلل الأخلاقي ، مبنية على العنف والجهل قائمة على التواكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة وعدم الشعور بالمسئولية ، متبعة في ذلك التشويه والتزوير والتحريف .
الباب السادس - السلطة العربية في ألف ليلة وليلة : تناولت فيه دور السلطة بالنسبة للدولة ودورها في الحفاظ على الدين والدنيا ، ثم تكلمت عن محاولة الحكايات في تشويه حقيقة السلطة العربية ، وعن أسباب تركيز هجومها الجنوني على بعض أعلام الأمة العربية من أمثال الخليفة هارون الرشيد والقائد العربي أمير العراقين الحجاج بن يوسف الثقفي وغيرهما ، وغاية الحكايات من إظهار حكمة وعدل وسياسة الملوك الفرس ووزرائهم .
تلكم كانت أبواب هذا الكتاب ، تعرضت لها بإيجاز ، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في الكشف عن حقيقة هذا الأثر الشعوبي الأسود ، الذي لا يمت بصلة لتراث الأمة العربية كما أرجو أن يكون هذا الكتاب مساهمة جادة لتحقيق تلك الدعوة القومية التي دعونا لها .
والله ولي التوفيق
عبد اللطيف ذياب - سورية - دير الزور 1428 – 2007
البـاب الأول : المـدخل
الشعوبية حركة عدائية مضادة ، ذات طبيعة عمياء ومقاصد تخريبية هدامة ، تقوم في جوهرها على مناهضة الأمة العربية ، والغض من شأنها والزراية بماضيها ، والفخر عليها بحضارات الأمم الأخرى ، والكيد لدينها الإسلامي الحنيف ، والتواطؤ ضدها تواطؤاً كلياً في كل زمان ومع أَيَّة أمة ودونما أيُّ شرط ، منطلقة بذلك من حقدها الأسود على العرب ، وكراهيتها لهم وهوسها الجنوني بالثأر منهم وتمزيقهم والقضاء عليهم بأي شكل من الأشكال أو وسيلة من الوسائل أو أداة من الأدوات .
وكانت الغالبية العظمى الممثلة للشعوبية تتكون مـن عناصر أعجمية ، وخاصة العناصر الفارسية المجوسية ، الذين عزَّ عليهم زوال ملكهم ، كما عزَّ عليهم ما رأوه من العرب وما آلو إليه من قوة وسيادة وتقدم وحضارة وقيادة وريادة ، فتحركت في نفوسهم المريضة هذه النزعة العدوانية التي تنكرت لكل ما هو عربي، وحطت من قيمته وشأنه ، مع تفضيل كل ما هو غير عربي تفضيلاً كاملاً ، والإعلاء من مكانته وقدره ، وعملت بكل ما في وسعها على تجريد العرب ، من جميع ما يتمتعون به من مزايا وخصال وفضائل ومكارم ومواهب وكفاءات ، وعلى اختلاق الأكاذيب والأباطيل والأوهام ، وتزوير الأحداث والوقائع والحقائق ، وحوك الدسائس والمؤامرات ضدهم ، وعلى الافتراء عليهم ، بتحميلهم النقائص والمثالب والعيوب ، وعلى إغمادهم حقهم في كافة ما قدموه للعالم وللبشرية من خدمات حياتية جُلى ، وأعمال حضارية رفيعة ، وقيم إنسانية مثلى ، وعلى إحلالهم أدنى مراتب الشعوب ، وإنزالهم أحط منازل الأمم ، يقول ابن قتيبة : أعاذنا الله من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد وبغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة ، وتلحق بها كل رذيلة ، وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان ، وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف ، وتغضّ من النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر بالشجا ، وتطرق منه إلى القذى .
وهدف الشعوبية الأول والأخير في عدائها هذا ، هو تقويض الكيان العربي القومي كلياً ، فقد كرست كافة قواها وإمكاناتها ، على تخريب الدعائم الأساسية الأصيلة لهذا الكيان ، والتي تتمثل في الإنسان العربي ، والدين الإسلامي ، ولأخلاق العربيـة ، والحيـاة العربية ، والدولة العربية .
وقد اتخذت الشعوبية في سبيل تحقيق هدفها الأسود ، مختلف المجالات والميادين الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية ، مسرحاً لنشاطاتها التخريبية الهدامة، مبيحة لنفسها إباحة كلية استخدام كافة الأساليب والوسائل والسبل ، لا سيما اللاأخلاقية منها ، من غش ومكر وخداع ، ومن تلفيق وتزوير ، ومن كذب ونفاق ودسيسة ، فوضعوا المؤلفات الكثيرة ، وضمنوها بالكثير من أكاذيبهم وأضاليلهم ، وحاكوا القصص والحكايات التي لا تمت إلى واقع الحال بصلة ، وألبسوها لبوساً عربياً إسلامياً ليتسنى لهم بلوغ مآربهم وغاياتهم الشعوبية .
- 2 -
وقد انطلت هذه الأكاذيب والأباطيل على الكثير من المؤرخين والمفكرين العرب القدماء منهم والمحدثين ، فأخذوها على علاتها وقبلوها بدون أي تحقيق أو تمحيص ، يقول ابن خلدون في ذلك : وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها ، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهِموا فيها وابتدعوها ، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها ، واقتفى تلك الآثار الكثيرة ممن بعدهم واتبعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ، ولا رفضوا تُرهات الأحاديث ولا دفعوها ، فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب قليل ، والغلط والوهم نسيب الأخبار وخليل ، ويقول أيضاً : وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها إلى أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلُّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط .
ومن هنا قسم التراث العربي إلى قسمين متمايزين ، التراث الثقافي العروبي الأصيل ، والتراث الشعوبي الهجين ، فالأول استمد مادته من صلب الفكر العروبي للأمة العربية ، والذي كان مطابقاً مطابقة كلية لخصائص وسمات الأمة العربية ، أما الثاني فهو التراث الذي استمد مادته من مصادر فكرية غريبة فارسية على الخصوص ومن هندية ويونانية ورومانية وغيرها ، والذي من ثم كان مبايناً ومناقضاُ ومناهضاً تماماً لخصائص وسمات الأمة العربية.
ومثل هذا التراث الشعوبي الشاذ ، أصبح هو التراث الأثير بل الأثير جداً لدى المستشرقين اليوم ، ولدى أتباعهم من التغريبيين ، فقد اعتنوا بهذا التراث الشعوبي الأسود عناية فائقة ، وأجهدوا أنفسهم في البحث عنه واستكشافه وتجميعه ، ومن ثم تحقيقه وطبعه ونشره وتوزيعه ، وصنعوا الدراسات الواسعة والدقيقة والبحوث المستفيضة عنه ، وبالغوا كثيراً في تعظيمه وإعلاء شأنه ، ذلك ، لا لكونه ذا قيمة فكرية مميزة أو أهمية معرفية بالِغة أو مكانة علمية دقيقة ، وإنما لشعوبيته فقط ، هادفين من وراء ذلك إظهاره على التراث العروبي الأصيل وتغليبه عليه ، وبالتالي هادفين إلى جعله أداة من أدوات تخريب الفكر العربي الحديث .
- 3 –
وحكايات ألف ليلة وليلة ، في طليعة هذا التراث الشعوبي الشاذ ، الذي نال الأثرة والمكانة المرموقة لدى المستشرقين ولدى أتباعهم من التغريبيين، فجعلوها قبلة أنظارهم ومدار عنايتهم منذ أن ترجمها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان في بداية القرن السابع عشر ، يقول الدكتور فليب حتي عند كلامه عن أدب العرب في العام الألف الميلادي : ومن أدب هذه الحقبة انتقى الغرب كتاباً واحداً أولاه اهتمامه هو كتاب ألف ليلة وليلة وأصله قصص فارسية قديمة نقلها إلى العربية الجهشياري المتوفى عام 942 ، إلا أن القصاصين المتعاقبين أضافوا إليه قصصاً أُخرى كثيرة ، كما أضافوا اسم بطلة هذه الرواية،شهرزاد، وعلى تعاقب الأجيال أُلحقت بهذه المجموعة حكايات كثيرة جديدة ، من مصادر لا تحصى ، هندية ويونانية وعبرانية ومصرية وشرقية مختلفة الصفات والألوان 00 والواقع إن الإقبال على هذا الكتاب هو في الغرب أكثر منه في الشرق (5) .
وأجهد المستشرقون أنفسهم في البحث عنها واستكشافها وتجميعها ، تقول سهير القلماوي في ذلك : لم يقتصر هم الغربيين على نقل هذا الأثر إلى لغاتهم وإنما أنتجت تلك التراجم المتعددة آثارها العلمية والأدبية ، وكان أهم ما شغل بالهم البحث عن أصل ألف ليلة وليلة وفي ذلك اتجه البحث ناحيتين هامتين ، الأولى هي محاولة اقتناء النسخ المختلفة لعلهم يصلون إلى الأقدم ، فعثروا على نسخ مختلفة متعددة ، والثانية هي البحث النظري عما قد يكون أصلها (6) ، وحيث بذلوا كل ما في وسعهم من أجل تحقيقها وطبعها ونشرها وتوزيعها ، فقد طبعت من قبلهم كثيراً (00ويكفي أن نعرف أن الليالي طبعت أكثر من ثلاثين مرة مختلفة في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر وحده ، وإنها نشرت نحو ثلاثمائة مرة في لغات أوربا الغربية منذ ذلك الحين وقد انتشرت انتشاراً واسعاً في أوربا وأمريكا ، بحيث غدت لا تخلو مكتبة عامة ولا خاصة منها ، وليس هذا إلا بفصل الهالة الدعائية التي أُحيطت بها .
وحيث انكبوا طويلاً على وضع الدراسات الواسعة الدقيقة والبحوث الشاملة المستفيضة عنها ، وحسبنا أن نعرف أن أول من نبه إلى وجود الحكايات وأول من انفرد بدراسة هذا الأثر الشعوبي الأسود،هم المستشرقون ، وقد أظهروا هذه الحكايات في دراساتهم على أنها الصورة التأريخية الصادقة للمجتمع العربي الإسلامي ، وما كان عليه أصل هذا المجتمع من طبائع وعادات ، وما كان لأهله من أخيلة وأفكار ، وعقائد وآراء ؛ ومصداقاً على ما نقول ؛ ما نراه واضحاً عند المستشرق الإنكليزي ( لين ) حيث جمع ما علق به على ترجمته لحكايات ألف ليلـة وليلـة بكتاب كبير وسمه باسم ( المجتمع العربي في القرون الوسطى ) (7) ، بل أنهم قدموا هذه الحكايات ، لقرائها ، على أنها هي الشرق الإسلامي بعاداته وأخلاقه وأديانه ، وأنها الصورة الصادقة له ، فمن قرأ كتاب ألف ليلة وليلة ، فكأنما قد رحل إلى الشرق الإسلامي ، فسمعه ورآه ولمسه لمس اليد ، هذا مما سهل أكثر على انتشار هذا الكتاب في أوربا الاستعمارية الطامعة في بلاد العرب والمسلمين .
وحيث بالغوا كثيراً في تعظيمها والإعلاء من شأنها ، حتى وصفها الباحثون والمصنفون ؛ من المستشرقين ؛ بأنها الممثل والمعبِّر الوحيد والأصيل عن التراث العربي الإسلامي، ووضعوها ضمن شوامخ إبداعات البشرية قاطبة.
إن هذه الهالة الضخمة عن ألف ليلة وليلة لم يصنعها المستشرقون حباً بالأمة العربية وتراثها الثقافي ، وإنما لغاية استعمارية بحتة ، قاصدين من فعلتهم هذه ما يلي :
أولاً – دفع الإنسان العربي إلى ارتكاب الآثام وعدم الالتزام بالفرائض ، وإلـى تحريضه علـى اقتراف الموبقات ، لأن فـي
ذلك ، إسقاط لإنسانية الإنسان وهدماً للمجتمع ، لأن الفرد المتحلل من روابط المجتمع ومن مقوماته وقيمه وأخلاقه ، غير قادر على تحمل مسؤولية التفاعل الحضاري ، إذ أن عملية التفاعل الحضاري تقتضي الشعور بالمسؤولية والالتزام بقيم المجتمع وأخلاقه والارتباط به ارتباطاً عضوياً ، والتمسك بمثله والانتماء الواعي له ، والعمل وفقاً للمصالح المشتركة بينه وبين مجتمعه .
ثانياً - النفاذ إلى عقول ونفوس أبناء الأمة العربية ، رجاء أن يشوهوا في أعماقهم صورة أمسهم،ويطفئوا نوراً لهم أضاء للبشرية طريقاً وسط الظلمات ، وحتى يقنعوهم ؛ أخيراً ؛ بأن بقاءهم في عالم اليوم رهن بتنكرهم لعروبتهم وعقيدتهم الإسلامية ، وتعلقهم بركاب الغرب " رسل الحضارة وسادة العصر " ، وإذ ذاك يهون عليهم أن يروهم يستبيحون حماهم ، وينهبون خيراتهم ، ويقومون أوصياء عليهم ، يأخذون بأيديهم نحو التمدن الاستعماري الكاذب .
ـ 4 ـ
هذه هي الشعوبية ، وهذه هي بعض من أعمالها التي استهدفت الإنسان العربي وكل ما يتصل بهذا الإنسان من قيم كبرى ، وهذا هو الاستشراق نصير الشعوبية الأول ومحيي آثارها السلبية السوداء ، في سبيل تخريب أمتنا العربية المجيدة ، وفي تعطيل مسيرتها الحياتية الحقة ، وفي الحيلولة بينها وبين أن تؤدي دورها الرسالي المنتظر ، في ريادة العالم وقيادة البشرية وإنشاء الحضارة وازدهار الإنسانية .

الجزء الثاني

الباب الثاني
العرب في ألف ليلة وليلة

يتمتع الجنس العربي بعظمة كونية فريدة ، لا تكاد تدانيها عظمة جنس آخر من الأجناس على الإطلاق ، فقد كان لهذا الجنس من الفضل الحضاري على البشرية والعالم والتاريخ ما يزيد أضعافاً مضاعفة على جماع ما لبقية الأجناس الأخرى من أفضال ، منذ القدم وحتى يومنا هذا ، وقد تأت هذه العظمة الكونية الفريدة ، من كونه الجنس النادر ، الذي تسنى له أن يحقق ذاتيته القومية الإنسانية المثلى بكل تمامها الماهوي والوجودي الحق ، فامتلك بذلك سر الحياة والعالم ، وبالتالي امتلك روح الأبدية وناموس الوجود .
وقد قضى الله بحكمته الإلهية ، لهذه الأمة المباركة بأن تكون خليفة الأمم حينما قدر لها أن تكون خير أمة أُخرجت للناس ، فحباها الله بمكانة فريدة بين أمم الأرض ، فريدة بأخلاقها وشرفها ومزاياها وكرم أرومتها وعزة مجدها وسبق حضارتها .
فقد تمتعت الأمة العربية بمزايا تؤهلها لأن تؤدي خلافتها الأممية هذه على أكمل شكل ، فتمتعت بملكات وقابليات أوليـة ممتازة ، وبمقومات ماهويـة أصيلة ، وخصائص ذاتية رفيعة ، وبسمات كبرى ثابتة ، حيث غدت بجدارة واستحقاق الأمة المثال ، وبالتالي الأمة المستخلفة .
إذاً ، لم يختر الله سبحانه وتعالى أمة العرب بالذات لحمل رسالة السماء دون سواها ، ولم يختر محمداً رسولاً منهم ، لمجرد الصدفة أو لأسباب عفوية ؛ كما يقول الحاقدون ؛ ولم يخصهم الله بها لأنهم أحوج من غيرهم إلى الإصلاح؛ كما يقول الشعوبيون ؛ بل لأن أمة العرب قد حباها الله بأجمل الصفات وخير العادات ، التي جعلت منها أمة بزت قرائنها وصيرتها خير أمة أخرجت للناس ، فاختارها ربها لحمل رسالته الإلهية دون سواها من أمم الأرض .
وقد شاءت عناية الله تعالى أن يجعل الأمة العربية الوارثة لرسالة السماء المنزلة على الرسل والأنبياء ، أي جعلها منبت الأنبياء والرسل ومستقر الكتب السماوية، والعروة الوثقى بين الأرض والسماء وبين البشرية والألوهية، ومناط الخلافة والولاية ، واختيرت لغتها العربية لساناً لأشرف وأكمل رسالة إنسانية جاءت لتحرير البشرية من نير العبودية والجبروت والطغيان ، واختير أحد أبنائها لحمل أشرف رسالة وأقدس عقيدة ، تلك هي رسالة الإسلام وعقيدة التوحيد والإيمان ، وكانت مهبط الوحي الإلهي يهبط في أرضها الطاهرة ، كل هذا كان هو الأمر الذي أقامها رائداً وقائداً للبشرية والعالم ، وحامياً وصائناً للحياة والوجود، ومن ثم الأمر الذي أصبحت به بمكانتها الأممية الرفيعة ، ومن ثم أهلاً لقول الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}(1) .
ومن آيات التكريم للأمة العربية وللجنس العربي ، قول الله سبحانه وتعالى : { وأنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }(2) ، ومعنى الذكر هنا الشرف ، وكذلك قوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم }(3) أي إبقاء شرفكم ببقاء القرآن الكريم المعجزة الإلهية الخالدة، وقوله تعالى: {كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }(4) .
إذاً ، كانت شأنية العرب في الإسلام كما يقول العلامة عزة دروزة (5) : شأنية حامل الراية ، الراعي الأمين المسؤول عن رعيته ، المرشد الهادي الشفيق البار الودود الرحيم ، الولي النصير الذي يسير نحو كل خير وصلاح ويقتدي الناس به ويسيرون وراءه وهم
متساوون معه في كل حق وواجب متحلياً بما تحلى به رسول الله
محمد العربي عليه الصلاة والسلام .
ولقد حز ؛ ما وصل إليه العرب من مكانة أممية رفيعة ومن ريادة وقيادة ومن قوة ومنعة ؛ في قلب الشعوبية عدوة العرب الأولى ، حتى أكل الحقد قلوبهم وتأصل الغلّ في أعماق نفوسهم المريضة ، فعمدوا إلى عداوة العرب ، أمة وحضارة وديناً ، ومحاربتهم في كل ميدان ، وبكل الوسائل والأساليب اللاأخلاقية منها ، محاولين إنزالهم من مكانتهم الأممية المرموقة ؛ التي حباهم الله تعالى بها ؛ إلى الحضيض ، وذلك بتحميلهم المثالب والنقائض وإظهارهم بمظهر حيواني لا همَّ لهم إلا إشباع غرائزهم الدونية ، وبمعنى آخر ، إظهار العرب بمظهر يناقض ويناهض ما هم عليه في الحق والحقيقة ، ويعارض معارضة كلية كل ما يتمتعون به من صفات وخصائص ومثل وسمات وقيم عليا .

ـ 2 ـ
ولقد عملت حكايات ألف ليلة وليلة على مسخ الصورة الإنسانية المثلى التي يتحلى بها الإنسان العربي ، حيث حاولت جاهدة على إظهاره بصورة مغايرة ومناهضة ومناقضة لحقيقته الحقة التي جبل عليها ، وغايتها من ذلك طمس وإلغاء هذه الصورة الرائعة للإنسان العربي ، وتكريس الصورة البشعة التي رسمتها له في ثنايا حكاياتها لدى قارئ هذه الحكايات الشعوبية ، وإقناعه بأن هذه الصورة الأخيرة هي وحدها الصورة الحقيقية لأبناء الأمة العربية ، وذلك لكون الإنسان يمثل الدعامة الأساسية ، بل الوحيدة ، لأي أمة من الأمم ولا وجود للأمة بدون الإنسان ، وبما أن الإنسان في الأمة هو الممثل الحقيقي لذاتية الأمة ؛ التي ينتمي إليها ؛ ولسماتها وخصائصها تمثيلاً كلياً موجباً ، وبما أنه هو منشئ هذه الذاتية ومالكها وحاملها ومكرسها خلقياً وسلوكياً وفعلاً وعملاً ، فإن أي إنقاص أو تشويه للدعامة الأساسية ؛ التي هي إنسان الأمـة ؛هو في حد ذاته إنقاص وتشويه للأمة نفسها .
إذن نستطيع القول ، أن الغاية الأساسية التي قصدتها الحكايات في رسم هذه الصورة الكاذبة والمزورة للإنسان العربي ، هي النيل من المكانة الرفيعة التي تحتلها الأمة العربية بين أمم الأرض قاطبة ، ومن ثم سلبها هذه المكانة القيادية الرائدة ، وأخيراً العمل على تدميرها من الداخل ، ليتسنى للشعوبية القضاء عليها قضاءً مبرماً .
وقد عمدت هذه الحكايات الشعوبية في الوصول إلى بغيتها ، قلب الحقائق وافتراء الأكاذيب ، وذلك بوضع المضامين اللاأخلاقية للصفات التي تغنى وافتخر بها العربي كثيراً منذ أن صار ووجد ، حيث كانت هذه الصفات بمضامينها الشعوبية التي حاكتها وافترتها الحكايات ، تغاير وتناهض وتناقض الصفات التي جبل عليها هذا الإنسان المثال .
فالشجاعة التي كادت أن تكون غريزة من غرائزه الفطرية ، هذه الغريزة التي بنيت وهذبت على الأخلاق والمروءة والفروسية ، أصبحت في كتاب ألف ليلة وليلة ، قتل وسفك دماء ، ونهب وسلب ، ولصوصية وقطع طريق .
والوفاء بالعهد الذي هو من صلب أخلاق العرب التي كانوا يتمادحون بها ويعيبون من خالفها ، والذي كان عندهم ديناً يتمسكون به ويستهينون في سبيل الوفاء بالعهد قتل أولادهم وتخريب ديارهم ، أصبح في الحكايات ، غدر وخيانة .
والعفة التي اشتهر بها العربي على مر العصور وعمل بها قولاً وفعلاً ، أصبحت صبوة عارمة إلى النساء ولواطـة في الغلمان . والصدق صار كذبـاً وزوراً واحتيال .
ولم يفت الحكايات بأن تعمل في الصفات التي عجزت عن إيجاد مضامين لا أخلاقية لها للصقها بالعرب ؛ وذلك لمعرفة النائي والداني بأنها صفات ذاتية عربية محضة ؛ لم تنس بأن تنسب هذه الصفات للفرس ، وبأنها موجودة ومتأصلة في نفوس الفرس أكثر مما هي موجودة ومتأصلة في نفوس العرب ووجدانهم ، فالفراسة أصبحت للفرس متمثلة بفراسة أبي نواس ، ذلك الفارسي الشعوبي الماجن ، والكرم والمروءة لبني برمك رأس الشعوبية الحاقدة .
وعلى هذا المنوال ، غزلت الحكايات غزلها الشعوبي الأسود في النيل من الأمة العربية ، وتشويه الصفات الأخلاقية التي تحلت بها منذ أن وجدت ورافقتها في صيرورتها الحياتية الإنسانية وهي تبني ذاتها القومية المتفردة .
وكان حصيلة ما تقدم ، أن الحكايات نجحت في إظهار أبناء الأمة العربية على درجة كبيرة من الانحطاط الإنساني ، ولم يكونوا حتى في مستوى الشطار الذين تحمست لهم الحكايات كثيراً ، بل تحمساً لا مثيل له ، فقد نفت عنهم كل ما يعيبهم ، وذلك بإظهارهم بمظهر بطولي نادر وشجاعة فائقة ، فهم يردّون المسروقات التي سرقوها إلى أصحابها لأنهم لا يريدون شراً لأحد وهم لا يقتلن ولا يؤذون إيذاءً بليغاً .
أما العرب فصبت عليهم ؛ الحكايات ؛ حقدها الشعوبي الأسود ، فهم عامل إضرار بالنظام والأمن دائماً وأبداً،يسرقون ويقتلون ضحاياهم بوحشية ، لا إظهاراً للشجاعة والبأس ، بل تكسباً مما يسرقون ، وتشفياً ونهباً ممن يقتلون.
لذلك نجد الفرق شاسعاً بين صورة أحمد الدنف وعصابتـه
من الشطار ومن كان على شاكلتهم من أراذل القوم ، وبين صورة أيُّ عربي ذُكر في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، هذا يحاط بالإعجاب والمحبة ، وذاك يحاط بالسخرية والتندر والكره .
ـ 3 ـ

إن من أول الصفات التي تناولتها الحكايات بالتشويه والتزوير هي الشجاعة ، التي تكاد أن تكون من صفات العرب الغريزية ، وسجية من سجاياهم الطبيعية ، قد شهدت لهم بها تواريخ الأمم ، واعترفت بـها لهم ألسـنة العرب والعجم ، وقـد امتلأت كتبهم وأشعارهم بالتغني بهذه الصفة الحميدة الأثيرة على قلوبهم ، ورحم الله شاعرهم حين قال : (1)
فدت نفسي ومـا ملكت يميني
فوارس صدقت فيهم ظنونـي
فـوارس لا يملـون المنـايـا
إذ دارت رحى الحرب الزبون
ولا يجزون مـن حسن بسيء
ولا يجزون مـن غلظٍ بليـن
ولا تبلى بسـالتهم وإن هـم
صلوا بالحرب حيناً بعـد حين
هم منعوا حمى الوقبـى بضرب
يُؤلف بيـن أشـتات المنـون
فنكب عنهم درء الأعـادي
وداووا بالجنون مـن الجنونـي
ولا يرعون أكناف الهوينـي
إذ حلّــو ولا أرض الـهدون
فهم ، في وطيس الوغى أسوداً لا يهابون المنايا ، يقتحمون لضى نار المعارك اقتحاماً ، لا يهابون إلا من كلمة
عر تلحق بهم إن هم عنها أحجموا فالموت عندهم أرح من قول فلاناً جباناً أو خواراً عند لقاء الأعداء ، يقول العباس بن
مرداس (2) :
أشد على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها
ومثل هذا الشعر الدال على شجاعتهم وبسالتهم وإقدامهم ، كثير جداً امتلأت منه بطون الكتب الأدبية .
أما كيف كانت هذه الشجاعة وكيف كان مضمونها في حكايات ألف ليلة وليلة ، فشيء مغاير للحقيقة تماماً ، بل تبعث على التقزز والنفور ، فهي تعني في هذه الحكايات الشعوبية ، القتل وسفك الدماء البريئة وقطع الطريق والسلب ونهب أموال الآمنين .
فالعربي ، قاطع الطريق سالب أموال الناس خاطف الصغار الأبكار ، هو هكذا ، أيما وجد وأينما حلّ في أحداث الحكايات ، ولا يمكن أن يكون غيره قاطع طريق ، فكل قاطع للطريق وكل قاتل أو سارق أو خاطف ، في أي مكان ، في بلاد العرب أو بلاد العجم ، في المدن الحقيقية أو في المدن الخرافية التي ابتدعتها الليالي وفي أي زمان ،في العصور الغابرة أو العصور المعاصرة للحكايات ، لا يمكن ولا يجوز ؛ برأي من وضع الحكايات ؛ إلا أن يكون عربياً بأي حال من الأحوال .
وهو ، أي العربي ، يقوم بهذه الأعمال الخسيسة ليبرهن على شجاعته ومقدرته في الحصول على رزقه بالقوة ، مثله مثل الحيوان في الغابة ، ففي حكاية الصعلوك الثاني من حكاية الثلاث بنات ، نرى أن العرب قد قطعوا عليه الطريق ونهبوا أموال القافلة [ وإذا بغبار قد علا وثار حتى سـد الأقطار واستمر ساعة من النهار ثم انكشف فبان من تحته ستون فارساً وهم ليوث عبوس فتأملناهم وإذا هم عرب قطاع طريق 00 ثم أنهم قتلوا بعض الغلمان وهرب الباقون وهربت أنا 00 واشتغلت عنا العرب بالمال والهدايا التي كانت معنا ] (1)
وكذلك أظهرت حكاية مزين بغداد ، هدف العربي من قطع الطريق ، هو حصوله على المال ، يقول المزين [ 00 فلما خرج أخي من البلد هارباً فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه وصار الذي أسره يعذبه ويقول له لله اشتر روحك مني بالمال وإلا قتلتك ] (2)
والعربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، يفتخر بعمله هذا ، ولا يتردد في التبجح بذلك دون حياء أو خجل [ 00 اعلموا أني رجل بدوي واقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات الأبكار وأبيعهم للتجار ] (3)
فغدا العربي في الليالي رمز للوحشية وسفك الدماء ، فيجب الحذر منه كل الحذر ، فأصبحت خير وصية يوصي بها الوالد ولده العازم على السفر أن يأخذ حذره من العرب قطاع الطريق ومزهقي الأرواح ونهابي الأموال ، فهذا والد علاء الدين يوصيه بقوله [ أخاف عليك من غابة في طريقك تسمى غابة الأسد وواد هناك يقال له وادي الكلاب فإنها تروح بها الأرواح بغير سماح ، من بدوي قاطع طريق يقال له عجلان ](1) ولا ينسى مقدم القافلة التجارية من أن يحذر مرافقيه في القافلة من هؤلاء العرب وخشيته عليهم وعلى أموالهم [ يا ولدي أخشى عليك وعلى مالك من العرب ](2)
وليس هذا فحسب ، بـل أظهرت الحكايات الانطباع العام لدى جمهور الناس حول الأعمال اللصوصية التي يقوم بها هؤلاء العرب ، والجرائم اللاإنسانية التي ينفذونها ضد أرواح الناس وأموالهم وحرماتهم ، بدون أي رحمة أو شفقة ، حيث لم يعد للمسافر هاجس يفكر به إلا خوفه من أن يصادف العرب في طريق سفره فيكون بذلك إزهاق روحه وضياع أمواله ، ولا يشغل قلب الأم على ولدها والزوجة على زوجها ، الغائب عن بلده في سفر ، وتأخر في المجيء ، إلا من أن قد وقع بيد العرب فأفقدوه حياته ، حتى أنها تتمنى لو أنها استطاعت أن تمنعه من السفر لتجنبه هذه النهاية .
لقد نجحت الحكايات نجاحاً كبيراً في سلب العربي صفة الشجاعة ، وأن المطلع على هذه الحكايات ليقف مشدوهاً بين أن يكذب أو يصدق هذا التزوير والبهتان ، فإن كذّب هذا التزوير
والتهويش ، فإنه لا ينجو أبداً من الشك بشجاعة الإنسان العربي
وذلك من كثر ما أوردت الحكايات هذه الشجاعة بصورتها المزورة المكذوبة في كثير من أحداث حكاياتها (1)




ـ 4 ـ

وكما عملت الحكايات ، بشجاعة العربي تشويهاً وتزويراً ، حاولت أن تشوه وفاء العربي الذي امتاز به ، بل أن الوفاء بالعهد كان وما زال سجية من سجايا العرب الكريمة ، ومن أخلاقهم الفاضلة التي يتمادحون بها ويعيبون من خالفها ، فقد كان الوفاء بالعهد عندهم ديناً يتمسكون به ويستهينون في سبيله قتل أولادهم وتخريب ديارهم ، ورحم الله شاعرهم حين قال :
سأرعى كل ما استودعت جُهدي
وقـد يرعى أمانتـه الأمين
وذو الخيـر المؤثـل ذو وفـاءٍ
كريـم لا يـمل ولا يخـون
لقد رأوا في الوفاء أخو الصدق والعدل ، وعُرِفوا به كما عرفوا بالشجاعة والإباء ، فهم أوفى بالوعد، لأنهم ما نقضوا لمحافظ عهداً ، كما أنهم عدّوا الغدر من كبائر الذنوب ، لأنه في نظرهم نسيبٌ للكذب والظلم والجور وصاحبه من أراذل الناس وأخسهم نفساً ، ذلك لأن الوفاء عندهم صدق باللسان والفعل معاً ، والغدر كذب بهما معاً ، وفيه مع الكذب نقض العهد ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى العهد من الإيمان وصيره قواماً لأمور الناس ، فاحتقر العرب الغادر كل الاحتقار ، حتى أنهم كانوا إذا غدر منهم غادر يوقدون له بالموسم ناراً وينادون عليه ويقولون فلاناً غدر ، وبذلك يقول الغادر الغطفاني :(1)
اسمي ويحك هل سمعت بغدرةٍ رُفِعَ اللواءَ بها لنا في الجمع
فالعربي لا يخون أبداً ، وكيف له أن يخون والموانع أمامه كثيرة جداً ، موانع في ذاته وفطرته ، وموانع في خَلقه وخُلقه ، وموانع من عاداته وتقاليده ، وموانع من بيئته ومجتمعه ، فكيف إذ هو أقسم اليمين على العهد ؟ فحتماً عندها يفضل الموت على أن يخون ، والموت عنده أرحم ألف مرة من أن يوصف بالغدر يقول الشاعر(2)
ثقي مني وتقنعك اليميني بأني لا أمل ولا أخون
وأني حافظ العهد راعٍ وفيّ العقد مؤتمن أمين
أما وفاء العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو بعكس ما عرف به تماماً ، فالعربي خائن للعهد لا وفاء له ، ومن أين لقاطع الطريق وخائن الرفيق وصاحب المكر والحيّل (1)، من أين لمن يتصف بمثل هذه الصفات أن يأتيه الوفاء ، فهو لا أمان له ولا وفاء لعهده مهما أقسم وأغلظ في القسم على أنه لا يخون من عاهده ، حتى لو كان الأخير قد أنقذ حياته من موت محقق وأغرقه بعدها بالإكرام والإحسان ، لأن العربي قد جبل على الخيانة جبلاً ، لا حياة له ولا وجود إلا بها، ؛ هكذا وصفته الحكايات ؛ ففي حكاية عباد بن تميم بن ثعلبة تظهر خيانة العربي ولؤم معدنه ودناءة نفسه ، فبعد أن يعفو عباد عن البدوي حماد ، الذي أراد أن يتزوج أخته طوعاً أو يقتله ويأخذها غصباً ، مستغلاً وجود عباد وأخته منفردين في الصحراء لوحدهما ، بينما كان البدوي في صُحبة ثلة من صَحبِه ، وتقوم الحرب بين عباد وبين جماعة البدوي حماد ، وينتصر عباد عليهم جميعاً ، وعندما يصل الدور في النزال إلى حماد ويُصرع بلحظات ، يتعلق بأذيال عباد المنتصر ، متوسلاً أن يعفو عنه ، ويفعل عباد ويدفع بحماد إلى أخته قائلاً لها : [ 00 دونك وإياه واحسني مثواه لأنه دخل في ذمتنا ] وبعد أن يستأنس عباد بالبدوي حماد يحلفه أن لا يخونه [ ونادمني وحلفني أن لا أخونه فحلفت له ألفاً وخمسمائة يمين أني لا أخونه قط ، بل أكون له معيناً ] ، فيثق عباد بحماد ويزيد في إكرامه فيخلع عليه الخلع ويهديه ناقة من أحسن النوق محملة بالتحف الثمينة والزاد الوفير ، ويهديه معها حصان أصيل ، وينوي في قرار نفسه أن يزوجه من أخته ، ولكن غريزة الغدر بالعهد التي يتحلى بها عرب كتاب ألف ليلة وليلة ، تأبى عليه إلا أن يخون ويغدر بمن عاهده ، فيقتل البدوي غريمـه النائم ويسـلبه ما يملك [ 00 وبعد ثلاث أيام قال لي يا أخي حماد أريد أن أنام قليلاً لأريح نفسي وقد استأنستك على نفسي 00 ثم توسد سيفه ونام فلما استغرق في النوم وسوس إلي إبليس بقتله فقمت بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه وضربته ضربة أطاحت برأسه عن جثته ](1) .
ونجد غدر العربي وخيانته وعدم وفائه بالعهد ، في حكاية عجيب وغريب ، بل نجد مقارنة ماكرة وخبيثة بين غريب ومرداس ؛ مقارنة شعوبية صرفة ؛ فغريب ذو الأصل الأعجمي ، يظهر في هذه الحكاية مثال للوفاء والشجاعة والبطولة والذكاء ، يقابل مكر وغدر واحتيال مرداس بالصفح والتسامح ، لا لشيء إلا وفاء لمرداس على قيامه في تربيته وتنشئته ، أما مرداس ذلك العربي ، أمير بني قحطان ، فهو رمز للغدر والخيانة ، فلا وفاء لـه ولا ذمام ، خوار جبان عند اللقاء ، يكافئ غريب على تخليصه مهدية ابنته الوحيدة من عار السبي الذي أصابها، عندما يتعرض قومها للغزو من قبل أعداء القبيلة ، بمحاولة قتله والتخلص منه ، وعندما يقع مرداس بشر أعماله ويقع أسيراً بيد أعدائه، عندما كان يكمن لغريب مع عدد من فرسان قبيلته لتنفيذ ما عزم عليه ، أي قتل غريب لم يجد أحداً يخلصه من هذا الأسر إلا غريب ، فيقسم مرداس وهو في قيود الأسر واعداً غريب بأن يزوجه من ابنته مهدية إن هو فك أسره ، [ 00 وحق ما أعتقده هي لك على طول الزمان ] ، وبعد أن يتخلص مرداس من ذل قيد الأسر ويأخذ له غريب بثأره من أعدائه ويعود إلى حمى قبيلته معززاً مكرماً ، لا يزيده عمل غريب الذي عرض حياته للخطر من أجله إلا بغضاً على بغض وحقداً على حقد، وعندما يطلب غريب من مرداس تنفيذ ما وعده به ، بتزويجه من مهدية ، يظهر غدر مرداس وخسته مرة أخرى ، حينما يطلب من غريب مهراً فيه موته المحتم ، ذلك عندما يكذب على غريب بأن له ثأراً ، وأنه قد أقسم بأنه لا يزوج ابنته إلا ممن يأخذ له بثأره من العملاق الساكن في وادي الأزهار ، وقصد مرداس من هذا الطلب قذف غريب في مهاوي الردى ، ليتخلص منه إلى الأبد ، لأن العملاق مارد لا يقدر عليه أحد (1).
ـ 5 ـ
وتتابع الحكايات كذبها وزيفها في سبيل الوصول إلى غايتها الشعوبية في تشويه الصفات النبيلة للإنسان العربي ، فبعد أن رأينا كيف عملت على تشويه صفتي الشجاعة والوفاء ، سنرى هنا ، كيف عملت على تشويه صفة أخرى لها مكانتها وقدسيتها لدى الإنسان العربي ، ألا وهي الصدق ، الذي لم يحب العربي شيئاً كحبه لهذه الصفة الفاضلة ، فتحلى العرب ؛ كل العرب ؛ بها وتخلقوا بمحاسنها ، وحثوا عليها وأوصوا أبناءهم ومحبيهم بالتمسك بها ، فكثر ذكر الصدق بأقوالهم وأفعالهم ، وحكمهم ومواعظهم ، وأمثالهم وتعريضهم ، وخطبهم ووصاياهم ، ونثرهم وشعرهم ، قرنوا الصدق بالوفاء والكذب بالغدر ، أحبوا الصدق حبهم للحياة ، حتى كادت ألسنتهم أن تكون وقفاً عليه من كثر ما لهجت به وبجلته ، يقول الشاعر في ذلك :
وألسنهم وقف على الصدق والوفا
وإيمانهم وقف على القصد والنعمى
قد كرهوا الكذب وحذروه ونبذوه ، لأنهم وجدوا فيه جماع النفاق وعار لازم وذل دائم ، فلا يكذب إلا من ل أصل له ولا نسب ، ومن ساءت طبيعته وطبعه ، المطعون بِخُلقه وشرفه ، المهان بين الناس ، يقول شاعرهم :
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الورع
هذا هو العربي ، صادق بطبعه وطبيعته ، صادق بسلوكه ومسلكه ، صادق بقوله وفعله ، وصدقه هذا نابع من صفاء سريرته التي اكتسبها من صفاء بيئته وتربيته الصحراوية ، ومن صفاء السماء التي تخيم عليها ، نافر من الكذب مستهجن له ، محتقر كل من يتصف به ، نابذ له وكاره ، لأن الكذّاب في عرفه من أراذل الناس وأخسهم نفساً ونسباً .
لكن الحكايات ؛ هذه الحكايات المغرقة بأوحال الشعوبية ؛ أبت إلا أن تظهر الإنسان العربي بمظهر الكاذب الأفاك الذي لا يعرف معنىً للصدق ولا مكان له في نفسه ، مجبول بفطرته على الكذب والزور والبهتان ، يكذب لغاية دنيئة في نفسه ، ليحقق من وراء كذبه منفعة أراد الحصول عليها ، فهو يكذب على نزهة الزمان [00 إني رزقت بنات مات لي منهن خمسة وبقيت واحدة وهي أصغرهن وأتيت إليك لأسألك هل أنت من أهل هذه المدينة أو غريبة لأجل أن آخذك وأجعلك عندها لتؤانسيها فتشتغل بك عن الحزن على أخواتها فإن لم يكن لك أحد جعلتك مثل واحدة منهن وتصيرين مثل أولادي ] (1) وما كذبه هذا ، على هذه الفتاة المسكينة إلا ليصل إلى بغيته الخبيثة ، ليخطفها ومن ثم يبيعها بسوق النخاسة لأنه [00 كان البدوي قاطع طريق وخائن الرفيق وصاحب مكر وحيل ولم يكن عنده بنت ولا ولد ] (2).
والحكايات التي تطعن بصدق العربي كثيرة جداً في الحكايات ،تظهر مبثوثة هنا وهناك وبكثير من المكر والخبث ، ولم يسلم من هذا الطعن الزائف الجائر حتى الخاصة من العرب وأعلامهم وقادتهم ، فهذا القائد العربي العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، أمير العراقين ، وأحد الأركان الأساسية لدولة بني أمية العربية ، وحاصد رؤوس الشعوبية ومثبت عروبة العراق ، يكذب إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ، وذلك عندما يسـرق الجاريـة ( نغم ) بخدعة دنيئة قد دبرها مع أحد العجائز الماكرات ، ويرسلها لعبد الملك إلى دمشق مدّعياً في رسالته بأنها جارية اشتراها بمبلغ كبير من المال[00فقالت أخت الخليفة يا أمير المؤمنين أن هذه الواقفة هي نغم المسروقة سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأرسلها لك وكذب فيما ادعاه في كتابه من أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار ](3) . وغاية الحجاج من هذا العمل ؛ كما تقول الحكاية ؛ التقرب ومداهنة الخليفة ليحافظ على إمارته ومركزه بالدولة ، وكأنما الأعمال البطولية العظيمة ، والانتصارات الرائعة التي حققها على أعداء الدولة الأموية العربية ، والفتوحات الواسعة التي تمت على يديه ، والتي أثبتت جدارته ومقدرته القيادية الفذة ، لا تكفي بكسب ثقة الخليفة به ، بل يجب عليه أن يحتال ويكذب ويسرق لكسب هذه الثقة .
هكذا وبكل وقاحة ، أظهرت حكايات ألف ليلة وليلة العربي ، كذاب أفاك لا محل للصدق في نفسه ووجدانه ، فصدقه احتيال ومكر وخداع ، كما كانت شجاعته قتلاً ودماراً وسفك دماء ، وكما كان وفاؤه خيانة وغدراً !!
ـ 6 ـ
ولم تكتف الحكايات بهذا القدر من التشويه ، بل تصدت لصفات أخرى بشكل غير مباشر ، هذه الصفات التي تكاد أن تكون وقفاً على العرب وحدهم ملازمة لهم ؛ كالفراسة والكرم ؛ فإذا ذكر العربي تبادر إلى ذهن الذاكر هاتين الصفتين العظيمتين .
فالفراسة ؛ أستطيع أن أجزم ؛ بأن ما من أمة اشتهرت بفراسة أبنائها كما اشتهر أبناء الأمة العربية ، فإنهم كانوا لا يبارون قوة ذكاء وإصابة حدس وحدة ألمعية وصدق فراسة ، يخبرون عن الغائب بقوة ذكائهم كأنهم قد شاهدوه ، ويصف لهم الحدس الصائب حال الورد قبل أن يردوه ، ويثبتون أبعد شيء بحدة ألمعيتهم كأن ليس ببعيد ، وينظم لهم المجهول صدق فراستهم في سلك المعروف منذ زمان مديد . (1)
إن هذه الصفة التي تكاد أن تكون من الصفات لفطرية لدى كل عربي ، والتي تكاد أن تكون وقفاً عليهم ، أصبحت في كتاب ألف ليلة وليلة من صفات الأمة الفارسية ، ولأبي نواس هذا الفارسي الشعوبي الماجن ، الذي حقد على العرب وعلى دينهم الإسلامي أشد ما يكون الحقد ، أظهرته الحكايات وبشكل مقصود بأنه ذو ذكاء خارق وفراسة لا تخيب ، يستجلي الغيب ويُسأل عما حدث فيجيب وكأنه حاضر في مكان الحادث ، حتي أن هارون الرشيد هم بقتله لذلك ، وذلك عندما يقول أبو نواس شعراً للخليفة فيه وصف دقيق لما حدث للخليفة مع أحد جواريه ، في ليلـة مضت ،فيصرف الخليفة كل الشعراء [ 00 إلا أبا نواس فإنه قد أمر بضرب عنقه وقال له أنت حاضراً معنا في القصر ليلاً فقال والله ما نمت إلا في بيتي استدللت بكلامك على مضمون الشعر ](2) .
ومن حكايات فراسته ، وصف حال الرشيد مع الجارية التي قالت له ، يا أمين الله ما هذا الخبر ، وكأنه كان موجوداً قريباً من الرشيد عندما حدث له ما حدث مع الجارية ، ذلك حينما يأمر الرشيد أن ينشده شعراً فيه هذه الجملة التي قالتها الجارية ، فيقول قصيدته التي مطلعها : (1)
طال ليلي بالعوادي والسهر فأضنى جسمي وأكثرت الفكر
وتؤكد نفس الليلة فراسة أبي نواس ، وذلك عندما يأمر الخليفة أن يكثر لأبي نواس بالشراب حتى يغيب عن رشده ، وعند ذلك يأمر الخليفة جاريته بأن تسرق كأس الخمر من يده وتخفيه عنه ، فيأمره الخليفة بأن يعرف مكان كأسه وإلا قتله،فيقول أبو نواس شعراً يستدل منه على مكان الكأس،ومطلع القصيدة :
قصتي أعظم قصة صارت الظبية لصة
فيعجب الخليفة من فراسة أبي نواس وذكائه فيكافأ منـه مكافأة كبيرة على ذلك .ومرة أخرى تظهر الحكايات فراسة أبي نواس ، عندما يطلب منه الرشيد أن يتمًّ له بيتاً من الشعر قد قاله عندما يرى زوجته أم البنين زبيدة وهي تسبح عارية ؛ فتحاول ستر فرجها حينما ترى زوجها حياءً منـه ؛ فينشد أبو نواس شـعراً
يصف ما جرى للخليفة ويظهر ما جال في نفس الرشيد حينما شاهد ذاك المنظر ، ومطلع القصيدة : (1)
نظرت عيني لحيني وذكى وجدي لبيني
وتظهر فراسة أبي نواس ، بل تفوقه على غيره من الشعراء العرب في هذا المجال ، عندما يطلب الخليفة هارون الرشيد من ندمائه أن ينشدوه شعراً فيه ، كلام الليل يمحوه النهار ؛ تلك الجملة التي قالتها له إحدى جواريه التي رآها في أحد ممرات قصره تترنح سكرى من جراء تناوله الخمرة ، والتي سألها الوصل فطلبت منه مهلة إلى الغد ، وفي الغد يرسل لها بأنه آتٍ لمخدعها ، تقول الجارية لرسوله هذه الكلمات ؛ فينشد ندماء الرشيد من الشعراء العرب شعراً في ذلك ولكنهم لا يصلون إلى المقصود والمراد من هذه الكلمات ، وينشد أبو نواس شعراً مطلعه : (1)
تمادى الحب وانقطع المزار وجاهرنا فلم يغن الجهار
فيستطيع بفراسته التي لا مثيل لها أن يرسم الصورة التي كانت عليها الحادثة ، مما يثير ذلك غضب الخليفة هارون الرشيد عليه ، الذي يعتقد أن أبا نواس كان في قصره يراقبه حينما حدثت معه تلك الحادثة ، ويهم بقتله لو أن يقسم أبو النواس للخليفة بأنه لم ينم إلا في بيته تلك الليلة وليس ما قاله إلا إلهام شاعر .
هكذا حاولت الشعوبية في كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تظهر أبا نواس وغيره من الفرس ، بأنهم يمتازون بذكاء خارق وفراسة نادرة لا تجارى ، ليوحوا للقارئ أن هذه الصفة ليست حكراً على العرب وحدهم بل هي من صفات أبناء أمة الفرس كذلك .
أما الكرم الذي اتصف به العرب منذ القدم ، وكابراً عن كابر ، وتباروا فيما بينهم في إظهاره وكسب محمدته وفضل الاتصاف به ، واستنفذوا فيه نصف أشعارهم بين متمادح به ومثني بـه على غيره حيث كان الواحد منهم يأتيه الضيف في شدة البرد والجوع وليس عنده من مال إلا ناقته التي هي حياته وحياة ولده فتأخذه هزة الكرم فيقوم إليها ويذبحها لضيفه ، وكانوا يخشون مذمات الأحاديث إن هم لم يقوموا بإكرام أضيافهم غاية الإكرام ، ويقول قائلهم :
وعلم بأن الضيف يو ماً سوف يحمد أو يلوم
بل تجاوزوا كل حد في إكرامهم لأضيافهم ، ذلك عندما عدّو أنفسهم عبيداً لمن نزل عليهم ضيفاً ، زيادة في إكرامه ، يقول شاعرهم :
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ولا شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وذم العرب ؛ المتخلي والمجتنب لهذه الصفة الحميدة ؛ أشد ما يكون الذم ، واعتبروا البخل من أسوء الصفات وأرذلها ، ومنقصة
ما بعدها منقصة ، بحق من يقبلها على نفسه .
أما حكايات ألف ليلة وليلة فقد عملت ؛ على عادتها في تشويه الحقائق ؛ على إلصاق هذه الصفة في غير أهلها العرب ، حيث ألصقت هذه الصفة بعناصر أعجمية ، وبالأخص منها العناصر الفارسية ، مثل البرامكة ، فأكثرت الليالي من المديح والإطراء على كرمهم اللامتناهي ، فأوردت الحكايات الكثيرة لإظهار كرمهم اللامحدود ، بل جعلت الكرم وكأنه لم يخلق إلا لهم ، ولا يليق بغيرهم ، جعلته لهؤلاء الشعوبيين الحاقدين على العروبة والإسلام ، وليس الكرم وحده من شيمهم وحسب ، بل معه المروءة والحلم والعفو مع من يجحدهم فضلهم على كرمهم وحسن شمائلهم ، ففي حكاية منصور عامل الخليفة هارون الرشـيد، الذي يقف منـه يحيى البرمكي موقف المنقذ الكريم ، حينما يعطيه المال اللازم لسداد دينه المترتب عليه للخليفة ، ومن ثم يقابل منصور ، منقذه البرمكي بنكران فضله وجميله ، عندما يذم يحيى البرمكي بعد أن حصل على المال وانتهاء محنته مع الخليفة ، فيجحد فضله ومعروفه بقوله أن موقف يحيى البرمكي هذا لم يكن ناتج عن كرم منه وإنما دفعه الخوف من منصور على فعل ذلك ، فتأخذ الحكاية بكيل وابل من السباب والشتائم على منصور وأصله العربي ، وذلك على لسان صالح صديق منصور ودليله إلى البرامكة ، حيث يقول : [ 00 فعجبت من سوء طبعه ورداءته وفساد وخبث أصله وميلاده ] ثم يقول : [ 00 ورددت عليه وقلت له ما على وجه الأرض خير من البرامكة ولا أخبث ولا أشر منك ] ، وعندما ينقل صالح خبر منصور وجحوده ، ليحيى البرمكي ، فإن مروءة يحيى البرمكي لا تسعه إلا أن يطلب العذر لمنصور ، فتمدح الحكاية في نهايتها بني برمك وعميدها يحيى مدحاً لا مثيل له [ 00 لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك فوا أسفاه كيف يتوارى من له خلق مثل خلقك وكرمك تحت التراب ](1)
وهكذا تستمر الليالي في إظهار كرم آلِ برمك ، حتى بعد موتهم ، وكأنها لم تكتفي بالهالة الكاذبة التي صنعتها عن كرمهم وهم على قيد الحياة ، نرى ذلك في حكاية الأعرابي مع جعفر البرمكي ، عندما جاء هذا الأعرابي ليأخذ ما خصه به جعفر البرمكي من كرمه في كل عام ، فيجد جعفراً مصلوباً على أحد أبواب بغداد ، فيبكي عليه كثيراً ، وعندما ينام الأعرابي قريباً من جثمان البرمكي ، يرى في المنام جعفراً يطلب منه الذهاب إلى أحد التجار في البصرة ليأخذ منه ما جاء من أجله ، وتختم الحكاية أحداثها بالثناء والمديح على كرم جعفر البرمكي وتبيان أخلاقه الفاضلة ومناقبه ، حياً وميتاً [ 00 فانظر مكارم وأخلاق جعفر والثناء عليه حياً وميتاً ] (1) .
ولم تترك الشعوبية ، في كتاب ألف ليلة وليلة ، مناسبة يذكر فيها البرامكة إلا انهالت عليهم بالإطراء والمديح والثناء وعل أصلهم وحسبهم ، وكرمهم ومروءتهم وحسن سجاياهم وأخلاقهم .
ونقول : أن مثل هذا المديح لكرم الفرس المتمثل بالمديح على كرم البرامكة ، الذي وجد في كتاب ألف ليلة وليلة ، ما هو إلا كذب وتزوير وخداع ، لأن أمة الفرس بريئة من صفة الكرم براءة الذئب من دم يوسف ، لأن أبناؤها قد اشتهروا عبر التاريخ بالبخل الشديد ، وقد رويت عنهم النوادر في هذا المجال ، كما أنهم ؛ هم أنفسهم ؛ يعرفون أن صفة البخل ، هذه الصفة الذميمة ، تخصهم وحدهم دون غيرهم ، مما حذا ببعض أدبائهم على تأليف الرسائل والمؤلفات في مدح البخل والبخلاء ، وفي ذم الكرم والكرماء ، وقد اعتبروا هذه الرسائل والمؤلفات إطراءً على حكمة الفرس في الاقتصاد ، وذماً على إسراف وتهور العرب في الإنفاق ، حيث غدا البخل عندهم مكرمة ، والكرم مذمة ، ومن أراد الإطلاع على صور من بخل الفرس فما عليه إلا الرجوع إلى كتاب { البخلاء } للجاحظ ، ليرى فيه العجب .
ـ 7 ـ
وأخيراً ، لم تغفل الحكايات ، بأن تتكلم عن سوء تربية الإنسان العربي المسلم ، وضعته وضعفه أمام إغراء النساء ؛ العربي الذي كملت أخلاقه وخلقه وهُذبت صفاته وسجاياه بالإسلام ، وأصبحت ذاته في ذلك عنواناً للكمال الإنساني الحق ؛ أصبح في كتاب ألف ليلة وليلة لا يتحلى بأي نوع من التربية الصالحة ، فهو فاسد ومفسد ، يفسد الأرض التي يطأها ، ولا يسلم أحد من الناس من فساده وشر تربيته الوضيعة ، [ 00 وأما قولك وتتفرجين على الشجعان من المسلمين فوحق المسيح إنك قلت قولاً غير صحيح فأني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في هذين اليومين فلما أقبلتم لم أرَ تربيتكم تربية ملوك وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة](1)
أما ضعفهم أمام إغراء النساء واندفاعهم الأعمى وراء غرائزهم الجنسية الذي ظهر في الحكايات ، فهو يخالف ما هم عليه في الحقيقة والواقع ، فالعرب قد عُرفوا بقوة نفسية عجيبة وصبر لا مثيل له على المغريات ، كل المغريات وليس إغراء النساء وحسب ، واكتسبوا ذلك من طبيعتهم الصحراوية التي وهبتهم كل الصفات الحميدة وجعلت منهم نموذجاً مثالياً للفروسية ، تتمثل بهم كل صفات المروءة والشمم،ومن ثم كل صفات الرجولة والفروسية الحقة ، حيث أحرزتهم هذه الصفات النبيلة من الرضوخ لشهواتهم وغرائزهم الدونية ، ذلك لقناعتهم الخالصة من أن الرضوخ للأهواء هي حالة حيوانية غير سوية ، ومن العار عليهم أن يتصفوا بهذه الصفة الذميمة وكيف يرضون بذلك أو يقبلونه ، وهم المتعففون عن الدنايا ، الحالمون بنيل المعالي ؟
لهذا كله ، كانت نظرة العربي للمرأة ، نظرة خاصة ملؤها العفة والحياء ، ظهر ذلك جلياً في شـعرهم ، أظهر احترامهم اللامحدود لها ، لأنها هي الأم وهي الأخت وهي الزوجة ، وأظهروا حياءهم عن ذكر مفاتنها بصراحة مما ألجأهم إلى التورية ، يُكَنّوا عما يريدونه بما تسعفهم به لغتهم العربية الغنية بالاشتقاقات والمترادفات ؛ كما نجد في أشعارهم الحذر الشديد من سطوة النساء ومقدرتهم على التأثير في عقول الرجال ، لذا أبى العربي أن يملكهم نفسه أو يقع في شراكهم ؛ كل هذا أحرز العربي من الاستسلام للنساء والرضوخ لمغرياتهم والوقوع في أسرهم .
أما في كتاب ألف ليلة وليلة ، فالحال غير ذلك تماماً ، فخير وسيلة لإغواء الإنسان العربي وحرفه عن طريقه السوي وعن دينه ودنياه ، أن تقدم له امرأة حسناء ، عندها ينسى القيم والمبادئ ويبيع الدين والوطن ، نرى ذلك عندما يودّ أمير الحصن النصراني لو أن أسيره العربي المسلم يدخل في دين النصرانية ليكون له نصيراً وعوناً على أعدائه ، فيتكفل أحد بطارقته لتحقيق أمنية أميره وذلك في فتن الأسير العربي بواسطة المرأة [00 أنا أفتنه حتى يرتد عن دينه وذلك أن العرب تكثر الصبوة إلى النساء ولي بنت لها جمال وكمال فلو رآها لفتن بها ](1)
ومثل هذا الكذب والبهتان ، على أن العرب تكثر الصبوة إلى النساء لإشباع غرائزهم الجنسية ، قد ورد كثيراً في الحكايات محشواً في أحداثها حشواً ، بمناسبة وبدون مناسبة .
ـ 8 ـ
هكذا صور كتاب ألف ليلة وليلة ، الإنسان العربي ، مخلوق بلا إنسانية ، لا إيمان له ولا يقين ، يخامره الشك في دينه ودنياه ، يتصف بالجبن والخوف والسلبية ، لا بالشجاعة والإقدام والقوة الروحية ، مخلوق عابد للشهوات الدونية والمنافع الشخصية ، متمرد على موازين المجتمع الحقة ، مخلوق مـن نوع حيوان الغاب تسيطر عليه أنانية مفرطة .
فالعربي في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له أيّ صفة خيرة يُمدح عليها أو يذكر بها ، بل أن كل ما عنده وما يتعلق به من صفات يبعث على الاحتقار والنفور ، فهو ؛ في الحكايات ؛ جبان خوار عند اللقاء ، محتال كاذب مخادع لا يؤتمن له جانب ، متذبذب لا عقيدة له ولا مذهب ، حاقد على البشرية لا هم له إلا القتل والسلب وسفك الدماء ، فالشجاعة والصدق والألمعية والأمانة والكرم والمروءة والحلم والوفاء والفراسة ؛ كل هذه الصفات وأمثالها ؛ جعلتها الحكايات للفرس المجوس ؛ الحاقدين على كل ما هو عربي ؛ الذين لا يرضون أبداً أن ينسبون إلى غير أصلهم الفارسي ، فإذا نسبوا إلى غير ذلك ، ثاروا وشتموا ،[00 يا أخس العبيد كيف تجعل أولاد الملوك الأكاسرة من الشياطين الكفرة ](1) . ويتباهون بأصلهم الفارسي وبقوة وعظمة الملوك الأكاسرة ، [00 كيف تنسبني إلى الشياطين وأنا من أولاد الملوك الأكاسرة الذين لو شاءوا اخذ ملكك لزلزلوك عن عـزك وسـلطانك وسـلبوا عنك جميع ما في وطنك ].
هذه هي صورة الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو صورة للنهب والسلب ، صورة للعناصر الضارة بالأمن والاستقرار ، لا يكاد أن يصادفه المسافر ؛ في أي مكان أو زمان ؛ إلا قاطعاً للطريق سارقاً أموال الناس زاهقاً أرواحهم ، لقد ألصقت به الحكايات كل صفة ذميمة تأباها النفس الإنسانية ، ولخصت الحكايات صورة العربي بقولها : [ وكان البدوي قاطع الطريق وخائن الرفيق وصاحب مكر وحيل ] .
ولم تنسَ الحكايات من إبراز صورة أخرى ، هي صورة البطل الفارس المقدام ، التي يحبها الشعب ويتمادح بها ، وألصقتها بأناس غرباء في أصولهم عن الأمة العربية ؛ مدمجين أحياناً في الإسلام اندماج سائر الأبطال ، وأحياناً أخرى غير مدمجين ؛ فهذا عمر النعمان وأبناؤه ، وهذا عجيب ، وهؤلاء البرامكة ، وغيرهم من الشخصيات ، التي أظهرتها الحكايات بصورة محببة للنفوس ، كانت جميعها شخصيات أعجمية بأصولها ، كما تصرح الحكايات.
وخير ما يختم هذا الباب أبيات شعر للزمخشري التي تعد بحق رد على تخرصات الشعوبية عامة ، والتي تقول :
وقل هل فشا في الأرض غيرلسانهم
لسان فشو الضوء واليوم دامس
بـه عج فـي أمصارها كل منبر
وطنت به في الخافقين المدارس
على ظهرها لم يخلق الله أمـة
تناسبهم في خصلـة أو تلامس
تقايس بين الناس حتى إذا انتهى
إلى العرب المقياس طاح المقايس
وواحدة تكفيك هاتيك حجة
بساطعها تنشق عنك الحنادس
أجلّ رسول منهم وبلسانهم
أجلّ كتاب فاعتبر يا منافـس
وقل للشعوبيين إن حديثكم
أضاليل من شيطانكم ووساوس

عبد اللطيف ذياب أحمد
24/02/2011, 07:31 PM
الجزء الثاني

الباب الثاني
العرب في ألف ليلة وليلة

يتمتع الجنس العربي بعظمة كونية فريدة ، لا تكاد تدانيها عظمة جنس آخر من الأجناس على الإطلاق ، فقد كان لهذا الجنس من الفضل الحضاري على البشرية والعالم والتاريخ ما يزيد أضعافاً مضاعفة على جماع ما لبقية الأجناس الأخرى من أفضال ، منذ القدم وحتى يومنا هذا ، وقد تأت هذه العظمة الكونية الفريدة ، من كونه الجنس النادر ، الذي تسنى له أن يحقق ذاتيته القومية الإنسانية المثلى بكل تمامها الماهوي والوجودي الحق ، فامتلك بذلك سر الحياة والعالم ، وبالتالي امتلك روح الأبدية وناموس الوجود .
وقد قضى الله بحكمته الإلهية ، لهذه الأمة المباركة بأن تكون خليفة الأمم حينما قدر لها أن تكون خير أمة أُخرجت للناس ، فحباها الله بمكانة فريدة بين أمم الأرض ، فريدة بأخلاقها وشرفها ومزاياها وكرم أرومتها وعزة مجدها وسبق حضارتها .
فقد تمتعت الأمة العربية بمزايا تؤهلها لأن تؤدي خلافتها الأممية هذه على أكمل شكل ، فتمتعت بملكات وقابليات أوليـة ممتازة ، وبمقومات ماهويـة أصيلة ، وخصائص ذاتية رفيعة ، وبسمات كبرى ثابتة ، حيث غدت بجدارة واستحقاق الأمة المثال ، وبالتالي الأمة المستخلفة .
إذاً ، لم يختر الله سبحانه وتعالى أمة العرب بالذات لحمل رسالة السماء دون سواها ، ولم يختر محمداً رسولاً منهم ، لمجرد الصدفة أو لأسباب عفوية ؛ كما يقول الحاقدون ؛ ولم يخصهم الله بها لأنهم أحوج من غيرهم إلى الإصلاح؛ كما يقول الشعوبيون ؛ بل لأن أمة العرب قد حباها الله بأجمل الصفات وخير العادات ، التي جعلت منها أمة بزت قرائنها وصيرتها خير أمة أخرجت للناس ، فاختارها ربها لحمل رسالته الإلهية دون سواها من أمم الأرض .
وقد شاءت عناية الله تعالى أن يجعل الأمة العربية الوارثة لرسالة السماء المنزلة على الرسل والأنبياء ، أي جعلها منبت الأنبياء والرسل ومستقر الكتب السماوية، والعروة الوثقى بين الأرض والسماء وبين البشرية والألوهية، ومناط الخلافة والولاية ، واختيرت لغتها العربية لساناً لأشرف وأكمل رسالة إنسانية جاءت لتحرير البشرية من نير العبودية والجبروت والطغيان ، واختير أحد أبنائها لحمل أشرف رسالة وأقدس عقيدة ، تلك هي رسالة الإسلام وعقيدة التوحيد والإيمان ، وكانت مهبط الوحي الإلهي يهبط في أرضها الطاهرة ، كل هذا كان هو الأمر الذي أقامها رائداً وقائداً للبشرية والعالم ، وحامياً وصائناً للحياة والوجود، ومن ثم الأمر الذي أصبحت به بمكانتها الأممية الرفيعة ، ومن ثم أهلاً لقول الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}(1) .
ومن آيات التكريم للأمة العربية وللجنس العربي ، قول الله سبحانه وتعالى : { وأنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }(2) ، ومعنى الذكر هنا الشرف ، وكذلك قوله تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم }(3) أي إبقاء شرفكم ببقاء القرآن الكريم المعجزة الإلهية الخالدة، وقوله تعالى: {كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }(4) .
إذاً ، كانت شأنية العرب في الإسلام كما يقول العلامة عزة دروزة (5) : شأنية حامل الراية ، الراعي الأمين المسؤول عن رعيته ، المرشد الهادي الشفيق البار الودود الرحيم ، الولي النصير الذي يسير نحو كل خير وصلاح ويقتدي الناس به ويسيرون وراءه وهم
متساوون معه في كل حق وواجب متحلياً بما تحلى به رسول الله
محمد العربي عليه الصلاة والسلام .
ولقد حز ؛ ما وصل إليه العرب من مكانة أممية رفيعة ومن ريادة وقيادة ومن قوة ومنعة ؛ في قلب الشعوبية عدوة العرب الأولى ، حتى أكل الحقد قلوبهم وتأصل الغلّ في أعماق نفوسهم المريضة ، فعمدوا إلى عداوة العرب ، أمة وحضارة وديناً ، ومحاربتهم في كل ميدان ، وبكل الوسائل والأساليب اللاأخلاقية منها ، محاولين إنزالهم من مكانتهم الأممية المرموقة ؛ التي حباهم الله تعالى بها ؛ إلى الحضيض ، وذلك بتحميلهم المثالب والنقائض وإظهارهم بمظهر حيواني لا همَّ لهم إلا إشباع غرائزهم الدونية ، وبمعنى آخر ، إظهار العرب بمظهر يناقض ويناهض ما هم عليه في الحق والحقيقة ، ويعارض معارضة كلية كل ما يتمتعون به من صفات وخصائص ومثل وسمات وقيم عليا .

ـ 2 ـ
ولقد عملت حكايات ألف ليلة وليلة على مسخ الصورة الإنسانية المثلى التي يتحلى بها الإنسان العربي ، حيث حاولت جاهدة على إظهاره بصورة مغايرة ومناهضة ومناقضة لحقيقته الحقة التي جبل عليها ، وغايتها من ذلك طمس وإلغاء هذه الصورة الرائعة للإنسان العربي ، وتكريس الصورة البشعة التي رسمتها له في ثنايا حكاياتها لدى قارئ هذه الحكايات الشعوبية ، وإقناعه بأن هذه الصورة الأخيرة هي وحدها الصورة الحقيقية لأبناء الأمة العربية ، وذلك لكون الإنسان يمثل الدعامة الأساسية ، بل الوحيدة ، لأي أمة من الأمم ولا وجود للأمة بدون الإنسان ، وبما أن الإنسان في الأمة هو الممثل الحقيقي لذاتية الأمة ؛ التي ينتمي إليها ؛ ولسماتها وخصائصها تمثيلاً كلياً موجباً ، وبما أنه هو منشئ هذه الذاتية ومالكها وحاملها ومكرسها خلقياً وسلوكياً وفعلاً وعملاً ، فإن أي إنقاص أو تشويه للدعامة الأساسية ؛ التي هي إنسان الأمـة ؛هو في حد ذاته إنقاص وتشويه للأمة نفسها .
إذن نستطيع القول ، أن الغاية الأساسية التي قصدتها الحكايات في رسم هذه الصورة الكاذبة والمزورة للإنسان العربي ، هي النيل من المكانة الرفيعة التي تحتلها الأمة العربية بين أمم الأرض قاطبة ، ومن ثم سلبها هذه المكانة القيادية الرائدة ، وأخيراً العمل على تدميرها من الداخل ، ليتسنى للشعوبية القضاء عليها قضاءً مبرماً .
وقد عمدت هذه الحكايات الشعوبية في الوصول إلى بغيتها ، قلب الحقائق وافتراء الأكاذيب ، وذلك بوضع المضامين اللاأخلاقية للصفات التي تغنى وافتخر بها العربي كثيراً منذ أن صار ووجد ، حيث كانت هذه الصفات بمضامينها الشعوبية التي حاكتها وافترتها الحكايات ، تغاير وتناهض وتناقض الصفات التي جبل عليها هذا الإنسان المثال .
فالشجاعة التي كادت أن تكون غريزة من غرائزه الفطرية ، هذه الغريزة التي بنيت وهذبت على الأخلاق والمروءة والفروسية ، أصبحت في كتاب ألف ليلة وليلة ، قتل وسفك دماء ، ونهب وسلب ، ولصوصية وقطع طريق .
والوفاء بالعهد الذي هو من صلب أخلاق العرب التي كانوا يتمادحون بها ويعيبون من خالفها ، والذي كان عندهم ديناً يتمسكون به ويستهينون في سبيل الوفاء بالعهد قتل أولادهم وتخريب ديارهم ، أصبح في الحكايات ، غدر وخيانة .
والعفة التي اشتهر بها العربي على مر العصور وعمل بها قولاً وفعلاً ، أصبحت صبوة عارمة إلى النساء ولواطـة في الغلمان . والصدق صار كذبـاً وزوراً واحتيال .
ولم يفت الحكايات بأن تعمل في الصفات التي عجزت عن إيجاد مضامين لا أخلاقية لها للصقها بالعرب ؛ وذلك لمعرفة النائي والداني بأنها صفات ذاتية عربية محضة ؛ لم تنس بأن تنسب هذه الصفات للفرس ، وبأنها موجودة ومتأصلة في نفوس الفرس أكثر مما هي موجودة ومتأصلة في نفوس العرب ووجدانهم ، فالفراسة أصبحت للفرس متمثلة بفراسة أبي نواس ، ذلك الفارسي الشعوبي الماجن ، والكرم والمروءة لبني برمك رأس الشعوبية الحاقدة .
وعلى هذا المنوال ، غزلت الحكايات غزلها الشعوبي الأسود في النيل من الأمة العربية ، وتشويه الصفات الأخلاقية التي تحلت بها منذ أن وجدت ورافقتها في صيرورتها الحياتية الإنسانية وهي تبني ذاتها القومية المتفردة .
وكان حصيلة ما تقدم ، أن الحكايات نجحت في إظهار أبناء الأمة العربية على درجة كبيرة من الانحطاط الإنساني ، ولم يكونوا حتى في مستوى الشطار الذين تحمست لهم الحكايات كثيراً ، بل تحمساً لا مثيل له ، فقد نفت عنهم كل ما يعيبهم ، وذلك بإظهارهم بمظهر بطولي نادر وشجاعة فائقة ، فهم يردّون المسروقات التي سرقوها إلى أصحابها لأنهم لا يريدون شراً لأحد وهم لا يقتلن ولا يؤذون إيذاءً بليغاً .
أما العرب فصبت عليهم ؛ الحكايات ؛ حقدها الشعوبي الأسود ، فهم عامل إضرار بالنظام والأمن دائماً وأبداً،يسرقون ويقتلون ضحاياهم بوحشية ، لا إظهاراً للشجاعة والبأس ، بل تكسباً مما يسرقون ، وتشفياً ونهباً ممن يقتلون.
لذلك نجد الفرق شاسعاً بين صورة أحمد الدنف وعصابتـه
من الشطار ومن كان على شاكلتهم من أراذل القوم ، وبين صورة أيُّ عربي ذُكر في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، هذا يحاط بالإعجاب والمحبة ، وذاك يحاط بالسخرية والتندر والكره .
ـ 3 ـ

إن من أول الصفات التي تناولتها الحكايات بالتشويه والتزوير هي الشجاعة ، التي تكاد أن تكون من صفات العرب الغريزية ، وسجية من سجاياهم الطبيعية ، قد شهدت لهم بها تواريخ الأمم ، واعترفت بـها لهم ألسـنة العرب والعجم ، وقـد امتلأت كتبهم وأشعارهم بالتغني بهذه الصفة الحميدة الأثيرة على قلوبهم ، ورحم الله شاعرهم حين قال : (1)
فدت نفسي ومـا ملكت يميني
فوارس صدقت فيهم ظنونـي
فـوارس لا يملـون المنـايـا
إذ دارت رحى الحرب الزبون
ولا يجزون مـن حسن بسيء
ولا يجزون مـن غلظٍ بليـن
ولا تبلى بسـالتهم وإن هـم
صلوا بالحرب حيناً بعـد حين
هم منعوا حمى الوقبـى بضرب
يُؤلف بيـن أشـتات المنـون
فنكب عنهم درء الأعـادي
وداووا بالجنون مـن الجنونـي
ولا يرعون أكناف الهوينـي
إذ حلّــو ولا أرض الـهدون
فهم ، في وطيس الوغى أسوداً لا يهابون المنايا ، يقتحمون لضى نار المعارك اقتحاماً ، لا يهابون إلا من كلمة
عر تلحق بهم إن هم عنها أحجموا فالموت عندهم أرح من قول فلاناً جباناً أو خواراً عند لقاء الأعداء ، يقول العباس بن
مرداس (2) :
أشد على الكتيبة لا أبالي أحتفي كان فيها أم سواها
ومثل هذا الشعر الدال على شجاعتهم وبسالتهم وإقدامهم ، كثير جداً امتلأت منه بطون الكتب الأدبية .
أما كيف كانت هذه الشجاعة وكيف كان مضمونها في حكايات ألف ليلة وليلة ، فشيء مغاير للحقيقة تماماً ، بل تبعث على التقزز والنفور ، فهي تعني في هذه الحكايات الشعوبية ، القتل وسفك الدماء البريئة وقطع الطريق والسلب ونهب أموال الآمنين .
فالعربي ، قاطع الطريق سالب أموال الناس خاطف الصغار الأبكار ، هو هكذا ، أيما وجد وأينما حلّ في أحداث الحكايات ، ولا يمكن أن يكون غيره قاطع طريق ، فكل قاطع للطريق وكل قاتل أو سارق أو خاطف ، في أي مكان ، في بلاد العرب أو بلاد العجم ، في المدن الحقيقية أو في المدن الخرافية التي ابتدعتها الليالي وفي أي زمان ،في العصور الغابرة أو العصور المعاصرة للحكايات ، لا يمكن ولا يجوز ؛ برأي من وضع الحكايات ؛ إلا أن يكون عربياً بأي حال من الأحوال .
وهو ، أي العربي ، يقوم بهذه الأعمال الخسيسة ليبرهن على شجاعته ومقدرته في الحصول على رزقه بالقوة ، مثله مثل الحيوان في الغابة ، ففي حكاية الصعلوك الثاني من حكاية الثلاث بنات ، نرى أن العرب قد قطعوا عليه الطريق ونهبوا أموال القافلة [ وإذا بغبار قد علا وثار حتى سـد الأقطار واستمر ساعة من النهار ثم انكشف فبان من تحته ستون فارساً وهم ليوث عبوس فتأملناهم وإذا هم عرب قطاع طريق 00 ثم أنهم قتلوا بعض الغلمان وهرب الباقون وهربت أنا 00 واشتغلت عنا العرب بالمال والهدايا التي كانت معنا ] (1)
وكذلك أظهرت حكاية مزين بغداد ، هدف العربي من قطع الطريق ، هو حصوله على المال ، يقول المزين [ 00 فلما خرج أخي من البلد هارباً فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه وصار الذي أسره يعذبه ويقول له لله اشتر روحك مني بالمال وإلا قتلتك ] (2)
والعربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، يفتخر بعمله هذا ، ولا يتردد في التبجح بذلك دون حياء أو خجل [ 00 اعلموا أني رجل بدوي واقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات الأبكار وأبيعهم للتجار ] (3)
فغدا العربي في الليالي رمز للوحشية وسفك الدماء ، فيجب الحذر منه كل الحذر ، فأصبحت خير وصية يوصي بها الوالد ولده العازم على السفر أن يأخذ حذره من العرب قطاع الطريق ومزهقي الأرواح ونهابي الأموال ، فهذا والد علاء الدين يوصيه بقوله [ أخاف عليك من غابة في طريقك تسمى غابة الأسد وواد هناك يقال له وادي الكلاب فإنها تروح بها الأرواح بغير سماح ، من بدوي قاطع طريق يقال له عجلان ](1) ولا ينسى مقدم القافلة التجارية من أن يحذر مرافقيه في القافلة من هؤلاء العرب وخشيته عليهم وعلى أموالهم [ يا ولدي أخشى عليك وعلى مالك من العرب ](2)
وليس هذا فحسب ، بـل أظهرت الحكايات الانطباع العام لدى جمهور الناس حول الأعمال اللصوصية التي يقوم بها هؤلاء العرب ، والجرائم اللاإنسانية التي ينفذونها ضد أرواح الناس وأموالهم وحرماتهم ، بدون أي رحمة أو شفقة ، حيث لم يعد للمسافر هاجس يفكر به إلا خوفه من أن يصادف العرب في طريق سفره فيكون بذلك إزهاق روحه وضياع أمواله ، ولا يشغل قلب الأم على ولدها والزوجة على زوجها ، الغائب عن بلده في سفر ، وتأخر في المجيء ، إلا من أن قد وقع بيد العرب فأفقدوه حياته ، حتى أنها تتمنى لو أنها استطاعت أن تمنعه من السفر لتجنبه هذه النهاية .
لقد نجحت الحكايات نجاحاً كبيراً في سلب العربي صفة الشجاعة ، وأن المطلع على هذه الحكايات ليقف مشدوهاً بين أن يكذب أو يصدق هذا التزوير والبهتان ، فإن كذّب هذا التزوير
والتهويش ، فإنه لا ينجو أبداً من الشك بشجاعة الإنسان العربي
وذلك من كثر ما أوردت الحكايات هذه الشجاعة بصورتها المزورة المكذوبة في كثير من أحداث حكاياتها (1)




ـ 4 ـ

وكما عملت الحكايات ، بشجاعة العربي تشويهاً وتزويراً ، حاولت أن تشوه وفاء العربي الذي امتاز به ، بل أن الوفاء بالعهد كان وما زال سجية من سجايا العرب الكريمة ، ومن أخلاقهم الفاضلة التي يتمادحون بها ويعيبون من خالفها ، فقد كان الوفاء بالعهد عندهم ديناً يتمسكون به ويستهينون في سبيله قتل أولادهم وتخريب ديارهم ، ورحم الله شاعرهم حين قال :
سأرعى كل ما استودعت جُهدي
وقـد يرعى أمانتـه الأمين
وذو الخيـر المؤثـل ذو وفـاءٍ
كريـم لا يـمل ولا يخـون
لقد رأوا في الوفاء أخو الصدق والعدل ، وعُرِفوا به كما عرفوا بالشجاعة والإباء ، فهم أوفى بالوعد، لأنهم ما نقضوا لمحافظ عهداً ، كما أنهم عدّوا الغدر من كبائر الذنوب ، لأنه في نظرهم نسيبٌ للكذب والظلم والجور وصاحبه من أراذل الناس وأخسهم نفساً ، ذلك لأن الوفاء عندهم صدق باللسان والفعل معاً ، والغدر كذب بهما معاً ، وفيه مع الكذب نقض العهد ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى العهد من الإيمان وصيره قواماً لأمور الناس ، فاحتقر العرب الغادر كل الاحتقار ، حتى أنهم كانوا إذا غدر منهم غادر يوقدون له بالموسم ناراً وينادون عليه ويقولون فلاناً غدر ، وبذلك يقول الغادر الغطفاني :(1)
اسمي ويحك هل سمعت بغدرةٍ رُفِعَ اللواءَ بها لنا في الجمع
فالعربي لا يخون أبداً ، وكيف له أن يخون والموانع أمامه كثيرة جداً ، موانع في ذاته وفطرته ، وموانع في خَلقه وخُلقه ، وموانع من عاداته وتقاليده ، وموانع من بيئته ومجتمعه ، فكيف إذ هو أقسم اليمين على العهد ؟ فحتماً عندها يفضل الموت على أن يخون ، والموت عنده أرحم ألف مرة من أن يوصف بالغدر يقول الشاعر(2)
ثقي مني وتقنعك اليميني بأني لا أمل ولا أخون
وأني حافظ العهد راعٍ وفيّ العقد مؤتمن أمين
أما وفاء العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو بعكس ما عرف به تماماً ، فالعربي خائن للعهد لا وفاء له ، ومن أين لقاطع الطريق وخائن الرفيق وصاحب المكر والحيّل (1)، من أين لمن يتصف بمثل هذه الصفات أن يأتيه الوفاء ، فهو لا أمان له ولا وفاء لعهده مهما أقسم وأغلظ في القسم على أنه لا يخون من عاهده ، حتى لو كان الأخير قد أنقذ حياته من موت محقق وأغرقه بعدها بالإكرام والإحسان ، لأن العربي قد جبل على الخيانة جبلاً ، لا حياة له ولا وجود إلا بها، ؛ هكذا وصفته الحكايات ؛ ففي حكاية عباد بن تميم بن ثعلبة تظهر خيانة العربي ولؤم معدنه ودناءة نفسه ، فبعد أن يعفو عباد عن البدوي حماد ، الذي أراد أن يتزوج أخته طوعاً أو يقتله ويأخذها غصباً ، مستغلاً وجود عباد وأخته منفردين في الصحراء لوحدهما ، بينما كان البدوي في صُحبة ثلة من صَحبِه ، وتقوم الحرب بين عباد وبين جماعة البدوي حماد ، وينتصر عباد عليهم جميعاً ، وعندما يصل الدور في النزال إلى حماد ويُصرع بلحظات ، يتعلق بأذيال عباد المنتصر ، متوسلاً أن يعفو عنه ، ويفعل عباد ويدفع بحماد إلى أخته قائلاً لها : [ 00 دونك وإياه واحسني مثواه لأنه دخل في ذمتنا ] وبعد أن يستأنس عباد بالبدوي حماد يحلفه أن لا يخونه [ ونادمني وحلفني أن لا أخونه فحلفت له ألفاً وخمسمائة يمين أني لا أخونه قط ، بل أكون له معيناً ] ، فيثق عباد بحماد ويزيد في إكرامه فيخلع عليه الخلع ويهديه ناقة من أحسن النوق محملة بالتحف الثمينة والزاد الوفير ، ويهديه معها حصان أصيل ، وينوي في قرار نفسه أن يزوجه من أخته ، ولكن غريزة الغدر بالعهد التي يتحلى بها عرب كتاب ألف ليلة وليلة ، تأبى عليه إلا أن يخون ويغدر بمن عاهده ، فيقتل البدوي غريمـه النائم ويسـلبه ما يملك [ 00 وبعد ثلاث أيام قال لي يا أخي حماد أريد أن أنام قليلاً لأريح نفسي وقد استأنستك على نفسي 00 ثم توسد سيفه ونام فلما استغرق في النوم وسوس إلي إبليس بقتله فقمت بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه وضربته ضربة أطاحت برأسه عن جثته ](1) .
ونجد غدر العربي وخيانته وعدم وفائه بالعهد ، في حكاية عجيب وغريب ، بل نجد مقارنة ماكرة وخبيثة بين غريب ومرداس ؛ مقارنة شعوبية صرفة ؛ فغريب ذو الأصل الأعجمي ، يظهر في هذه الحكاية مثال للوفاء والشجاعة والبطولة والذكاء ، يقابل مكر وغدر واحتيال مرداس بالصفح والتسامح ، لا لشيء إلا وفاء لمرداس على قيامه في تربيته وتنشئته ، أما مرداس ذلك العربي ، أمير بني قحطان ، فهو رمز للغدر والخيانة ، فلا وفاء لـه ولا ذمام ، خوار جبان عند اللقاء ، يكافئ غريب على تخليصه مهدية ابنته الوحيدة من عار السبي الذي أصابها، عندما يتعرض قومها للغزو من قبل أعداء القبيلة ، بمحاولة قتله والتخلص منه ، وعندما يقع مرداس بشر أعماله ويقع أسيراً بيد أعدائه، عندما كان يكمن لغريب مع عدد من فرسان قبيلته لتنفيذ ما عزم عليه ، أي قتل غريب لم يجد أحداً يخلصه من هذا الأسر إلا غريب ، فيقسم مرداس وهو في قيود الأسر واعداً غريب بأن يزوجه من ابنته مهدية إن هو فك أسره ، [ 00 وحق ما أعتقده هي لك على طول الزمان ] ، وبعد أن يتخلص مرداس من ذل قيد الأسر ويأخذ له غريب بثأره من أعدائه ويعود إلى حمى قبيلته معززاً مكرماً ، لا يزيده عمل غريب الذي عرض حياته للخطر من أجله إلا بغضاً على بغض وحقداً على حقد، وعندما يطلب غريب من مرداس تنفيذ ما وعده به ، بتزويجه من مهدية ، يظهر غدر مرداس وخسته مرة أخرى ، حينما يطلب من غريب مهراً فيه موته المحتم ، ذلك عندما يكذب على غريب بأن له ثأراً ، وأنه قد أقسم بأنه لا يزوج ابنته إلا ممن يأخذ له بثأره من العملاق الساكن في وادي الأزهار ، وقصد مرداس من هذا الطلب قذف غريب في مهاوي الردى ، ليتخلص منه إلى الأبد ، لأن العملاق مارد لا يقدر عليه أحد (1).
ـ 5 ـ
وتتابع الحكايات كذبها وزيفها في سبيل الوصول إلى غايتها الشعوبية في تشويه الصفات النبيلة للإنسان العربي ، فبعد أن رأينا كيف عملت على تشويه صفتي الشجاعة والوفاء ، سنرى هنا ، كيف عملت على تشويه صفة أخرى لها مكانتها وقدسيتها لدى الإنسان العربي ، ألا وهي الصدق ، الذي لم يحب العربي شيئاً كحبه لهذه الصفة الفاضلة ، فتحلى العرب ؛ كل العرب ؛ بها وتخلقوا بمحاسنها ، وحثوا عليها وأوصوا أبناءهم ومحبيهم بالتمسك بها ، فكثر ذكر الصدق بأقوالهم وأفعالهم ، وحكمهم ومواعظهم ، وأمثالهم وتعريضهم ، وخطبهم ووصاياهم ، ونثرهم وشعرهم ، قرنوا الصدق بالوفاء والكذب بالغدر ، أحبوا الصدق حبهم للحياة ، حتى كادت ألسنتهم أن تكون وقفاً عليه من كثر ما لهجت به وبجلته ، يقول الشاعر في ذلك :
وألسنهم وقف على الصدق والوفا
وإيمانهم وقف على القصد والنعمى
قد كرهوا الكذب وحذروه ونبذوه ، لأنهم وجدوا فيه جماع النفاق وعار لازم وذل دائم ، فلا يكذب إلا من ل أصل له ولا نسب ، ومن ساءت طبيعته وطبعه ، المطعون بِخُلقه وشرفه ، المهان بين الناس ، يقول شاعرهم :
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أو من قلة الورع
هذا هو العربي ، صادق بطبعه وطبيعته ، صادق بسلوكه ومسلكه ، صادق بقوله وفعله ، وصدقه هذا نابع من صفاء سريرته التي اكتسبها من صفاء بيئته وتربيته الصحراوية ، ومن صفاء السماء التي تخيم عليها ، نافر من الكذب مستهجن له ، محتقر كل من يتصف به ، نابذ له وكاره ، لأن الكذّاب في عرفه من أراذل الناس وأخسهم نفساً ونسباً .
لكن الحكايات ؛ هذه الحكايات المغرقة بأوحال الشعوبية ؛ أبت إلا أن تظهر الإنسان العربي بمظهر الكاذب الأفاك الذي لا يعرف معنىً للصدق ولا مكان له في نفسه ، مجبول بفطرته على الكذب والزور والبهتان ، يكذب لغاية دنيئة في نفسه ، ليحقق من وراء كذبه منفعة أراد الحصول عليها ، فهو يكذب على نزهة الزمان [00 إني رزقت بنات مات لي منهن خمسة وبقيت واحدة وهي أصغرهن وأتيت إليك لأسألك هل أنت من أهل هذه المدينة أو غريبة لأجل أن آخذك وأجعلك عندها لتؤانسيها فتشتغل بك عن الحزن على أخواتها فإن لم يكن لك أحد جعلتك مثل واحدة منهن وتصيرين مثل أولادي ] (1) وما كذبه هذا ، على هذه الفتاة المسكينة إلا ليصل إلى بغيته الخبيثة ، ليخطفها ومن ثم يبيعها بسوق النخاسة لأنه [00 كان البدوي قاطع طريق وخائن الرفيق وصاحب مكر وحيل ولم يكن عنده بنت ولا ولد ] (2).
والحكايات التي تطعن بصدق العربي كثيرة جداً في الحكايات ،تظهر مبثوثة هنا وهناك وبكثير من المكر والخبث ، ولم يسلم من هذا الطعن الزائف الجائر حتى الخاصة من العرب وأعلامهم وقادتهم ، فهذا القائد العربي العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، أمير العراقين ، وأحد الأركان الأساسية لدولة بني أمية العربية ، وحاصد رؤوس الشعوبية ومثبت عروبة العراق ، يكذب إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ، وذلك عندما يسـرق الجاريـة ( نغم ) بخدعة دنيئة قد دبرها مع أحد العجائز الماكرات ، ويرسلها لعبد الملك إلى دمشق مدّعياً في رسالته بأنها جارية اشتراها بمبلغ كبير من المال[00فقالت أخت الخليفة يا أمير المؤمنين أن هذه الواقفة هي نغم المسروقة سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأرسلها لك وكذب فيما ادعاه في كتابه من أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار ](3) . وغاية الحجاج من هذا العمل ؛ كما تقول الحكاية ؛ التقرب ومداهنة الخليفة ليحافظ على إمارته ومركزه بالدولة ، وكأنما الأعمال البطولية العظيمة ، والانتصارات الرائعة التي حققها على أعداء الدولة الأموية العربية ، والفتوحات الواسعة التي تمت على يديه ، والتي أثبتت جدارته ومقدرته القيادية الفذة ، لا تكفي بكسب ثقة الخليفة به ، بل يجب عليه أن يحتال ويكذب ويسرق لكسب هذه الثقة .
هكذا وبكل وقاحة ، أظهرت حكايات ألف ليلة وليلة العربي ، كذاب أفاك لا محل للصدق في نفسه ووجدانه ، فصدقه احتيال ومكر وخداع ، كما كانت شجاعته قتلاً ودماراً وسفك دماء ، وكما كان وفاؤه خيانة وغدراً !!
ـ 6 ـ
ولم تكتف الحكايات بهذا القدر من التشويه ، بل تصدت لصفات أخرى بشكل غير مباشر ، هذه الصفات التي تكاد أن تكون وقفاً على العرب وحدهم ملازمة لهم ؛ كالفراسة والكرم ؛ فإذا ذكر العربي تبادر إلى ذهن الذاكر هاتين الصفتين العظيمتين .
فالفراسة ؛ أستطيع أن أجزم ؛ بأن ما من أمة اشتهرت بفراسة أبنائها كما اشتهر أبناء الأمة العربية ، فإنهم كانوا لا يبارون قوة ذكاء وإصابة حدس وحدة ألمعية وصدق فراسة ، يخبرون عن الغائب بقوة ذكائهم كأنهم قد شاهدوه ، ويصف لهم الحدس الصائب حال الورد قبل أن يردوه ، ويثبتون أبعد شيء بحدة ألمعيتهم كأن ليس ببعيد ، وينظم لهم المجهول صدق فراستهم في سلك المعروف منذ زمان مديد . (1)
إن هذه الصفة التي تكاد أن تكون من الصفات لفطرية لدى كل عربي ، والتي تكاد أن تكون وقفاً عليهم ، أصبحت في كتاب ألف ليلة وليلة من صفات الأمة الفارسية ، ولأبي نواس هذا الفارسي الشعوبي الماجن ، الذي حقد على العرب وعلى دينهم الإسلامي أشد ما يكون الحقد ، أظهرته الحكايات وبشكل مقصود بأنه ذو ذكاء خارق وفراسة لا تخيب ، يستجلي الغيب ويُسأل عما حدث فيجيب وكأنه حاضر في مكان الحادث ، حتي أن هارون الرشيد هم بقتله لذلك ، وذلك عندما يقول أبو نواس شعراً للخليفة فيه وصف دقيق لما حدث للخليفة مع أحد جواريه ، في ليلـة مضت ،فيصرف الخليفة كل الشعراء [ 00 إلا أبا نواس فإنه قد أمر بضرب عنقه وقال له أنت حاضراً معنا في القصر ليلاً فقال والله ما نمت إلا في بيتي استدللت بكلامك على مضمون الشعر ](2) .
ومن حكايات فراسته ، وصف حال الرشيد مع الجارية التي قالت له ، يا أمين الله ما هذا الخبر ، وكأنه كان موجوداً قريباً من الرشيد عندما حدث له ما حدث مع الجارية ، ذلك حينما يأمر الرشيد أن ينشده شعراً فيه هذه الجملة التي قالتها الجارية ، فيقول قصيدته التي مطلعها : (1)
طال ليلي بالعوادي والسهر فأضنى جسمي وأكثرت الفكر
وتؤكد نفس الليلة فراسة أبي نواس ، وذلك عندما يأمر الخليفة أن يكثر لأبي نواس بالشراب حتى يغيب عن رشده ، وعند ذلك يأمر الخليفة جاريته بأن تسرق كأس الخمر من يده وتخفيه عنه ، فيأمره الخليفة بأن يعرف مكان كأسه وإلا قتله،فيقول أبو نواس شعراً يستدل منه على مكان الكأس،ومطلع القصيدة :
قصتي أعظم قصة صارت الظبية لصة
فيعجب الخليفة من فراسة أبي نواس وذكائه فيكافأ منـه مكافأة كبيرة على ذلك .ومرة أخرى تظهر الحكايات فراسة أبي نواس ، عندما يطلب منه الرشيد أن يتمًّ له بيتاً من الشعر قد قاله عندما يرى زوجته أم البنين زبيدة وهي تسبح عارية ؛ فتحاول ستر فرجها حينما ترى زوجها حياءً منـه ؛ فينشد أبو نواس شـعراً
يصف ما جرى للخليفة ويظهر ما جال في نفس الرشيد حينما شاهد ذاك المنظر ، ومطلع القصيدة : (1)
نظرت عيني لحيني وذكى وجدي لبيني
وتظهر فراسة أبي نواس ، بل تفوقه على غيره من الشعراء العرب في هذا المجال ، عندما يطلب الخليفة هارون الرشيد من ندمائه أن ينشدوه شعراً فيه ، كلام الليل يمحوه النهار ؛ تلك الجملة التي قالتها له إحدى جواريه التي رآها في أحد ممرات قصره تترنح سكرى من جراء تناوله الخمرة ، والتي سألها الوصل فطلبت منه مهلة إلى الغد ، وفي الغد يرسل لها بأنه آتٍ لمخدعها ، تقول الجارية لرسوله هذه الكلمات ؛ فينشد ندماء الرشيد من الشعراء العرب شعراً في ذلك ولكنهم لا يصلون إلى المقصود والمراد من هذه الكلمات ، وينشد أبو نواس شعراً مطلعه : (1)
تمادى الحب وانقطع المزار وجاهرنا فلم يغن الجهار
فيستطيع بفراسته التي لا مثيل لها أن يرسم الصورة التي كانت عليها الحادثة ، مما يثير ذلك غضب الخليفة هارون الرشيد عليه ، الذي يعتقد أن أبا نواس كان في قصره يراقبه حينما حدثت معه تلك الحادثة ، ويهم بقتله لو أن يقسم أبو النواس للخليفة بأنه لم ينم إلا في بيته تلك الليلة وليس ما قاله إلا إلهام شاعر .
هكذا حاولت الشعوبية في كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تظهر أبا نواس وغيره من الفرس ، بأنهم يمتازون بذكاء خارق وفراسة نادرة لا تجارى ، ليوحوا للقارئ أن هذه الصفة ليست حكراً على العرب وحدهم بل هي من صفات أبناء أمة الفرس كذلك .
أما الكرم الذي اتصف به العرب منذ القدم ، وكابراً عن كابر ، وتباروا فيما بينهم في إظهاره وكسب محمدته وفضل الاتصاف به ، واستنفذوا فيه نصف أشعارهم بين متمادح به ومثني بـه على غيره حيث كان الواحد منهم يأتيه الضيف في شدة البرد والجوع وليس عنده من مال إلا ناقته التي هي حياته وحياة ولده فتأخذه هزة الكرم فيقوم إليها ويذبحها لضيفه ، وكانوا يخشون مذمات الأحاديث إن هم لم يقوموا بإكرام أضيافهم غاية الإكرام ، ويقول قائلهم :
وعلم بأن الضيف يو ماً سوف يحمد أو يلوم
بل تجاوزوا كل حد في إكرامهم لأضيافهم ، ذلك عندما عدّو أنفسهم عبيداً لمن نزل عليهم ضيفاً ، زيادة في إكرامه ، يقول شاعرهم :
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً ولا شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وذم العرب ؛ المتخلي والمجتنب لهذه الصفة الحميدة ؛ أشد ما يكون الذم ، واعتبروا البخل من أسوء الصفات وأرذلها ، ومنقصة
ما بعدها منقصة ، بحق من يقبلها على نفسه .
أما حكايات ألف ليلة وليلة فقد عملت ؛ على عادتها في تشويه الحقائق ؛ على إلصاق هذه الصفة في غير أهلها العرب ، حيث ألصقت هذه الصفة بعناصر أعجمية ، وبالأخص منها العناصر الفارسية ، مثل البرامكة ، فأكثرت الليالي من المديح والإطراء على كرمهم اللامتناهي ، فأوردت الحكايات الكثيرة لإظهار كرمهم اللامحدود ، بل جعلت الكرم وكأنه لم يخلق إلا لهم ، ولا يليق بغيرهم ، جعلته لهؤلاء الشعوبيين الحاقدين على العروبة والإسلام ، وليس الكرم وحده من شيمهم وحسب ، بل معه المروءة والحلم والعفو مع من يجحدهم فضلهم على كرمهم وحسن شمائلهم ، ففي حكاية منصور عامل الخليفة هارون الرشـيد، الذي يقف منـه يحيى البرمكي موقف المنقذ الكريم ، حينما يعطيه المال اللازم لسداد دينه المترتب عليه للخليفة ، ومن ثم يقابل منصور ، منقذه البرمكي بنكران فضله وجميله ، عندما يذم يحيى البرمكي بعد أن حصل على المال وانتهاء محنته مع الخليفة ، فيجحد فضله ومعروفه بقوله أن موقف يحيى البرمكي هذا لم يكن ناتج عن كرم منه وإنما دفعه الخوف من منصور على فعل ذلك ، فتأخذ الحكاية بكيل وابل من السباب والشتائم على منصور وأصله العربي ، وذلك على لسان صالح صديق منصور ودليله إلى البرامكة ، حيث يقول : [ 00 فعجبت من سوء طبعه ورداءته وفساد وخبث أصله وميلاده ] ثم يقول : [ 00 ورددت عليه وقلت له ما على وجه الأرض خير من البرامكة ولا أخبث ولا أشر منك ] ، وعندما ينقل صالح خبر منصور وجحوده ، ليحيى البرمكي ، فإن مروءة يحيى البرمكي لا تسعه إلا أن يطلب العذر لمنصور ، فتمدح الحكاية في نهايتها بني برمك وعميدها يحيى مدحاً لا مثيل له [ 00 لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك فوا أسفاه كيف يتوارى من له خلق مثل خلقك وكرمك تحت التراب ](1)
وهكذا تستمر الليالي في إظهار كرم آلِ برمك ، حتى بعد موتهم ، وكأنها لم تكتفي بالهالة الكاذبة التي صنعتها عن كرمهم وهم على قيد الحياة ، نرى ذلك في حكاية الأعرابي مع جعفر البرمكي ، عندما جاء هذا الأعرابي ليأخذ ما خصه به جعفر البرمكي من كرمه في كل عام ، فيجد جعفراً مصلوباً على أحد أبواب بغداد ، فيبكي عليه كثيراً ، وعندما ينام الأعرابي قريباً من جثمان البرمكي ، يرى في المنام جعفراً يطلب منه الذهاب إلى أحد التجار في البصرة ليأخذ منه ما جاء من أجله ، وتختم الحكاية أحداثها بالثناء والمديح على كرم جعفر البرمكي وتبيان أخلاقه الفاضلة ومناقبه ، حياً وميتاً [ 00 فانظر مكارم وأخلاق جعفر والثناء عليه حياً وميتاً ] (1) .
ولم تترك الشعوبية ، في كتاب ألف ليلة وليلة ، مناسبة يذكر فيها البرامكة إلا انهالت عليهم بالإطراء والمديح والثناء وعل أصلهم وحسبهم ، وكرمهم ومروءتهم وحسن سجاياهم وأخلاقهم .
ونقول : أن مثل هذا المديح لكرم الفرس المتمثل بالمديح على كرم البرامكة ، الذي وجد في كتاب ألف ليلة وليلة ، ما هو إلا كذب وتزوير وخداع ، لأن أمة الفرس بريئة من صفة الكرم براءة الذئب من دم يوسف ، لأن أبناؤها قد اشتهروا عبر التاريخ بالبخل الشديد ، وقد رويت عنهم النوادر في هذا المجال ، كما أنهم ؛ هم أنفسهم ؛ يعرفون أن صفة البخل ، هذه الصفة الذميمة ، تخصهم وحدهم دون غيرهم ، مما حذا ببعض أدبائهم على تأليف الرسائل والمؤلفات في مدح البخل والبخلاء ، وفي ذم الكرم والكرماء ، وقد اعتبروا هذه الرسائل والمؤلفات إطراءً على حكمة الفرس في الاقتصاد ، وذماً على إسراف وتهور العرب في الإنفاق ، حيث غدا البخل عندهم مكرمة ، والكرم مذمة ، ومن أراد الإطلاع على صور من بخل الفرس فما عليه إلا الرجوع إلى كتاب { البخلاء } للجاحظ ، ليرى فيه العجب .
ـ 7 ـ
وأخيراً ، لم تغفل الحكايات ، بأن تتكلم عن سوء تربية الإنسان العربي المسلم ، وضعته وضعفه أمام إغراء النساء ؛ العربي الذي كملت أخلاقه وخلقه وهُذبت صفاته وسجاياه بالإسلام ، وأصبحت ذاته في ذلك عنواناً للكمال الإنساني الحق ؛ أصبح في كتاب ألف ليلة وليلة لا يتحلى بأي نوع من التربية الصالحة ، فهو فاسد ومفسد ، يفسد الأرض التي يطأها ، ولا يسلم أحد من الناس من فساده وشر تربيته الوضيعة ، [ 00 وأما قولك وتتفرجين على الشجعان من المسلمين فوحق المسيح إنك قلت قولاً غير صحيح فأني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في هذين اليومين فلما أقبلتم لم أرَ تربيتكم تربية ملوك وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة](1)
أما ضعفهم أمام إغراء النساء واندفاعهم الأعمى وراء غرائزهم الجنسية الذي ظهر في الحكايات ، فهو يخالف ما هم عليه في الحقيقة والواقع ، فالعرب قد عُرفوا بقوة نفسية عجيبة وصبر لا مثيل له على المغريات ، كل المغريات وليس إغراء النساء وحسب ، واكتسبوا ذلك من طبيعتهم الصحراوية التي وهبتهم كل الصفات الحميدة وجعلت منهم نموذجاً مثالياً للفروسية ، تتمثل بهم كل صفات المروءة والشمم،ومن ثم كل صفات الرجولة والفروسية الحقة ، حيث أحرزتهم هذه الصفات النبيلة من الرضوخ لشهواتهم وغرائزهم الدونية ، ذلك لقناعتهم الخالصة من أن الرضوخ للأهواء هي حالة حيوانية غير سوية ، ومن العار عليهم أن يتصفوا بهذه الصفة الذميمة وكيف يرضون بذلك أو يقبلونه ، وهم المتعففون عن الدنايا ، الحالمون بنيل المعالي ؟
لهذا كله ، كانت نظرة العربي للمرأة ، نظرة خاصة ملؤها العفة والحياء ، ظهر ذلك جلياً في شـعرهم ، أظهر احترامهم اللامحدود لها ، لأنها هي الأم وهي الأخت وهي الزوجة ، وأظهروا حياءهم عن ذكر مفاتنها بصراحة مما ألجأهم إلى التورية ، يُكَنّوا عما يريدونه بما تسعفهم به لغتهم العربية الغنية بالاشتقاقات والمترادفات ؛ كما نجد في أشعارهم الحذر الشديد من سطوة النساء ومقدرتهم على التأثير في عقول الرجال ، لذا أبى العربي أن يملكهم نفسه أو يقع في شراكهم ؛ كل هذا أحرز العربي من الاستسلام للنساء والرضوخ لمغرياتهم والوقوع في أسرهم .
أما في كتاب ألف ليلة وليلة ، فالحال غير ذلك تماماً ، فخير وسيلة لإغواء الإنسان العربي وحرفه عن طريقه السوي وعن دينه ودنياه ، أن تقدم له امرأة حسناء ، عندها ينسى القيم والمبادئ ويبيع الدين والوطن ، نرى ذلك عندما يودّ أمير الحصن النصراني لو أن أسيره العربي المسلم يدخل في دين النصرانية ليكون له نصيراً وعوناً على أعدائه ، فيتكفل أحد بطارقته لتحقيق أمنية أميره وذلك في فتن الأسير العربي بواسطة المرأة [00 أنا أفتنه حتى يرتد عن دينه وذلك أن العرب تكثر الصبوة إلى النساء ولي بنت لها جمال وكمال فلو رآها لفتن بها ](1)
ومثل هذا الكذب والبهتان ، على أن العرب تكثر الصبوة إلى النساء لإشباع غرائزهم الجنسية ، قد ورد كثيراً في الحكايات محشواً في أحداثها حشواً ، بمناسبة وبدون مناسبة .
ـ 8 ـ
هكذا صور كتاب ألف ليلة وليلة ، الإنسان العربي ، مخلوق بلا إنسانية ، لا إيمان له ولا يقين ، يخامره الشك في دينه ودنياه ، يتصف بالجبن والخوف والسلبية ، لا بالشجاعة والإقدام والقوة الروحية ، مخلوق عابد للشهوات الدونية والمنافع الشخصية ، متمرد على موازين المجتمع الحقة ، مخلوق مـن نوع حيوان الغاب تسيطر عليه أنانية مفرطة .
فالعربي في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له أيّ صفة خيرة يُمدح عليها أو يذكر بها ، بل أن كل ما عنده وما يتعلق به من صفات يبعث على الاحتقار والنفور ، فهو ؛ في الحكايات ؛ جبان خوار عند اللقاء ، محتال كاذب مخادع لا يؤتمن له جانب ، متذبذب لا عقيدة له ولا مذهب ، حاقد على البشرية لا هم له إلا القتل والسلب وسفك الدماء ، فالشجاعة والصدق والألمعية والأمانة والكرم والمروءة والحلم والوفاء والفراسة ؛ كل هذه الصفات وأمثالها ؛ جعلتها الحكايات للفرس المجوس ؛ الحاقدين على كل ما هو عربي ؛ الذين لا يرضون أبداً أن ينسبون إلى غير أصلهم الفارسي ، فإذا نسبوا إلى غير ذلك ، ثاروا وشتموا ،[00 يا أخس العبيد كيف تجعل أولاد الملوك الأكاسرة من الشياطين الكفرة ](1) . ويتباهون بأصلهم الفارسي وبقوة وعظمة الملوك الأكاسرة ، [00 كيف تنسبني إلى الشياطين وأنا من أولاد الملوك الأكاسرة الذين لو شاءوا اخذ ملكك لزلزلوك عن عـزك وسـلطانك وسـلبوا عنك جميع ما في وطنك ].
هذه هي صورة الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو صورة للنهب والسلب ، صورة للعناصر الضارة بالأمن والاستقرار ، لا يكاد أن يصادفه المسافر ؛ في أي مكان أو زمان ؛ إلا قاطعاً للطريق سارقاً أموال الناس زاهقاً أرواحهم ، لقد ألصقت به الحكايات كل صفة ذميمة تأباها النفس الإنسانية ، ولخصت الحكايات صورة العربي بقولها : [ وكان البدوي قاطع الطريق وخائن الرفيق وصاحب مكر وحيل ] .
ولم تنسَ الحكايات من إبراز صورة أخرى ، هي صورة البطل الفارس المقدام ، التي يحبها الشعب ويتمادح بها ، وألصقتها بأناس غرباء في أصولهم عن الأمة العربية ؛ مدمجين أحياناً في الإسلام اندماج سائر الأبطال ، وأحياناً أخرى غير مدمجين ؛ فهذا عمر النعمان وأبناؤه ، وهذا عجيب ، وهؤلاء البرامكة ، وغيرهم من الشخصيات ، التي أظهرتها الحكايات بصورة محببة للنفوس ، كانت جميعها شخصيات أعجمية بأصولها ، كما تصرح الحكايات.
وخير ما يختم هذا الباب أبيات شعر للزمخشري التي تعد بحق رد على تخرصات الشعوبية عامة ، والتي تقول :
وقل هل فشا في الأرض غيرلسانهم
لسان فشو الضوء واليوم دامس
بـه عج فـي أمصارها كل منبر
وطنت به في الخافقين المدارس
على ظهرها لم يخلق الله أمـة
تناسبهم في خصلـة أو تلامس
تقايس بين الناس حتى إذا انتهى
إلى العرب المقياس طاح المقايس
وواحدة تكفيك هاتيك حجة
بساطعها تنشق عنك الحنادس
أجلّ رسول منهم وبلسانهم
أجلّ كتاب فاعتبر يا منافـس
وقل للشعوبيين إن حديثكم
أضاليل من شيطانكم ووساوس
( الجزء الثالث )
الباب الثالث

الإسلام
في ألف ليلة وليلة


إن الدين الإسلامي هو دين العرب القومي الحق ، الذي هو نتاج عبقريتهم الإلهية الخلاقة ، ومنظار رؤيتهم الشمولية للكون والعالم والحياة ، وحامل رسالتهم الحضارية الإنسانية المثلى ، ومن ثم هو العامل الأول والأهم الذي يربط العرب في وحدة متكاملة من القيم والمثل العليا ، والأخلاق والسلوكية الرفيعة ، كما أنه بالنسبة للعربي ، ليس ديناً كغيره من الأديان الأخرى ، ديناً هو مجموعة محددة من المبادئ والتعاليم والشرائع والعبادات والطقوس اللاهوتية الخالصة ، وإنما هو عقيدة كونية شاملة ، عقيدة هي دين وقومية وتاريخ وحضارة ورسالة .
فالعلاقة بين الأمة العربية وبين الدين الإسلامي ،لم تكن علاقة عادية أو سطحية أو عابرة في يوم من الأيام ، بل كانت وما زالت علاقة عضوية مصيرية ؛ فالذات العربية كانت إطار هذه الرسالة ، والوجود الذي قامت عليه واستندت إليه ؛ فكان العرب مادة هذه الرسالة ، وكانت هذه الرسالة ترجمة لهذه الذات وتعبيراً عنها بلغتها ، كما كانت تعبيراً عن أحكامها ، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً }(1) .
لقد أحدث الإسلام في الوجود العربي أعمق ثورة روحية ومادية وفكرية وحضارية ، واستطاع تغيير الأوضاع القائمة وقلب الموازين المتداولة وبناء المجتمع العربي المثالي ، تتوحد فيه قوى الخير والعدل ، وتشترك في إرساء دعائمه جميع فئات الأمة ، وانبثقت بنوره حضارة عربية إسلامية خلاقة ومبدعة لا خير منها ولا أمثل ، تعبر تعبيراً صادقاً عن إمكانية الإنسان العربي ومقدرته الفذة في بناء حاضره ومستقبله .
وكما عملت الشعوبية على طمس معالم الشخصية العربية وعلى تشويه الصفات الإنسانية المثلى التي يتحلى بها الإنسان العربي ، عملت وبكل جهدها على تخريب الدين الإسلامي الحنيف ، بل ركزت على تخريبه تركيزاً خاصاً وبذلت جهداً مضاعفاً في سبيل ذلك ، لأن تخريبه يعني تخريب الذاتية العربية ، وبمعنى آخر ، تخريب لأول وأضخم دعائم كيان العرب القومي .
فاندفع الشعوبيون للنيل من الدين الإسلامي متبعين شتى الطرق والأساليب ، ذلك لأن رسالته وانتشاره حدث مقترن بجهاد الأمة العربية وحدها ، فكانت غايتهم من عدائهم للإسلام هي النيل من العرب أنفسهم أشبه بالإنسان إذا ابغض شيئاً كره كل ما يتصل به أو يمت إليه بصلة ، كالأعمى من الحقد ،لا يرى في حسنات عدوه إلا ما يثيره حنقاً وغيظاً ، ولا يملك إلا مهاجمتها وتسفيهها مهمـا كانت قيمتهـا وأحقيتها ، لأن مـن ( أبغض شيئاً ابغض أهله ، وان مـن ابغض تلك اللغة ابغض تلك الجزيرة ، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام إذا كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السلف )(1) ، إن كل ما يصيب الإسلام من تشويه ، يسيء للعرب باعتبارهم هم القومة على هذا الدين الحنيف ، ومحاولة من الشعوبية لِبثِّ الريبة والشك وضعف الإيمان في نفوس أبناء الأمة العربية .
ـ 2 ـ
لقد اتبعت الشعوبية في كتاب ألف ليلة وليلة ، أسلوباً ملؤه المكر والخبث للوصول إلى هدفها الشعوبي الأسود للنيل من الدين الإسلامي ، فقد ألبست حكاياتها حلة إسلامية ، فأظهرت الأجواء العامة للأحداث وكأنها أجواء إسلامية ، وأدمجت شخوصها إدماجاً كلياً بالدين الإسلامي ، ومفاهيمها تنسب للإسلام ، وأغلب تعبيرها تعبير إسلامي .
إننا نرى الإسلام في كل حكاية من الحكايات ، وفي كل مكان من الأمكنة التي تدور فيها أحداث الحكايات ، في بغداد ومصر وفي البصرة ودمشق ، في الهند والصين ، وفي جزر الواق واق وغيرها من المدن والأماكن الواقعية أو الوهمية ، نراه ، تحت الأرض كما نراه فوقها ، وبمعنى آخر : نرى الإسلام وأهله في كل حدث من أحداثها في المعقول وفي اللامعقول من الزمان والمكان .
لم يكن هذا الطلاء الزائف الذي طلي به كتاب ألف ليلة وليلة ؛ هذا الكتاب ذو المنبع الشعوبي الحاقد ، والأساس الفكري الأعجمي الصرف، كما صرح بذلك أحد دارسيها ( ... ومن أدب هذه الحقبة ؛ العام الألف للميلاد تقريباً ، انتقى الغرب كتاباً واحداً أولاه اهتمامه ، هو كتاب ألف ليلة وليلة ، وأصله قصص فارسية قديمة نقلها إلى العربية الجهشياري المتوفى عام 942)(1) ؛ لم يكن هذا الطلاء الزائف ناتجاً عن عفوية القاص الشعبي ، لمحاولته تقريب هذه الحكايات الغريبة عن المستمعين ، من أذهان وذوق الجمهور المسلم ؛ كما يحلو للمستشرقين قوله في أبحاثهم ودراساتهم الكثيرة التي أنشئوها ووضعوها عن هذا الأثر الشعوبي الأسود ؛ ولم يكن قد جاء بتأثير البيئة الإسلامية على ذوق القاص أو عمق إيمانه بالإسلام ومبادئه ؛ كما استنتجه وتشدق به كثير من التغريبيين الذين ألفوا المؤلفات ونالوا الشهادات العالية على بحوثهم التي وضعوها لدراسة هذه الحكايات المغرقة بآثام الشعوبية وحقدها ؛ إنما الحقيقة الكامنة وراء هذا الأسلوب والغاية المنشودة منه ، ما هي إلا تعبيد الطريق وتسهله لتتمكن الشعوبية من خلاله النيل من الإسلام وأهله ، باسم الإسلام ومن خلاله ، لأن أخطر وسائل الحرب ؛ ولا سيما حرب المبادئ والعقائد ؛ تلك التي نحارب من داخل المبدأ أو باسمه .
وفعلاً ، استطاعت الشعوبية من خلال كتاب ألف ليلة وليلة ، أن توظف هذا الأسلوب الماكر في النيل والافتراء والكذب على الإسلام وأهله ، حيث ظهر الإسلام بعكس ما هو عليه في الحق والحقيقة ، فكل الصور الحياتية والسلوكية والأخلاقية والقيمية التي أظهرتها الحكايات على أنها إسلامية ، كانت في الواقع تتنافى مع الدين الإسلامي الحنيف جملة وتفصيلاً ، بل تؤكد تأكيداً قاطعاً على الغاية الشـعوبية من وراء انتهاج هذا الأسلوب الشـعوبي ، وعلى الحقد الأسود المختزن في صدر الشعوبية على الدين الإسلامي الحنيف وعلى أهله العرب الأطهار .

ـ 3 ـ
هاجمت الشعوبية ، من خلال الحكايات ، الإسلام من خلال هذا الأسلوب الخبيث ، محاولة تشويه مبادئه وقيمه ، وتجريده وتجريد معتنقيه من كل قيمة حضارية خلاقة ، فاتهمت الإسلام بأنه قد قام وانتشر بحد السيف وبسلطان الغلبة والقهر ، فهذا ملك الفرنجة يقول لابنته مريم الزنارية : [ ويلك يا خائنة كيف تركت دين الآباء والأجداد وحصن المسيح الذي عليه الاعتماد واتبعت دين الإسلام الذي قام بحد السيف على رغم الصليب ](1) .
ونرى ذلك في حكاية غريب وعجيب ، كيف أن بطل هذه الحكاية يجبر المغلوبين على اعتناق الدين الإسلامي جبراً ، ومن يرفض الإسلام منهم فمصيره الموت والهلاك .
هذه الفرية الكاذبة ساقها الشعوبيون في الأمس ، وساقها المستشرقون ، أعداء الإسلام ، حديثاً ، والإسلام الحنيف بريء من هذه الفرية كل البراءة ، ففي الآية الكريمة التي يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم ، بأن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن إن ربك هو اعلم بمن ظل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين}(1)في هذه الآية الكريمة ونظيراتها دفعٌ لهذه الفرية الكاذبـة ، وكذلك من آيات لله تعالى في ذلك { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }(2) .
وتاريخ الحروب الإسلامية ، ابتداء من غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام ، دليل قاطع على كذب هذه الفرية الشعوبية ، لقد بقي الرسول الكريم بمكة منذ البعثة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى ربه بالحسنى ما سل سيفاً ولا ردّ عن نفسه ولا عن اتباعه الأذى ، كما كانت الحروب بين الإسلام وبين الفرس ومن ثم الروم ، حروباً دفاعية حيث بدأها هؤلاء بالاعتداء على المسلمين ، فمنهم من قتل حامل كتاب رسول الله ، ومنهم من مزق الكتاب وأرسل جنده من يأتيه برأس محمد صلى الله عليه وسلم .
ولعل من أقوى الأدلة واقطع البراهين على ردِ هذه الفردية الكاذبة ، إن الإسلام انتشر وبقي ينتشر حتى بعد أن دالت دولة المسلمين وضعف أمرهم ، حيث انتشر الإسلام في أفريقيا وآسيا ، ودخله الملايين من الناس الوثنيين على أيد التجار والمتعبدين ، وخاصة في القرون الأخيرة .
ومع هذا أخذ أعداء الأمة العربية من شعوبيين ومستشرقين وتغريبيين هذه الفرية الكاذبة وكأنها حقيقة مسلم بها ، لا تقبل الرد أو المناقشة ، يقول احمد أمين : قال بعض الأوربيين بأن الإسلام لم يمتد بهذه السرعة إلا بالسيف فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى ، وهو خطأ واضح فهم لم يستعملوا السيف إلا دفاعاً عن أنفسهم وكفاً للعدوان عليهم(1) .
واتهم الإسلام في الحكايات بالإباحيـة ، فالإباحية التي يرفل بها المجتمع العـربي الإسـلامي ، أفراداً ومسـؤولين ، ما هي إلا النتيجة الطبيعية لتعاليم الإسلام ، فإن سرقة النساء الأجنبيات ما هي إلا جزء من الجهاد ، يأخذوهن ليتمتعوا بهن ، فهذه مريم الزنارية ترد على أبيها ملك الفرنجة حينما يسألها كيف تركت دين آبائها فتقول : [ 00 أنا مالي ذنب لأني خرجت في الليل إلى الكنيسة لأزور السيدة مريم وأتبرك بها فبينما أنا في غفلة
وإذ بسراق المسلمين قد هجموا علي وسدوا فمي وشدوا وثاقي وحطوني في السفينة وسافروا بي إلى بلادهم ](2)
ونجد هذه التهمة بكل وضوح في حكاية عمر النعمان ، عندما يطلب شركان ابن عمر النعمان من الملكة أبريزة أن تسير معه إلى بلاد الإسلام ، وردها عليه ، بأن الملك النعمان إذا ما رآها فإنها لا تستطيع الخلاص منه ، وتبرر ذلك بقولها : [ أن باعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي في كتبكم حيث قيل فيها أو ما ملكت أيمانكم ](1)
وفي الخبر عن سيدة المشايخ ، نجده في جملة أخبار الصالحين ، يقصه القاص فيقول : أنه لم يرَ أحداً في علمها بالدين وحكمتها ، فإذا ما قابلها وحضر مجلسها كان موضوع الحوار بينهما مفاضلة غزلية فاحشة بين الذكر والأنثى (2) .
ـ 4 ـ
لقد سمح هذا الأسلوب للحكايات ، بالاستهزاء بأركان الدين الإسلامي وفرائضه وطقوسه ، متّبعة في ذلك التظرف والتندر ؛ وما هذا إلا الزندقة بعينها ؛ حيث نجد مثل هذا الاستهزاء في حكاية قمر الزمان ، عندما تقول له بدور المتنكرة بزي الرجال : [ 0 مد يدك بين فخذي إلى المعهود لعله ينتصب إلى القيام من السجود ](1) إن مثل هذا القول استهزاء واضح على ركن من أركان الإسلام ، ألا وهو ركن الصلاة .
أما في حكاية زينب الحيالة نجد استهزاء بركن آخر من أركان الإسلام ، وهو ركن الحج ، نرى هنا وبكل وضوح ، أن هذا الاستهزاء مقصود تماماً وموجه بكل خبث لهذا الركن ومناسكه العطرة، حيث تقول الحكاية: [ وحلت سراويلها فنزلت في خلخال رجليها وأخذنا في الهراش والتعنيق والغنج والكلام الرقيق والعض وحمل السيقان والطواف بالبيت والأركان ](2) ، هذا الكلام لا أرى موجباً للتعليق عليه فما جاء في الحكاية يفي ويوضح الغاية والمقصد الشعوبي .
أما في حكاية الحكيم السندباد ، استهزاء واضح على ليلة القدر ؛ على عظمتها ومكانتها عند جمهور المسلمين ؛ فالرجل الذي تحققت أمنيته بأن تنفتح له أبواب السماء في ليلة القدر ، عندما ينظر في ليلة من ليالي القدر إلى السماء [ 00 فرأى الملائكة وأبواب السماء قد فتحت ورأى كل شيء ساجد في محله ] ، وعندما يستشير زوجته ؛ في الدعوات الثلاث التي نذر أن يدعو بها إذا ما تحققت له أمنيته ؛ تشير عليه الزوجة بأن يقول : [ اللهم كبر لي أيري ] وعندما يدعوا الرجل [ 00 فصار ذكره مثل ضرع القرع ] ، فيتعذر على الرجل إتيان زوجته أو حتي الوقوف على قدميه ، يطلب من الله أن ينقذه من هذه المحنة التي ابتليَ بها [ فصار الرجل ممسوحاً ليس له ذكر ] ، ويقع ثانية بمحنة أكبر من الأولى ويكاد أن يفقد زوجته التي ترى بأنها لم تعد بحاجة له حيث أصبح بلا ذكر ، فيدعو الدعوة الثالثة والأخيرة بأن يعود إلى ما كان عليه (1) .
ـ 5 ـ
وظهر الدين الإسلامي في الحكايات ، دين التوكل على الأولياء أصحاب المقدرة الفذة ، الذين يمنعون الأذى عن من يستنجد بهم وهم في قبورهم ؛ مع أن الإسلام جاء ليعلن التوحيد المحض للبشرية وليحرر الإنسان من كل عقيدة سواها ويجعل الإنسان لا يستعين في قضاء حوائجه إلى بالله سبحانه وتعالى وحده ، ولا يستعين في ذلك على الشيخ عبد القادر الجيلاني ولا بالسيدة نفيسة ؛ كما فعل علاء الدين أبو الشامات عندما أراد البدوي قتله [00 يا بركتك يا سيدي عبد القادر يا جيلاني فنظر علاء الدين إلى يد حولت الحربـة عن صدره إلى صدر المقدم كمال الدين العكام فطعنه البدوي بها وامتنع عن علاء الدين ](1) .
ومرة أخرى تظهر الحكايات أهمية الاستعانة بغر الله ، عندما يقف البدوي تحت الصهريج الذي يختبئ به علاء الدين ويمد يده ليقتنصه يقول علاء الدين : [ 00 يا بركتك يا سيدتي نفيسة هذا وقتك وإذا بعقرب لدغ البدوي في كفه ] (2) .
ومثل ما جعل الدين الإسلامي الإنسان بأن لا يستعين بغير الله ، جعله كذلك أن لا يتوسل بالشهداء والقدسيين ، ولا حتى بالأنبياء والرسل ؛ عندما يطلب حاجة من الله تعالى ؛ هكذا أراد الإسلام لعباده ، لا كما هو الحال في الحكايات الحاقدة على الإسلام ، فيها من أراد الولد ما عليه إلا التوسل بالأنبياء والرسل والأولياء والشهداء ، لتحقيق رغبته هذه ، وكأن الله ليس بقريب من عباده ، ولا يسمع دعائهم إذا ما دعوه إلا بواسطة هؤلاء ، تقول إحدى الحكايات : [ ولكنه بلغ من العمر مدة ولم يرزق ولداً ذكراً فلما قلق لذلك توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وسأله بجاه الأنبياء والأولياء والشهداء من عباده المقربين أن يرزقه بولد ذكر يرث الملك من بعده ويكون قرة عينه ] (3) .
إن مثل هذه الحكايات التي تطعن بوحدانية الله سبحانه وتعالى كثيرة الورود في كتاب ألف ليلة وليلة ، واكتفيت بما أوردته منها منعاً للإطالة .
ـ 6 ـ
ودست الشعوبية ؛ من خلال حكايات كتاب ألف ليلة ؛ على الدين الإسلامي الكثير من المقولات الشعوبية الصرفة ، التي تتنافى مع تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف منافاة مطلقة ، مثل مقولة [ الكشف والتجلي ] لذات الله ، التي قالت بها الصوفية [00 وذكر فيه بعض الصوفية أن الله يتجلى في الدنيا لأوليائه ] (1) .
نجد مثل هذه المقولة عند علم من أعلام الصوفية ، ألا وهو الحلاج ؛ ذلك الفارسي الشعوبي المارق ؛ في إحدى مناجاته الله ليكشف له ذاته ، يقول : [ 000وحرمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك فاغفر لهم لأنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا ولو سترت عني مـا سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت ](2) .
إن هذه المقولة ؛ أي الكشف والتجلي ؛ ما هي إلا نزولاً بذات الله تعالى من كونه لا مثيل له إلى تشبيهه بأشياء قابلة للحدوث والتغيير ، وهذا يعني هدماً لمبدأ الوحدانية الذي قامت وتقوم عليه العقيدة الإسلامية الغراء .
نرى مثل هذه المقولة الشعوبية الهدامة في حكاية أبو الحسن مع أبو جعفر المجذوم ، عندما يطلب أبو الحسن من المجذوم أن يدعوا له الله بأن [00 يحبب الله إليه الفقر وأن لا يبيت على رزق معلوم ، وأن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم ] ، أي النظر إلى وجه الله تعالى ، وتعلمنا الحكاية عن تحقق الدعوتين الأولى والثانية لأبي الحسن ، وبقيت له الدعوة الثالثة فقط وهي النظر إلى وجهه الكريم ، فهو ينتظرها وهي متحققة كباقي الدعوات لا ريب في ذلك ؛ حسب رأي الحكاية .
ونجد مثل هذه المقولة في حكاية أخرى، موجودة في خبر الصالحين[ فلما جن الليل علي نمت فرأيت رب العزة تبارك وتعالى في المنام ](1) .
لقد أوردت الحكايات كثيراً من المقولات الشعوبية المنافية لتعاليم ولروح الدين الإسلامي الحنيف ، ذلك لبث سمومها باسم الإسلام ؛ كما نوهنا سابقاً ؛ ومن تلك السموم الشعوبية ما نراه في إحدى حكايات الصالحين حين يقول إبراهيم بن أدهم : [ وإذا ببِشْرٍ يصلي فقمت وراءه أركع إلى أن يؤذن فقام رجل رث الحال وقال يا قوم احذروا الصدق الضار ولا بأس بالكذب النافع ](1) .
لقد نَسِيَ واضع هذه الحكاية أو تناسَ ، بأن الكذب بكل أشكاله ممقوت مذموم عند المسلمين ، بل ويتعارض مع تعاليم الإسلام حتى وأن كان الكاذب مازحاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ أنا زعيم بيت في الجنة لمن ترك الكذب } ، وروي عنه ، عليه أفضل الصلاة والسلام : { عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ؛ وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار،ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً } كما اتفقت كلمة فقهاء الأمة وعلمائها على أن الكذب ، بكل أشكاله وأنواعه ، فساد في الخلق وغش في المجتمع ، وعائق عن التقدم والرقي ، ومحطم للود والإخاء ، ونفاق يُفقد المرء كرامته ويهدر شخصيته ، وصفة من صفات الذين لا يؤمنون بقيم سامية ولا يتقيدون بمبادئ عالية .
وذكرت الحكايات كثيراً من خرافات الصوفية ، التي أبدعتها عقول الشعوبية والتي تتعارض مع حقيقة الدين الإسلامي ، ففي الحكاية المنسوبة إلى ابن هارون الرشيد [00 ووقفت أنظر الزاهد وهو لا يراني فأخذ كفاً من الطين ووضعه على الحائط وإذا الحجارة يتركب بعضها على بعض فقلت هكذا أولياء الله ](1) .
وفي حكاية مالك بن دينار وانحباس المطر ، يسأل مالك الأسود الذي دعا ربه واستجاب له الله وأنزل المطر ؛ كيف علمت أن الله يحبك ؟ ، فيرد عليه الأسود [ 00 تنح عني يا من اشتغل عن نفسه فأين كنتُ أنا حين أيدني بالتوحيد وخصني بمعرفتـه أَفَتَراهُ أيدني بذلك إلا لمحبته لي – ثم قال – محبته لي على قدر محبتي له ] ، وعندما يشتري مالك العبد من النخاس ليعتقه ، وبعد أن يعرفه بحاله ، يدخل الأسود المسجد فيصلي ركعتين ثم يدعو ربه قائلاً : [ 00 إلهي وسيدي ومولاي سر كان بيني وبينك أطلعت عليه المحلوقين وفضحتني فيه بين العالمين فكيف يطيب الآن عيشي وقد وقف على ما كان بيني وبينك غيرك أقسمت عليك إلا ما قيضت روحي الساعة ] فما رفع رأسه بعد ذلك .
إن مثل هذه الخرافات الصوفية ، ما هي إلا سموم شعوبية تبغي تخريب روح الإسلام ، وتشويه نظارة مبدأ التوحيد الذي يقوم عليه ، هذه الخرافات وردت كثيراً في الحكايات ، ولو أردنا تقصيها وذكرها لطال بنا المقام وخرجنا عن المراد .
ـ 7 ـ
وبشكل واضح للعيان ركزت الليالي ؛ من خلال أحداث حكاياتها ؛ على مسألة القضاء والقدر ، هذه المسألة التي أعطت أعداء الإسلام مادة خصبة في دفع الشريعة الإسلامية عن مجالها ومستقرها ، ذلك عن طريق تجميد إرادة الإنسان وإلغاء دوره في ممارسة أي عمل بناء ، حيث قالت الجهمية الجبرية : [ أنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا الله تعالى وأن الخلق فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح إلا أن الله خلق في الإنسان قوة بها كان الفعل وخلق فيه إرادة الفعل واختباره كما خلق فيه سروراً بذلك وشهوة ](1) . وإضافة إلى هذا التشبيه الذي يشبِّه الإنسان بالشجرة في مهب الريح ، صورت الجبرية حياة الإنسان بالنوم فهو كالنائم يرى أنه بالشام أو بمكة ، كما يرى بمنامه ، وأن أفعاله منسوبة إليه على المجاز .
إن الفرق كبير بين المفهوم الإسلامي الصحيح للقضاء والقدر والمفهوم الشعوبي المضلل لهما ، فالقضاء والقدر في المفهوم الإسلامي الحق يؤمن بربط الأسباب بمسبباتها ، ويحمل صاحبها على العمل ثم لتكون النتيجة بعد ذلك ما تكون . أما المفهوم الشعوبي ؛ كما رأينا ؛ يرى الإنسان كالريشة في مهب الريح وما قدر لابد أن يكون ، عمل الإنسان أو لم يعمل ، تشجع أم لم يتشجع .
فإذا كان هذا حال الإنسان ؛ حسب المفهوم الشعوبي ؛ في هذه الحياة فكيف تجوز محاسبته ؟ ولماذا جاءت الشريعة وأكدت أركاناً عملية ، وأخرى اعتقاديه ، على الإنسان أن يؤمن بها ويطبقها ؟ لماذا التكاليف والمحرمات والفرائض ؟ ولماذا المعاد والحساب والجنة والنار ؟ إن هذا التجميد للإنسان يجر خلفه تجميداً لرسالة الإسلام الغراء (1).
لقد أخذ كتاب ألف ليلة وليلة هذا المفهوم الشعوبي للقضاء والقدر جملة وتفصيلاً ، وحاولت حكاياته أن تؤكد أن هذا المفهوم هو المفهوم الإسلامي الحق للقضاء والقدر ، فتظهر في أحداثها أن كل ما يقوم به شخوصها من أعمال جدية أو مبتذلة ، وكل ما يصيبهم من خير وشر ، هو مقدر عليهم وفي الكتاب مسطور ، ليس لهم سلطان لرده أو رفضه ، فإن زنى الزاني أو سرق السارق أو قتل القاتل ، فهو يعمل ذلك بقضاء قد قضاه الله عليه منذ الأزل ، وإن أخطأ وارتكب المعاصي بحق نفسه أو بحق المجتمع فذلك قد قدر عليه بكتاب من عند الله مسطور .
وهنا بعض الحكايات التي تظهر هذا المفهوم الشعوبي للقضاء والقدر ، ففي حكاية مزين بغداد ، عندما يذهب الشاب إلى بيت محبوبته ويعرف أن المزين قد تبعه ، يقول : [ 00 من أين علم هذا الشيطان بي فاتفق في هذه الساعة لأمر يريده الله من هتك سري](1) ، وفي نفس الحكاية نسمع مزين بغداد يقول : [00 أما أخي الثالث فاسمه قفة ساقه القضاء والقدر إلى دار كبيرة ](2) .
وفي حكاية الغانم بن أيوب ، عندما يمتنع من النوم مع الجارية قوت القلوب ، في فراش واحد ، وعدم إقدامه على معاشرتها ومطارحة الغرام معها ، إكراماً لأمير المؤمنين هارون الرشيد ، لأن هذه الجارية محبوبته ومحظيته ، ولكنها قد أُبعدت عنه ؛ كما تقول الحكاية ؛ بحيلة رخيصة دبرتها زبيدة زوجة الخليفة ، تقول الجارية لغانم : [ يا سيدي دعنا من هذا وكل شيء يجري بقضاء وقدر](1).
ونرى هذا المفهوم ؛ الشعوبي الحاقد ؛ للقضاء والقدر ، في حكاية نزهة الزمان بنت عمر النعمان ، فتقول عندما يسألها التاجر عن حالها : [00 كان ذلك في الكتاب مسطور ](2) . فيأخذها هذا القضاء إلى أحضان أخيها شريكان فينجبها غلاماً،وذلك لتأكد الحكايات مفهومها حول القضاء والقدر.
وتتابع الحكايات في تأكيد مفهومها الشعوبي للقضاء والقدر ، ففي إحدى حكايات الصالحين نقرأ ما يلي : [ قال منصور بن عمار حججت حجة فقصدت مكة من طريق الكوفة وكانت ليلة مظلمة وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](3) .
وتمضي الحكايات في غيَّها وحقدها على الإسلام ، فنرى في حكاية عامل المسلخ الحشاش ، كيف تحاول المرأة الزانية تبرير جريمة الزنى التي ارتكبتها باختيارها وإرادتها مع الحشاش بأنها قضاء من الله فتقول : [ 00 فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان مـا كان مـن قضاء الله علينا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](1) .
إن طرح مثل هذا المفهوم الشعوبي للقضاء والقدر ، الذي يظهر الإنسان مسلوب الإرادة ، مجبر على كل عمل يقوم به ، ولا مجال له لاختار أفعاله بحالٍ من الأحوال ، يقتل ويسرق ويرتكب المعاصي والآثام ويخالف شرع الله ويخرج عليه ، بقضاء الله وقدره وبكتاب مسطور عند الله منذ الأزل ، أن هذا الطرح لهذا المفهوم يؤكد لنا فوق تأَكُدِنا ، شعوبية حكايات ألف ليلة وليلة ، ومَنْحاها التدميري لكل ما هو عربي أصيل ، حيث تبغي هنا من خلال مفهومها للقضاء والقدر ، دفع الإنسان العربي المسلم إلى مهاوي الرذيلة والفساد والانحلال والخروج على تعاليم ومبادئ وروح الدين الإسلامي الحنيف ، الذي فيه وبه ومن خلاله وحده ، القوة القادرة على تدمير الشعوبية والتصدي لأساليبها الثعبانية الملتوية ، والذي فيه وبه ومن خلاله وحده، تكمن قوة وعظمة الأمة العربية وثباتها وبقاءها وديمومتها .
ـ 8 ـ
بالرغم من كل الأساليب الملتوية الخفية ، والتستر الذي أبدته
الحكايات في تعرضها للدين الإسلامي ، لتشويه مبادئه ومسخ روحه وتكدير صفائه ، وبالرغم من محاولاتها في إخفاء حقدها ، فقد باءت جهودها بالفشل في إخفاء هذا الحقد الأسود على الإسلام وأهله ، وتغلب حقدها على تقيتها فأظهرت في كثير من أحداث حكاياتها ما تكنه من حقد وغل على الإسلام ، وتركز هذا الحقد على الدعائم الأساسية التي تقوم عليها العقيدة والشريعة الإسلامية ، ألا وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، هاتين الدعامتين الأساسيتين للإسلام اللتين ترتبطان ارتباطاً عضوياً طبيعياً وقوياً فيما بينهما لا انفصال به البتة ؛ ويطالعنا هذا الترابط المكين في كل ما أتى به الإسلام من تشريع ، وفي كل ما يدعو إليه من قيم وأخلاق ومبادئ ومثلى ، تقوم عليها الحياة وينتظم بها الكون ، ومثل عليا تسعد الإنسانيـة ، فهذا رسول الله عليـه الصلاة والسلام يقول : { لقد أوتيت القرآن ومثله معه } ، يريد رسولنا الكريم بهذا القول سنته الشريفة ، التي تتمثل في جماع أقواله وأفعاله ، والتي علينا نحن معشر المسلمين الإيمان بها واتباعها والعمل بمقتضاها ، تنفيذاً للأمر الإلهي الذي أمرنا الله به في كتابه العزيز : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلـى الله والرسـول إن كنتم تؤمنون بالله واليـوم الآخر }(1)، وواضح أن المعنى من أمر الله تعالى برد ما نختلف فيه إليه هو الرد إلى كتابه العظيم ، وأن معنى الرجوع إلى الرسول هو الرجوع إلى سنة نبيه المطهرة بعد أن لحق بالرفيق الأعلى .
وتستمر الشعوبية ، من خلال الحكايات ، في محاولاتها السوداء في النَيْل من الدين الإسلامي الحنيف ، فتهاجم الفقهاء والفقه الإسلامي ، والقضاة والقضاء عند المسلمين ، لأن الفقه عماد دين الإسلام كما روي عن رسول الله في الحديث المرفوع قوله : { لكل شيء عماد ، وعماد هذا الدين الفقه } ولأن الفقهاء قادة الأمة ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : { الأنبياء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة } ، فبالفقه صلحت هذه الأمة العظيمة ، وسادت البشرية قروناً طويلة ، ولا تزال بفضله صالحة لقيادة العالم وتوجيهه نحو الخير والكمال . وبالقضاء تحقق العدل في المجتمع الإسلامي ، وساد الأمن والاستقرار والطمأنينة ، لأن القضاء يمثل القيم والمثل والمبادئ الإسلامية تمثيلاً واقعياً ، وينفذها تنفيذاً عملياً .
فإذا كان في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة تكمن قوة العرب ، وبهما حرز لهم من التحلل والانجراف خلف أكاذيب الشعوبية وألاعيبها المضللة ، ففي الفقه والقضاء نجد الجدار المتين الذي تحطمت أمام بنيانه الصلب كل مؤامرات ودسائس الشعوبية وهجماتها الشرسة على الدين الإسلامي وعلى أهله العرب .
لهذا كله ، زاد سخط الشعوبية على القرآن الكريم وعلى السنة النبوية ، ومن ثم على الفقه والقضاء الإسلامي ، كما زادها حقداً فوق حقد، مما جعلها تصعد من هجماتها الوحشية عليهم جميعاً ، في كل مكان وفي كل زمان ، وعلى جميع الأصعدة والمستويات ، وبمختلف الأساليب والوسائل ، لأن في بقاء أركان الإسلام ودعائمه ، وصفائهما من الشوائب ، ما هو إلا فشل وإحباط للمؤامرات الشعوبية والحيلولة دون تحقيق مخططاتها والوصول إلى أهدافها وغاياتها ، ومن ثم موت الشعوبية نفسها وطيها في مزبلة التاريخ .
ـ 9 ـ
القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل ، ودستور الإسلام المطهر ، الموحى إلى النبي العربي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، الذي اصطفاه الله رسولاً، وكان القرآن الكريم بذلك عند المؤمنين مصدراً لعقائد الدين الإسلامي ولأُصول أحكامه وشرائعه ، وبمعنى آخر ، يمثل القرآن الكريم أصل الشريعة الإسلامية وعمودها الفقري ، ومصدر المصادر كلها للإسلام ، من جمعه في قلبه فقد جمع النبوة بين جنبيه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والقرآن الكريم حامل عقيدة العرب وله أفضال كثيرة عليهم ، فهو ذكر لهم كما قال الله تعالى : {وإنه لذكر لك ولقومك }(1) وهو مجسد أخلاقهم وقيمهم ومثلهم ، وهو حافظ لغتهم ، لأنه أُنزل بلسان عربي مبين ، وبأفصح ألسنتها على الإطلاق،وقد جاء بالذكر الحكيم قوله تعالى : {وهذا لسان عربي مبين }(2) ، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله في ذلك(3) : أن الله ، أقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ؛ جل ثناؤه ؛ كل لسان غر لسان العرب في آيتين من كتابه ، فقال الله تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }(4) وقـال : { ولو جعلناه أعجمياً لقالوا لو فصلت آياته أأعجمي وعربي }(5) .
كما أن أمثال القرآن الكريم التي ضربت ، كانت أمثالاً عربية ، والأقوام التي ذكرت فيه ؛ للعبرة والموعظة ؛ كانت أقواماً عربية ، والأحداث التاريخية التي أوردها أحداثاً عربية صرفة لا يجهلها أي عربي ، والعادات التي أقرها عادات عربية والأخلاق التي هذبها وأتمها بنعمته أخلاق عربية خالصة ، جاء في الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { جئت لأُتمم مكارم الأخلاق } .
فالقرآن الكريم ، عربي ، وسره في عربيته ، وأبى الله تعالى إلاّ أن يكون عربياً ، وأن يقرأ ويسمع بنظمه العربي ، وأن يؤثر بتلاوته العربية ، ويتذكر به السامع ويصحو على جرسه الغافل ، قال الله تعالى : { أنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون }(1)، وقال ، عز من قائل ، : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون }(2) .
إن كل سورة من سور القرآن الكريم ، بل كل آية من آياته ، تؤكد تأكيداً لا ريب فيه ، أن الله سبحانه وتعالى كان متوجهاً بكتابه الكريم ، إلى العرب ، إلى العقل العربي ومعارفه وقيمه وأخلاقه ومثله ، وهذا لا ينفي عالمية رسالة الإسلام ، ولكن يؤكد على كمال الأمة العربية وأهليتها وتكليفها لحمل رسالة الإسلام إلى البشرية جمعاء .
لقد أدركت الشعوبية ، أولاً : المنزلة الرفيعة التي حبا الله بها العرب وأن هذه المنزلة باقية ما بقيَ القرآن الكريم ، و ثانياً : أن الذي يدين بدين الإسـلام يجب أن يتعبد بالقرآن ، فلا تقبل منه صلاة ما لم يقرأ القرآن باللغة العربية ، وأن قيام المسلم - غير العربي - بتنفيذ هذا الشرط ؛ولا بد لصحة إسلامه من هذا التنفيذ ؛ كاف لأن يجعل منه على مدى الأيام ، عربياً ، لا يختلف عن العربي أصلاً في مَيْل أو شعور ، وهكذا يذوب في العروبة ويصبح مدفوعاً إلى التجرد من قوميته ومن لغة قومه ، فيستعرب ويحشر محشر العرب ، ويعد في عدادهم ولا يعود يجد أي فرق بينه وبينهم ، ثم يعقب ذرية لا تعرف غير أمة العرب لها نسباً .
لهذا كله ، حاولت الشعوبية تحريف وتشويه ما جاء في القرآن الكريم في تفسير آياته وتأويلها بشكل يتناسب مع ميولها وأغراضها الشعوبية السالبة ، ولإخراجها عن مدلولها اللغوي إلى تأييد عقيدة يعتنقونها ، أو محاربة أمة العرب وإغماطها حقها .
وقد اتبعت حكايات ألف ليلة وليلة ، هذه الطريقة اللاأخلاقية ، أي تفسير القرآن بما يسيء للقرآن ، نجد ذلك في حكاية عمر النعمان ، عندما يطلب شركان من الملكة النصرانية أبريزة أن تسير معه إلى بلاد الإسلام ، وردها عليه بغيض : [ 00 وحق المسيح لقد كنت عندي ذا عقل ورأي ولكني اطلعت الآن على ما في قلبك من الفساد وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب فيها إلى الخداع كيف أصنع هذا وأنا أعلم أني متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه لأنه ما في قصوره مثلي ولو كان صاحب بغداد وخرسان وبنى له أثني عشر قصراً في كل قصر ثلاثمائة وستون جارية على عدد أيام السنة والقصور عدد أشهر السنة فإن حصلت عنده ما فزع مني لأن في اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيها أو ما ملكت أيمانكم فكيف تكلمني بهذا الكلام ](1) .
لقد أرادت هذه الحكاية من { وما ملكت أيمانكم } عكس ما أراد الله تعالى لها ، فأصبحت هنا سماح للتمتع بالنساء كل النساء بدون أي قيد أو شرط ، وأن المرأة في الإسلام مستباحة وممتهنة الكرامة ، وجدت للتمتع فقط ، وأنها ما هي إلاّ شيء من الأشياء القابلة للتملك والتداول . وأصبحت هذه الآية القرآنية الكريمة ، كذلك ، وكأنها دعوة للإباحية يدعو بها القرآن الكريم كتاب الإسلام ، هذا الكتاب الإلهي المطهر الذي حوى فيما بين دفتيه ، ما وضع الله من الأسس والقواعد والنظم العظيمة التي تصون إنسانية الإنسان ، وعلى الأخص إنسانية المرأة ، من خلال تنظيم العلاقة فيما بينها وبين الرجل ؛ من زواج وطلاق وإرث وإلى ما هنالك من أمور حياتية أُخرى ؛ بحيث حصلت المرأة من خلالها ؛ ولأول مرة في تاريخ البشرية ؛ على أعلى قيمة إنسانية أرادها الله لها .
وقد ختمت الشعوبية أحداث حكاية الملكة أبريزة بما يلائم هذا التفسير الشعوبي المضلل ، فتُظهر مصداق ما توقعته الملكة ، بعدم تخلصها من النعمان إذا ما رآها ، وكيف أنه حصل منها على ما يبغي باسلوب إجرامي رخيص يدل على امتهان إنسانية المرأة وانحطاط قدرها عند المسلمين .
ـ 10 ـ
السنة النبوية تمثل أفعال وأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي المصدر الثاني للشـريعة الإسـلامية الغراء ، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقرآن الكريم ، لكون القرآن لم يتناول الأحكام والمبادئ التشـريعية ؛ مـن عبادات ومعاملات وغيرها ؛ إلا بالإجمال وعلى نحو كلي ، فكان لابد من بيان وتفصيل ، فكان لابد من الأثر النبوي ، ولابد من الأخذ بسنة رسول الله ، والنزول على أحكامها ، باعتبارها بيان للقرآن الكريم وتفسير له ، ولا عجب فإطاعة الرسول ليست إلا إطاعة الله عز وجل ، وفي هذا قال الله تعالى : { ومن يطع الرسول فقد أطاع الله }(1) .
لقد كان دور الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، دور الشارح للمتن ، الذي هو القرآن الكريم ، إلا أنه شارح ملهم ومفسر معصوم ، فيما يتصل بالقرآن والدين وأُصوله ، فهو يعمل تحت رعاية الله دائماً ، وهو لا ينطق عن الهوى ، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ، بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأنزل عليه كتابه بالهدى والنور لمن اتبعه ، وجعل رسول الله الدال على ما أراده من ظاهره وباطنه وخاصه وعامه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله هو المعبر عن كتاب الله ، الدال ، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه ، فكانوا أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
لقد ركزت الشعوبية هجومها على السنة النبوية ، محاولة الازدراء بها والنيل منها بشتى الطرق وبمختلف الأساليب ، ودعائمه الأساسية بصورة عامة، ثم الأصل العربي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، المرسل على العرب لهدايتهم ولإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ولإعدادهم لحمل رسـالة الله للبشرية قاطبة ، قال الله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }، فصاروا بهذا الدين القيم أخوة ، عاشوا في حماه بمحبة بعد بغض ، وبوحدة بعد فرقة ، وبمركز القيادة والريادة بعد التبعية ، والمسؤولية والتزام بعد اللامبالاة والأنانية والتسيّبيَّة ، فكانوا أهلاً لحمل رسالة السماء ، لأن الله فضلهم فوق فضلهم برسول الله على غيرهم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }(1) .
لهذه الأسباب وغيرها ، عمدت الشعوبية إلى تخريب هذا المصدر العظيم للإسلام ، والتجديف على الرسول العربي عليه الصلاة والسلام ، والازدراء بالحديث النبوي الشريف ، وقد اتبعت في ذلك أساليب وسبل كثيرة ، من وضع الأحاديث الكاذبة على لسان الرسول الكريم ، إلى إفساد الصحيح بالتأويل والطعن عليه ، إلى غير ذلك من مفتريات ، يقول ابن الأثير في ذلك :00 فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم 00 وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه (2) .
لقد دَلَت الحكايات بدلوها في هذا المجال ، وجارت النتاجات الشعوبية الأخرى في وضع وتأويل الأحاديث النبوية الشريفة ، ولم تقف عند هذا ، بل تجاوزته إلى ما هو أقبح وأقذر من ذلك ، فاستخفّت بأحاديث رسول الله وسنته المطهرة ، حيث عملت على التندر والسخرية منهما ، ذاكرتهما في مواضع وأحداث لاأخلاقية يأبى عن ذكره في مثل هذا من كانت لديه ولو ذرة من الاحترام أو التأثر بالإسلام .
ومن الدس الكاذب على رسول الله ، مما ورد في كتاب ألف ليلة وليلة ، الحديث الموضوع الذي يقول : قال هشام بن بشر قلت لعمر بن عبيد ما حقيقة الزهد ، فقال لي قد بينه رسول الله عليه السلام في قوله : الزاهد من لم ينسَ القبر والبلاء وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد غداً من أيامه وعد نفسه من الموتى (1) ، إذا كان على الإنسان أن يعد نفسه من الأموات ؛ كما جاء في حديث هذه الحكاية ؛ فكيف له أن يفكر ويعمل لدينه ودنياه ؟ بل كيف يتلاءم هذا مع ما جاء بالقرآن الكريم والسنة النبوية المؤكدة ، من أمر موجه للإنسان ؛ وبالأخص المؤمن برسالة الإسلام ؛ أن يسعى ويعمل ؟ . وتتابع الحكايات بإيراد مثل هذه الأحاديث الموضوعة ، فتقول : 00 وقد قال صلى الله عليه وسلم نعم الحسب المال (2) ، وهذا القول لا يلزم أي دليل إثبات بأنه مفترى على رسول الله ، لأن أي مطلع على دين الإسلام يعرف مصير الذين يكنزون الذهب والفضة !! إن هذه الأحاديث الموضوعة وأمثالها ، افتراء وكذب بيِّن على رسول الله ، أرادت بها الشعوبية تشويه صفاء الإسلام والتشويش على مبادئه الحقة .
ونرى في الحكايات صور كثيرة من الاستهزاء والسخرية والاستخفاف بأحاديث رسول الله ؛ بأسلوب التندر والتظرف ؛ ففي حكاية هارون الرشيد مع الجاريتين المدنية والكوفية ، عند ما كان يرقد الخليفة بينهما ؛ تسرد الحكاية حدثها بطريقة لا أخلاقية ؛ فتبرر الجارية المدنية موقفها من حيازتها ذكر الرشيد ؛ بعدما أجهدت نفسها لجعله منتصباً ؛ بإيراد حديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي أنه قال : {من أحيى مواتاً فهو له ولعقبه }، فترد الجارية الكوفية عليها ؛ بعد أن تستولي على ذكر هارون الرشيد المنتصب ؛ بحديث آخر لرسول الله { حدثنا الأعمش عن خيمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي قال الصيد لمن صاده لا لمن أثاره} ، ومما يؤكد الغاية الشعوبية من إيراد هذين الحديثين على هذا الشكل اللاأخلاقي وفي مثل هذا المقام، تكرار نفس الحكاية وبنفس الليلة،
ولكن بزيادة جارية ثالثة وهي العراقية ، وإيراد الحديثين نفسهما ،
ولكن بإسناد مختلف (1) .
ويظهر هذا الاستخفاف ، للحديث النبوي الشريف ، في حكاية علي نور الدين ، عندما يطلب الفتى علي ( الخمر) من الشيخ إبراهيم فيقول له الشيخ [ أعوذ بالله منها إنَّ لي ثلاث عشر عاماً ما فعلت ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن شاربه وعاصره وحامله ، فقال له نور الدين اسمع مني كلمتين قال قل ما شئت ، قال إذا لم تكن عاصر الخمر ولا شاربه ولا حامله هل يصيبك من لعنهم شيء ، قال لا ، قال خذ هذا الدينار وهذين الدرهمين واشترِ بهذا الدينار خمراً واحمله على الحمار وحينئذ لا تكون حاملاً ولا عاصراً ولا مشترياً ولا يصيبك شيء مما أصاب الجميع ](1) .
وتتعاظم هذه السخرية وهذا الاستخفاف بالحديث النبوي الشريف ، في حكاية علاء الدين أبو الشامات مع محمود البلخي ، والشعر اللاأخلاقي الذي يقوله الأخير فيه (2) :
حدثنا عـن أشياخـه أبو بلال شيخنا عن شريك
لا يشفي العاشق مما به -------------- (3)
ولقد حذفت الشطر الأخير من البيت الثاني لما فيه من فجور مكشوف .
هكذا صبت الحكايات ، حقدها الأسود على الحديث النبوي الشريف ، فلم تكتفِ بالكذب على رسول الله ، بل وضعت أحاديثه ؛ وبكل خبث ؛ موضع السخرية والتندر والتهكم ، متَّبعة في ذلك ؛ كما رأينا ؛ أسلوب التظرف لتخفي وراءه مقاصدها وغايتها الشعوبية القذرة في النيل من أحاديث رسول الله ومن ثم من شخص رسولنا الأكرم ، صلوات الله عليه ، نفسه .
ومثلما عملت الحكايات بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، بوضعهما موضع الاستخفاف والسخرية ، حاولت كذلك ؛ وبكل ما تملك من مكر وخداع ؛ وضع الفقه الإسلامي والفقهاء المسلمين في هذا الموضع ، لأن الفقه يعتمد على نصوص الشريعة ، أي على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، فأي إنقاص للفقه هو ؛ في الحقيقة ؛ إنقاص لهما معاً وتسفيه للأسس التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية الغراء .
حاولت الحكايات إظهار فقهاء الملة الإسلامية بمظهر الجهلاء والأغبياء والسذج ، ولم يكن عملها هذا آت من عفوية القاص ؛ كما قلنا مراراً ؛ بل لحقد الشعوبية الدفين على هذه الفئة الخيرة ، التي تمثل الفكر الإسلامي الأصيل والمعبرة عنه خير تعبير ، والتي يعود لها الفضل الأكبر في تثبيت بنيان العطاء الحضاري للأمة العربية ،والتي وقفت؛ بجدارة وشجاعة نادرة وصلابة لا تلين ؛ بوجه كل المخططات والمؤامرات الشعوبية وفضحها وإسقاطها ، ومنع الشعوبية من تحقيق غايتها الدنيئة في تدمير وهدم الدين الإسلامي الحنيف والمجتمع العربي الأصيل .
أن أي تشكيك بالفقهاء وفقههم ؛ لأنهم بالعلم ورثة الأنبياء ؛ هي محاولة للتشكيك في الدين الإسلامي نفسه ، لأن الطعن على هؤلاء الفقهاء ، الذين هم بحق عماد الدين الإسلامي ؛ كما وصفهم رسولنا الأكرم ؛ ما هو في الحقيقة إلا طعن على الدين الإسلامي ، الذين هم حملة علمه ورواته ودعاته ، وأن تشويه سيرهم ما هو إلا تشويه للأمانة التي حملوها ، ومن ثم تشكيك الأسس التي قـام بها كيان التشريع في هـذه الأمـة الحضارية الخيرة .
ففي حكاية مزين بغداد ، محاولة للتطاول على حبر الأمة ، ابن عباس رضي الله عنه ، وإظهاره بمظهر الجاهل ، حين يقول المزين للصبي : [ أبشر يا سيدي فقد جاءتك العافية أتريد أن تقصر شعرك وإخراج دم ، فأنه ورد عن ابن عباس أنه قال من قصر شعره يوم الجمعة صرف الله عنه سبعين داء ، وروي عنه أيضاً أنه قال من احتجم يوم الجمعة لا يأمن من ذهاب البصر
وكثرة المرض ] ، فيرد عليه الصبي [ فقلت له دع عنك هذا الهذيان ](1) .
وفي حكاية الجارية تودد ، ؛ التي تدور أحداثها في بلاط الخلفة هارون الرشيد ؛ محاولة أخرى للنيل من الفقهاء وإظهار جهلهم ، وذلك عندما يأمر الخليفة الرشيد بحضور الفقهاء المهتمين بشؤون الدين والدنيا ، لمناظرة الجارية تودد ومعرفة مقدار علمها؛ وقد عرفتنا الحكاية بأصل الجارية الفارسي مسبقاً ؛ فبعد أن تطري الحكاية على الفقهاء المناظرين ، وتكثر من مدحهم وتظهر علو باعهم في العلوم ، تبدأ المناظرة مع هذه الجارية الفارسية ، حيث حيكت هذه المناظرة حياكة شعوبية شيطانية ماكرة ، يظهر من خلالها جهل الفقهاء المناظرين للجارية وقلة درايتهم وضحالة معارفهم بكل علم طرحوه للمناظرة معها ، إن كان ذلك في أمور الدين أو الدنيا ، ويظهر ذكاء الجارية الفارسية وسعة علمها وغزارة معارفها ، فتتغلب الجارية على الفقهاء والعلماء جميعاً وتأخذ ثيابهم ، وذلك بعد تسفيه آرائهم وعجزهم عن الرد على أسئلتها (1) ، يقول فليب حتي في هذه الحكاية : وتروى قصة خيالية في ألف ليلة وليلة ، أن الرشيد عرض مائة ألف دينار ثمناً لتودد الجارية الجميلة الموهوبة بعد أن اجتازت بتفوق امتحاناً صعباً وضعه العلماء في الطب والفقه والفلك والفلسفة والموسيقى والرياضيات فضلاً عن علوم المعاني والبيان والنحو والشعر والتاريخ والقرآن (2) .
إن العجب كل العجب من شعوبية كتاب ألف ليلة وحقدها ، لم تجد إلا جارية لمناظرة فقهاء وعلماء الدولة العربية الإسلامية ، فمن أين جاءها كل هذا العلم وكل هذه العلوم ؟ والمعروف أن الجارية لا تكون ذات شأن إلا إذا كانت خبيرة بأدوات اللهو والمجون والعهر ، وتنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها فيما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث ، كما يقول الجاحظ ، فمن أين لهذه الجارية المقدرة على مجادلة العلماء والتغلب عليهم ؟ أن من المؤكد أن كتاب ألف ليلة وليلة لم يورد هذه الحكاية إلا استزادة في الاستخفاف والسخرية من فقهاء وعلماء الأمة العربية ، واستزادة في الإنقاص من قدرهم وتشويه سيرهم العلمية .
ونرى هذا الاستخفاف بالفقهاء ، عندما يحب غلاماً جارية تتعلم القرآن معه في المكتب ، فيكتب على لوح الجارية شعراً يبث فيه حبه وأشواقه لها ، وعندما تقرأ الجارية الشعر تكتب هي الأخرى شعراً تحت شعر محبوبها ، وعندما يقع اللوح بيد الفقيه ويقرأ ما كتب عليه يكتب هو الآخر شعراً :
صِلي محبك لا تخشي معاقبة إن المحب غدا في الحب حيرانا
أما الفقيه لا تخشي مهابته فإنه قد بُلِيَ بالعشـق أزمانا وعندما يحضر سيد الجارية إلى المكتب صدفة ، ويجد لوح جاريته ويقرأ ما كتب فيه من شعر يكتب تحت ما كتب الأبيات التالية :
لا فرق طول الدهـر بينكما وظل واشيكما حيران تعبانا
أما الفقيه فلا والله ما نظرت عيناي أعرص منه قط إنسانا (1)
ـ 12 ـ
وهاجمت الشعوبية القضاة والقضاء الإسلامي ، لأن في القضاء ، أفضل مظهر يتمثل فيه العدل ، الذي به وحده قوام المجتمع وبقاؤه ، فلا بقاء لأي مجتمع إذا لم يكن هناك عدل ، ولا عدل إذا لم يكن هناك قضاء يتمثل به كامل معناه . واعتبر الإسلام ، القضاء ، من أقدس الواجبات وأصعبها ، وقد أمرنا الله بأن نرجع إلى القضاء عندما نختلف فيما بيننا ، لِيَحكم بيننا كتاب الله وسنة نبيه المصطفى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بـالله واليوم الآخر } .
إذاً ، تتسم القواعد والأصول التي يستمد القضاء منها أحكامه ، بالثبات ، ولا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال ، لأنها ليست من وضع جماعة من المسلمين حتى يجوز لهم تعديلها ، وإنما هي مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، باعتبارها تعبيراً عن إرادة الله سبحانه وتعالى بشكل مباشر أو غير مباشـر . فكانت مهمة القاضي بهذا ، من أخطر المهام وأقدسـها ، وقد أدرك السلف الصالح من فقهاء وعلماء الأمة ، أن مهمة القضاء في المجتمع العربي الإسلامي لا يمكن أن تؤدى كاملة وعلى الموجه السليم المنزه ، ما لم يلتزم القاضي في كل حركاته وسكناته ، العدل والحياد ، ويتبرأ من الأهواء والشهوات ، فحفلت الكتب والفصول التي صنفت في علم القضاء ، بالتأكيد على عدل القاضي وحياده ، وضرورة تجنبه كل ما يخل بالعدالة والإنصاف ، من غضب وهوى وغيرهما من عوامل النفس . لذلك كان الفقهاء يشترطون فيمن يولى القضاء شروطاً كثيرة ، منها الأهلية الكاملة ؛ من بلوغ وعقل وذكورة وحرية التصرف ؛ وأن يكون عدلاً سليم السمع والبصر ، غير محدود بقذف ، كما اشترطوا أن يكون عارفاً بأسرار التشريع الإسلامي ، وأن يكون مجتهداً لا مقلداً غيره في تفسير ولا تأويل .
ولهذا كان لحكم القاضي صبغة دينية ، لاستمداد أحكامه من أحكام الدين ، وبهذا كسب القاضي قوة ومهابة ، فكان يستخلص حق المظلوم من الظالم ، لا مخافة من قوة حاكم أو من غيره ، وإنما كان خوفاً من الله تعالى ومن وعوده التي توعد بها الظالمين . فمن كل ما سبق ، نستنتج أن هدف القضاء في الإسلام ، هو إحقاق الحق وتوزيع العدل في المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أبناء الأمة ، ذلك القضاء الذي ثبت أصله واستطال فرعه ، وكان مستقلاً فيما يقضي به القاضي لا سلطان عليه غير أحكام الشريعة ، التي كان يغترف من معينها الذي لا ينضب ، فكان بهذا خير قضاء عرفه العالم ، وأن قضاته أفضل قضاة عرفهم التاريخ ، علماً وفضلاً ونزاهة وذكاء واستقلالية ومتانة في الحق .
لهذا كله ، فإن أي تخريب للقضاء هو تخريب للحقيقة والعدل ، وأن أي تخريب للعدل ما هو إلا تخريب للمجتمع وموته ، وهذه هي غاية الشعوبية وهدفها الذي تسعى إليه وعملت وتعمل من أجل تحقيقه . فحاولت الحكايات أن تعطي انطباعاً سيئاً عن القضاء والقضاة في المجتمع العربي الإسلامي ، حينما أظهرت القاضي كشخصية لاهية ، لا هيبة لها ولا احترام . نرى ذلك في حكاية علي العجمي والكردي ، والتي رواها الأول للخليفة هارون الرشيد، فقد كان فيها سخرية للقاضي من الشاكي والمشتكا عليه ، فبعد وصف الجراب المختلف عليه وما به ، من قِبَل الأعجمي وخصمه الكردي أمام القاضي ، وما يحمل هذا الوصف من استهزاء واستخفاف بالقاضي ، يقول الأعجمي أن في الجراب الذي يدعي ملكيته ، أثناء سرد ما فيه من أشياء غريبة عجيبة : [00 وفيه أطال عمر مولانا القاضي غلائل وأراضي وألف موسى ماضي تحلق ذقن القاضي إن لم يخشى عقابي ولم يحكم بأن الجراب جرابي ] ، وتتابع الحكاية استهزاءها ، فتظهر سذاجة هذا القاضي وجهله وقلة هيبته عند الناس ، من خلال قوله للمتخاصمين [ وما أراكما إلا شخصين نحسين أو رجلين زنديقين تلعبان بالقضاة والحكام ولا يخشيان من الملام لأنه ما وصف الواصفون ولا سمع السامعون بأعجب مما وصفتم ولا تكلم بمثل ما تكلمتم والله إن من الصين إلى شجرة أم غيلان ومن بلاد فارس إلى أرض السودان ومن وادي نعمان إلى أرض خرسان لا يسع ما ذكرتماه ولا يصدق ما ادعيتماه فهل هذا الجراب بحر ليس له قرار أو يوم العرض الذي يجمع الأبرار والفجار ](1) .
وتستمر الشعوبية ؛ من خلال الحكايات ؛ في غيها وحقدها على القضاة المسلمين ، فتظهر قلة هيبتهم عند العامة كما هي عند الخاصة ، ففي حكاية علي المصري ، عندما يضرب زريق برغيف الرصاص على علي ويخطئه [ فلم ينزل الرغيف الرصاص إلا في طاجن ملآن باللحم السخن فانكسر ونزل بمرقته على كتف القاضي وهو سائر ونزل الجميع في عب القاضي حتى وصل إلى محاشمه فقال القاضي يا محاشمي ] ، وعندما يسأل القاضي عن الفاعل يقال له : [00 يا مولانا هذا ولد صغير رجم بالحجر فوقع في الطاجن ما دفع الله كان أعظم ] .
كما أن قاضي المسلمين في الحكايات ، مرتشي لا نزاهة لديه ولا ذمة ، يحكم للراشي ولو كان حكمه يخالف الشريعة الإسلامية مخالفة واضحة ، نجد ذلك في حكاية نور الدين أبو الشامات ، والتي تدور أحداثها في زمن الخليفة هارون الرشيد ، عندما يقول القاضي لنور الدين [00 لأي شيء لم تطلق المرأة وتأخذ ما وقع عليه الشرط ] ، فيتقدم نور الدين نحو القاضي ويقبل يده ويضع فيها خمسين ديناراً ويقول : [ يا مولانا القاضي في أي مذهب أني أتزوج في العشاء وأطلق في الصباح قهراً ] ، حينها يجيبه القاضي : [ لا يجوز الطلاق بالإجبار في مذهب من مذاهب المسلمين ] ، وعندما يصر والد الفتاة على الطلاق أو دفع الصداق ، يطلب نور الدين من القاضي مهلة ثلاث أيام لدفع الصداق ، يقول القاضي : هذا لا يكفي ، فيمهله عشرة أيام(1).
وإذا عرفنا أن هذا النوع من الزواج ، باطل أصلاً في الإسلام ، ومن عدة وجوه ، لأنه أولاً حدد بزمن معلوم ، وهو ليلة واحدة ، وهذا لا يجوز في الشريعة الإسلامية وحكمه حكم زواج المتعة ، ولأنه ثانياً تعلق بشرط ، وعقد الزواج يفقد صحته إذا تعلق على شرط ، فهو باطل عند أغلب الفقهاء ، ولأن ثالثاً هذا النوع من الزواج - زواج التحليل – مكروه بل مرفوض في الإسلام ، وقد لعن رسولنا الأكرم فاعله . ومما تقد تظهر لنا الغاية الشعوبية من هذه الحكاية ، ألا وهي تشويه قدسية الزواج في الإسلام ، ومن ثم التشكيك بنزاهة قضاة المسلمين .
وتتابع الحكايات استهزاءها بقضاة العرب المسلمين والإنقاص من قدرهم وقيمتهم ، وإلصاق كل نقيصة بهم . ففي حكاية زين المواصف ، نرى قاضي المسلمين يقضي بما يمليه عليه هواه ، لا كما تقتضي العدالة والشريعة ، وأن انبهار القاضي بجمال زين المواصف مما يؤثر في حكمه إلى حد كبير طمعاً في استخلاصها لنفسه والحصول منها على ما يشبع غريزته الجنسية ورغبته منها ؛ فتصور هذه الحكاية ؛ القاضي ، بل قضاة المذاهب الأربع ، شهوانيون تسيطر عليهم غرائزهم الحيوانية الدونية ، لدرجة أن تنسيهم أنفسهم وتفقدهم عقولهم ، فيتبعون أهواءهم في إصدار أحكامهم ، التي تتنافى كلياً مع المهمة العظيمة الموكلة إليهم . فعندما تذهب زين المواصف إلى القاضي الأول ، وتحكي له حكايتها وتطلب منه أن يخلصها من زوجها الذي – كما ادعت- خطفها من أهلها وأنه ليس بزوجها يقول القاضي لجاريتها التي ترافقها : [ هل هذه سيدتك وأنتن غرباء وليس لها بعل ، قالت نعم ، قال زوجيني بها وأنا يلزمني العتق والصيام والحج والصدقة إن لم أُخلص لكُنَّ حقكن من هذا الكلب بعد أن أجازيه بما فعل ] ثم تذهب زين المواصف إلـى بقيـة قضاة المذاهب الإسلامية الأربع ، وكل واحد منهم يسألها الزواج ليساعدها ، وهي تظهر موافقتها على ذلك ؛ ولم يعلم القضاة خبر بعضهم البعض ؛ وكل منهم بات يمني نفسه بالحصول عليها ، وفي صباح اليوم الثاني تدخل زين المواصف مجلس القضاء وتقع أنظار القضاة عليها [00 وعرفها كل واحد منهم وكان بعضهم يكتب فوقع القلم من يده وبعضهم كان يتحدث فلجلج لسانه وبعضهم كان يحسب فغلط في حسابه ] . وعندما يحضر زوج المرأة ، تظهر الحكاية ظلم وتعسف القضاة الأربع وجورهم ، فيبدؤون بضرب الزوج المسكين وشتمه ، ويمنعونه عن الكلام أو تعريفه بالتهمة الموجهة إليه ، وعندما يؤكد الرجل بأن زين المواصف هي زوجته ، تقول الحكاية : [00 فلما سمع القضاة ذلك الكلام صاحوا كلهم وقالوا ارموا هذا الكلب على الأرض وأنزلوا على وجهه بنعالكم واضربوه ضرباً وجيعاً فإن ذنبه لا يغتفر ] .
وتستمر الحكاية بكذبها على القضاة المسلمين ، بكل مكر ودهاء ، فتظهر جهلهم وطغيانهم ، عندما يحكمون على الزوج بدون بينة [00 فحكم عليه القضاة الأربعة بأن تقطع يداه ورجلاه وبعد ذلك يصلب ] ، ويستغرب الزوج المسكين مما يجري ، فهو يهان ويصدر بحقه حكماً قاسياً جداً دون ما يدري ما هيَ جريرته ، فيسأل القضاة عما يريدون منه ، فيقولون له : [ قل أن هذه الجارية ما هي زوجتي وأن المال مالها وأنا تعديت عليها وشتتها عن أوطانها ] . وبعد أن تتخلص زين المواصف من زوجها بمساعدة القضاة المغفلون ، تهرب هي وخادمتها ، ويعجز القضاة عن الوقوف على خبرها أو معرفة طريقها ، فيصابون جميعهم وبلا استثناء بمرض العشـق والهوى [ ووقع القاضي على فراشه وصار من أجلها في ضنى وكذا الشهود وباقي القضاة الأربعة وصارت الحكماء تتردد عليهم وما بهم من مرض يحتاج إلى طبيب](1)
هكذا أرادت الحكايات أن تصور للناس ؛ القضاة والقضاء في الدولة العربية الإسلامية ؛ تصويراً مغايراً ومناقضاً لحقيقته الحقة مضاداً للمهمة التي وُكِّلَ بها ، معارضاً للقواعد والأصول التي بُنِيَ وقام عليها .
* * * *
من كل ما تقدم ، يتبين لنا شعوبية حكايات ألف ليلة وليلة وحقدها الدفين على الإسلام والمسلمين ، ويتبين لنا الغاية الشعوبية التي يسعى هذا الكتاب الشعوبي لتحقيقها من خلال أحداث حكاياته ، ألا وهي هدم الدين الإسلامي الحنيف ، وتدمير مقوماته ودعائمه ، من خلال تشويه مبادئه ومثله وأسسه ، وهذه هي غاية غايات الشعبية عامةً ، ركزت عليها منذ أن وجد الإسلام وأنار الكون بضيائه ، ومنذ أن وجدت الشعوبية كحركة عدائية هدامة ، واضعة نصب عينيها إطفاء هذا الضياء الإلهي المنير ، بكل وسيلة وبشتى الأشكال والسبل . يوضح جمال الدين الأفغاني ذلك بقوله : [ ومقصد أرباب هذه الطريقة محو الأديان ووضع أساس الإباحـة 00 وكيفما وجدوا فـي أمـة أفسدوا أخلاقها ](1) .

عبد اللطيف ذياب أحمد
27/02/2011, 06:36 PM
( الجزء الثالث )
الباب الثالث

الإسلام
في ألف ليلة وليلة


إن الدين الإسلامي هو دين العرب القومي الحق ، الذي هو نتاج عبقريتهم الإلهية الخلاقة ، ومنظار رؤيتهم الشمولية للكون والعالم والحياة ، وحامل رسالتهم الحضارية الإنسانية المثلى ، ومن ثم هو العامل الأول والأهم الذي يربط العرب في وحدة متكاملة من القيم والمثل العليا ، والأخلاق والسلوكية الرفيعة ، كما أنه بالنسبة للعربي ، ليس ديناً كغيره من الأديان الأخرى ، ديناً هو مجموعة محددة من المبادئ والتعاليم والشرائع والعبادات والطقوس اللاهوتية الخالصة ، وإنما هو عقيدة كونية شاملة ، عقيدة هي دين وقومية وتاريخ وحضارة ورسالة .
فالعلاقة بين الأمة العربية وبين الدين الإسلامي ،لم تكن علاقة عادية أو سطحية أو عابرة في يوم من الأيام ، بل كانت وما زالت علاقة عضوية مصيرية ؛ فالذات العربية كانت إطار هذه الرسالة ، والوجود الذي قامت عليه واستندت إليه ؛ فكان العرب مادة هذه الرسالة ، وكانت هذه الرسالة ترجمة لهذه الذات وتعبيراً عنها بلغتها ، كما كانت تعبيراً عن أحكامها ، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً }(1) .
لقد أحدث الإسلام في الوجود العربي أعمق ثورة روحية ومادية وفكرية وحضارية ، واستطاع تغيير الأوضاع القائمة وقلب الموازين المتداولة وبناء المجتمع العربي المثالي ، تتوحد فيه قوى الخير والعدل ، وتشترك في إرساء دعائمه جميع فئات الأمة ، وانبثقت بنوره حضارة عربية إسلامية خلاقة ومبدعة لا خير منها ولا أمثل ، تعبر تعبيراً صادقاً عن إمكانية الإنسان العربي ومقدرته الفذة في بناء حاضره ومستقبله .
وكما عملت الشعوبية على طمس معالم الشخصية العربية وعلى تشويه الصفات الإنسانية المثلى التي يتحلى بها الإنسان العربي ، عملت وبكل جهدها على تخريب الدين الإسلامي الحنيف ، بل ركزت على تخريبه تركيزاً خاصاً وبذلت جهداً مضاعفاً في سبيل ذلك ، لأن تخريبه يعني تخريب الذاتية العربية ، وبمعنى آخر ، تخريب لأول وأضخم دعائم كيان العرب القومي .
فاندفع الشعوبيون للنيل من الدين الإسلامي متبعين شتى الطرق والأساليب ، ذلك لأن رسالته وانتشاره حدث مقترن بجهاد الأمة العربية وحدها ، فكانت غايتهم من عدائهم للإسلام هي النيل من العرب أنفسهم أشبه بالإنسان إذا ابغض شيئاً كره كل ما يتصل به أو يمت إليه بصلة ، كالأعمى من الحقد ،لا يرى في حسنات عدوه إلا ما يثيره حنقاً وغيظاً ، ولا يملك إلا مهاجمتها وتسفيهها مهمـا كانت قيمتهـا وأحقيتها ، لأن مـن ( أبغض شيئاً ابغض أهله ، وان مـن ابغض تلك اللغة ابغض تلك الجزيرة ، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام إذا كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السلف )(1) ، إن كل ما يصيب الإسلام من تشويه ، يسيء للعرب باعتبارهم هم القومة على هذا الدين الحنيف ، ومحاولة من الشعوبية لِبثِّ الريبة والشك وضعف الإيمان في نفوس أبناء الأمة العربية .
ـ 2 ـ
لقد اتبعت الشعوبية في كتاب ألف ليلة وليلة ، أسلوباً ملؤه المكر والخبث للوصول إلى هدفها الشعوبي الأسود للنيل من الدين الإسلامي ، فقد ألبست حكاياتها حلة إسلامية ، فأظهرت الأجواء العامة للأحداث وكأنها أجواء إسلامية ، وأدمجت شخوصها إدماجاً كلياً بالدين الإسلامي ، ومفاهيمها تنسب للإسلام ، وأغلب تعبيرها تعبير إسلامي .
إننا نرى الإسلام في كل حكاية من الحكايات ، وفي كل مكان من الأمكنة التي تدور فيها أحداث الحكايات ، في بغداد ومصر وفي البصرة ودمشق ، في الهند والصين ، وفي جزر الواق واق وغيرها من المدن والأماكن الواقعية أو الوهمية ، نراه ، تحت الأرض كما نراه فوقها ، وبمعنى آخر : نرى الإسلام وأهله في كل حدث من أحداثها في المعقول وفي اللامعقول من الزمان والمكان .
لم يكن هذا الطلاء الزائف الذي طلي به كتاب ألف ليلة وليلة ؛ هذا الكتاب ذو المنبع الشعوبي الحاقد ، والأساس الفكري الأعجمي الصرف، كما صرح بذلك أحد دارسيها ( ... ومن أدب هذه الحقبة ؛ العام الألف للميلاد تقريباً ، انتقى الغرب كتاباً واحداً أولاه اهتمامه ، هو كتاب ألف ليلة وليلة ، وأصله قصص فارسية قديمة نقلها إلى العربية الجهشياري المتوفى عام 942)(1) ؛ لم يكن هذا الطلاء الزائف ناتجاً عن عفوية القاص الشعبي ، لمحاولته تقريب هذه الحكايات الغريبة عن المستمعين ، من أذهان وذوق الجمهور المسلم ؛ كما يحلو للمستشرقين قوله في أبحاثهم ودراساتهم الكثيرة التي أنشئوها ووضعوها عن هذا الأثر الشعوبي الأسود ؛ ولم يكن قد جاء بتأثير البيئة الإسلامية على ذوق القاص أو عمق إيمانه بالإسلام ومبادئه ؛ كما استنتجه وتشدق به كثير من التغريبيين الذين ألفوا المؤلفات ونالوا الشهادات العالية على بحوثهم التي وضعوها لدراسة هذه الحكايات المغرقة بآثام الشعوبية وحقدها ؛ إنما الحقيقة الكامنة وراء هذا الأسلوب والغاية المنشودة منه ، ما هي إلا تعبيد الطريق وتسهله لتتمكن الشعوبية من خلاله النيل من الإسلام وأهله ، باسم الإسلام ومن خلاله ، لأن أخطر وسائل الحرب ؛ ولا سيما حرب المبادئ والعقائد ؛ تلك التي نحارب من داخل المبدأ أو باسمه .
وفعلاً ، استطاعت الشعوبية من خلال كتاب ألف ليلة وليلة ، أن توظف هذا الأسلوب الماكر في النيل والافتراء والكذب على الإسلام وأهله ، حيث ظهر الإسلام بعكس ما هو عليه في الحق والحقيقة ، فكل الصور الحياتية والسلوكية والأخلاقية والقيمية التي أظهرتها الحكايات على أنها إسلامية ، كانت في الواقع تتنافى مع الدين الإسلامي الحنيف جملة وتفصيلاً ، بل تؤكد تأكيداً قاطعاً على الغاية الشـعوبية من وراء انتهاج هذا الأسلوب الشـعوبي ، وعلى الحقد الأسود المختزن في صدر الشعوبية على الدين الإسلامي الحنيف وعلى أهله العرب الأطهار .

ـ 3 ـ
هاجمت الشعوبية ، من خلال الحكايات ، الإسلام من خلال هذا الأسلوب الخبيث ، محاولة تشويه مبادئه وقيمه ، وتجريده وتجريد معتنقيه من كل قيمة حضارية خلاقة ، فاتهمت الإسلام بأنه قد قام وانتشر بحد السيف وبسلطان الغلبة والقهر ، فهذا ملك الفرنجة يقول لابنته مريم الزنارية : [ ويلك يا خائنة كيف تركت دين الآباء والأجداد وحصن المسيح الذي عليه الاعتماد واتبعت دين الإسلام الذي قام بحد السيف على رغم الصليب ](1) .
ونرى ذلك في حكاية غريب وعجيب ، كيف أن بطل هذه الحكاية يجبر المغلوبين على اعتناق الدين الإسلامي جبراً ، ومن يرفض الإسلام منهم فمصيره الموت والهلاك .
هذه الفرية الكاذبة ساقها الشعوبيون في الأمس ، وساقها المستشرقون ، أعداء الإسلام ، حديثاً ، والإسلام الحنيف بريء من هذه الفرية كل البراءة ، ففي الآية الكريمة التي يأمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم ، بأن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن إن ربك هو اعلم بمن ظل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين}(1)في هذه الآية الكريمة ونظيراتها دفعٌ لهذه الفرية الكاذبـة ، وكذلك من آيات لله تعالى في ذلك { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي }(2) .
وتاريخ الحروب الإسلامية ، ابتداء من غزوات الرسول عليه الصلاة والسلام ، دليل قاطع على كذب هذه الفرية الشعوبية ، لقد بقي الرسول الكريم بمكة منذ البعثة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى ربه بالحسنى ما سل سيفاً ولا ردّ عن نفسه ولا عن اتباعه الأذى ، كما كانت الحروب بين الإسلام وبين الفرس ومن ثم الروم ، حروباً دفاعية حيث بدأها هؤلاء بالاعتداء على المسلمين ، فمنهم من قتل حامل كتاب رسول الله ، ومنهم من مزق الكتاب وأرسل جنده من يأتيه برأس محمد صلى الله عليه وسلم .
ولعل من أقوى الأدلة واقطع البراهين على ردِ هذه الفردية الكاذبة ، إن الإسلام انتشر وبقي ينتشر حتى بعد أن دالت دولة المسلمين وضعف أمرهم ، حيث انتشر الإسلام في أفريقيا وآسيا ، ودخله الملايين من الناس الوثنيين على أيد التجار والمتعبدين ، وخاصة في القرون الأخيرة .
ومع هذا أخذ أعداء الأمة العربية من شعوبيين ومستشرقين وتغريبيين هذه الفرية الكاذبة وكأنها حقيقة مسلم بها ، لا تقبل الرد أو المناقشة ، يقول احمد أمين : قال بعض الأوربيين بأن الإسلام لم يمتد بهذه السرعة إلا بالسيف فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى ، وهو خطأ واضح فهم لم يستعملوا السيف إلا دفاعاً عن أنفسهم وكفاً للعدوان عليهم(1) .
واتهم الإسلام في الحكايات بالإباحيـة ، فالإباحية التي يرفل بها المجتمع العـربي الإسـلامي ، أفراداً ومسـؤولين ، ما هي إلا النتيجة الطبيعية لتعاليم الإسلام ، فإن سرقة النساء الأجنبيات ما هي إلا جزء من الجهاد ، يأخذوهن ليتمتعوا بهن ، فهذه مريم الزنارية ترد على أبيها ملك الفرنجة حينما يسألها كيف تركت دين آبائها فتقول : [ 00 أنا مالي ذنب لأني خرجت في الليل إلى الكنيسة لأزور السيدة مريم وأتبرك بها فبينما أنا في غفلة
وإذ بسراق المسلمين قد هجموا علي وسدوا فمي وشدوا وثاقي وحطوني في السفينة وسافروا بي إلى بلادهم ](2)
ونجد هذه التهمة بكل وضوح في حكاية عمر النعمان ، عندما يطلب شركان ابن عمر النعمان من الملكة أبريزة أن تسير معه إلى بلاد الإسلام ، وردها عليه ، بأن الملك النعمان إذا ما رآها فإنها لا تستطيع الخلاص منه ، وتبرر ذلك بقولها : [ أن باعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي في كتبكم حيث قيل فيها أو ما ملكت أيمانكم ](1)
وفي الخبر عن سيدة المشايخ ، نجده في جملة أخبار الصالحين ، يقصه القاص فيقول : أنه لم يرَ أحداً في علمها بالدين وحكمتها ، فإذا ما قابلها وحضر مجلسها كان موضوع الحوار بينهما مفاضلة غزلية فاحشة بين الذكر والأنثى (2) .
ـ 4 ـ
لقد سمح هذا الأسلوب للحكايات ، بالاستهزاء بأركان الدين الإسلامي وفرائضه وطقوسه ، متّبعة في ذلك التظرف والتندر ؛ وما هذا إلا الزندقة بعينها ؛ حيث نجد مثل هذا الاستهزاء في حكاية قمر الزمان ، عندما تقول له بدور المتنكرة بزي الرجال : [ 0 مد يدك بين فخذي إلى المعهود لعله ينتصب إلى القيام من السجود ](1) إن مثل هذا القول استهزاء واضح على ركن من أركان الإسلام ، ألا وهو ركن الصلاة .
أما في حكاية زينب الحيالة نجد استهزاء بركن آخر من أركان الإسلام ، وهو ركن الحج ، نرى هنا وبكل وضوح ، أن هذا الاستهزاء مقصود تماماً وموجه بكل خبث لهذا الركن ومناسكه العطرة، حيث تقول الحكاية: [ وحلت سراويلها فنزلت في خلخال رجليها وأخذنا في الهراش والتعنيق والغنج والكلام الرقيق والعض وحمل السيقان والطواف بالبيت والأركان ](2) ، هذا الكلام لا أرى موجباً للتعليق عليه فما جاء في الحكاية يفي ويوضح الغاية والمقصد الشعوبي .
أما في حكاية الحكيم السندباد ، استهزاء واضح على ليلة القدر ؛ على عظمتها ومكانتها عند جمهور المسلمين ؛ فالرجل الذي تحققت أمنيته بأن تنفتح له أبواب السماء في ليلة القدر ، عندما ينظر في ليلة من ليالي القدر إلى السماء [ 00 فرأى الملائكة وأبواب السماء قد فتحت ورأى كل شيء ساجد في محله ] ، وعندما يستشير زوجته ؛ في الدعوات الثلاث التي نذر أن يدعو بها إذا ما تحققت له أمنيته ؛ تشير عليه الزوجة بأن يقول : [ اللهم كبر لي أيري ] وعندما يدعوا الرجل [ 00 فصار ذكره مثل ضرع القرع ] ، فيتعذر على الرجل إتيان زوجته أو حتي الوقوف على قدميه ، يطلب من الله أن ينقذه من هذه المحنة التي ابتليَ بها [ فصار الرجل ممسوحاً ليس له ذكر ] ، ويقع ثانية بمحنة أكبر من الأولى ويكاد أن يفقد زوجته التي ترى بأنها لم تعد بحاجة له حيث أصبح بلا ذكر ، فيدعو الدعوة الثالثة والأخيرة بأن يعود إلى ما كان عليه (1) .
ـ 5 ـ
وظهر الدين الإسلامي في الحكايات ، دين التوكل على الأولياء أصحاب المقدرة الفذة ، الذين يمنعون الأذى عن من يستنجد بهم وهم في قبورهم ؛ مع أن الإسلام جاء ليعلن التوحيد المحض للبشرية وليحرر الإنسان من كل عقيدة سواها ويجعل الإنسان لا يستعين في قضاء حوائجه إلى بالله سبحانه وتعالى وحده ، ولا يستعين في ذلك على الشيخ عبد القادر الجيلاني ولا بالسيدة نفيسة ؛ كما فعل علاء الدين أبو الشامات عندما أراد البدوي قتله [00 يا بركتك يا سيدي عبد القادر يا جيلاني فنظر علاء الدين إلى يد حولت الحربـة عن صدره إلى صدر المقدم كمال الدين العكام فطعنه البدوي بها وامتنع عن علاء الدين ](1) .
ومرة أخرى تظهر الحكايات أهمية الاستعانة بغر الله ، عندما يقف البدوي تحت الصهريج الذي يختبئ به علاء الدين ويمد يده ليقتنصه يقول علاء الدين : [ 00 يا بركتك يا سيدتي نفيسة هذا وقتك وإذا بعقرب لدغ البدوي في كفه ] (2) .
ومثل ما جعل الدين الإسلامي الإنسان بأن لا يستعين بغير الله ، جعله كذلك أن لا يتوسل بالشهداء والقدسيين ، ولا حتى بالأنبياء والرسل ؛ عندما يطلب حاجة من الله تعالى ؛ هكذا أراد الإسلام لعباده ، لا كما هو الحال في الحكايات الحاقدة على الإسلام ، فيها من أراد الولد ما عليه إلا التوسل بالأنبياء والرسل والأولياء والشهداء ، لتحقيق رغبته هذه ، وكأن الله ليس بقريب من عباده ، ولا يسمع دعائهم إذا ما دعوه إلا بواسطة هؤلاء ، تقول إحدى الحكايات : [ ولكنه بلغ من العمر مدة ولم يرزق ولداً ذكراً فلما قلق لذلك توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وسأله بجاه الأنبياء والأولياء والشهداء من عباده المقربين أن يرزقه بولد ذكر يرث الملك من بعده ويكون قرة عينه ] (3) .
إن مثل هذه الحكايات التي تطعن بوحدانية الله سبحانه وتعالى كثيرة الورود في كتاب ألف ليلة وليلة ، واكتفيت بما أوردته منها منعاً للإطالة .
ـ 6 ـ
ودست الشعوبية ؛ من خلال حكايات كتاب ألف ليلة ؛ على الدين الإسلامي الكثير من المقولات الشعوبية الصرفة ، التي تتنافى مع تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف منافاة مطلقة ، مثل مقولة [ الكشف والتجلي ] لذات الله ، التي قالت بها الصوفية [00 وذكر فيه بعض الصوفية أن الله يتجلى في الدنيا لأوليائه ] (1) .
نجد مثل هذه المقولة عند علم من أعلام الصوفية ، ألا وهو الحلاج ؛ ذلك الفارسي الشعوبي المارق ؛ في إحدى مناجاته الله ليكشف له ذاته ، يقول : [ 000وحرمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينك وتقرباً إليك فاغفر لهم لأنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا ولو سترت عني مـا سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت ](2) .
إن هذه المقولة ؛ أي الكشف والتجلي ؛ ما هي إلا نزولاً بذات الله تعالى من كونه لا مثيل له إلى تشبيهه بأشياء قابلة للحدوث والتغيير ، وهذا يعني هدماً لمبدأ الوحدانية الذي قامت وتقوم عليه العقيدة الإسلامية الغراء .
نرى مثل هذه المقولة الشعوبية الهدامة في حكاية أبو الحسن مع أبو جعفر المجذوم ، عندما يطلب أبو الحسن من المجذوم أن يدعوا له الله بأن [00 يحبب الله إليه الفقر وأن لا يبيت على رزق معلوم ، وأن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم ] ، أي النظر إلى وجه الله تعالى ، وتعلمنا الحكاية عن تحقق الدعوتين الأولى والثانية لأبي الحسن ، وبقيت له الدعوة الثالثة فقط وهي النظر إلى وجهه الكريم ، فهو ينتظرها وهي متحققة كباقي الدعوات لا ريب في ذلك ؛ حسب رأي الحكاية .
ونجد مثل هذه المقولة في حكاية أخرى، موجودة في خبر الصالحين[ فلما جن الليل علي نمت فرأيت رب العزة تبارك وتعالى في المنام ](1) .
لقد أوردت الحكايات كثيراً من المقولات الشعوبية المنافية لتعاليم ولروح الدين الإسلامي الحنيف ، ذلك لبث سمومها باسم الإسلام ؛ كما نوهنا سابقاً ؛ ومن تلك السموم الشعوبية ما نراه في إحدى حكايات الصالحين حين يقول إبراهيم بن أدهم : [ وإذا ببِشْرٍ يصلي فقمت وراءه أركع إلى أن يؤذن فقام رجل رث الحال وقال يا قوم احذروا الصدق الضار ولا بأس بالكذب النافع ](1) .
لقد نَسِيَ واضع هذه الحكاية أو تناسَ ، بأن الكذب بكل أشكاله ممقوت مذموم عند المسلمين ، بل ويتعارض مع تعاليم الإسلام حتى وأن كان الكاذب مازحاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ أنا زعيم بيت في الجنة لمن ترك الكذب } ، وروي عنه ، عليه أفضل الصلاة والسلام : { عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ؛ وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار،ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً } كما اتفقت كلمة فقهاء الأمة وعلمائها على أن الكذب ، بكل أشكاله وأنواعه ، فساد في الخلق وغش في المجتمع ، وعائق عن التقدم والرقي ، ومحطم للود والإخاء ، ونفاق يُفقد المرء كرامته ويهدر شخصيته ، وصفة من صفات الذين لا يؤمنون بقيم سامية ولا يتقيدون بمبادئ عالية .
وذكرت الحكايات كثيراً من خرافات الصوفية ، التي أبدعتها عقول الشعوبية والتي تتعارض مع حقيقة الدين الإسلامي ، ففي الحكاية المنسوبة إلى ابن هارون الرشيد [00 ووقفت أنظر الزاهد وهو لا يراني فأخذ كفاً من الطين ووضعه على الحائط وإذا الحجارة يتركب بعضها على بعض فقلت هكذا أولياء الله ](1) .
وفي حكاية مالك بن دينار وانحباس المطر ، يسأل مالك الأسود الذي دعا ربه واستجاب له الله وأنزل المطر ؛ كيف علمت أن الله يحبك ؟ ، فيرد عليه الأسود [ 00 تنح عني يا من اشتغل عن نفسه فأين كنتُ أنا حين أيدني بالتوحيد وخصني بمعرفتـه أَفَتَراهُ أيدني بذلك إلا لمحبته لي – ثم قال – محبته لي على قدر محبتي له ] ، وعندما يشتري مالك العبد من النخاس ليعتقه ، وبعد أن يعرفه بحاله ، يدخل الأسود المسجد فيصلي ركعتين ثم يدعو ربه قائلاً : [ 00 إلهي وسيدي ومولاي سر كان بيني وبينك أطلعت عليه المحلوقين وفضحتني فيه بين العالمين فكيف يطيب الآن عيشي وقد وقف على ما كان بيني وبينك غيرك أقسمت عليك إلا ما قيضت روحي الساعة ] فما رفع رأسه بعد ذلك .
إن مثل هذه الخرافات الصوفية ، ما هي إلا سموم شعوبية تبغي تخريب روح الإسلام ، وتشويه نظارة مبدأ التوحيد الذي يقوم عليه ، هذه الخرافات وردت كثيراً في الحكايات ، ولو أردنا تقصيها وذكرها لطال بنا المقام وخرجنا عن المراد .
ـ 7 ـ
وبشكل واضح للعيان ركزت الليالي ؛ من خلال أحداث حكاياتها ؛ على مسألة القضاء والقدر ، هذه المسألة التي أعطت أعداء الإسلام مادة خصبة في دفع الشريعة الإسلامية عن مجالها ومستقرها ، ذلك عن طريق تجميد إرادة الإنسان وإلغاء دوره في ممارسة أي عمل بناء ، حيث قالت الجهمية الجبرية : [ أنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا الله تعالى وأن الخلق فيما ينسب إليهم من الأفعال كالشجرة تحركها الريح إلا أن الله خلق في الإنسان قوة بها كان الفعل وخلق فيه إرادة الفعل واختباره كما خلق فيه سروراً بذلك وشهوة ](1) . وإضافة إلى هذا التشبيه الذي يشبِّه الإنسان بالشجرة في مهب الريح ، صورت الجبرية حياة الإنسان بالنوم فهو كالنائم يرى أنه بالشام أو بمكة ، كما يرى بمنامه ، وأن أفعاله منسوبة إليه على المجاز .
إن الفرق كبير بين المفهوم الإسلامي الصحيح للقضاء والقدر والمفهوم الشعوبي المضلل لهما ، فالقضاء والقدر في المفهوم الإسلامي الحق يؤمن بربط الأسباب بمسبباتها ، ويحمل صاحبها على العمل ثم لتكون النتيجة بعد ذلك ما تكون . أما المفهوم الشعوبي ؛ كما رأينا ؛ يرى الإنسان كالريشة في مهب الريح وما قدر لابد أن يكون ، عمل الإنسان أو لم يعمل ، تشجع أم لم يتشجع .
فإذا كان هذا حال الإنسان ؛ حسب المفهوم الشعوبي ؛ في هذه الحياة فكيف تجوز محاسبته ؟ ولماذا جاءت الشريعة وأكدت أركاناً عملية ، وأخرى اعتقاديه ، على الإنسان أن يؤمن بها ويطبقها ؟ لماذا التكاليف والمحرمات والفرائض ؟ ولماذا المعاد والحساب والجنة والنار ؟ إن هذا التجميد للإنسان يجر خلفه تجميداً لرسالة الإسلام الغراء (1).
لقد أخذ كتاب ألف ليلة وليلة هذا المفهوم الشعوبي للقضاء والقدر جملة وتفصيلاً ، وحاولت حكاياته أن تؤكد أن هذا المفهوم هو المفهوم الإسلامي الحق للقضاء والقدر ، فتظهر في أحداثها أن كل ما يقوم به شخوصها من أعمال جدية أو مبتذلة ، وكل ما يصيبهم من خير وشر ، هو مقدر عليهم وفي الكتاب مسطور ، ليس لهم سلطان لرده أو رفضه ، فإن زنى الزاني أو سرق السارق أو قتل القاتل ، فهو يعمل ذلك بقضاء قد قضاه الله عليه منذ الأزل ، وإن أخطأ وارتكب المعاصي بحق نفسه أو بحق المجتمع فذلك قد قدر عليه بكتاب من عند الله مسطور .
وهنا بعض الحكايات التي تظهر هذا المفهوم الشعوبي للقضاء والقدر ، ففي حكاية مزين بغداد ، عندما يذهب الشاب إلى بيت محبوبته ويعرف أن المزين قد تبعه ، يقول : [ 00 من أين علم هذا الشيطان بي فاتفق في هذه الساعة لأمر يريده الله من هتك سري](1) ، وفي نفس الحكاية نسمع مزين بغداد يقول : [00 أما أخي الثالث فاسمه قفة ساقه القضاء والقدر إلى دار كبيرة ](2) .
وفي حكاية الغانم بن أيوب ، عندما يمتنع من النوم مع الجارية قوت القلوب ، في فراش واحد ، وعدم إقدامه على معاشرتها ومطارحة الغرام معها ، إكراماً لأمير المؤمنين هارون الرشيد ، لأن هذه الجارية محبوبته ومحظيته ، ولكنها قد أُبعدت عنه ؛ كما تقول الحكاية ؛ بحيلة رخيصة دبرتها زبيدة زوجة الخليفة ، تقول الجارية لغانم : [ يا سيدي دعنا من هذا وكل شيء يجري بقضاء وقدر](1).
ونرى هذا المفهوم ؛ الشعوبي الحاقد ؛ للقضاء والقدر ، في حكاية نزهة الزمان بنت عمر النعمان ، فتقول عندما يسألها التاجر عن حالها : [00 كان ذلك في الكتاب مسطور ](2) . فيأخذها هذا القضاء إلى أحضان أخيها شريكان فينجبها غلاماً،وذلك لتأكد الحكايات مفهومها حول القضاء والقدر.
وتتابع الحكايات في تأكيد مفهومها الشعوبي للقضاء والقدر ، ففي إحدى حكايات الصالحين نقرأ ما يلي : [ قال منصور بن عمار حججت حجة فقصدت مكة من طريق الكوفة وكانت ليلة مظلمة وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](3) .
وتمضي الحكايات في غيَّها وحقدها على الإسلام ، فنرى في حكاية عامل المسلخ الحشاش ، كيف تحاول المرأة الزانية تبرير جريمة الزنى التي ارتكبتها باختيارها وإرادتها مع الحشاش بأنها قضاء من الله فتقول : [ 00 فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان مـا كان مـن قضاء الله علينا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](1) .
إن طرح مثل هذا المفهوم الشعوبي للقضاء والقدر ، الذي يظهر الإنسان مسلوب الإرادة ، مجبر على كل عمل يقوم به ، ولا مجال له لاختار أفعاله بحالٍ من الأحوال ، يقتل ويسرق ويرتكب المعاصي والآثام ويخالف شرع الله ويخرج عليه ، بقضاء الله وقدره وبكتاب مسطور عند الله منذ الأزل ، أن هذا الطرح لهذا المفهوم يؤكد لنا فوق تأَكُدِنا ، شعوبية حكايات ألف ليلة وليلة ، ومَنْحاها التدميري لكل ما هو عربي أصيل ، حيث تبغي هنا من خلال مفهومها للقضاء والقدر ، دفع الإنسان العربي المسلم إلى مهاوي الرذيلة والفساد والانحلال والخروج على تعاليم ومبادئ وروح الدين الإسلامي الحنيف ، الذي فيه وبه ومن خلاله وحده ، القوة القادرة على تدمير الشعوبية والتصدي لأساليبها الثعبانية الملتوية ، والذي فيه وبه ومن خلاله وحده، تكمن قوة وعظمة الأمة العربية وثباتها وبقاءها وديمومتها .
ـ 8 ـ
بالرغم من كل الأساليب الملتوية الخفية ، والتستر الذي أبدته
الحكايات في تعرضها للدين الإسلامي ، لتشويه مبادئه ومسخ روحه وتكدير صفائه ، وبالرغم من محاولاتها في إخفاء حقدها ، فقد باءت جهودها بالفشل في إخفاء هذا الحقد الأسود على الإسلام وأهله ، وتغلب حقدها على تقيتها فأظهرت في كثير من أحداث حكاياتها ما تكنه من حقد وغل على الإسلام ، وتركز هذا الحقد على الدعائم الأساسية التي تقوم عليها العقيدة والشريعة الإسلامية ، ألا وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، هاتين الدعامتين الأساسيتين للإسلام اللتين ترتبطان ارتباطاً عضوياً طبيعياً وقوياً فيما بينهما لا انفصال به البتة ؛ ويطالعنا هذا الترابط المكين في كل ما أتى به الإسلام من تشريع ، وفي كل ما يدعو إليه من قيم وأخلاق ومبادئ ومثلى ، تقوم عليها الحياة وينتظم بها الكون ، ومثل عليا تسعد الإنسانيـة ، فهذا رسول الله عليـه الصلاة والسلام يقول : { لقد أوتيت القرآن ومثله معه } ، يريد رسولنا الكريم بهذا القول سنته الشريفة ، التي تتمثل في جماع أقواله وأفعاله ، والتي علينا نحن معشر المسلمين الإيمان بها واتباعها والعمل بمقتضاها ، تنفيذاً للأمر الإلهي الذي أمرنا الله به في كتابه العزيز : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلـى الله والرسـول إن كنتم تؤمنون بالله واليـوم الآخر }(1)، وواضح أن المعنى من أمر الله تعالى برد ما نختلف فيه إليه هو الرد إلى كتابه العظيم ، وأن معنى الرجوع إلى الرسول هو الرجوع إلى سنة نبيه المطهرة بعد أن لحق بالرفيق الأعلى .
وتستمر الشعوبية ، من خلال الحكايات ، في محاولاتها السوداء في النَيْل من الدين الإسلامي الحنيف ، فتهاجم الفقهاء والفقه الإسلامي ، والقضاة والقضاء عند المسلمين ، لأن الفقه عماد دين الإسلام كما روي عن رسول الله في الحديث المرفوع قوله : { لكل شيء عماد ، وعماد هذا الدين الفقه } ولأن الفقهاء قادة الأمة ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : { الأنبياء سادة والفقهاء قادة ومجالستهم زيادة } ، فبالفقه صلحت هذه الأمة العظيمة ، وسادت البشرية قروناً طويلة ، ولا تزال بفضله صالحة لقيادة العالم وتوجيهه نحو الخير والكمال . وبالقضاء تحقق العدل في المجتمع الإسلامي ، وساد الأمن والاستقرار والطمأنينة ، لأن القضاء يمثل القيم والمثل والمبادئ الإسلامية تمثيلاً واقعياً ، وينفذها تنفيذاً عملياً .
فإذا كان في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة تكمن قوة العرب ، وبهما حرز لهم من التحلل والانجراف خلف أكاذيب الشعوبية وألاعيبها المضللة ، ففي الفقه والقضاء نجد الجدار المتين الذي تحطمت أمام بنيانه الصلب كل مؤامرات ودسائس الشعوبية وهجماتها الشرسة على الدين الإسلامي وعلى أهله العرب .
لهذا كله ، زاد سخط الشعوبية على القرآن الكريم وعلى السنة النبوية ، ومن ثم على الفقه والقضاء الإسلامي ، كما زادها حقداً فوق حقد، مما جعلها تصعد من هجماتها الوحشية عليهم جميعاً ، في كل مكان وفي كل زمان ، وعلى جميع الأصعدة والمستويات ، وبمختلف الأساليب والوسائل ، لأن في بقاء أركان الإسلام ودعائمه ، وصفائهما من الشوائب ، ما هو إلا فشل وإحباط للمؤامرات الشعوبية والحيلولة دون تحقيق مخططاتها والوصول إلى أهدافها وغاياتها ، ومن ثم موت الشعوبية نفسها وطيها في مزبلة التاريخ .
ـ 9 ـ
القرآن الكريم هو كتاب الله المنزل ، ودستور الإسلام المطهر ، الموحى إلى النبي العربي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، الذي اصطفاه الله رسولاً، وكان القرآن الكريم بذلك عند المؤمنين مصدراً لعقائد الدين الإسلامي ولأُصول أحكامه وشرائعه ، وبمعنى آخر ، يمثل القرآن الكريم أصل الشريعة الإسلامية وعمودها الفقري ، ومصدر المصادر كلها للإسلام ، من جمعه في قلبه فقد جمع النبوة بين جنبيه كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والقرآن الكريم حامل عقيدة العرب وله أفضال كثيرة عليهم ، فهو ذكر لهم كما قال الله تعالى : {وإنه لذكر لك ولقومك }(1) وهو مجسد أخلاقهم وقيمهم ومثلهم ، وهو حافظ لغتهم ، لأنه أُنزل بلسان عربي مبين ، وبأفصح ألسنتها على الإطلاق،وقد جاء بالذكر الحكيم قوله تعالى : {وهذا لسان عربي مبين }(2) ، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله في ذلك(3) : أن الله ، أقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه ؛ جل ثناؤه ؛ كل لسان غر لسان العرب في آيتين من كتابه ، فقال الله تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }(4) وقـال : { ولو جعلناه أعجمياً لقالوا لو فصلت آياته أأعجمي وعربي }(5) .
كما أن أمثال القرآن الكريم التي ضربت ، كانت أمثالاً عربية ، والأقوام التي ذكرت فيه ؛ للعبرة والموعظة ؛ كانت أقواماً عربية ، والأحداث التاريخية التي أوردها أحداثاً عربية صرفة لا يجهلها أي عربي ، والعادات التي أقرها عادات عربية والأخلاق التي هذبها وأتمها بنعمته أخلاق عربية خالصة ، جاء في الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { جئت لأُتمم مكارم الأخلاق } .
فالقرآن الكريم ، عربي ، وسره في عربيته ، وأبى الله تعالى إلاّ أن يكون عربياً ، وأن يقرأ ويسمع بنظمه العربي ، وأن يؤثر بتلاوته العربية ، ويتذكر به السامع ويصحو على جرسه الغافل ، قال الله تعالى : { أنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون }(1)، وقال ، عز من قائل ، : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون }(2) .
إن كل سورة من سور القرآن الكريم ، بل كل آية من آياته ، تؤكد تأكيداً لا ريب فيه ، أن الله سبحانه وتعالى كان متوجهاً بكتابه الكريم ، إلى العرب ، إلى العقل العربي ومعارفه وقيمه وأخلاقه ومثله ، وهذا لا ينفي عالمية رسالة الإسلام ، ولكن يؤكد على كمال الأمة العربية وأهليتها وتكليفها لحمل رسالة الإسلام إلى البشرية جمعاء .
لقد أدركت الشعوبية ، أولاً : المنزلة الرفيعة التي حبا الله بها العرب وأن هذه المنزلة باقية ما بقيَ القرآن الكريم ، و ثانياً : أن الذي يدين بدين الإسـلام يجب أن يتعبد بالقرآن ، فلا تقبل منه صلاة ما لم يقرأ القرآن باللغة العربية ، وأن قيام المسلم - غير العربي - بتنفيذ هذا الشرط ؛ولا بد لصحة إسلامه من هذا التنفيذ ؛ كاف لأن يجعل منه على مدى الأيام ، عربياً ، لا يختلف عن العربي أصلاً في مَيْل أو شعور ، وهكذا يذوب في العروبة ويصبح مدفوعاً إلى التجرد من قوميته ومن لغة قومه ، فيستعرب ويحشر محشر العرب ، ويعد في عدادهم ولا يعود يجد أي فرق بينه وبينهم ، ثم يعقب ذرية لا تعرف غير أمة العرب لها نسباً .
لهذا كله ، حاولت الشعوبية تحريف وتشويه ما جاء في القرآن الكريم في تفسير آياته وتأويلها بشكل يتناسب مع ميولها وأغراضها الشعوبية السالبة ، ولإخراجها عن مدلولها اللغوي إلى تأييد عقيدة يعتنقونها ، أو محاربة أمة العرب وإغماطها حقها .
وقد اتبعت حكايات ألف ليلة وليلة ، هذه الطريقة اللاأخلاقية ، أي تفسير القرآن بما يسيء للقرآن ، نجد ذلك في حكاية عمر النعمان ، عندما يطلب شركان من الملكة النصرانية أبريزة أن تسير معه إلى بلاد الإسلام ، وردها عليه بغيض : [ 00 وحق المسيح لقد كنت عندي ذا عقل ورأي ولكني اطلعت الآن على ما في قلبك من الفساد وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب فيها إلى الخداع كيف أصنع هذا وأنا أعلم أني متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه لأنه ما في قصوره مثلي ولو كان صاحب بغداد وخرسان وبنى له أثني عشر قصراً في كل قصر ثلاثمائة وستون جارية على عدد أيام السنة والقصور عدد أشهر السنة فإن حصلت عنده ما فزع مني لأن في اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيها أو ما ملكت أيمانكم فكيف تكلمني بهذا الكلام ](1) .
لقد أرادت هذه الحكاية من { وما ملكت أيمانكم } عكس ما أراد الله تعالى لها ، فأصبحت هنا سماح للتمتع بالنساء كل النساء بدون أي قيد أو شرط ، وأن المرأة في الإسلام مستباحة وممتهنة الكرامة ، وجدت للتمتع فقط ، وأنها ما هي إلاّ شيء من الأشياء القابلة للتملك والتداول . وأصبحت هذه الآية القرآنية الكريمة ، كذلك ، وكأنها دعوة للإباحية يدعو بها القرآن الكريم كتاب الإسلام ، هذا الكتاب الإلهي المطهر الذي حوى فيما بين دفتيه ، ما وضع الله من الأسس والقواعد والنظم العظيمة التي تصون إنسانية الإنسان ، وعلى الأخص إنسانية المرأة ، من خلال تنظيم العلاقة فيما بينها وبين الرجل ؛ من زواج وطلاق وإرث وإلى ما هنالك من أمور حياتية أُخرى ؛ بحيث حصلت المرأة من خلالها ؛ ولأول مرة في تاريخ البشرية ؛ على أعلى قيمة إنسانية أرادها الله لها .
وقد ختمت الشعوبية أحداث حكاية الملكة أبريزة بما يلائم هذا التفسير الشعوبي المضلل ، فتُظهر مصداق ما توقعته الملكة ، بعدم تخلصها من النعمان إذا ما رآها ، وكيف أنه حصل منها على ما يبغي باسلوب إجرامي رخيص يدل على امتهان إنسانية المرأة وانحطاط قدرها عند المسلمين .
ـ 10 ـ
السنة النبوية تمثل أفعال وأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي المصدر الثاني للشـريعة الإسـلامية الغراء ، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقرآن الكريم ، لكون القرآن لم يتناول الأحكام والمبادئ التشـريعية ؛ مـن عبادات ومعاملات وغيرها ؛ إلا بالإجمال وعلى نحو كلي ، فكان لابد من بيان وتفصيل ، فكان لابد من الأثر النبوي ، ولابد من الأخذ بسنة رسول الله ، والنزول على أحكامها ، باعتبارها بيان للقرآن الكريم وتفسير له ، ولا عجب فإطاعة الرسول ليست إلا إطاعة الله عز وجل ، وفي هذا قال الله تعالى : { ومن يطع الرسول فقد أطاع الله }(1) .
لقد كان دور الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، دور الشارح للمتن ، الذي هو القرآن الكريم ، إلا أنه شارح ملهم ومفسر معصوم ، فيما يتصل بالقرآن والدين وأُصوله ، فهو يعمل تحت رعاية الله دائماً ، وهو لا ينطق عن الهوى ، يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ، بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأنزل عليه كتابه بالهدى والنور لمن اتبعه ، وجعل رسول الله الدال على ما أراده من ظاهره وباطنه وخاصه وعامه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله هو المعبر عن كتاب الله ، الدال ، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه ، فكانوا أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم(1).
لقد ركزت الشعوبية هجومها على السنة النبوية ، محاولة الازدراء بها والنيل منها بشتى الطرق وبمختلف الأساليب ، ودعائمه الأساسية بصورة عامة، ثم الأصل العربي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ، المرسل على العرب لهدايتهم ولإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ولإعدادهم لحمل رسـالة الله للبشرية قاطبة ، قال الله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }، فصاروا بهذا الدين القيم أخوة ، عاشوا في حماه بمحبة بعد بغض ، وبوحدة بعد فرقة ، وبمركز القيادة والريادة بعد التبعية ، والمسؤولية والتزام بعد اللامبالاة والأنانية والتسيّبيَّة ، فكانوا أهلاً لحمل رسالة السماء ، لأن الله فضلهم فوق فضلهم برسول الله على غيرهم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }(1) .
لهذه الأسباب وغيرها ، عمدت الشعوبية إلى تخريب هذا المصدر العظيم للإسلام ، والتجديف على الرسول العربي عليه الصلاة والسلام ، والازدراء بالحديث النبوي الشريف ، وقد اتبعت في ذلك أساليب وسبل كثيرة ، من وضع الأحاديث الكاذبة على لسان الرسول الكريم ، إلى إفساد الصحيح بالتأويل والطعن عليه ، إلى غير ذلك من مفتريات ، يقول ابن الأثير في ذلك :00 فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم 00 وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه (2) .
لقد دَلَت الحكايات بدلوها في هذا المجال ، وجارت النتاجات الشعوبية الأخرى في وضع وتأويل الأحاديث النبوية الشريفة ، ولم تقف عند هذا ، بل تجاوزته إلى ما هو أقبح وأقذر من ذلك ، فاستخفّت بأحاديث رسول الله وسنته المطهرة ، حيث عملت على التندر والسخرية منهما ، ذاكرتهما في مواضع وأحداث لاأخلاقية يأبى عن ذكره في مثل هذا من كانت لديه ولو ذرة من الاحترام أو التأثر بالإسلام .
ومن الدس الكاذب على رسول الله ، مما ورد في كتاب ألف ليلة وليلة ، الحديث الموضوع الذي يقول : قال هشام بن بشر قلت لعمر بن عبيد ما حقيقة الزهد ، فقال لي قد بينه رسول الله عليه السلام في قوله : الزاهد من لم ينسَ القبر والبلاء وآثر ما يبقى على ما يفنى ولم يعد غداً من أيامه وعد نفسه من الموتى (1) ، إذا كان على الإنسان أن يعد نفسه من الأموات ؛ كما جاء في حديث هذه الحكاية ؛ فكيف له أن يفكر ويعمل لدينه ودنياه ؟ بل كيف يتلاءم هذا مع ما جاء بالقرآن الكريم والسنة النبوية المؤكدة ، من أمر موجه للإنسان ؛ وبالأخص المؤمن برسالة الإسلام ؛ أن يسعى ويعمل ؟ . وتتابع الحكايات بإيراد مثل هذه الأحاديث الموضوعة ، فتقول : 00 وقد قال صلى الله عليه وسلم نعم الحسب المال (2) ، وهذا القول لا يلزم أي دليل إثبات بأنه مفترى على رسول الله ، لأن أي مطلع على دين الإسلام يعرف مصير الذين يكنزون الذهب والفضة !! إن هذه الأحاديث الموضوعة وأمثالها ، افتراء وكذب بيِّن على رسول الله ، أرادت بها الشعوبية تشويه صفاء الإسلام والتشويش على مبادئه الحقة .
ونرى في الحكايات صور كثيرة من الاستهزاء والسخرية والاستخفاف بأحاديث رسول الله ؛ بأسلوب التندر والتظرف ؛ ففي حكاية هارون الرشيد مع الجاريتين المدنية والكوفية ، عند ما كان يرقد الخليفة بينهما ؛ تسرد الحكاية حدثها بطريقة لا أخلاقية ؛ فتبرر الجارية المدنية موقفها من حيازتها ذكر الرشيد ؛ بعدما أجهدت نفسها لجعله منتصباً ؛ بإيراد حديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، حدثني مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي أنه قال : {من أحيى مواتاً فهو له ولعقبه }، فترد الجارية الكوفية عليها ؛ بعد أن تستولي على ذكر هارون الرشيد المنتصب ؛ بحديث آخر لرسول الله { حدثنا الأعمش عن خيمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي قال الصيد لمن صاده لا لمن أثاره} ، ومما يؤكد الغاية الشعوبية من إيراد هذين الحديثين على هذا الشكل اللاأخلاقي وفي مثل هذا المقام، تكرار نفس الحكاية وبنفس الليلة،
ولكن بزيادة جارية ثالثة وهي العراقية ، وإيراد الحديثين نفسهما ،
ولكن بإسناد مختلف (1) .
ويظهر هذا الاستخفاف ، للحديث النبوي الشريف ، في حكاية علي نور الدين ، عندما يطلب الفتى علي ( الخمر) من الشيخ إبراهيم فيقول له الشيخ [ أعوذ بالله منها إنَّ لي ثلاث عشر عاماً ما فعلت ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن شاربه وعاصره وحامله ، فقال له نور الدين اسمع مني كلمتين قال قل ما شئت ، قال إذا لم تكن عاصر الخمر ولا شاربه ولا حامله هل يصيبك من لعنهم شيء ، قال لا ، قال خذ هذا الدينار وهذين الدرهمين واشترِ بهذا الدينار خمراً واحمله على الحمار وحينئذ لا تكون حاملاً ولا عاصراً ولا مشترياً ولا يصيبك شيء مما أصاب الجميع ](1) .
وتتعاظم هذه السخرية وهذا الاستخفاف بالحديث النبوي الشريف ، في حكاية علاء الدين أبو الشامات مع محمود البلخي ، والشعر اللاأخلاقي الذي يقوله الأخير فيه (2) :
حدثنا عـن أشياخـه أبو بلال شيخنا عن شريك
لا يشفي العاشق مما به -------------- (3)
ولقد حذفت الشطر الأخير من البيت الثاني لما فيه من فجور مكشوف .
هكذا صبت الحكايات ، حقدها الأسود على الحديث النبوي الشريف ، فلم تكتفِ بالكذب على رسول الله ، بل وضعت أحاديثه ؛ وبكل خبث ؛ موضع السخرية والتندر والتهكم ، متَّبعة في ذلك ؛ كما رأينا ؛ أسلوب التظرف لتخفي وراءه مقاصدها وغايتها الشعوبية القذرة في النيل من أحاديث رسول الله ومن ثم من شخص رسولنا الأكرم ، صلوات الله عليه ، نفسه .
ومثلما عملت الحكايات بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، بوضعهما موضع الاستخفاف والسخرية ، حاولت كذلك ؛ وبكل ما تملك من مكر وخداع ؛ وضع الفقه الإسلامي والفقهاء المسلمين في هذا الموضع ، لأن الفقه يعتمد على نصوص الشريعة ، أي على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، فأي إنقاص للفقه هو ؛ في الحقيقة ؛ إنقاص لهما معاً وتسفيه للأسس التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية الغراء .
حاولت الحكايات إظهار فقهاء الملة الإسلامية بمظهر الجهلاء والأغبياء والسذج ، ولم يكن عملها هذا آت من عفوية القاص ؛ كما قلنا مراراً ؛ بل لحقد الشعوبية الدفين على هذه الفئة الخيرة ، التي تمثل الفكر الإسلامي الأصيل والمعبرة عنه خير تعبير ، والتي يعود لها الفضل الأكبر في تثبيت بنيان العطاء الحضاري للأمة العربية ،والتي وقفت؛ بجدارة وشجاعة نادرة وصلابة لا تلين ؛ بوجه كل المخططات والمؤامرات الشعوبية وفضحها وإسقاطها ، ومنع الشعوبية من تحقيق غايتها الدنيئة في تدمير وهدم الدين الإسلامي الحنيف والمجتمع العربي الأصيل .
أن أي تشكيك بالفقهاء وفقههم ؛ لأنهم بالعلم ورثة الأنبياء ؛ هي محاولة للتشكيك في الدين الإسلامي نفسه ، لأن الطعن على هؤلاء الفقهاء ، الذين هم بحق عماد الدين الإسلامي ؛ كما وصفهم رسولنا الأكرم ؛ ما هو في الحقيقة إلا طعن على الدين الإسلامي ، الذين هم حملة علمه ورواته ودعاته ، وأن تشويه سيرهم ما هو إلا تشويه للأمانة التي حملوها ، ومن ثم تشكيك الأسس التي قـام بها كيان التشريع في هـذه الأمـة الحضارية الخيرة .
ففي حكاية مزين بغداد ، محاولة للتطاول على حبر الأمة ، ابن عباس رضي الله عنه ، وإظهاره بمظهر الجاهل ، حين يقول المزين للصبي : [ أبشر يا سيدي فقد جاءتك العافية أتريد أن تقصر شعرك وإخراج دم ، فأنه ورد عن ابن عباس أنه قال من قصر شعره يوم الجمعة صرف الله عنه سبعين داء ، وروي عنه أيضاً أنه قال من احتجم يوم الجمعة لا يأمن من ذهاب البصر
وكثرة المرض ] ، فيرد عليه الصبي [ فقلت له دع عنك هذا الهذيان ](1) .
وفي حكاية الجارية تودد ، ؛ التي تدور أحداثها في بلاط الخلفة هارون الرشيد ؛ محاولة أخرى للنيل من الفقهاء وإظهار جهلهم ، وذلك عندما يأمر الخليفة الرشيد بحضور الفقهاء المهتمين بشؤون الدين والدنيا ، لمناظرة الجارية تودد ومعرفة مقدار علمها؛ وقد عرفتنا الحكاية بأصل الجارية الفارسي مسبقاً ؛ فبعد أن تطري الحكاية على الفقهاء المناظرين ، وتكثر من مدحهم وتظهر علو باعهم في العلوم ، تبدأ المناظرة مع هذه الجارية الفارسية ، حيث حيكت هذه المناظرة حياكة شعوبية شيطانية ماكرة ، يظهر من خلالها جهل الفقهاء المناظرين للجارية وقلة درايتهم وضحالة معارفهم بكل علم طرحوه للمناظرة معها ، إن كان ذلك في أمور الدين أو الدنيا ، ويظهر ذكاء الجارية الفارسية وسعة علمها وغزارة معارفها ، فتتغلب الجارية على الفقهاء والعلماء جميعاً وتأخذ ثيابهم ، وذلك بعد تسفيه آرائهم وعجزهم عن الرد على أسئلتها (1) ، يقول فليب حتي في هذه الحكاية : وتروى قصة خيالية في ألف ليلة وليلة ، أن الرشيد عرض مائة ألف دينار ثمناً لتودد الجارية الجميلة الموهوبة بعد أن اجتازت بتفوق امتحاناً صعباً وضعه العلماء في الطب والفقه والفلك والفلسفة والموسيقى والرياضيات فضلاً عن علوم المعاني والبيان والنحو والشعر والتاريخ والقرآن (2) .
إن العجب كل العجب من شعوبية كتاب ألف ليلة وحقدها ، لم تجد إلا جارية لمناظرة فقهاء وعلماء الدولة العربية الإسلامية ، فمن أين جاءها كل هذا العلم وكل هذه العلوم ؟ والمعروف أن الجارية لا تكون ذات شأن إلا إذا كانت خبيرة بأدوات اللهو والمجون والعهر ، وتنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها فيما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث ، كما يقول الجاحظ ، فمن أين لهذه الجارية المقدرة على مجادلة العلماء والتغلب عليهم ؟ أن من المؤكد أن كتاب ألف ليلة وليلة لم يورد هذه الحكاية إلا استزادة في الاستخفاف والسخرية من فقهاء وعلماء الأمة العربية ، واستزادة في الإنقاص من قدرهم وتشويه سيرهم العلمية .
ونرى هذا الاستخفاف بالفقهاء ، عندما يحب غلاماً جارية تتعلم القرآن معه في المكتب ، فيكتب على لوح الجارية شعراً يبث فيه حبه وأشواقه لها ، وعندما تقرأ الجارية الشعر تكتب هي الأخرى شعراً تحت شعر محبوبها ، وعندما يقع اللوح بيد الفقيه ويقرأ ما كتب عليه يكتب هو الآخر شعراً :
صِلي محبك لا تخشي معاقبة إن المحب غدا في الحب حيرانا
أما الفقيه لا تخشي مهابته فإنه قد بُلِيَ بالعشـق أزمانا وعندما يحضر سيد الجارية إلى المكتب صدفة ، ويجد لوح جاريته ويقرأ ما كتب فيه من شعر يكتب تحت ما كتب الأبيات التالية :
لا فرق طول الدهـر بينكما وظل واشيكما حيران تعبانا
أما الفقيه فلا والله ما نظرت عيناي أعرص منه قط إنسانا (1)
ـ 12 ـ
وهاجمت الشعوبية القضاة والقضاء الإسلامي ، لأن في القضاء ، أفضل مظهر يتمثل فيه العدل ، الذي به وحده قوام المجتمع وبقاؤه ، فلا بقاء لأي مجتمع إذا لم يكن هناك عدل ، ولا عدل إذا لم يكن هناك قضاء يتمثل به كامل معناه . واعتبر الإسلام ، القضاء ، من أقدس الواجبات وأصعبها ، وقد أمرنا الله بأن نرجع إلى القضاء عندما نختلف فيما بيننا ، لِيَحكم بيننا كتاب الله وسنة نبيه المصطفى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بـالله واليوم الآخر } .
إذاً ، تتسم القواعد والأصول التي يستمد القضاء منها أحكامه ، بالثبات ، ولا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال ، لأنها ليست من وضع جماعة من المسلمين حتى يجوز لهم تعديلها ، وإنما هي مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، باعتبارها تعبيراً عن إرادة الله سبحانه وتعالى بشكل مباشر أو غير مباشـر . فكانت مهمة القاضي بهذا ، من أخطر المهام وأقدسـها ، وقد أدرك السلف الصالح من فقهاء وعلماء الأمة ، أن مهمة القضاء في المجتمع العربي الإسلامي لا يمكن أن تؤدى كاملة وعلى الموجه السليم المنزه ، ما لم يلتزم القاضي في كل حركاته وسكناته ، العدل والحياد ، ويتبرأ من الأهواء والشهوات ، فحفلت الكتب والفصول التي صنفت في علم القضاء ، بالتأكيد على عدل القاضي وحياده ، وضرورة تجنبه كل ما يخل بالعدالة والإنصاف ، من غضب وهوى وغيرهما من عوامل النفس . لذلك كان الفقهاء يشترطون فيمن يولى القضاء شروطاً كثيرة ، منها الأهلية الكاملة ؛ من بلوغ وعقل وذكورة وحرية التصرف ؛ وأن يكون عدلاً سليم السمع والبصر ، غير محدود بقذف ، كما اشترطوا أن يكون عارفاً بأسرار التشريع الإسلامي ، وأن يكون مجتهداً لا مقلداً غيره في تفسير ولا تأويل .
ولهذا كان لحكم القاضي صبغة دينية ، لاستمداد أحكامه من أحكام الدين ، وبهذا كسب القاضي قوة ومهابة ، فكان يستخلص حق المظلوم من الظالم ، لا مخافة من قوة حاكم أو من غيره ، وإنما كان خوفاً من الله تعالى ومن وعوده التي توعد بها الظالمين . فمن كل ما سبق ، نستنتج أن هدف القضاء في الإسلام ، هو إحقاق الحق وتوزيع العدل في المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أبناء الأمة ، ذلك القضاء الذي ثبت أصله واستطال فرعه ، وكان مستقلاً فيما يقضي به القاضي لا سلطان عليه غير أحكام الشريعة ، التي كان يغترف من معينها الذي لا ينضب ، فكان بهذا خير قضاء عرفه العالم ، وأن قضاته أفضل قضاة عرفهم التاريخ ، علماً وفضلاً ونزاهة وذكاء واستقلالية ومتانة في الحق .
لهذا كله ، فإن أي تخريب للقضاء هو تخريب للحقيقة والعدل ، وأن أي تخريب للعدل ما هو إلا تخريب للمجتمع وموته ، وهذه هي غاية الشعوبية وهدفها الذي تسعى إليه وعملت وتعمل من أجل تحقيقه . فحاولت الحكايات أن تعطي انطباعاً سيئاً عن القضاء والقضاة في المجتمع العربي الإسلامي ، حينما أظهرت القاضي كشخصية لاهية ، لا هيبة لها ولا احترام . نرى ذلك في حكاية علي العجمي والكردي ، والتي رواها الأول للخليفة هارون الرشيد، فقد كان فيها سخرية للقاضي من الشاكي والمشتكا عليه ، فبعد وصف الجراب المختلف عليه وما به ، من قِبَل الأعجمي وخصمه الكردي أمام القاضي ، وما يحمل هذا الوصف من استهزاء واستخفاف بالقاضي ، يقول الأعجمي أن في الجراب الذي يدعي ملكيته ، أثناء سرد ما فيه من أشياء غريبة عجيبة : [00 وفيه أطال عمر مولانا القاضي غلائل وأراضي وألف موسى ماضي تحلق ذقن القاضي إن لم يخشى عقابي ولم يحكم بأن الجراب جرابي ] ، وتتابع الحكاية استهزاءها ، فتظهر سذاجة هذا القاضي وجهله وقلة هيبته عند الناس ، من خلال قوله للمتخاصمين [ وما أراكما إلا شخصين نحسين أو رجلين زنديقين تلعبان بالقضاة والحكام ولا يخشيان من الملام لأنه ما وصف الواصفون ولا سمع السامعون بأعجب مما وصفتم ولا تكلم بمثل ما تكلمتم والله إن من الصين إلى شجرة أم غيلان ومن بلاد فارس إلى أرض السودان ومن وادي نعمان إلى أرض خرسان لا يسع ما ذكرتماه ولا يصدق ما ادعيتماه فهل هذا الجراب بحر ليس له قرار أو يوم العرض الذي يجمع الأبرار والفجار ](1) .
وتستمر الشعوبية ؛ من خلال الحكايات ؛ في غيها وحقدها على القضاة المسلمين ، فتظهر قلة هيبتهم عند العامة كما هي عند الخاصة ، ففي حكاية علي المصري ، عندما يضرب زريق برغيف الرصاص على علي ويخطئه [ فلم ينزل الرغيف الرصاص إلا في طاجن ملآن باللحم السخن فانكسر ونزل بمرقته على كتف القاضي وهو سائر ونزل الجميع في عب القاضي حتى وصل إلى محاشمه فقال القاضي يا محاشمي ] ، وعندما يسأل القاضي عن الفاعل يقال له : [00 يا مولانا هذا ولد صغير رجم بالحجر فوقع في الطاجن ما دفع الله كان أعظم ] .
كما أن قاضي المسلمين في الحكايات ، مرتشي لا نزاهة لديه ولا ذمة ، يحكم للراشي ولو كان حكمه يخالف الشريعة الإسلامية مخالفة واضحة ، نجد ذلك في حكاية نور الدين أبو الشامات ، والتي تدور أحداثها في زمن الخليفة هارون الرشيد ، عندما يقول القاضي لنور الدين [00 لأي شيء لم تطلق المرأة وتأخذ ما وقع عليه الشرط ] ، فيتقدم نور الدين نحو القاضي ويقبل يده ويضع فيها خمسين ديناراً ويقول : [ يا مولانا القاضي في أي مذهب أني أتزوج في العشاء وأطلق في الصباح قهراً ] ، حينها يجيبه القاضي : [ لا يجوز الطلاق بالإجبار في مذهب من مذاهب المسلمين ] ، وعندما يصر والد الفتاة على الطلاق أو دفع الصداق ، يطلب نور الدين من القاضي مهلة ثلاث أيام لدفع الصداق ، يقول القاضي : هذا لا يكفي ، فيمهله عشرة أيام(1).
وإذا عرفنا أن هذا النوع من الزواج ، باطل أصلاً في الإسلام ، ومن عدة وجوه ، لأنه أولاً حدد بزمن معلوم ، وهو ليلة واحدة ، وهذا لا يجوز في الشريعة الإسلامية وحكمه حكم زواج المتعة ، ولأنه ثانياً تعلق بشرط ، وعقد الزواج يفقد صحته إذا تعلق على شرط ، فهو باطل عند أغلب الفقهاء ، ولأن ثالثاً هذا النوع من الزواج - زواج التحليل – مكروه بل مرفوض في الإسلام ، وقد لعن رسولنا الأكرم فاعله . ومما تقد تظهر لنا الغاية الشعوبية من هذه الحكاية ، ألا وهي تشويه قدسية الزواج في الإسلام ، ومن ثم التشكيك بنزاهة قضاة المسلمين .
وتتابع الحكايات استهزاءها بقضاة العرب المسلمين والإنقاص من قدرهم وقيمتهم ، وإلصاق كل نقيصة بهم . ففي حكاية زين المواصف ، نرى قاضي المسلمين يقضي بما يمليه عليه هواه ، لا كما تقتضي العدالة والشريعة ، وأن انبهار القاضي بجمال زين المواصف مما يؤثر في حكمه إلى حد كبير طمعاً في استخلاصها لنفسه والحصول منها على ما يشبع غريزته الجنسية ورغبته منها ؛ فتصور هذه الحكاية ؛ القاضي ، بل قضاة المذاهب الأربع ، شهوانيون تسيطر عليهم غرائزهم الحيوانية الدونية ، لدرجة أن تنسيهم أنفسهم وتفقدهم عقولهم ، فيتبعون أهواءهم في إصدار أحكامهم ، التي تتنافى كلياً مع المهمة العظيمة الموكلة إليهم . فعندما تذهب زين المواصف إلى القاضي الأول ، وتحكي له حكايتها وتطلب منه أن يخلصها من زوجها الذي – كما ادعت- خطفها من أهلها وأنه ليس بزوجها يقول القاضي لجاريتها التي ترافقها : [ هل هذه سيدتك وأنتن غرباء وليس لها بعل ، قالت نعم ، قال زوجيني بها وأنا يلزمني العتق والصيام والحج والصدقة إن لم أُخلص لكُنَّ حقكن من هذا الكلب بعد أن أجازيه بما فعل ] ثم تذهب زين المواصف إلـى بقيـة قضاة المذاهب الإسلامية الأربع ، وكل واحد منهم يسألها الزواج ليساعدها ، وهي تظهر موافقتها على ذلك ؛ ولم يعلم القضاة خبر بعضهم البعض ؛ وكل منهم بات يمني نفسه بالحصول عليها ، وفي صباح اليوم الثاني تدخل زين المواصف مجلس القضاء وتقع أنظار القضاة عليها [00 وعرفها كل واحد منهم وكان بعضهم يكتب فوقع القلم من يده وبعضهم كان يتحدث فلجلج لسانه وبعضهم كان يحسب فغلط في حسابه ] . وعندما يحضر زوج المرأة ، تظهر الحكاية ظلم وتعسف القضاة الأربع وجورهم ، فيبدؤون بضرب الزوج المسكين وشتمه ، ويمنعونه عن الكلام أو تعريفه بالتهمة الموجهة إليه ، وعندما يؤكد الرجل بأن زين المواصف هي زوجته ، تقول الحكاية : [00 فلما سمع القضاة ذلك الكلام صاحوا كلهم وقالوا ارموا هذا الكلب على الأرض وأنزلوا على وجهه بنعالكم واضربوه ضرباً وجيعاً فإن ذنبه لا يغتفر ] .
وتستمر الحكاية بكذبها على القضاة المسلمين ، بكل مكر ودهاء ، فتظهر جهلهم وطغيانهم ، عندما يحكمون على الزوج بدون بينة [00 فحكم عليه القضاة الأربعة بأن تقطع يداه ورجلاه وبعد ذلك يصلب ] ، ويستغرب الزوج المسكين مما يجري ، فهو يهان ويصدر بحقه حكماً قاسياً جداً دون ما يدري ما هيَ جريرته ، فيسأل القضاة عما يريدون منه ، فيقولون له : [ قل أن هذه الجارية ما هي زوجتي وأن المال مالها وأنا تعديت عليها وشتتها عن أوطانها ] . وبعد أن تتخلص زين المواصف من زوجها بمساعدة القضاة المغفلون ، تهرب هي وخادمتها ، ويعجز القضاة عن الوقوف على خبرها أو معرفة طريقها ، فيصابون جميعهم وبلا استثناء بمرض العشـق والهوى [ ووقع القاضي على فراشه وصار من أجلها في ضنى وكذا الشهود وباقي القضاة الأربعة وصارت الحكماء تتردد عليهم وما بهم من مرض يحتاج إلى طبيب](1)
هكذا أرادت الحكايات أن تصور للناس ؛ القضاة والقضاء في الدولة العربية الإسلامية ؛ تصويراً مغايراً ومناقضاً لحقيقته الحقة مضاداً للمهمة التي وُكِّلَ بها ، معارضاً للقواعد والأصول التي بُنِيَ وقام عليها .
* * * *
من كل ما تقدم ، يتبين لنا شعوبية حكايات ألف ليلة وليلة وحقدها الدفين على الإسلام والمسلمين ، ويتبين لنا الغاية الشعوبية التي يسعى هذا الكتاب الشعوبي لتحقيقها من خلال أحداث حكاياته ، ألا وهي هدم الدين الإسلامي الحنيف ، وتدمير مقوماته ودعائمه ، من خلال تشويه مبادئه ومثله وأسسه ، وهذه هي غاية غايات الشعبية عامةً ، ركزت عليها منذ أن وجد الإسلام وأنار الكون بضيائه ، ومنذ أن وجدت الشعوبية كحركة عدائية هدامة ، واضعة نصب عينيها إطفاء هذا الضياء الإلهي المنير ، بكل وسيلة وبشتى الأشكال والسبل . يوضح جمال الدين الأفغاني ذلك بقوله : [ ومقصد أرباب هذه الطريقة محو الأديان ووضع أساس الإباحـة 00 وكيفما وجدوا فـي أمـة أفسدوا أخلاقها ](1) .

( الجزء الرابع )

الباب الرابع
الخُلق العربي
في ألف ليلة وليلة


الخلق العربي منظومة كلّية من القيم الروحية والعقلية والنفسية السامية المخلدة (1) ، نشأت عبر مسيرة الأمة العربية الطويلة لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ الذي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها ، والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها ، لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين فئات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة ، وفي الأمة حقيقة الفرد(2) . ولا يحسب الخلق للأمة إلا إذا كان فاشياً بين أفرادها مألوفاً عند جميعهم لا يخافه أحد منهم إلا مستتراً خوف المذمة إن هو أظهره أمام الناس .
وتعتبر الأخلاق خصيصة من خصائص الذات العربية منذ فجر التاريخ ، وأخذت وضعها المثالي بين الخصائص الأخرى عندمـا نالت الكمال بتهذيب الإسلام لها ، حيث أصبحت تفوق كل أخلاق وتسمو عليها ، لأنها لم تعد نابعة من مجرد الفطرة الإنسانية واستحسان العقل العربي لها فحسب بل تدعمها عقيدة الإسلام في نفس العربي وينميها إسلامه في سلوكه وعمله .
وقد جسدت الأمة العربية هذه الأخلاقية ، بمجموعة من السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف والأذواق والروابط والعلاقات والصلات الرفيعة، ومن التعاليم والشرائع والقوانين والنظم والهيئات والمؤسسات الحية المبدعة ، التي تصون للإنسان العربي ماهيته الحقة وتحفظ للمجتمع العربي هويته القومية الأصيلة ، وتضفي على الحياة العربية طابعاً متعالياً ، وحسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعل الأخلاق من صلب رسالته لهذه الأمة المجيدة وهي بالتالي رسالة هذه الأمة إلى الإنسانية جمعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } ، لذا كانت الأخلاق العربية قطعة صافية من أخلاق السماء ، ورحم الله البحتري حين يقول في أخلاقهم :
سلام على تلك الخلائق أنها مسلّمة من كل عار ومأثم
نستخلص من كل ما تقدم ، أن تخريب هذا الخلق العظيم لهذه الأمة العظيمة ، يؤدي حتماً إلى موت المجتمع العربي الإسلامي وفناء الأمة العربية ، لأن دمار الأمة ؛ أي أمة ؛ إنما يكون بموت أخلاقها الإنسانية ،ودمار قيمها الحضارية الرفيعة ، يقول الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق الحسنة المتينة سياج يقي المجتمع والأمة من الانحلال والانهيار، ويحفظ الأمـة دائماً مرفوعة الرأس مهابة الجانب ، وبمعنى آخر ، الأخلاق هي القوة الأولى لحفظ كيانات الأمم ، كما أنها هي الدعامة الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات البشرية السليمة .
ـ 2 ـ
وقد هال الشعوبية قوة بناء المجتمع العربي الإسلامي في الجانب الأخلاقي ، حيث وقفت الأخلاق مع التعاليم الإسلامية ، هادياً يعصم أبناء هذا المجتمع من التردي في مهاوي الرذيلة والملذات الدونية الدنيئة ، وينظمان لهم حياتهم الاجتماعية بما يعود عليهم بالنفع والثبات ، وإعانتهم على القيام بدورهم الرسالي الخالد على أكمل وجه وأمثل شكل .
وبما أن الأخلاقية تحارب باللاأخلاقية ، فقد عمدت الشعوبية في تخريبها الخلق العربي ، إلى دفع الإنسان العربي إلى التحلل الخلقي ، فرداً ومجتمعاً ودفعه إلى التردي في باءات الحطة والرذيلة والفساد ، لأن في ذلك إسقاط لإنسانية الإنسان وهدم لكيان وقدسية المجتمع ، لأن الفرد المتحلل من روابط المجتمع ومن مقوماته وأخلاقه ، غير قادر على أن يتحمل مسؤولية التفاعل الحضاري ، إذ أن عملية التفاعل هذه تقتضي الشعور بالمسؤولية والالتزام بالمجتمع وبقيمه وأخلاقه والارتباط به ارتباطاً عضوياً موجباً ، والتمسك بمثله تمسكاً مصيرياً ، والانتماء الواعي إليه ، والعمل وفقاً للمصالح المشتركة التي تربط بينه وبين مجتمعه .
ومثلما مضت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، بعيداً في تخريبها للدين الإسلامي ، مضت أيضاً وبذات البعد في تخريبها للخلق العربي ؛ وذلك ؛ لأن هذا الخلق لا يقل أهمية وخطورة قومية عن ذلك الدين الحنيف ، ناهيك مـا لهذين العنصرين الجوهريين من تشارك وتداخل ومن تفاعل وتأثير ومن تكامل وتكافل ، ما يكاد أن يجعل منهما وحدة عضوية تامة ، فالخلق العربي كنه من أكناه الدين الإسلامي ، ومن ثم هما متلازمان لا ينفكان ولا ينفصمان ، لأن كل منهما يحافظ على الآخر ويذود عن صاحبه كما جاء في الحديث الشريف { من لا خلق له لا دين له } فإن أي تخريب لأي عنصر منهما هو دون ريب تخريب أكيد للعنصر الآخر.
فعمدت هذه الحكايات الشعوبية إلى تشويه القيم الخلقية العربية ، التي تعتبر الطابع الأساسي المميز للمجتمع العربي المسلم ، وسجية من سجاياه الفطرية ، فأخذت تزين للإنسان العربي مظاهر الفسق والفجور ، محرضة الناس على ارتكاب المحرمات وإتيان الموبقات،وقصدها من ذلك هو القصد الشعوبي ذاته ، وهو دفع المجتمع العربي الإسلامي إلى درك التحلل والتفسخ ، وبهذا يسهل عليها إخضاعه والسيطرة عليه ، ويتسنى حينها للأعاجم والفرس منهم خاصة ، إرجاع مجدهم الكسروي الغابر ، وإزالة مجد العرب الزاهر ، وتدمير حضارة الأمة العربية الإنسانية العظمى والقضاء على مكمن قوتها الذاتية الجبارة . فتصدت الحكايات لأشهر الخصال والمحامد العربية الأصيلة التي عُرف العرب بها وبجلوها بتقديس ، وتغنوا بها بفخر واعتزاز ، كالمروءة والنجدة ، والعرض والشرف ، والقرى والكرم ، والوفاء والأمانة ، والإباء والشمم ، والصدق والإخلاص ، وغيرها من الخصال والمحامد العربية البارزة ، والتهجم عليها بضراوة وعنف ، وتضمينها مضامين لا أخلاقية سالبة ، كما رأينا ذلك في الباب الثاني من هذا الكتاب .
ولم تقف الحكايات عند هذا الحد من التجني والتشويه ، بل حاولت تصوير المجتمع العربي الإسلامي تصويراً مغايراً ومناهضاً ومناقضاً لحقيقته القومية الحقة ، صورته يرفل بالفسق والفجور ، والزنا واللواطة ، والخمر والمجون ، وذلك لإظهار المجتمع والإنسان العربي بحالة إنسانية مزرية لا تؤهله إطلاقاً لحمل رسالة السماء التي يفتخر بكرامة حملها ويعتز بشرف القيام بنشرها ، ويستشهد في سبيل تحقيق غاياتها . فدعت الحكايات وبشكل سافر إلى التحلل من كل القيم الدينية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي ، وزينت كل ما من شأنه أن يساعد على هذا التحلل ، كالخلاعة والمجون والفسق والدعارة ، والتخنث والانحراف الجنسي ومعاقرة الخمور .
فانطبعت هذه الحكايات الشعوبية بذلك الطابع القوي من الخلل الخلقي اللامحدود ، الذي لم يتأتَ صدفة أو عن سذاجة من لدن القاص ، كما لم يكن وجوداً عرضياً أو محشوراً في ثنايا الكتاب ، أو أن يكون وجوده أو عدم وجوده سيان ؛ كما تدعي الدكتورة سهير القلماوي ؛ بل أن الحقيقة تقول غير ذلك تماماً ، فالحكايات قامت بمجملها على هذه اللاأخلاقية ، وبدونها لا يبقى شيء يسمى حكايات أو بناء قصصي ، ومما يثبت ما ذهبنا إليه ، ذلك الفشل الذريع الذي لاقته طبعة الآباء اليسوعيين لكتاب ألف ليلة وليلة ، عندما حاولوا أن يزيلوا بعض مظاهر الفحش والمجون والغزل الرخيص الذي يرفل بها الكتاب ، فجاءت طبعتهم هذه غثة لا قيمة لها ؛ كما قال عنها النقاد ؛ واعتبرت من أسوء الطبعات على الإطلاق .
وقد حاول التغريبيين العرب المتأثرين بآراء المستشرقين ، إيجاد العذر لهذه اللاأخلاقية التي تسيطر على أحداث الحكايات ، فجاءت أعذارهم ساذجة ، تدل بوضوح على استغراقهم في تغريبيتهم الفكرية ، وتؤكد تعلقهم بآراء أسيادهم من المستشرقين والأخذ بها بدون تمحيص أو التأكد من صحتها . فهذه الدكتورة سهير القلماوي ، التي استقت مادة كتابها الموسوم بـ – ألف ليلة وليلة - ، من بحوث ودراسات أساتذتها المستشرقين ، حول هذا الأثر الشعوبي المضاد للأمة العربية ، حيث تقول : ( أنا نلاحظ شيئاً غريباً في الكتاب لا نكاد نفسره إلا بطغيان ذوق قاص مفحش طغياناً ماكراً علـى الكتاب ، فحشر مواقف الفحش حشراً فـي قصص كثيرة لولاه لنجا الكتاب من تلك المعاملة التي عومل بها )(1) .
وخلاصة القول ، أن كل ما جاء في أحداث الحكايات من غزل مكشوف ومن لهو ومجون ، وما إلى ذلك من الصور والمواقف اللاأخلاقية ، ينافي منافاة كلية طبيعة الإنسان العربي المسلم التي جبله الله عليها ، والتي هذبت وبه أخذت كمالها الإنساني الحق ، فإن نفسه لتشمئز من هذا ، بل أنه لا يستطيع تصور هذه اللاأخلاقية المفرطة المسيطرة على كتاب ألف ليلة وليلة. أما من أين جاءت الشعوبية بهذه الصور اللاأخلاقية ووضفتها في أحداث الحكايات ؟ نقول : ما هي إلا صور حية لما ورثته عقلية واضعيها ومنمقيها ، الفرس الحاقدين على العرب والعروبة والإسلام ، الذين ورثوا هذه الصور اللاأخلاقية من المجتمع الساساني الفارسي المندرس ، الذي اشتهر بالإباحيـة والمجون وشرب الخمور ، وحبهم اللامحدود للهو الطيب والخبيث ، [ 00فكان الملوك يتزوجون بناتهم وأخواتهم حتى أن يزدجرد الثاني جنى على بنته ثم قتلها ، وبهرام جوبين كان متزوجاً بأخته ، وكانت فارس مسرحاً لمذهب ماني الزاهد المتنسك ، ومزدك الإباحي المتهتك ](1).
فحاول واضعو هذه الحكايات الشعوبية ، أن يوحوا لقارئها بأن هذه اللاأخلاقية ، ما هي إلا سمة من سمات المجتمع العربي ، وذلك بما أضافوه إلى أحداثها من شخوص وأماكن وأحداث عربية إسلامية ، وغايتهم من ذلك ؛ كما أسلفت ؛ تشويه الإنسان العربي وهدم مجتمعه ، ومن ثم بث عقائد ومذاهب الفرس المجوس بين أبناء الأمة العربية ، تلك المذاهب التي تبيح اللذة المحرمة ، وتدعو إلى الإباحية وإلى الفسق والفجور ، كالمذهب المزدكي وغيره من المذاهب المجوسية الهدامة .
ـ 3 ـ
لقد امتلأ كتاب ألف ليلة وليلة ، بالغزل الإباحي الرخيص ، هذا الغزل الذي لم يعرفه العرب أبداً ، لا في جاهليتهم ولا في إسلامهم ، ولم يذكر منه أي شيء في أدبياتهم وأشعارهم على الإطلاق ، لأن أدبهم أدب الوقار والارتفاع عن درك الغرائز النوعية ؛ صحيح أن العرب عرفوا بعض أنواع الغزل الصريح حقاً ، لكنهم لم يبلغوا به مبلغ كتاب ألف ليلة وليلة وأضرابها من الكتب الشعوبية الأخرى في الصراحة وما وراء الصراحة من الجهر بالفسق والإثم دون رادع من خلق أو زاجر من دين ؛ يقول أحمد أمين في هذا [ ثم أتى أبو النواس ؛ شعوبي فارسي حاقد ؛ فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه وابتكر فن الغزل بالمذكر فكان هذا كله خروجاً على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس ](1) .
نرى هذه ألا أخلاقية في كتاب ألف ليلة وليلة منذ الليلة الأولى وحتى نهاية الليلة الأخيرة ، لا تكاد تخلو منها حكاية من الحكايات ، حتى أصبحت علامة مميزة للكتاب ودليلاً يدل عليه ، وقد استعمل القاص أقبح الألفاظ وأفحش المعاني ، ليعبر بها عما يجيش بنفسه المريضة من لاأخلاقية مفرطة ، وبأسلوب فاحش فيه الكثير من القذارة والدونية ، حيث أنه يذكر الممارسات الجنسية بالتفصيل ، واصفاً لها وصفاً دقيقاً ، متوخياً من ذلك إثارة الغرائز الجنسية عند القارئ ، ودفعه دفعاً لتقليدها وممارستها .
وقد يقول قائل : أن في الأدب العربي الجاهلي مثل هذا الفحش ؛ نراه عند امرئ القيس مثلاً ؛ هذا صحيح ولكن لو عقدنا مقارنة بين كل ما ذكر في الأدب العربي الأصيل ؛جاهليّه وإسلامه ؛ من فحش وبين ما نجده في حكاية واحدة فقط من حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، لوجدنا الفارق كبيراً جداً ، حيث نرى أن ما ورد في الأدب العربي منه ، ينطبع بطابع السذاجة والسطحية من ناحية ، ومن ناحية أخرى كان بعيداً كل البعد عن التصريح والبذاءة وعن الوصف الحي لهذا الفحش لأن الفحش ليس من سجايا العرب ، كما أنه يتعارض مع ما عرفوا به من حياء وعفاف . أما في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو صورة معبرة عما تألفه النفس الفارسية من هذا الفحش ، والذي تسمح لهم به دياناتهم ومعتقداتهم السابقة وعاداتهم وتقاليدهم المتداولة ، فجاء هذا الفحش مصور تصويراً دقيقاً ، لا يقدر على تصويره بهذه الدقـة إلا من قِبَلَ من ألفه واستساغه ومارسه ، وسقط عنه المانع الأخلاقي في التغني بـه وإظهاره .
فوصفت الحكايات ، الممارسات الجنسية وصفاً حسياً حيوانياً ، من عناق والتفاف الساق على الساق ،ووصف الأعضاء الأنثوية للمرأة وصفاً لا أخلاقياً مثير للتقزز والغثيان عند أهل النفوس الكريمة خالياً من كل حياء وعفاف ،وأوردت هذا الغزل الإباحي الصريح ؛ في أحداثها ؛ نثراً وشعراً ليكون تأثيره في نفس المتلقي أمكن وفي عقله أوكد وأكبر .
ففي حكاية الحمال والثلاث بنات(1) ، التي تطالعنا في أول الكتاب ، مغازلة جنسية رخيصة بين الحمال والثلاث بنات ، لا تخلو من وصف مثير للاشمئزاز للأعضاء الجنسية والتناسلية للرجل والمرأة . ونرى مثل هذا الغزل الفاحش بأعضاء المرأة الجنسية ، في حكاية زين المواصف ، بأبيات من الشعر تتغزل بكل عضوٍ من أعضاء المرأة الأنثوية ، بدون أي حياء أو خجل ، ومطلع الأبيات يقول : (2)
قف واستمع ما جرى لي في حب هذا الغزال
ومثل هذا الغزل الإباحي الرخيص ، كثير جداً في كتاب ألف ليلة وليلة ، فإذا أردنا ذكره جميعاً فعلينا أن ننقل الجزء الأكبر من الكتاب .
أما معاطات الدعارة ووصفها وتجويد ممارستها ، فذكرها كثير جداً هي الأخرى في هذا الكتاب الشعوبي ؛ وسوف أكتفي بإيراد البعض منها للبيان ؛ ففي حكاية تاج الملوك يقول الشاب : [000 وأقبلت علي وضمتني إلى صدرها وقبلتني وقبلتها ومصت شفتي التحتانية ومصصت شفتها الفوقانية ثم مددت يدي إلى خصرها وغمزته وما نزلنا في الأرض إلا سواء وحلت سـراويلها فنـزلت في خلاخل رجليها وأخذنـا في الهراش والتعنيف والغنج والكلام الرقيق وحمل السيقان والطواف بالبيت والأركان إلى أن ارتخت مفاصلها وغشي عليها ودخلت في غيبوبة ](1) . وفي الحكاية ذاتها يقول الشاب في مكان آخر : (2) [ 000 عند ذلك قامت الصبية وقلعت أثوابها وأتت في قميص رفيع مطرز بطراز من ذهب وقلعت لباسها وأخذت بيدي وطلعت بي فوق السرير وقالت لي ما في الحلال عيب ووقعت على السرير وانسطحت على ظهرها ورمتني على صدرها ثم شهقت شهقة واتبعت الشهقة بغنجة ثم كشفت الثوب حتى جعلته فوق نهودها فلما رأيتها على تلك الحال لم أتمالك نفسي دون أن أولجته فيها بعد أن مصصت شفتيها وهي تتأوه وتظهر الخشوع والخضوع والبكاء بالدموع وذكرتني في هذا الحال قول من قال :
ولما كشفت الثوب عن سطح
وجدت به ضيقاً كخلقي وأرزاقي
00 00 فقلت لما هذا فقالت علي الباقي ](1)
وفي حكاية علاء الدين أبو الشامات ، تقول الحكاية : [00 فضمته إلى حضنها وضمها إلى صدره واعتنق الاثنان ببعضهما ثم أخذته وراحت على ظهرها وفكت لباسها فتحرك عليه الذي خلفه له الوالد فقال مددك يا شيخ زكريا يا أبا العروق وحط يديه في خاصرتها وضع عرق الحلاوة في باب الخرق ودفعه فوصل إلى باب الشعرية وكان مروره من باب الفتوح وبعد ذلك دخل سوق الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس فوجد البساط على قدر الليوان ودور الحق على غطاه حتى ألتقاه ](2) .
وورد مثل هذا الفحش الفاضح في حكاية نور الدين ومريم الزناريـة : [ 000 فعند ذلك التفت نور الدين من وقته وساعته إلى تلك الجارية وضمها إلى صدره ومص شفتها الفوقية بعد أن مص التحتية ثم زرق اللسان بين الشفتين وقام إليها فوجدها درة لم تثقب ومطية لغيره ما ركبت فأزال بكارتها ونال منها الوصال وانعقدت بينهما المحبة بلا انفكاك ولا انفصال فتابع في خدها تقبيلاً كوقع الحصى في الماء ورهزاً كطعن الرماح في الغارة الشعواء لأن نور الدين كان مشتاقاً إلى اعتناق الحور ومص الثغور وحل الشعور وضم الخصور وعض الخدود وركوب ****************** مع حركات مصرية وغنج يمانية وشهيق حبشية وفتور هندية وغلمة نوبية وتضجر ريفية وأنين دمياطية وحرارة صعيدية وفترة اسكندرانية وكانت هذه الجارية جامعة لهذه الخصال مع فرط الجمال والدلال ](1) .
أما الأشعار الفاحشة فهي الأخرى كثيرة الورود في أحداث حكايات هذا الكتاب الشعوبي،ولا يمكن حصرها بعدد أو إيرادها جميعاً، وإليكم بعضاً منها، يقول محمود البلخي لعلاء الدين ليشجعه على ممارسة اللواطة وتحبيبها إليه : (2)
حدثنا عن بعض أشـياخه أبو هلال شيخنا عن شريك
لا يشتفي العاشق مما بـه بالضم والتقبيل حتى0000
وفي حكاية أبو الحسن مع ابنة طاهر بن علاء نجد كذلك أبياتاً شعرية تزخر بمثل هذا الفحش والفجور ، مطلعها :
قالت وقد لعب الغرام بعطفها في جنح ليل سابل الأحلاك
ومثل هذا الشعر الفاحش الفاجر ، كثير جداً في حكايات الكتاب ، وأكتفي بهذا القدر من الأمثلة وأظن بأنها تكفي لتوضيح الصورة اللاأخلاقية التي عليها الكتاب ، وأرجو أن ما ذكر يفي بالغرض ويظهر المقصود ويبين المراد .
ـ 4 ـ
أما عن التغزل بالغلمان المرد وتفضيل نكاح الذكر على نكاح الأنثى ؛ الوارد كثيراً في حكايات الكتاب ، والذي لم يُؤثر عن العرب أي شيء عنه البتة ، إن كان في أدبياتهم ، وإن حتى في المؤلفات الشعوبية التي حاولت أن تلصق كل نقيصة في الإنسان العربي قبل وبعد الإسلام ؛ نقول : لم يعرف المجتمع العربي هذه المشكلة الناقصة ، ولم يعاني منها إلا في العصور المتأخرة ؛ عصر سيطرة العجم على مقاليد الأمور ؛ ، حيث اقتدى البعض القليل بالفرس وتأثروا بهم في هذا المجال ، يقول فيليب حتي : وإذا كانت بعض الكتب قد أشارت إلى وجود الغلمان في عهد الرشيد فالراجح أن الأمين كان أول من أنشأ نظام الغلمان في العالم العربي لغاية اللواطة اقتداءً بالفرس (1) . وعلى ما في هذا الرأي من تجني على محمد الأمين ، إلا أنه يدل على أن هذه العادة المستهجنة ، طارئة ووافدة على المجتمع العربي ، جاءته عن طريق الفرس ، ونرى هذا النوع من الغزل واضحاً في حكايات الكتاب ، مع محاولة لصق هذه العادة القذرة بالمجتمع العربي وجعلها عنواناً له قديماً وحديثاً .
ومن المعروف عند الدارسين ، بأن المجتمع العربي لم يعانِ قبل العصر العباسي؛العصر الذهبي لانتشار المذاهب الفارسية الإباحية ؛ من هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة على الإطلاق ،ذلك لمناعة الخلق العربي ، وارتباط الإنسان العربي بقيم ومُثُل ومبادئ إلهية جليلة تصونه تماماً من هذه المشكلة الاجتماعية اللاأخلاقية المدمرة ، حيث أن ابتلاء أي مجتمع من المجتمعات البشرية بها كان مصيره الموت والفناء والاندثار، ولنا بقوم لوط خير شاهد وأحسن مثال .
ولحقارة هذه العادة المستنكرة ، وتأثيرها السلبي على المجتمع وعلى قوته وبقائه ، حاولت عامة الشعوبية تحسين وتجويد وتزويق هذه العادة في نظر العربي ، مصرحة حيناً وملمحة حيناً آخر بآرائها ، بتفضيل الذكر على الأنثى وجمالية التغزل بالغلمان ، ووصف اللذة الحاصلة من نكاح الأمرد ، وقد أتقنت شعوبية الحكايات الوصف المثير ، لمعرفتها الأكيدة بهذه العادة التي استمدتها من تراثها الفارسي الإباحي . فإذا كانت هذه العادة مستهجنة ومنبوذة عند العرب ؛ كما أوضحنا ؛ فهي مألوفة عند أبناء الأمة الفارسية ، فهم قد عرفوا بها منذ القدم ومارسوها ممارسة كاملة ، وهم أول من وضع نظام الغلمان في العالم كله ، وأول من مارس اللواط واستحسن ممارسته ، وأباحته لهم مذاهبهم الإباحية ، وهل هذا كثير على أمـة استباحت لأبنائها نكاح الأم والأخت وبقيت المحارم ؟ 00
وبما أن الفرس هم رأس البلاء الذي حل بالأمة العربية ، وبما أنهم هم القائمون على التيار الشعوبي الحاقد على العرب ومجتمعهم ودينهم ، فقد دخلت هذه العادة إلى المجتمع العربي عن طريقهم وبمباركتهم لها [ ثم أتى أبو نواس فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه ، وابتكر فن الغزل بالمذكر فمان هذا خروجاً على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس ](1) نرى أن الشعراء الشعوبيين ، كأبي نواس وأضرابه ، قد كرسوا أغلب أشعارهم فـي التغزل بالغلمان وذكر اللواط ومحاسنه .
أكثرت حكايات ألف ليلة وليلة الشعوبية ، من الغزل بالغلمان وتفضيلهم على النساء ، واظهار الخصال الجماليـة التي تميز الغلمان . فهذه حكاية سيدة المشايخ الموجودة في جملة أخبار الصالحين ، نجد مفاضلة غزلية فاحشة بين الذكر والأنثى (2) .
ومن أشعار الحكايات الكثيرة في هذا الفن القبيح ، سأورد هنا البعض منها كأمثلة على هذا الغزل الرخيص (3)
لا تقس أمرداً بأنثى ولا تصغ لواش يقول ذاك فسـق
بيـن أنثى الوجـه رجـلاً وغزال يقبل الأرض فرق
وفي نفس الليلة السابقة نجد :
فديتك إنما اخترتك عمداً لأنك لا تحيض ولا تبيض
ولو ملنا إلى وصل الغواني لضاق بنسلنا البلد العريض
ومن أشعار التغزل بالغلمان واظهار محاسنهم (1)
سلى خاطري عن زينب ونوارى بوردة خـد فـوق أس عذار وأصبحت بالظبي المقرمط مغرماً ولا أرى لي في عشق ذات سوار أنيسي في النادي وفي خلوتي معاً خلاف أنسـي فـي قرارة داري فيا لائمي في هجر هند وزينب وقد لاح عذري كالصباح لساري أترضى بأن أمسي أسير أسيرة محصنـة أو مـن وراء جـدار
ومثله :(2)
تعشق ظبياً ناعس الطرف أحورا تغار غصون البان منه إذا مشى
يمانعني والغيـر يحضى بوصلـه وذلك فضل الله يؤتـه من يشا

ومثله :(3)
يا فريـد الجمال حبك ديني واختياري على جميع المذاهب
قد تركت النسا لأجلك حتى زعم النـاس أنني اليوم راهب
أما اللواطة في الحكايات ، فشعرها كثير جداً هي الأخرى ، حتى أنها جاء بها وصف ذاك الزمان؛ زمان الليالي؛ بزمان قوم لوط: (1)
كأن زماننا من قوم لوط له شغف بتقديم الصغار
فهذا الشعر الأخير يتهم المجتمع العربي بهذه العادة الفاسدة ، ويوحي للمتلقي بأن هذه العادة متفشية بين عموم أبناء الأمة العربية ، مألوفة لديهم غير مستنكرة منهم . كما أن هناك حكايات تصور إعراض الناس في هذا المجتمع عن إتيان النساء واللجوء إلى اللواط مع الغلمان وإن اضطروا للنساء فلا يأتوهن إلا من أدبارهن ، تقول إحدى الحكايات : (2)
جاءت 0000 ناعـم فقلت أنـي لم 0000
فـانصرفت قائلــة يؤفك عنـه مـن أفك
0000 من قدام فـي هـذا الزمان قـد ترك
ودورت لـي فقحـة مثـل اللجين المنسـبك
أحسـنت يا سـيدتي أحسنت لا فجعت بك
أحسنت يا أوسع من فتـوح مولانـا الملك
ومثله :
قالت وقد أعرضت عن غشيانها يا أحمقاً في جهله يتناها
لم ترضى من قبلي لوجهك قبلـة لنوليك قبلـة ترضاها
وممارسة اللواط عند واضعي الحكايات جائز بعرفهم : (1)
0000 كبير والصغير يقول لي اطعن به الأحشاء وكن صنديدا
فأجبته ذا لا يجوز فقال لـي عنـدي يجوز 0000 تقليـدا
كما نجد في الحكايات دعوة صريحة لتعاطي هذه العادة القذرة : (2)
فلا تسعوا إلـى غيري فعندي معدن الخيري
وعندي قهـوة تجلـي سباها راهب الديـر
وعندي اللحم من ضأن وأصناف من الطيـر
كلوا إذاً واشربوا خمراً عتيقاً مذهب الضيـر
0000 بعضكم بعضاً ورسو بينكم 0000
بعد أن أوردنا كل هذه الأمثلة ، فإذا أردنا أن ندقق النظر بهذه الأشعار ، وإرجاع الشعر المؤكد لأصحابه ، نجد أن هؤلاء الشعراء جميعهم من الفرس الحاقدين على العروبة والإسلام ، وعلى رأس هؤلاء الشعراء ، أبو نواس ؛ هذا الفارسي الشعوبي الماجن ، الذي رويت في مجونه النوادر ؛ ولم تستطع شعوبية الليالي أن تأتي بشيء من هذه القاذورات على لسان أي شاعر عربي ، وهذا ما يؤكد بأن هذه العادة القذرة غير مقبولة عندهم ، بل وحتى عند الشعراء العرب الذين سايروا وتأثروا بالشعراء الفرس في تغزلهم بالنساء والخمور .
ـ 5 ـ
أما عادة معاقرة الخمور التي تظهر في الحكايات وكأنها عنوان للمجتمع العربي الإسلامي ، فإن المجتمع العربي لم يعانِ من هذه المشكلة الاجتماعية ، بل من المعروف أن هذه العادة كانت في الجاهلية مذمومة ، لما لها من عيوب ومساوئ مادية ومعنوية على حد سواء ، فهذا العباس بن مرداس يرد عن سائله عندما قيل له ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك ؟ . يقول : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ولا أرضَ أن أصبح سـيد القوم وأمسي سفيههم . وعندما يسأل أحد الأعراب عن سبب امتناعه عن شرب النبيذ يقول : لثلاث خلال فيه ، لأنه متلف للمال ، ومذهب للعقل ومسقط للمروءة . ويوجز قيس بن عاصم بشعره مضار الخمر حين يقول :
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سـقيما
ولا أعطي ثمناً حياتـي ولا أدعو لها أبـداً نديـما
فإن الخمر تفضح شاربها وتجنيهم بها الأمر العظيـما
وهذا لا يعني أن ليس هناك من لا يعاقر الخمرة بين أبناء الأمة العربية ولكن يؤكد بأن الخمرة لم تكن ذات شأن يذكر عندهم ، كما أنها ليس لها أي تأثير على حياتهم الاجتماعية ، فإن هم عاقروا الخمرة ، فقد عاقروها بسذاجة وعلى أيد غريبة عن مجتمعهم ، فإن من المؤكد تاريخياً أن حانات الخمور كانت تدار في أرضهم من قبل اليهود والغرباء .
لهذا كله لم يعرف العرب نظام موائد الخمر ، ولا آداب الراح ، كما عرفوا نظام الولائم من ذبح الجزور وإقامة القدور ، والتفاف الغني والفقير حول الماعون ، ومن المؤكد كذلك أن هذه العادة انتشرت فـي المجتمع العربـي أبان العصر العباسي وعلى يد الفرس [ وتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير ، كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني والأفكار ](1) لأن أبناء المجتمع الفارسي قد اشتهروا أكثر من غيرهم من أبناء المجتمعات الأخرى بالإدمان ومعاقرة الخمور ، في كل وقت وفي كل مناسبة ، وفي أعيادهم وأفراحهم الخاصة والعامة ، فابتدعوا لها آداباً خاصة ، ونظاماً متميزاً ، يقول أحمد أمين : والفرس من قديم ميالون إلى الإفراط في الشراب 00 حتى وصفهم هيرودوت بالإمعان في ذلك والغلو فيه ، وتصريفهم شؤون الدولة وهم سكارى(1) .
وبعد أن جاء الإسلام ونص القرآن الكريم على تحريم الخمر لكونها رجز من عمل الشيطان ، امتنع العرب عنها امتناعاً كاملاً ، لمضارها الكثيرة التي تفوق كل منفعة مرجوة منها ، وقد أكدت السنة النبوية الشريفة على هذا التحريم ، وبينت الكثير من مضارها المادية والمعنوية ، والآفات التي يصاب بها الإنسان والمجتمع من الابتلاء بهذه العادة الآثمة .
ولكن الحكايات عملت على تشجيع الناس على معاقرة الخمور ، وذلك ، بوصفها بأحلى الأوصاف وأجملها ، وبإصباغ المحاسن الجمة عليها وتبيان أو الإدعاء المنافع الكثيرة التي فيها ، فهي في الحكايات ماء الحياة :(2)
عجبت لعاصريها كيف ماتوا وقد تركوا لنا ماء الحياة
ومن أراد أن تتم سعادته وتزداد فرحته وتكتمل بهجته فما عليه إلا تناول الخمور ، فإنها تزيد الفرحة وتعلو بالإنسان إلى عالم النشور والحبور : (3)
لا يشرب الراح إلا من به طرب يكون في السكر في أفراحه راقي
كما حاولت الحكايات أن تبين فوائد الخمرة الصحية والاجتماعية وتؤكد بأن هذه الفوائد المادية والمعنوية هي الأساس في الحياة الصحية [ 00 وأما المنافع التي فيها فإنها تفتت حصى الكلى وتقوي الأمعاء وتنفي الهم وتحرك الكرم وتحفظ الصحة وتعين الهضم وتصح البدن وتخرج الأمراض من المفاصل وتنقي الجسـم من الأخلاط الفاسـدة وتولد الطرب والفرح وتقوي الغريزة وتشد المثانة وتقوي الكبد وتفتح السدد وتحمر الوجه وتنقي الفضلات من الرأس والدماغ وتبطئ بالمشيب ] .
أن مثل هذه المنافع التي سردتها حكايات ألف ليلة وليلة الشعوبية ، جميعها كذب وتلفيق ، لأن الحقيقة تقول غير ذلك تماماً ، فالأطباء قديمهم وحديثهم ، أثبتوا عملياً وبدون أي شك ، بأن الخمرة هي السبب الرئيسي والمباشر في إفساد الجهاز الهضمي للإنسان وفقدان الشهية ومرض الكبد وتقرحات المعدة والأمعاء ، كما أن الخمرة تعيق الدورة الدموية وتؤثر عليها مما يؤدي بالإنسان إلى الموت الفجائي ، كما أنها تضعف النسل وتؤثر على القوة العقلية والجهاز العصبي للإنسان مما يؤدي به إلى الجنون أو الشلل النصفي أو الكلي ، بالإضافة لهذه المضار ، تأتي المضار الاجتماعية الكبيرة الناتجة عن تناول هذا السم الزعاف .
ولكن الحكايات تكثر في أحداثها مثل هذا التخريف حول منافع الخمرة، فهي الدواء الشافي من كل سقم : (1،2)
وتمشت في مفاصلهم كتمشي البرء في السقم
ولا ملجأ للمحزون لتهوين أحزانه إلا بتناول هذا السم : (2)
تالله ما الكيميا في غيرها وجدت وكل ما قيل في أبوابها كذب
قيراط خمر على القنطار من الحزن يعود في الحين أفراحاً ينقلب
وقد ألصقت الحكايات هذه العادة المفتراة ، بشخوص عربية ،
وركزت بشكل خاص على عليَّة القوم ، تجاراً وأعياناً ، أمراءً وقادة وزراءً وملوكاً ، وغايتها من ذلك ، الترويج للخمرة بيـن ضعاف النفوس وإظهارها لهم بأنها مشروب الأكابر والملوك ، وبما أن الناس على دين ملوكهم ، وبما أن ؛ كما هو معروف في علم النفس الاجتماعي ؛ الناس يقلدون أكابر قومهم ، فتكون الغاية الأساسية من وراء ذلك دفع الناس ؛ كل الناس ؛ إلى الانغماس في هذا المستنقع القاتل ، وقد اتبعت الحكايات في ذلك ، كعادتها ، أسلوب الكذب والافتراء والتلفيق على رجال عرفوا بالتقوى والورع والصلاح ، ولهم مكانتهم ومنزلتهم الخاصة في نفوس عامة العرب المسلمين .
أن الهدف الذي يسعى إليه كتاب ألف ليلة وليلة ، بل الذي تسعى إليه الشعوبية عامة ، من مثل هذا ، هو هدم المجتمع العربي وانحلاله بأي وسيلة من الوسائل ، والخمرة من الوسائل التي يمكن عن طريق إفشائها في المجتمع العربي الإسلامي ، من أن تحقق شيئاً مما تصبو إليه الشعوبية ، لأن من أول وأهم مظاهر مضار الخمور ، هي المضار التي تنعكس على المجتمع انعكاسا سلبياً سيئاً بحيث تكون سبباً للانحلال الخلقي ، وتشويهاً للقيم والمثل التي يتسم بها المجتمع ، وضياعاً للدين والدنيا ، ومن ثم يكون بها سقوط الأمة في مهاوي الرذيلة والفسوق ، وبذلك يكون بداية اضمحلال الأمة وموتها ونهايتها وإزالتها من عالم الوجود ، فلذلك كله ، سعت الشعوبية عامة وبكل إمكاناتها المتاحة ، لنشر هذه المشكلة القاتلة في المجتمع العربي الإسلامي ، والعمل على تعقيد نتائجها الوخيمة ، لعلها بذلك تعجل فـي موت هذا المجتمع وفناء هذه الأمة الحضارية العظيمة .

عبد اللطيف ذياب أحمد
01/03/2011, 07:20 PM
( الجزء الرابع )

الباب الرابع
الخُلق العربي
في ألف ليلة وليلة


الخلق العربي منظومة كلّية من القيم الروحية والعقلية والنفسية السامية المخلدة (1) ، نشأت عبر مسيرة الأمة العربية الطويلة لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ الذي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها ، والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها ، لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين فئات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة ، وفي الأمة حقيقة الفرد(2) . ولا يحسب الخلق للأمة إلا إذا كان فاشياً بين أفرادها مألوفاً عند جميعهم لا يخافه أحد منهم إلا مستتراً خوف المذمة إن هو أظهره أمام الناس .
وتعتبر الأخلاق خصيصة من خصائص الذات العربية منذ فجر التاريخ ، وأخذت وضعها المثالي بين الخصائص الأخرى عندمـا نالت الكمال بتهذيب الإسلام لها ، حيث أصبحت تفوق كل أخلاق وتسمو عليها ، لأنها لم تعد نابعة من مجرد الفطرة الإنسانية واستحسان العقل العربي لها فحسب بل تدعمها عقيدة الإسلام في نفس العربي وينميها إسلامه في سلوكه وعمله .
وقد جسدت الأمة العربية هذه الأخلاقية ، بمجموعة من السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف والأذواق والروابط والعلاقات والصلات الرفيعة، ومن التعاليم والشرائع والقوانين والنظم والهيئات والمؤسسات الحية المبدعة ، التي تصون للإنسان العربي ماهيته الحقة وتحفظ للمجتمع العربي هويته القومية الأصيلة ، وتضفي على الحياة العربية طابعاً متعالياً ، وحسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعل الأخلاق من صلب رسالته لهذه الأمة المجيدة وهي بالتالي رسالة هذه الأمة إلى الإنسانية جمعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } ، لذا كانت الأخلاق العربية قطعة صافية من أخلاق السماء ، ورحم الله البحتري حين يقول في أخلاقهم :
سلام على تلك الخلائق أنها مسلّمة من كل عار ومأثم
نستخلص من كل ما تقدم ، أن تخريب هذا الخلق العظيم لهذه الأمة العظيمة ، يؤدي حتماً إلى موت المجتمع العربي الإسلامي وفناء الأمة العربية ، لأن دمار الأمة ؛ أي أمة ؛ إنما يكون بموت أخلاقها الإنسانية ،ودمار قيمها الحضارية الرفيعة ، يقول الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق الحسنة المتينة سياج يقي المجتمع والأمة من الانحلال والانهيار، ويحفظ الأمـة دائماً مرفوعة الرأس مهابة الجانب ، وبمعنى آخر ، الأخلاق هي القوة الأولى لحفظ كيانات الأمم ، كما أنها هي الدعامة الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات البشرية السليمة .
ـ 2 ـ
وقد هال الشعوبية قوة بناء المجتمع العربي الإسلامي في الجانب الأخلاقي ، حيث وقفت الأخلاق مع التعاليم الإسلامية ، هادياً يعصم أبناء هذا المجتمع من التردي في مهاوي الرذيلة والملذات الدونية الدنيئة ، وينظمان لهم حياتهم الاجتماعية بما يعود عليهم بالنفع والثبات ، وإعانتهم على القيام بدورهم الرسالي الخالد على أكمل وجه وأمثل شكل .
وبما أن الأخلاقية تحارب باللاأخلاقية ، فقد عمدت الشعوبية في تخريبها الخلق العربي ، إلى دفع الإنسان العربي إلى التحلل الخلقي ، فرداً ومجتمعاً ودفعه إلى التردي في باءات الحطة والرذيلة والفساد ، لأن في ذلك إسقاط لإنسانية الإنسان وهدم لكيان وقدسية المجتمع ، لأن الفرد المتحلل من روابط المجتمع ومن مقوماته وأخلاقه ، غير قادر على أن يتحمل مسؤولية التفاعل الحضاري ، إذ أن عملية التفاعل هذه تقتضي الشعور بالمسؤولية والالتزام بالمجتمع وبقيمه وأخلاقه والارتباط به ارتباطاً عضوياً موجباً ، والتمسك بمثله تمسكاً مصيرياً ، والانتماء الواعي إليه ، والعمل وفقاً للمصالح المشتركة التي تربط بينه وبين مجتمعه .
ومثلما مضت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، بعيداً في تخريبها للدين الإسلامي ، مضت أيضاً وبذات البعد في تخريبها للخلق العربي ؛ وذلك ؛ لأن هذا الخلق لا يقل أهمية وخطورة قومية عن ذلك الدين الحنيف ، ناهيك مـا لهذين العنصرين الجوهريين من تشارك وتداخل ومن تفاعل وتأثير ومن تكامل وتكافل ، ما يكاد أن يجعل منهما وحدة عضوية تامة ، فالخلق العربي كنه من أكناه الدين الإسلامي ، ومن ثم هما متلازمان لا ينفكان ولا ينفصمان ، لأن كل منهما يحافظ على الآخر ويذود عن صاحبه كما جاء في الحديث الشريف { من لا خلق له لا دين له } فإن أي تخريب لأي عنصر منهما هو دون ريب تخريب أكيد للعنصر الآخر.
فعمدت هذه الحكايات الشعوبية إلى تشويه القيم الخلقية العربية ، التي تعتبر الطابع الأساسي المميز للمجتمع العربي المسلم ، وسجية من سجاياه الفطرية ، فأخذت تزين للإنسان العربي مظاهر الفسق والفجور ، محرضة الناس على ارتكاب المحرمات وإتيان الموبقات،وقصدها من ذلك هو القصد الشعوبي ذاته ، وهو دفع المجتمع العربي الإسلامي إلى درك التحلل والتفسخ ، وبهذا يسهل عليها إخضاعه والسيطرة عليه ، ويتسنى حينها للأعاجم والفرس منهم خاصة ، إرجاع مجدهم الكسروي الغابر ، وإزالة مجد العرب الزاهر ، وتدمير حضارة الأمة العربية الإنسانية العظمى والقضاء على مكمن قوتها الذاتية الجبارة . فتصدت الحكايات لأشهر الخصال والمحامد العربية الأصيلة التي عُرف العرب بها وبجلوها بتقديس ، وتغنوا بها بفخر واعتزاز ، كالمروءة والنجدة ، والعرض والشرف ، والقرى والكرم ، والوفاء والأمانة ، والإباء والشمم ، والصدق والإخلاص ، وغيرها من الخصال والمحامد العربية البارزة ، والتهجم عليها بضراوة وعنف ، وتضمينها مضامين لا أخلاقية سالبة ، كما رأينا ذلك في الباب الثاني من هذا الكتاب .
ولم تقف الحكايات عند هذا الحد من التجني والتشويه ، بل حاولت تصوير المجتمع العربي الإسلامي تصويراً مغايراً ومناهضاً ومناقضاً لحقيقته القومية الحقة ، صورته يرفل بالفسق والفجور ، والزنا واللواطة ، والخمر والمجون ، وذلك لإظهار المجتمع والإنسان العربي بحالة إنسانية مزرية لا تؤهله إطلاقاً لحمل رسالة السماء التي يفتخر بكرامة حملها ويعتز بشرف القيام بنشرها ، ويستشهد في سبيل تحقيق غاياتها . فدعت الحكايات وبشكل سافر إلى التحلل من كل القيم الدينية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي ، وزينت كل ما من شأنه أن يساعد على هذا التحلل ، كالخلاعة والمجون والفسق والدعارة ، والتخنث والانحراف الجنسي ومعاقرة الخمور .
فانطبعت هذه الحكايات الشعوبية بذلك الطابع القوي من الخلل الخلقي اللامحدود ، الذي لم يتأتَ صدفة أو عن سذاجة من لدن القاص ، كما لم يكن وجوداً عرضياً أو محشوراً في ثنايا الكتاب ، أو أن يكون وجوده أو عدم وجوده سيان ؛ كما تدعي الدكتورة سهير القلماوي ؛ بل أن الحقيقة تقول غير ذلك تماماً ، فالحكايات قامت بمجملها على هذه اللاأخلاقية ، وبدونها لا يبقى شيء يسمى حكايات أو بناء قصصي ، ومما يثبت ما ذهبنا إليه ، ذلك الفشل الذريع الذي لاقته طبعة الآباء اليسوعيين لكتاب ألف ليلة وليلة ، عندما حاولوا أن يزيلوا بعض مظاهر الفحش والمجون والغزل الرخيص الذي يرفل بها الكتاب ، فجاءت طبعتهم هذه غثة لا قيمة لها ؛ كما قال عنها النقاد ؛ واعتبرت من أسوء الطبعات على الإطلاق .
وقد حاول التغريبيين العرب المتأثرين بآراء المستشرقين ، إيجاد العذر لهذه اللاأخلاقية التي تسيطر على أحداث الحكايات ، فجاءت أعذارهم ساذجة ، تدل بوضوح على استغراقهم في تغريبيتهم الفكرية ، وتؤكد تعلقهم بآراء أسيادهم من المستشرقين والأخذ بها بدون تمحيص أو التأكد من صحتها . فهذه الدكتورة سهير القلماوي ، التي استقت مادة كتابها الموسوم بـ – ألف ليلة وليلة - ، من بحوث ودراسات أساتذتها المستشرقين ، حول هذا الأثر الشعوبي المضاد للأمة العربية ، حيث تقول : ( أنا نلاحظ شيئاً غريباً في الكتاب لا نكاد نفسره إلا بطغيان ذوق قاص مفحش طغياناً ماكراً علـى الكتاب ، فحشر مواقف الفحش حشراً فـي قصص كثيرة لولاه لنجا الكتاب من تلك المعاملة التي عومل بها )(1) .
وخلاصة القول ، أن كل ما جاء في أحداث الحكايات من غزل مكشوف ومن لهو ومجون ، وما إلى ذلك من الصور والمواقف اللاأخلاقية ، ينافي منافاة كلية طبيعة الإنسان العربي المسلم التي جبله الله عليها ، والتي هذبت وبه أخذت كمالها الإنساني الحق ، فإن نفسه لتشمئز من هذا ، بل أنه لا يستطيع تصور هذه اللاأخلاقية المفرطة المسيطرة على كتاب ألف ليلة وليلة. أما من أين جاءت الشعوبية بهذه الصور اللاأخلاقية ووضفتها في أحداث الحكايات ؟ نقول : ما هي إلا صور حية لما ورثته عقلية واضعيها ومنمقيها ، الفرس الحاقدين على العرب والعروبة والإسلام ، الذين ورثوا هذه الصور اللاأخلاقية من المجتمع الساساني الفارسي المندرس ، الذي اشتهر بالإباحيـة والمجون وشرب الخمور ، وحبهم اللامحدود للهو الطيب والخبيث ، [ 00فكان الملوك يتزوجون بناتهم وأخواتهم حتى أن يزدجرد الثاني جنى على بنته ثم قتلها ، وبهرام جوبين كان متزوجاً بأخته ، وكانت فارس مسرحاً لمذهب ماني الزاهد المتنسك ، ومزدك الإباحي المتهتك ](1).
فحاول واضعو هذه الحكايات الشعوبية ، أن يوحوا لقارئها بأن هذه اللاأخلاقية ، ما هي إلا سمة من سمات المجتمع العربي ، وذلك بما أضافوه إلى أحداثها من شخوص وأماكن وأحداث عربية إسلامية ، وغايتهم من ذلك ؛ كما أسلفت ؛ تشويه الإنسان العربي وهدم مجتمعه ، ومن ثم بث عقائد ومذاهب الفرس المجوس بين أبناء الأمة العربية ، تلك المذاهب التي تبيح اللذة المحرمة ، وتدعو إلى الإباحية وإلى الفسق والفجور ، كالمذهب المزدكي وغيره من المذاهب المجوسية الهدامة .
ـ 3 ـ
لقد امتلأ كتاب ألف ليلة وليلة ، بالغزل الإباحي الرخيص ، هذا الغزل الذي لم يعرفه العرب أبداً ، لا في جاهليتهم ولا في إسلامهم ، ولم يذكر منه أي شيء في أدبياتهم وأشعارهم على الإطلاق ، لأن أدبهم أدب الوقار والارتفاع عن درك الغرائز النوعية ؛ صحيح أن العرب عرفوا بعض أنواع الغزل الصريح حقاً ، لكنهم لم يبلغوا به مبلغ كتاب ألف ليلة وليلة وأضرابها من الكتب الشعوبية الأخرى في الصراحة وما وراء الصراحة من الجهر بالفسق والإثم دون رادع من خلق أو زاجر من دين ؛ يقول أحمد أمين في هذا [ ثم أتى أبو النواس ؛ شعوبي فارسي حاقد ؛ فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه وابتكر فن الغزل بالمذكر فكان هذا كله خروجاً على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس ](1) .
نرى هذه ألا أخلاقية في كتاب ألف ليلة وليلة منذ الليلة الأولى وحتى نهاية الليلة الأخيرة ، لا تكاد تخلو منها حكاية من الحكايات ، حتى أصبحت علامة مميزة للكتاب ودليلاً يدل عليه ، وقد استعمل القاص أقبح الألفاظ وأفحش المعاني ، ليعبر بها عما يجيش بنفسه المريضة من لاأخلاقية مفرطة ، وبأسلوب فاحش فيه الكثير من القذارة والدونية ، حيث أنه يذكر الممارسات الجنسية بالتفصيل ، واصفاً لها وصفاً دقيقاً ، متوخياً من ذلك إثارة الغرائز الجنسية عند القارئ ، ودفعه دفعاً لتقليدها وممارستها .
وقد يقول قائل : أن في الأدب العربي الجاهلي مثل هذا الفحش ؛ نراه عند امرئ القيس مثلاً ؛ هذا صحيح ولكن لو عقدنا مقارنة بين كل ما ذكر في الأدب العربي الأصيل ؛جاهليّه وإسلامه ؛ من فحش وبين ما نجده في حكاية واحدة فقط من حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، لوجدنا الفارق كبيراً جداً ، حيث نرى أن ما ورد في الأدب العربي منه ، ينطبع بطابع السذاجة والسطحية من ناحية ، ومن ناحية أخرى كان بعيداً كل البعد عن التصريح والبذاءة وعن الوصف الحي لهذا الفحش لأن الفحش ليس من سجايا العرب ، كما أنه يتعارض مع ما عرفوا به من حياء وعفاف . أما في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو صورة معبرة عما تألفه النفس الفارسية من هذا الفحش ، والذي تسمح لهم به دياناتهم ومعتقداتهم السابقة وعاداتهم وتقاليدهم المتداولة ، فجاء هذا الفحش مصور تصويراً دقيقاً ، لا يقدر على تصويره بهذه الدقـة إلا من قِبَلَ من ألفه واستساغه ومارسه ، وسقط عنه المانع الأخلاقي في التغني بـه وإظهاره .
فوصفت الحكايات ، الممارسات الجنسية وصفاً حسياً حيوانياً ، من عناق والتفاف الساق على الساق ،ووصف الأعضاء الأنثوية للمرأة وصفاً لا أخلاقياً مثير للتقزز والغثيان عند أهل النفوس الكريمة خالياً من كل حياء وعفاف ،وأوردت هذا الغزل الإباحي الصريح ؛ في أحداثها ؛ نثراً وشعراً ليكون تأثيره في نفس المتلقي أمكن وفي عقله أوكد وأكبر .
ففي حكاية الحمال والثلاث بنات(1) ، التي تطالعنا في أول الكتاب ، مغازلة جنسية رخيصة بين الحمال والثلاث بنات ، لا تخلو من وصف مثير للاشمئزاز للأعضاء الجنسية والتناسلية للرجل والمرأة . ونرى مثل هذا الغزل الفاحش بأعضاء المرأة الجنسية ، في حكاية زين المواصف ، بأبيات من الشعر تتغزل بكل عضوٍ من أعضاء المرأة الأنثوية ، بدون أي حياء أو خجل ، ومطلع الأبيات يقول : (2)
قف واستمع ما جرى لي في حب هذا الغزال
ومثل هذا الغزل الإباحي الرخيص ، كثير جداً في كتاب ألف ليلة وليلة ، فإذا أردنا ذكره جميعاً فعلينا أن ننقل الجزء الأكبر من الكتاب .
أما معاطات الدعارة ووصفها وتجويد ممارستها ، فذكرها كثير جداً هي الأخرى في هذا الكتاب الشعوبي ؛ وسوف أكتفي بإيراد البعض منها للبيان ؛ ففي حكاية تاج الملوك يقول الشاب : [000 وأقبلت علي وضمتني إلى صدرها وقبلتني وقبلتها ومصت شفتي التحتانية ومصصت شفتها الفوقانية ثم مددت يدي إلى خصرها وغمزته وما نزلنا في الأرض إلا سواء وحلت سـراويلها فنـزلت في خلاخل رجليها وأخذنـا في الهراش والتعنيف والغنج والكلام الرقيق وحمل السيقان والطواف بالبيت والأركان إلى أن ارتخت مفاصلها وغشي عليها ودخلت في غيبوبة ](1) . وفي الحكاية ذاتها يقول الشاب في مكان آخر : (2) [ 000 عند ذلك قامت الصبية وقلعت أثوابها وأتت في قميص رفيع مطرز بطراز من ذهب وقلعت لباسها وأخذت بيدي وطلعت بي فوق السرير وقالت لي ما في الحلال عيب ووقعت على السرير وانسطحت على ظهرها ورمتني على صدرها ثم شهقت شهقة واتبعت الشهقة بغنجة ثم كشفت الثوب حتى جعلته فوق نهودها فلما رأيتها على تلك الحال لم أتمالك نفسي دون أن أولجته فيها بعد أن مصصت شفتيها وهي تتأوه وتظهر الخشوع والخضوع والبكاء بالدموع وذكرتني في هذا الحال قول من قال :
ولما كشفت الثوب عن سطح
وجدت به ضيقاً كخلقي وأرزاقي
00 00 فقلت لما هذا فقالت علي الباقي ](1)
وفي حكاية علاء الدين أبو الشامات ، تقول الحكاية : [00 فضمته إلى حضنها وضمها إلى صدره واعتنق الاثنان ببعضهما ثم أخذته وراحت على ظهرها وفكت لباسها فتحرك عليه الذي خلفه له الوالد فقال مددك يا شيخ زكريا يا أبا العروق وحط يديه في خاصرتها وضع عرق الحلاوة في باب الخرق ودفعه فوصل إلى باب الشعرية وكان مروره من باب الفتوح وبعد ذلك دخل سوق الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس فوجد البساط على قدر الليوان ودور الحق على غطاه حتى ألتقاه ](2) .
وورد مثل هذا الفحش الفاضح في حكاية نور الدين ومريم الزناريـة : [ 000 فعند ذلك التفت نور الدين من وقته وساعته إلى تلك الجارية وضمها إلى صدره ومص شفتها الفوقية بعد أن مص التحتية ثم زرق اللسان بين الشفتين وقام إليها فوجدها درة لم تثقب ومطية لغيره ما ركبت فأزال بكارتها ونال منها الوصال وانعقدت بينهما المحبة بلا انفكاك ولا انفصال فتابع في خدها تقبيلاً كوقع الحصى في الماء ورهزاً كطعن الرماح في الغارة الشعواء لأن نور الدين كان مشتاقاً إلى اعتناق الحور ومص الثغور وحل الشعور وضم الخصور وعض الخدود وركوب ****************** مع حركات مصرية وغنج يمانية وشهيق حبشية وفتور هندية وغلمة نوبية وتضجر ريفية وأنين دمياطية وحرارة صعيدية وفترة اسكندرانية وكانت هذه الجارية جامعة لهذه الخصال مع فرط الجمال والدلال ](1) .
أما الأشعار الفاحشة فهي الأخرى كثيرة الورود في أحداث حكايات هذا الكتاب الشعوبي،ولا يمكن حصرها بعدد أو إيرادها جميعاً، وإليكم بعضاً منها، يقول محمود البلخي لعلاء الدين ليشجعه على ممارسة اللواطة وتحبيبها إليه : (2)
حدثنا عن بعض أشـياخه أبو هلال شيخنا عن شريك
لا يشتفي العاشق مما بـه بالضم والتقبيل حتى0000
وفي حكاية أبو الحسن مع ابنة طاهر بن علاء نجد كذلك أبياتاً شعرية تزخر بمثل هذا الفحش والفجور ، مطلعها :
قالت وقد لعب الغرام بعطفها في جنح ليل سابل الأحلاك
ومثل هذا الشعر الفاحش الفاجر ، كثير جداً في حكايات الكتاب ، وأكتفي بهذا القدر من الأمثلة وأظن بأنها تكفي لتوضيح الصورة اللاأخلاقية التي عليها الكتاب ، وأرجو أن ما ذكر يفي بالغرض ويظهر المقصود ويبين المراد .
ـ 4 ـ
أما عن التغزل بالغلمان المرد وتفضيل نكاح الذكر على نكاح الأنثى ؛ الوارد كثيراً في حكايات الكتاب ، والذي لم يُؤثر عن العرب أي شيء عنه البتة ، إن كان في أدبياتهم ، وإن حتى في المؤلفات الشعوبية التي حاولت أن تلصق كل نقيصة في الإنسان العربي قبل وبعد الإسلام ؛ نقول : لم يعرف المجتمع العربي هذه المشكلة الناقصة ، ولم يعاني منها إلا في العصور المتأخرة ؛ عصر سيطرة العجم على مقاليد الأمور ؛ ، حيث اقتدى البعض القليل بالفرس وتأثروا بهم في هذا المجال ، يقول فيليب حتي : وإذا كانت بعض الكتب قد أشارت إلى وجود الغلمان في عهد الرشيد فالراجح أن الأمين كان أول من أنشأ نظام الغلمان في العالم العربي لغاية اللواطة اقتداءً بالفرس (1) . وعلى ما في هذا الرأي من تجني على محمد الأمين ، إلا أنه يدل على أن هذه العادة المستهجنة ، طارئة ووافدة على المجتمع العربي ، جاءته عن طريق الفرس ، ونرى هذا النوع من الغزل واضحاً في حكايات الكتاب ، مع محاولة لصق هذه العادة القذرة بالمجتمع العربي وجعلها عنواناً له قديماً وحديثاً .
ومن المعروف عند الدارسين ، بأن المجتمع العربي لم يعانِ قبل العصر العباسي؛العصر الذهبي لانتشار المذاهب الفارسية الإباحية ؛ من هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة على الإطلاق ،ذلك لمناعة الخلق العربي ، وارتباط الإنسان العربي بقيم ومُثُل ومبادئ إلهية جليلة تصونه تماماً من هذه المشكلة الاجتماعية اللاأخلاقية المدمرة ، حيث أن ابتلاء أي مجتمع من المجتمعات البشرية بها كان مصيره الموت والفناء والاندثار، ولنا بقوم لوط خير شاهد وأحسن مثال .
ولحقارة هذه العادة المستنكرة ، وتأثيرها السلبي على المجتمع وعلى قوته وبقائه ، حاولت عامة الشعوبية تحسين وتجويد وتزويق هذه العادة في نظر العربي ، مصرحة حيناً وملمحة حيناً آخر بآرائها ، بتفضيل الذكر على الأنثى وجمالية التغزل بالغلمان ، ووصف اللذة الحاصلة من نكاح الأمرد ، وقد أتقنت شعوبية الحكايات الوصف المثير ، لمعرفتها الأكيدة بهذه العادة التي استمدتها من تراثها الفارسي الإباحي . فإذا كانت هذه العادة مستهجنة ومنبوذة عند العرب ؛ كما أوضحنا ؛ فهي مألوفة عند أبناء الأمة الفارسية ، فهم قد عرفوا بها منذ القدم ومارسوها ممارسة كاملة ، وهم أول من وضع نظام الغلمان في العالم كله ، وأول من مارس اللواط واستحسن ممارسته ، وأباحته لهم مذاهبهم الإباحية ، وهل هذا كثير على أمـة استباحت لأبنائها نكاح الأم والأخت وبقيت المحارم ؟ 00
وبما أن الفرس هم رأس البلاء الذي حل بالأمة العربية ، وبما أنهم هم القائمون على التيار الشعوبي الحاقد على العرب ومجتمعهم ودينهم ، فقد دخلت هذه العادة إلى المجتمع العربي عن طريقهم وبمباركتهم لها [ ثم أتى أبو نواس فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه ، وابتكر فن الغزل بالمذكر فمان هذا خروجاً على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس ](1) نرى أن الشعراء الشعوبيين ، كأبي نواس وأضرابه ، قد كرسوا أغلب أشعارهم فـي التغزل بالغلمان وذكر اللواط ومحاسنه .
أكثرت حكايات ألف ليلة وليلة الشعوبية ، من الغزل بالغلمان وتفضيلهم على النساء ، واظهار الخصال الجماليـة التي تميز الغلمان . فهذه حكاية سيدة المشايخ الموجودة في جملة أخبار الصالحين ، نجد مفاضلة غزلية فاحشة بين الذكر والأنثى (2) .
ومن أشعار الحكايات الكثيرة في هذا الفن القبيح ، سأورد هنا البعض منها كأمثلة على هذا الغزل الرخيص (3)
لا تقس أمرداً بأنثى ولا تصغ لواش يقول ذاك فسـق
بيـن أنثى الوجـه رجـلاً وغزال يقبل الأرض فرق
وفي نفس الليلة السابقة نجد :
فديتك إنما اخترتك عمداً لأنك لا تحيض ولا تبيض
ولو ملنا إلى وصل الغواني لضاق بنسلنا البلد العريض
ومن أشعار التغزل بالغلمان واظهار محاسنهم (1)
سلى خاطري عن زينب ونوارى بوردة خـد فـوق أس عذار وأصبحت بالظبي المقرمط مغرماً ولا أرى لي في عشق ذات سوار أنيسي في النادي وفي خلوتي معاً خلاف أنسـي فـي قرارة داري فيا لائمي في هجر هند وزينب وقد لاح عذري كالصباح لساري أترضى بأن أمسي أسير أسيرة محصنـة أو مـن وراء جـدار
ومثله :(2)
تعشق ظبياً ناعس الطرف أحورا تغار غصون البان منه إذا مشى
يمانعني والغيـر يحضى بوصلـه وذلك فضل الله يؤتـه من يشا

ومثله :(3)
يا فريـد الجمال حبك ديني واختياري على جميع المذاهب
قد تركت النسا لأجلك حتى زعم النـاس أنني اليوم راهب
أما اللواطة في الحكايات ، فشعرها كثير جداً هي الأخرى ، حتى أنها جاء بها وصف ذاك الزمان؛ زمان الليالي؛ بزمان قوم لوط: (1)
كأن زماننا من قوم لوط له شغف بتقديم الصغار
فهذا الشعر الأخير يتهم المجتمع العربي بهذه العادة الفاسدة ، ويوحي للمتلقي بأن هذه العادة متفشية بين عموم أبناء الأمة العربية ، مألوفة لديهم غير مستنكرة منهم . كما أن هناك حكايات تصور إعراض الناس في هذا المجتمع عن إتيان النساء واللجوء إلى اللواط مع الغلمان وإن اضطروا للنساء فلا يأتوهن إلا من أدبارهن ، تقول إحدى الحكايات : (2)
جاءت 0000 ناعـم فقلت أنـي لم 0000
فـانصرفت قائلــة يؤفك عنـه مـن أفك
0000 من قدام فـي هـذا الزمان قـد ترك
ودورت لـي فقحـة مثـل اللجين المنسـبك
أحسـنت يا سـيدتي أحسنت لا فجعت بك
أحسنت يا أوسع من فتـوح مولانـا الملك
ومثله :
قالت وقد أعرضت عن غشيانها يا أحمقاً في جهله يتناها
لم ترضى من قبلي لوجهك قبلـة لنوليك قبلـة ترضاها
وممارسة اللواط عند واضعي الحكايات جائز بعرفهم : (1)
0000 كبير والصغير يقول لي اطعن به الأحشاء وكن صنديدا
فأجبته ذا لا يجوز فقال لـي عنـدي يجوز 0000 تقليـدا
كما نجد في الحكايات دعوة صريحة لتعاطي هذه العادة القذرة : (2)
فلا تسعوا إلـى غيري فعندي معدن الخيري
وعندي قهـوة تجلـي سباها راهب الديـر
وعندي اللحم من ضأن وأصناف من الطيـر
كلوا إذاً واشربوا خمراً عتيقاً مذهب الضيـر
0000 بعضكم بعضاً ورسو بينكم 0000
بعد أن أوردنا كل هذه الأمثلة ، فإذا أردنا أن ندقق النظر بهذه الأشعار ، وإرجاع الشعر المؤكد لأصحابه ، نجد أن هؤلاء الشعراء جميعهم من الفرس الحاقدين على العروبة والإسلام ، وعلى رأس هؤلاء الشعراء ، أبو نواس ؛ هذا الفارسي الشعوبي الماجن ، الذي رويت في مجونه النوادر ؛ ولم تستطع شعوبية الليالي أن تأتي بشيء من هذه القاذورات على لسان أي شاعر عربي ، وهذا ما يؤكد بأن هذه العادة القذرة غير مقبولة عندهم ، بل وحتى عند الشعراء العرب الذين سايروا وتأثروا بالشعراء الفرس في تغزلهم بالنساء والخمور .
ـ 5 ـ
أما عادة معاقرة الخمور التي تظهر في الحكايات وكأنها عنوان للمجتمع العربي الإسلامي ، فإن المجتمع العربي لم يعانِ من هذه المشكلة الاجتماعية ، بل من المعروف أن هذه العادة كانت في الجاهلية مذمومة ، لما لها من عيوب ومساوئ مادية ومعنوية على حد سواء ، فهذا العباس بن مرداس يرد عن سائله عندما قيل له ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك ؟ . يقول : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ولا أرضَ أن أصبح سـيد القوم وأمسي سفيههم . وعندما يسأل أحد الأعراب عن سبب امتناعه عن شرب النبيذ يقول : لثلاث خلال فيه ، لأنه متلف للمال ، ومذهب للعقل ومسقط للمروءة . ويوجز قيس بن عاصم بشعره مضار الخمر حين يقول :
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سـقيما
ولا أعطي ثمناً حياتـي ولا أدعو لها أبـداً نديـما
فإن الخمر تفضح شاربها وتجنيهم بها الأمر العظيـما
وهذا لا يعني أن ليس هناك من لا يعاقر الخمرة بين أبناء الأمة العربية ولكن يؤكد بأن الخمرة لم تكن ذات شأن يذكر عندهم ، كما أنها ليس لها أي تأثير على حياتهم الاجتماعية ، فإن هم عاقروا الخمرة ، فقد عاقروها بسذاجة وعلى أيد غريبة عن مجتمعهم ، فإن من المؤكد تاريخياً أن حانات الخمور كانت تدار في أرضهم من قبل اليهود والغرباء .
لهذا كله لم يعرف العرب نظام موائد الخمر ، ولا آداب الراح ، كما عرفوا نظام الولائم من ذبح الجزور وإقامة القدور ، والتفاف الغني والفقير حول الماعون ، ومن المؤكد كذلك أن هذه العادة انتشرت فـي المجتمع العربـي أبان العصر العباسي وعلى يد الفرس [ وتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير ، كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني والأفكار ](1) لأن أبناء المجتمع الفارسي قد اشتهروا أكثر من غيرهم من أبناء المجتمعات الأخرى بالإدمان ومعاقرة الخمور ، في كل وقت وفي كل مناسبة ، وفي أعيادهم وأفراحهم الخاصة والعامة ، فابتدعوا لها آداباً خاصة ، ونظاماً متميزاً ، يقول أحمد أمين : والفرس من قديم ميالون إلى الإفراط في الشراب 00 حتى وصفهم هيرودوت بالإمعان في ذلك والغلو فيه ، وتصريفهم شؤون الدولة وهم سكارى(1) .
وبعد أن جاء الإسلام ونص القرآن الكريم على تحريم الخمر لكونها رجز من عمل الشيطان ، امتنع العرب عنها امتناعاً كاملاً ، لمضارها الكثيرة التي تفوق كل منفعة مرجوة منها ، وقد أكدت السنة النبوية الشريفة على هذا التحريم ، وبينت الكثير من مضارها المادية والمعنوية ، والآفات التي يصاب بها الإنسان والمجتمع من الابتلاء بهذه العادة الآثمة .
ولكن الحكايات عملت على تشجيع الناس على معاقرة الخمور ، وذلك ، بوصفها بأحلى الأوصاف وأجملها ، وبإصباغ المحاسن الجمة عليها وتبيان أو الإدعاء المنافع الكثيرة التي فيها ، فهي في الحكايات ماء الحياة :(2)
عجبت لعاصريها كيف ماتوا وقد تركوا لنا ماء الحياة
ومن أراد أن تتم سعادته وتزداد فرحته وتكتمل بهجته فما عليه إلا تناول الخمور ، فإنها تزيد الفرحة وتعلو بالإنسان إلى عالم النشور والحبور : (3)
لا يشرب الراح إلا من به طرب يكون في السكر في أفراحه راقي
كما حاولت الحكايات أن تبين فوائد الخمرة الصحية والاجتماعية وتؤكد بأن هذه الفوائد المادية والمعنوية هي الأساس في الحياة الصحية [ 00 وأما المنافع التي فيها فإنها تفتت حصى الكلى وتقوي الأمعاء وتنفي الهم وتحرك الكرم وتحفظ الصحة وتعين الهضم وتصح البدن وتخرج الأمراض من المفاصل وتنقي الجسـم من الأخلاط الفاسـدة وتولد الطرب والفرح وتقوي الغريزة وتشد المثانة وتقوي الكبد وتفتح السدد وتحمر الوجه وتنقي الفضلات من الرأس والدماغ وتبطئ بالمشيب ] .
أن مثل هذه المنافع التي سردتها حكايات ألف ليلة وليلة الشعوبية ، جميعها كذب وتلفيق ، لأن الحقيقة تقول غير ذلك تماماً ، فالأطباء قديمهم وحديثهم ، أثبتوا عملياً وبدون أي شك ، بأن الخمرة هي السبب الرئيسي والمباشر في إفساد الجهاز الهضمي للإنسان وفقدان الشهية ومرض الكبد وتقرحات المعدة والأمعاء ، كما أن الخمرة تعيق الدورة الدموية وتؤثر عليها مما يؤدي بالإنسان إلى الموت الفجائي ، كما أنها تضعف النسل وتؤثر على القوة العقلية والجهاز العصبي للإنسان مما يؤدي به إلى الجنون أو الشلل النصفي أو الكلي ، بالإضافة لهذه المضار ، تأتي المضار الاجتماعية الكبيرة الناتجة عن تناول هذا السم الزعاف .
ولكن الحكايات تكثر في أحداثها مثل هذا التخريف حول منافع الخمرة، فهي الدواء الشافي من كل سقم : (1،2)
وتمشت في مفاصلهم كتمشي البرء في السقم
ولا ملجأ للمحزون لتهوين أحزانه إلا بتناول هذا السم : (2)
تالله ما الكيميا في غيرها وجدت وكل ما قيل في أبوابها كذب
قيراط خمر على القنطار من الحزن يعود في الحين أفراحاً ينقلب
وقد ألصقت الحكايات هذه العادة المفتراة ، بشخوص عربية ،
وركزت بشكل خاص على عليَّة القوم ، تجاراً وأعياناً ، أمراءً وقادة وزراءً وملوكاً ، وغايتها من ذلك ، الترويج للخمرة بيـن ضعاف النفوس وإظهارها لهم بأنها مشروب الأكابر والملوك ، وبما أن الناس على دين ملوكهم ، وبما أن ؛ كما هو معروف في علم النفس الاجتماعي ؛ الناس يقلدون أكابر قومهم ، فتكون الغاية الأساسية من وراء ذلك دفع الناس ؛ كل الناس ؛ إلى الانغماس في هذا المستنقع القاتل ، وقد اتبعت الحكايات في ذلك ، كعادتها ، أسلوب الكذب والافتراء والتلفيق على رجال عرفوا بالتقوى والورع والصلاح ، ولهم مكانتهم ومنزلتهم الخاصة في نفوس عامة العرب المسلمين .
أن الهدف الذي يسعى إليه كتاب ألف ليلة وليلة ، بل الذي تسعى إليه الشعوبية عامة ، من مثل هذا ، هو هدم المجتمع العربي وانحلاله بأي وسيلة من الوسائل ، والخمرة من الوسائل التي يمكن عن طريق إفشائها في المجتمع العربي الإسلامي ، من أن تحقق شيئاً مما تصبو إليه الشعوبية ، لأن من أول وأهم مظاهر مضار الخمور ، هي المضار التي تنعكس على المجتمع انعكاسا سلبياً سيئاً بحيث تكون سبباً للانحلال الخلقي ، وتشويهاً للقيم والمثل التي يتسم بها المجتمع ، وضياعاً للدين والدنيا ، ومن ثم يكون بها سقوط الأمة في مهاوي الرذيلة والفسوق ، وبذلك يكون بداية اضمحلال الأمة وموتها ونهايتها وإزالتها من عالم الوجود ، فلذلك كله ، سعت الشعوبية عامة وبكل إمكاناتها المتاحة ، لنشر هذه المشكلة القاتلة في المجتمع العربي الإسلامي ، والعمل على تعقيد نتائجها الوخيمة ، لعلها بذلك تعجل فـي موت هذا المجتمع وفناء هذه الأمة الحضارية العظيمة .

( الجزء الخامس

الباب الخامس
حياة العرب الاجتماعية
في ألف ليلة وليلة

تمثل الحياة العربية الحقة الوجود العربي الحق ، ويمثل الوجود العربي الحق الماهية العربية الحقة ، بمقوماتها الأساسية ، التي هي الجنس والأرض واللغة والدين والتاريخ ، كما تمثل خصائصها الأصيلة المتمثلة في : التأليهية المُوَّحِدَة والمثالية المثابرة والروحانية الصافية والأخلاقية العالية والإنسانية الخيرة والحضارية البناءة . فالحياة العربية الحقة ما هي إلا التجسيد الحقيقي والحي لحقيقة الأمة العربية التي هي القومية العربية عينها ، بكل مقوماتها وسماتها وخصائصها ومميزاتها وأركانها . كما تمثل ؛ هذه الحياة الأصيلة ؛ حياة الطهر والبراءة والصفاء والنقاء والتعالي والسمو والروحية والمعنوية والسماوية والأخروية . كما أنها تمثل حياة البساطة الإنسانية الموجبة ، في طبيعتها الفطرية وعفويتها ، وفي اعتدالها واتزانها ، وفي تعادلها وتوازنها .
ومن هنا ، فإن هذه الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، إذ تنشد التحضر ، تنشده حقيقة وحقاً لا زيفاً وباطلاً ، وجوهراً ومضموناً لا عرضاً وشكلاً ، أي تنشده تحضراً في الروح والقلب والعقل والضمير والذوق والشعور ، لا تحضراً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والاستماع (1) .
وقد هال الشعوبية هذا السمو في الحياة العربية ، فأخذ دعاتها يوجهون دسائسهم ويعملون نفاقهم ويلفقون أكاذيبهم في تشويه هذه الحياة الرائعة ومسخها ، وقد تستروا وراء التجاوب الحضاري بين الأمة العربية والأمم الأخرى ، وخاصة الأمة الفارسية منها ، بأن عمدوا إلى نشر المظاهر البريئة ، مثل وضع نظم جديدة لآداب المائدة وإدخال أذواق أخرى من الملبس المأكل وبناء المسكن ، إلى غير ذلك من آداب الحديث ، وترتيب المجالس والندوات ، وأشباهها من ضروب مظاهر الحياة الاجتماعية الفارسية [ 00 فتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني ] (2) .
وبدأت الحياة العربية تشاهد سيلاً من الاقتباسات الفارسية في الشؤون الاجتماعية ، لم تلبث أن بدأت تتلوث بجراثيم دعاة الشعوبية القاتلة ، فأخذ الشعوبيون يعملون رويداً رويداً على أن تتحول ؛ مثلاً ؛ آداب المائدة وتعاليمها الجديدة إلى سموم تنفث في جسد المجتمع العربي الإسلامي ، ومعاول تهدم تقاليد العربي في هذا الميدان المعروف ببساطته عند أبناء الأمة العربية واحترامه للفطرة السليمة . ونشر الأذواق في الملبس بما يؤدي إلى ازدياد الأناقة ازدياداً مفرطاً تحوِّل صاحبها إلى مرتبة التخنث وتبعده كلياً عن المظهر الرجولي الذي ألفه العربي في بساطة ملبسه ، وما تنطوي عليه هذه البساطة من دلائل الرجولة الكاملة وهيبتها ، التي تدعو إلى الاحترام والتوقير . ولم تقف الشعوبية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى ما هو أدهى وأشد من التأنق بالملبس والمأكل ، لإفساد الحياة العربية الأصيلة ، إذ عمدت إلى نشر كل ما صاحب حياة الأمة الفارسية من انحلال ، مثل الإقبال المفرط على معاقرة الخمور جهاراً والانغماس في الملذات الجنسية المفرطة بدون حياء ، حتى يصبح الفرد عبداً لغرائزه الدونية وأسيراً لنزواته الجسدية الرخيصة ، ليكون في ذلك ، ضيق الأفق سلبي العطاء ، لا يقدر على أن يتبين مواضع الغي من الرشد .
ومنذ أن انطلقت الحياة العربية الجديدة ، بعد التحامها المصيري بعقيدة العرب الكبرى ، التي هي الإسلام ، في مسار كينونتها التكاملية التفاعلية الكبرى ، القائمة على التطور الوجودي الخلاق ، انطلقت الشعوبية ؛ الحاقدة ؛ بدورها تعمل على تخريب هذه الحياة ، داخلاً وخارجاً وظاهراً وباطناً ، لتحول بينها وبين بلوغها منتهى كمالها الإنساني الحضاري المنشود .
وقد تركز نشاط الشعوبية التخريبي للحياة العربيـة بالتهجم
الشديد على مجمل ما كانت تحمله هذه الحياة من قيم ومثل ومبادئ ومعتقدات ، أو من عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات ، أو من شرائع وقوانين ونظم ومؤسسات ، أو من أنماط المأكل والمشرب ، والتفاخر بحيوات الأمم الأخرى لا سيما حياة الأمة الفارسية ، فقد بالغت الشعوبية الحاقدة مبالغة كبيرة في إبراز عظمة تلك الحيوات الأعجمية ، مما لا يمت إلى الحقائق أو الوقائع التاريخية بصلة .
وعملت الشعوبية على تسريب مختلف الألوان الحياتية الأجنبية الغريبة والشاذة إلى الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، وعلى نشرها وتعميمها وإرساء قواعدها ، بحيث ينجم عن كل ذلك مسخ الحياة العربية القومية الأصيلة ، وبالتالي إسقاطها في مهاوي السلب والعقم والعطالة ، ذلك أن الحياة الإبداعية الخلاقة هي ما كانت منسوجة نسجاً إيجابياً قويماً من الأصالـة الذاتيـة الحقة (1) .
ـ 2 ـ
لقد حاولت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تصور الحياة العربية تصويراً شعوبياً حاقداً ، حيث أظهرت هذه الحياة ترفل بالتحلل الخلقي ، قائمة على الوحشية والعنف والجهل والجدب العلمي والإبداعي ، مبنية على التوكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة والالتزام والشعور بالمسؤولية ، وقد اتبعت الحكايات كعادتها في ذلك الكذب والتلفيق والتشويه والتزوير والتحريف ، فتوجهت إلى الصور المشرقة والحية الرائعة في الحياة العربية ، وعملت مكرها ودهاؤها في مسخ هذه الصور وطمس معالمها ، وأخذت من الصور السوداء الشاذة وكبرتها وضخمتها وسلطت الضوء عليها ، موحية بأن ليس للأمة العربية إلا هذه الصور الشوهاء .وغايتها من عملها هذا ، غاية شعوبية صرفة ، ألا وهي إثارة الشك وريبة في نفس الإنسان العربي اتجاه حياة أمته العربية وتشويه صورتها الرائعة في نفسه ووجدانه ، لدفعه من ثم دفعاً إلى أن يستصغر هذه الحياة واحتقارها واستهجانها ، ومن ثم نبذها وابتعاده عنها كلياً ، والبحث حن حياة غيرها من حيوات الأمم الأخرى ، وبهذا يكون قد قطع كل صلة تربطه بتلك الحياة ، ومن ثم تنقطع كل صلة له بأمته العربية ، عندئذ يتردى الإنسان العربي ،حتماً ، في مهاوي الضياع التي لا نجاة له منها مطلقاً ، حيث تصبح حياته كإنسان وحياته كأمـة ، على كف عفريت الاسـتلاب والاستعباد .
فصورت الحكايات ، الحياة العربية بأنها حياة متحللة ترفل بالعيوب اللاأخلاقية المنحطة ، وهذا التصوير الكاذب المفترى ، لا يستند إلى أي حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما يستند بالأساس إلى عقدة الإسقاط ، أي إضافة العيوب المرتبطة بالمجتمع الفارسي المتحلل إلى المجتمع العربي الإسلامي .
إن ما يوصف به المجتمع العربي الإسلامي في هذا الخصوص ، ليس إلا قطرة في محيط العقد اللاأخلاقية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفارسي إلى يومنا هذا ، يقول الدكتور شوقي ضيف في ذلك : وكان تأثير المزدكية في المجتمع الفارسي أشد عمقاً بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقي والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع في إباحية مسرفة (1) ، ومن مظاهر هذا التحلل الخلقي الزنا ، فقد عرف المجتمع الفارسي الزنا وكان متفشياً بين أبناء هذا المجتمع ، مألوفاً لديهم لا يستنكره منهم أحد ، بينما لم يحبذ أبناء الأمة العربية هذه الظاهرة اللاأخلاقية الذميمة ولم يألفوها في أي عصر من عصورهم الموغلة في القدم ، وكان أشرافهم في الجاهلية يُحذرون قومهم من الزنا ويذمونه وينهون عنه وقد كانت لهم وصايا تحذيرية كثيرة في ذلك ، حيث نرى في وصية دريد بن الصمة حين يقول : إيّاكم وفضيحة النساء فإنها عقوبة غد ،وعار أبد ،يكاد صاحبها يعاقب فـي حرمـه بمثلها ، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها(1).
لقد صورت الليالي ، الحياة العربية حياة داعرة عابثة وماجنة مستهترة ، تقوم على تحري اللذائذ الجنسية ومعاقرة الخمور وسماع الغناء وما هنالك من لهو خبيث ، فالإنسان العربي ، في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له هدف ولا غاية يبتغيها في هذه الحياة المنحلـة ،إلا الحصول على امرأة جميلة ذات وجـه حسن وصوت مغرد ، بأي شكل من الأشكال ، وبأي ثمن كان ، حتى لو كان في ذلك فقد ما لديه من مال أو فقدان روحه حتى ، وينسى عند ذلك والديه وأولاده ، كل ذلك لإشباع غريزته الجنسية الحيوانية ، لذا صورة الحكايات ، المرأة في نظر العربي ، على أنها متاع بل من سقط متاع الدنيا ، تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، وتنهب ويسلب عفافها دون رادع من خلق أو دين ، فهي موضوع الجنس وأنها مسلوبة الإرادة أمام الرجل لا تستطيع دفع أو مقاومة الإغراء الجنسي .
فهذه حكاية مزين بغداد تظهر لنا هذا الاندفاع الجنسي عند المرأة العربية ، فهاهي زوجة البدوي تراود أخا مزين بغداد عن نفسه ، مع بشاعته التي تصفها لنا الحكاية ، وتستمر المرأة العربية بمحاولتها مع هذا القبيح ، حتى بعد أن يقوم زوجها بقطع شفتيه مما يزيده قبحاً على قبح يقول المزين[وكان للبدوي زوجة راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره](1) .
وأكثرت الحكايات من التغزل بالنساء ، أمعنت في الإفحاش بهذا الغزل الذي لم يعرف له مثيل عند العرب على الإطلاق ، ومرجع هذا الفحش كما يقول أحمد أمين : وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان ، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به ، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم ، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر ، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعاً ، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة(2) ، وفعلاً نرى هذا القول ينطبق كل الانطباق على حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، فهي من وضع وإخراج فارسي حتماً وبلا أدنى شك ، وذلك بما تحمله من روح فارسية ، ثم أن جميع الشعر المذكور في أحداث الحكايات ، أما أن يكون من وضع شاعر فارسي شعوبي كأبي نواس ، وأما أن يكون شعراً محرفاً ، قام بتحريفه واضعو هذه الحكايات ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، تدفع المرأة بالفعل إلى انتهاج نهج الدعارة والفجور ، وتلطف هذا المنهج لها وتحببه على قلبها ، وتهونه في عينيها ، كما أنها تدل وترشد المرأة على السبيل التي يمكن لها عن طريقها انتهاج هذا المنهج اللاإنساني الأسود .
وليست حياة العربي في الحكايات وقفاً على الانحلال الخلقي ، من خلال امتهان إنسانية المرأة ، بل هي مبنية أيضاً على معاقرة الخمور وسماع الغناء ، فلا تحلو حياة الإنسان العربي ولا ينال السعادة والفرح والسرور ولا يهنأ بعيش ، ما لم يجتمع له الوجه الحسن والكأس المرجرج المشعشع ؛ حسب تعبير الحكايات ؛ والصوت الطروب ، فيقضي الإنسان العربي ، من عليَّة القوم كان أم من عامتهم ، أيامه ولياليه في التحري عن هذا الثالوث ، لا يشغله شاغل في مسائه وصباحه ومستقره وترحاله ، إلا كيف الحصول على هذا الثالوث الغير مقدس، فإن ناله نسي كل شيء ، نسي الرعية إن كان خليفة أو أمير مثل ما جرى للخليفة هارون الرشيد ، كما تقول الحكاية : [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاظي وقعد شهراً كاملاً لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ](1) . ونسـي تجارته إن كان تاجراً ، ونسي عمله إن كان عاملاً ، بل أنه ينسى حتى دينه ، فلا عبادة ولا تعبد طالما هو في مجلس الأنس والجواري الحسان ، ويتمنى في قرارة نفسه أن يقضي بقية عمره على حاله هذا وفي مجلسه الذي يجلسه ، وكأنه قد جبل على ألفة هذا الثالوث اللعين جبلة فطرية .
هذا هو الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، وشتان ما بين هذا الكذب والتزوير ، وبين الحقيقة التي عُرف بها الإنسان العربي ، فقد عُرف هذا الإنسان من خلال تاريخه الطويل الحي ، بالعمل الدؤوب والسعي الدائم في توفير مستلزمات حياته الإنسانية ، وعرف بخشونة الحياة التي يحياها من خلال تجواله الدائم في أرجاء صحرائه الشاسعة ، التي أمدته ببساطة عيشه وفطرية حياته وعلو قيَّمه وسمو أخلاقه ، فلا يرضى أن يتخلى عن طبيعته قط ، حتى ولو كان في أعلى مراتب الغنى وبسط الحال والاقتدار ، روى ابن خلدون في تاريخه ، أن الحجاج بن يوسف الثقفي أَولَمَ في ختان بعض ولده ، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس ، وقال : أخبرني بأعظم صنيع شهدته ، فقال له : نعم أيها الأمير ، شهدت بعض مرازبة كسرى ، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ـ أربعاً على كل واحد ـ وتحمله وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس ، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ، فقال الحجاج : يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس (1) ، كأن الحجاج رأى في هذه العادة الفارسية ما يعارض طبيعته العربية ، لما فيها من إسراف وفخفخة كاذبة لا تستسيغها النفس العربية ، فنفر منها إلى عادات قومه وطبيعتهم .
فإذا كانت الحياة العربية عرفت مثل هذا الإسراف والمجون واللهو الخبيث ، فهي حتماً ظاهرة دخيلة على الحياة العربية الأصيلة ، ابتلت بها مما ابتلت بغيرها أبان عصور ضعف سلطان النفوذ العربي وتعاظم نفوذ السلطان الأجنبي ، [وعظم سلطان الفرس في عصره – هارون الرشيد – وعلى رأسهم البرامكة ، والفرس من قديم الزمان يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور ، والإفراط في حب النبيذ ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ وتجعله من شعائرها ، ولا يزال النبيذ كما يقول الأستاذ براون إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية ، كان الفرس قديماً يفرطون في شرب النبيذ ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء ، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب واللهو الخبيث ، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية ، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون ، نشـروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة ومـا كان فيهـا من لهو وعبث ](1) .
إذاً ، فإن هذه الحياة العابثة الماجنة التي صورتها الحكايات على أنها الحياة العربية الإسلامية ذاتها ، ما هي إلا صورة كاذبة ملفقة مفترية ، لأن الحقيقة تقول بأنها حياة غريبة كل الغرابة ولا تمت بصلة لحياة الأمة العربية ، وما هي إلا مظهر أصيل من مظاهر الحياة الفارسية المنحطة ، أسقطت عيوبها على حياة الأمة العربية مِن قِبَل مَن وضعوا وصنفوا حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، نعم أنها حياة الأمة الفارسية التي أَلِفَ أبناء جلدتها حياة الترف والفجور وعب الخمور منذ أقدم العصور ، وأفرطوا في طلب كل الملذات وخاصة الخبيثة منها وتفننوا في تحريها وابتدعوا السبل الخبيثة للوصول إليها ، ووضعوا الأساليب لممارستها .
ـ 3 ـ
ظهرت الحياة العربية في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، حياة قاحلة قاسية لا علم فيها ولا تعلم ، ولا نظام ينظمها ولا انضباط يضبطها ، ولا أمان ولا استقرار فيها ، حياة بدائية حيوانية تقوم بمجملها على الفوضى والجهل ، وتسيطر عليها شريعة الغاب الغاشمة ، جهل مطبق يسيطر على جميع مناحي هذه الحياة ، لا أثر للعلم ولا للعلماء فيها ، وكل ما يناله الإنسان العربي من العلم ، حفظ بعض آيات من القرآن الكريم ، يحفظها في صغره بمساعدة والديه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما الخاصة من العرب ، وبالذات الذين يدعون العلم والمعرفة ، فليس لديهم ؛ في الحكايات ؛ من سمات العلماء شيء ولا يملكون من العلم إلا الادعاء ، وبعض المظاهر الكاذبة التي يظهرونها للعامة لإقناعهم بأنهم أهل علم ومعرفة سرعان ما ينكشف أمرهم ما امتحنوا ، حتى ولو من قبل عاهرة فارسية ، كالجارية الفارسية تودد ، فهي تستطيع وبكل يسر التغلب عليهم وتسفيه آراء جمع منهم والزراية بهم وبعلمهم ، ولو كان النظام بن سيار بعلمه الواسع من بينهم ؛ كما تقول الحكاية ؛ أما فقهاء العرب في الدين ، فهم لا يفقهون شيئاً لا في أمور دينهم ولا دنياهم ، ليس لهم عمل إلا التحايل ؛ باسم الدين ؛ على حل المشاكل المخزية التي يقع بها ولاة نعمهم من خلفاء وحكام وأمراء وأثرياء ، بسبب طيشهم وحمقهم وطغيانهم ، حيث يقوم الفقيه بدور حلال مشاكل هؤلاء الخلفاء والحكام والأمراء والأثرياء ، بإيجاد الفتاوى المناسـبة لها ؛ نادراً ما تكون هذه الفتاوى متطابقـة ونصوص الشريعة ؛ لينقذ ولي نعمته من الوقوع بالإحراج أمام الناس ، قاصداً الاستفادة المادية والقربة وينسى الله وغضبه عليه . هذا ما نراه بوضوح عندما تذكر الحكايات في أحداثها الفقيه الجليل أبو يوسف الأنصاري وأمثاله ، فهم يقومون بالإفتاء ، لا من أجل الشريعة ورب الشريعة ، بل تقرباً من ذوي السلطان لكسب شيء من حطام الدنيا .
أما إذا ما ذكر علم من العلوم ، في الحكايات ، فلا يذكر إلا على لسان جارية من الجواري ، وعلى الخصوص ذوات الأصول الفارسية ، فهم عارفات بجميع العلوم ، الدينية والفلسفية واللغوية والفقهية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم أخرى ، أو على لسان وزير يصرح بأعجميته الفارسية ، كالوزير شماس ، أو على لسان ابن ملك فارسي ، كورد خان ابن الملك جلعان . لقد أرادت الحكايات من ذلك إظهار ؛ حسب زعمها ؛ ما تعانيه الحياة العربية من جهل وتخلف ، ومن ثم توجيه الإهانات بشكل مباشر لعلماء الأمة العربية وفقهائها والاستهزاء بهم إلى أبعد ما يكون الاستهزاء ، وبعد أن فعلت ذلك ، عملت على إظهار تفوق الأمة الفارسية في المجال العلمي وأنه حكر عليها ، وإن فارق السلطان هذه الأمة فإن العلم والمعرفة ما زالا لها وحدها وليس للعرب لهم منه شيء البتة .
كما صورت الحكايات ، الحياة العربية الإسلامية ، بالحياة المملوءة بالخوف والرعب ، لا أمان فيها ولا استقرار ، حياة تسودها شريعة الغاب الغاشمة ، القوي فيها يأكل الضعيف ، وفيها تنتهك الأعراض ، حياة يتلاعب بها اللصوص وقطاع الطرق،ويسيطر على مقدراتها المحتالين والشطار [ يا ولدي لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار كثير وتنبت فيها الشطارة كما تنبت البقل في الأرض ] يعيثون في الأرض فساداً ويتلاعبون بمصائر الناس ، ينهبون أموالهم ويسلبون أرزاقهم ، ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ويزهقون أرواحهم ، ليس للناس منهم ولي ولا نصير ، لا من سلطان ولا من أمير .
حياة ، ليس فيها شيء مصان ، فأعراض الناس مباحة ، تنهب نساؤهم وتغتصب حرائرهم لتهدى لخليفة أو أمير ، ليحظى الفاعل برضى هذا الخليفة أو ذاك الأمير ، دون اعتبار لخلق أو دين ، وتذكر لنا الحكايات مثل على ذلك في حكاية الحجاج بن يسف الثقفي مع الجارية ( نعم ) ، والمال عرضة للنهب والاستلاب من قبل ولي الأمر ، لنـزوة تعتريهم أو غضب يلم بهم على أحد أبناء الرعية ، فهذا الأمير محمد بن سلمان عامل هارون الرشيد على دمشق يأمر بنهب دار غانم بن أيوب ، لأن الخليفة قد غضب عليه [ ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليـه بدار غانم بن أيوب ](1) .
حياة تسيطر عليها الفوضى والضياع ، الحكام في واد والرعية في واد ، الحكام طغاة ظالمون ، في ملذاتهم لاهون ، عن أمور رعيتهم ساهون ، القضاة مرتشون شهوانيون لا هم لهم غير كنز المال والتحايل على النساء ، لا يميزون بين الحلال والحرام ، والرعية وحدها تدفع الثمن ، أفرادها يصطلون بنار ظلم وجور الحكام ، واقعون تحت رحمة أقوياء غاشمون ، يُقتلون ويُسلبون يُعرون ويجوعون ، لا يجدون لهم في هذه الحياة البائسة السالبة ، التي غابت عنها معاني الإنسانية ، ولياً ولا نصيراً .
وعلى هذا فإن الحياة العربية التي صورتها الحكايات ، ما هي إلا حياة حيوانية لا تمت بصلة إلى حيوات البشر ، حياة غابة يقطنها وحوش كواسر ، تتصف بالغشم واللؤم والشرسة ، وتتسم بحب سفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ، القوي يأكل الضعيف بدون رحمة ولا شفقة ، حياة تشمئز منها النفس البشرية السوية ، ويأبى الانتماء إليها أي مخلوق ، ومن ذا الذي يرغب أن ترتبط حياته بمثل هذه الحياة البهيمية ؟ لهذا كله كانت الحياة العربية في الحكايات ، حياة قاسية يسيطر عليها الخوف والجهل ، وتنتشر فيها مظاهر الدجل والتخريف والتعلق بالأسباب الموهومة في الحصول على الرغائب ، لعجز الإنسان عن تحصيلها بالوسائل المعقولة ، واعتقاد عامة الناس بالسحر والطلاسم والبحث عن الكنوز المخبوءة ، ونحو ذلك من مظاهر الدجل والتخريف .
هكذا أراد واضعو الحكايات ، أن يظهروا هذا الجانب من حياة الأمة العربية ، والحق يقال : لقد أبدعوا هؤلاء الشعوبيون ، الوصف وأتقنوا التزوير والتهويل ، حتى يكاد أن يحسبها المتلقي حقيقة لا جدال فيها من حقائق الحياة العربية .
ـ 4 ـ
وعمدت الحكايات إلى إظهار الحياة العربية ، بأنها حياة قائمة على التوكل والبطالة ، والركون إلى القضاء والقدر ، أي أنها حياة سالبة ، تفتقر للمثابرة والإيجابية ، وتتسم بالعدمية واللامسئولية ، حياة موات جامدة بعيدة عن العطاء والفاعلية ، وذلك بما أشاعته الحكايات في مجريات أحداثها لمبدأ الجبرية ، الذي هو أحد أسـلحة الشعوبية الفتاكة الذي أشـهرته بوجه الحياة العربية الإسلامية بخاصة ، وبوجه كل ما يمت للدين الإسلامي بعامة . حيث جردت الإنسـان العربي ، بهذا المبدأ ، مـن حريـة الاختيار ؛ اختيار أفعاله وأعماله ؛ ولم تترك له أثراً شخصياً في تصرفاته [ وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](1) .
الحقيقة أن هذا المبدأ ، من ابتداع رجال منحدرين من أصل فارسي ، ينتسبون إلى الإسلام زوراً ، وهم حاقدون على الأمة العربية وعلى دينها الإسلامي الحنيف ؛ مثل جهم بن صفوان وأضرابه ؛ ممن أطلق عليهم تسمية الجبرية ،حيث قالت هذه الجماعة الضالة المضللة : أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فأنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى غير الله فسبيله إعجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس(2) . وغايتهم من إشاعة هذا المبدأ ، في المجتمع العربي ووصمه به ، ما هي في الحقيقة إلا كيدٌ للدين الإسلامي الحنيف وتشويهٌ لمبادئه الإلهية العظمى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تعطيل مسيرة الحياة العربية الخلاقة ،حيث أن هذا المبدأ الفارسي ، [ مـن التعاليم الهدامـة التي كانت تدعو إلى البطالـة والتواكل
والركون إلى القدر من غير عمل حتى تصاب الأمـة العربيـة

بشـلل اقتصادي وتلك هي رغبة الموالي ](1).
ولا يقتصر هذا المبدأ الشعوبي الهدام على إشاعة الكسل والخمول في المجتمع العربي فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى الإباحية ، وهو ما تقول به الديانة الفارسية القديمة [ كانت النظرية الزورانية التي شاعت أيام الساسانيين وبالاً على الدين إذ بثت فكرة الجبر وهي السم الزعاف للديانة المزدية ](2) ، هذا ما تريده الشعوبية للمجتمع العربي ، ذلك لأن مبدأ الجبر يهيئ أسباب الرذيلة والفساد للإنسان ، ويُسَوِّغ له ارتكاب الخطيئة والإثم ما دام مسيراً غير مخير ،وأفعاله كلها من عند الله وبالكتاب مسطور ، فإن زنى الزاني فذلك بقضاء الله ، فهذه صبية تزني مع حشـاش تقول :[فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان من قضاء الله عليـا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](3) .
هذه الجبرية المطلقة التي وصف بها الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، والتي أريد بها إظهاره بمظهر حيواني بحت ، ومن ثم دفعه دفعاً للانغماس في ملذاته وشهواته الدونية ، والوصول به إلى الغاية الشعوبية الهدامة ، من خلال إلغاء دور هذا الإنسان الحضاري المثال ، والحد من مساهمته الإيجابية الفعالة في ديمومة الحياة والبناء الحضاري ، ونشر رسالة الإسلام الخالدة ، إن هذه الجبرية لم تكن إلا من ابتداع الشعوبية مستلهمة من تراث الفرس الفكري
# # # #
إن هذه الحكايات الشعوبية في حديثها عن الحياة العربية الإسلامية ، وتصوير سلبياتها ، مالت بكل وضوح إلى التضخيم والتهويل مع الكذب والتزوير والافتراء وإنكار إيجابيات هذه الحياة ، والدافع من وراء ذلك ، أن هذا التضخم في سلبيات الحياة العربية مرده عقدة الإسقاط ،كما وضحنا سابقاً ، ومن ثم نظرة الاستعلاء العنصري المسيطرة على الفرس .

عبد اللطيف ذياب أحمد
03/03/2011, 09:18 PM
( الجزء الرابع )

الباب الرابع
الخُلق العربي
في ألف ليلة وليلة


الخلق العربي منظومة كلّية من القيم الروحية والعقلية والنفسية السامية المخلدة (1) ، نشأت عبر مسيرة الأمة العربية الطويلة لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ الذي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها ، والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها ، لأنه وحده الذي يحقق الشبه بين فئات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه فهو في الفرد صفة الأمة ، وفي الأمة حقيقة الفرد(2) . ولا يحسب الخلق للأمة إلا إذا كان فاشياً بين أفرادها مألوفاً عند جميعهم لا يخافه أحد منهم إلا مستتراً خوف المذمة إن هو أظهره أمام الناس .
وتعتبر الأخلاق خصيصة من خصائص الذات العربية منذ فجر التاريخ ، وأخذت وضعها المثالي بين الخصائص الأخرى عندمـا نالت الكمال بتهذيب الإسلام لها ، حيث أصبحت تفوق كل أخلاق وتسمو عليها ، لأنها لم تعد نابعة من مجرد الفطرة الإنسانية واستحسان العقل العربي لها فحسب بل تدعمها عقيدة الإسلام في نفس العربي وينميها إسلامه في سلوكه وعمله .
وقد جسدت الأمة العربية هذه الأخلاقية ، بمجموعة من السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف والأذواق والروابط والعلاقات والصلات الرفيعة، ومن التعاليم والشرائع والقوانين والنظم والهيئات والمؤسسات الحية المبدعة ، التي تصون للإنسان العربي ماهيته الحقة وتحفظ للمجتمع العربي هويته القومية الأصيلة ، وتضفي على الحياة العربية طابعاً متعالياً ، وحسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعل الأخلاق من صلب رسالته لهذه الأمة المجيدة وهي بالتالي رسالة هذه الأمة إلى الإنسانية جمعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } ، لذا كانت الأخلاق العربية قطعة صافية من أخلاق السماء ، ورحم الله البحتري حين يقول في أخلاقهم :
سلام على تلك الخلائق أنها مسلّمة من كل عار ومأثم
نستخلص من كل ما تقدم ، أن تخريب هذا الخلق العظيم لهذه الأمة العظيمة ، يؤدي حتماً إلى موت المجتمع العربي الإسلامي وفناء الأمة العربية ، لأن دمار الأمة ؛ أي أمة ؛ إنما يكون بموت أخلاقها الإنسانية ،ودمار قيمها الحضارية الرفيعة ، يقول الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فالأخلاق الحسنة المتينة سياج يقي المجتمع والأمة من الانحلال والانهيار، ويحفظ الأمـة دائماً مرفوعة الرأس مهابة الجانب ، وبمعنى آخر ، الأخلاق هي القوة الأولى لحفظ كيانات الأمم ، كما أنها هي الدعامة الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات البشرية السليمة .
ـ 2 ـ
وقد هال الشعوبية قوة بناء المجتمع العربي الإسلامي في الجانب الأخلاقي ، حيث وقفت الأخلاق مع التعاليم الإسلامية ، هادياً يعصم أبناء هذا المجتمع من التردي في مهاوي الرذيلة والملذات الدونية الدنيئة ، وينظمان لهم حياتهم الاجتماعية بما يعود عليهم بالنفع والثبات ، وإعانتهم على القيام بدورهم الرسالي الخالد على أكمل وجه وأمثل شكل .
وبما أن الأخلاقية تحارب باللاأخلاقية ، فقد عمدت الشعوبية في تخريبها الخلق العربي ، إلى دفع الإنسان العربي إلى التحلل الخلقي ، فرداً ومجتمعاً ودفعه إلى التردي في باءات الحطة والرذيلة والفساد ، لأن في ذلك إسقاط لإنسانية الإنسان وهدم لكيان وقدسية المجتمع ، لأن الفرد المتحلل من روابط المجتمع ومن مقوماته وأخلاقه ، غير قادر على أن يتحمل مسؤولية التفاعل الحضاري ، إذ أن عملية التفاعل هذه تقتضي الشعور بالمسؤولية والالتزام بالمجتمع وبقيمه وأخلاقه والارتباط به ارتباطاً عضوياً موجباً ، والتمسك بمثله تمسكاً مصيرياً ، والانتماء الواعي إليه ، والعمل وفقاً للمصالح المشتركة التي تربط بينه وبين مجتمعه .
ومثلما مضت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، بعيداً في تخريبها للدين الإسلامي ، مضت أيضاً وبذات البعد في تخريبها للخلق العربي ؛ وذلك ؛ لأن هذا الخلق لا يقل أهمية وخطورة قومية عن ذلك الدين الحنيف ، ناهيك مـا لهذين العنصرين الجوهريين من تشارك وتداخل ومن تفاعل وتأثير ومن تكامل وتكافل ، ما يكاد أن يجعل منهما وحدة عضوية تامة ، فالخلق العربي كنه من أكناه الدين الإسلامي ، ومن ثم هما متلازمان لا ينفكان ولا ينفصمان ، لأن كل منهما يحافظ على الآخر ويذود عن صاحبه كما جاء في الحديث الشريف { من لا خلق له لا دين له } فإن أي تخريب لأي عنصر منهما هو دون ريب تخريب أكيد للعنصر الآخر.
فعمدت هذه الحكايات الشعوبية إلى تشويه القيم الخلقية العربية ، التي تعتبر الطابع الأساسي المميز للمجتمع العربي المسلم ، وسجية من سجاياه الفطرية ، فأخذت تزين للإنسان العربي مظاهر الفسق والفجور ، محرضة الناس على ارتكاب المحرمات وإتيان الموبقات،وقصدها من ذلك هو القصد الشعوبي ذاته ، وهو دفع المجتمع العربي الإسلامي إلى درك التحلل والتفسخ ، وبهذا يسهل عليها إخضاعه والسيطرة عليه ، ويتسنى حينها للأعاجم والفرس منهم خاصة ، إرجاع مجدهم الكسروي الغابر ، وإزالة مجد العرب الزاهر ، وتدمير حضارة الأمة العربية الإنسانية العظمى والقضاء على مكمن قوتها الذاتية الجبارة . فتصدت الحكايات لأشهر الخصال والمحامد العربية الأصيلة التي عُرف العرب بها وبجلوها بتقديس ، وتغنوا بها بفخر واعتزاز ، كالمروءة والنجدة ، والعرض والشرف ، والقرى والكرم ، والوفاء والأمانة ، والإباء والشمم ، والصدق والإخلاص ، وغيرها من الخصال والمحامد العربية البارزة ، والتهجم عليها بضراوة وعنف ، وتضمينها مضامين لا أخلاقية سالبة ، كما رأينا ذلك في الباب الثاني من هذا الكتاب .
ولم تقف الحكايات عند هذا الحد من التجني والتشويه ، بل حاولت تصوير المجتمع العربي الإسلامي تصويراً مغايراً ومناهضاً ومناقضاً لحقيقته القومية الحقة ، صورته يرفل بالفسق والفجور ، والزنا واللواطة ، والخمر والمجون ، وذلك لإظهار المجتمع والإنسان العربي بحالة إنسانية مزرية لا تؤهله إطلاقاً لحمل رسالة السماء التي يفتخر بكرامة حملها ويعتز بشرف القيام بنشرها ، ويستشهد في سبيل تحقيق غاياتها . فدعت الحكايات وبشكل سافر إلى التحلل من كل القيم الدينية والاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي ، وزينت كل ما من شأنه أن يساعد على هذا التحلل ، كالخلاعة والمجون والفسق والدعارة ، والتخنث والانحراف الجنسي ومعاقرة الخمور .
فانطبعت هذه الحكايات الشعوبية بذلك الطابع القوي من الخلل الخلقي اللامحدود ، الذي لم يتأتَ صدفة أو عن سذاجة من لدن القاص ، كما لم يكن وجوداً عرضياً أو محشوراً في ثنايا الكتاب ، أو أن يكون وجوده أو عدم وجوده سيان ؛ كما تدعي الدكتورة سهير القلماوي ؛ بل أن الحقيقة تقول غير ذلك تماماً ، فالحكايات قامت بمجملها على هذه اللاأخلاقية ، وبدونها لا يبقى شيء يسمى حكايات أو بناء قصصي ، ومما يثبت ما ذهبنا إليه ، ذلك الفشل الذريع الذي لاقته طبعة الآباء اليسوعيين لكتاب ألف ليلة وليلة ، عندما حاولوا أن يزيلوا بعض مظاهر الفحش والمجون والغزل الرخيص الذي يرفل بها الكتاب ، فجاءت طبعتهم هذه غثة لا قيمة لها ؛ كما قال عنها النقاد ؛ واعتبرت من أسوء الطبعات على الإطلاق .
وقد حاول التغريبيين العرب المتأثرين بآراء المستشرقين ، إيجاد العذر لهذه اللاأخلاقية التي تسيطر على أحداث الحكايات ، فجاءت أعذارهم ساذجة ، تدل بوضوح على استغراقهم في تغريبيتهم الفكرية ، وتؤكد تعلقهم بآراء أسيادهم من المستشرقين والأخذ بها بدون تمحيص أو التأكد من صحتها . فهذه الدكتورة سهير القلماوي ، التي استقت مادة كتابها الموسوم بـ – ألف ليلة وليلة - ، من بحوث ودراسات أساتذتها المستشرقين ، حول هذا الأثر الشعوبي المضاد للأمة العربية ، حيث تقول : ( أنا نلاحظ شيئاً غريباً في الكتاب لا نكاد نفسره إلا بطغيان ذوق قاص مفحش طغياناً ماكراً علـى الكتاب ، فحشر مواقف الفحش حشراً فـي قصص كثيرة لولاه لنجا الكتاب من تلك المعاملة التي عومل بها )(1) .
وخلاصة القول ، أن كل ما جاء في أحداث الحكايات من غزل مكشوف ومن لهو ومجون ، وما إلى ذلك من الصور والمواقف اللاأخلاقية ، ينافي منافاة كلية طبيعة الإنسان العربي المسلم التي جبله الله عليها ، والتي هذبت وبه أخذت كمالها الإنساني الحق ، فإن نفسه لتشمئز من هذا ، بل أنه لا يستطيع تصور هذه اللاأخلاقية المفرطة المسيطرة على كتاب ألف ليلة وليلة. أما من أين جاءت الشعوبية بهذه الصور اللاأخلاقية ووضفتها في أحداث الحكايات ؟ نقول : ما هي إلا صور حية لما ورثته عقلية واضعيها ومنمقيها ، الفرس الحاقدين على العرب والعروبة والإسلام ، الذين ورثوا هذه الصور اللاأخلاقية من المجتمع الساساني الفارسي المندرس ، الذي اشتهر بالإباحيـة والمجون وشرب الخمور ، وحبهم اللامحدود للهو الطيب والخبيث ، [ 00فكان الملوك يتزوجون بناتهم وأخواتهم حتى أن يزدجرد الثاني جنى على بنته ثم قتلها ، وبهرام جوبين كان متزوجاً بأخته ، وكانت فارس مسرحاً لمذهب ماني الزاهد المتنسك ، ومزدك الإباحي المتهتك ](1).
فحاول واضعو هذه الحكايات الشعوبية ، أن يوحوا لقارئها بأن هذه اللاأخلاقية ، ما هي إلا سمة من سمات المجتمع العربي ، وذلك بما أضافوه إلى أحداثها من شخوص وأماكن وأحداث عربية إسلامية ، وغايتهم من ذلك ؛ كما أسلفت ؛ تشويه الإنسان العربي وهدم مجتمعه ، ومن ثم بث عقائد ومذاهب الفرس المجوس بين أبناء الأمة العربية ، تلك المذاهب التي تبيح اللذة المحرمة ، وتدعو إلى الإباحية وإلى الفسق والفجور ، كالمذهب المزدكي وغيره من المذاهب المجوسية الهدامة .
ـ 3 ـ
لقد امتلأ كتاب ألف ليلة وليلة ، بالغزل الإباحي الرخيص ، هذا الغزل الذي لم يعرفه العرب أبداً ، لا في جاهليتهم ولا في إسلامهم ، ولم يذكر منه أي شيء في أدبياتهم وأشعارهم على الإطلاق ، لأن أدبهم أدب الوقار والارتفاع عن درك الغرائز النوعية ؛ صحيح أن العرب عرفوا بعض أنواع الغزل الصريح حقاً ، لكنهم لم يبلغوا به مبلغ كتاب ألف ليلة وليلة وأضرابها من الكتب الشعوبية الأخرى في الصراحة وما وراء الصراحة من الجهر بالفسق والإثم دون رادع من خلق أو زاجر من دين ؛ يقول أحمد أمين في هذا [ ثم أتى أبو النواس ؛ شعوبي فارسي حاقد ؛ فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه وابتكر فن الغزل بالمذكر فكان هذا كله خروجاً على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس ](1) .
نرى هذه ألا أخلاقية في كتاب ألف ليلة وليلة منذ الليلة الأولى وحتى نهاية الليلة الأخيرة ، لا تكاد تخلو منها حكاية من الحكايات ، حتى أصبحت علامة مميزة للكتاب ودليلاً يدل عليه ، وقد استعمل القاص أقبح الألفاظ وأفحش المعاني ، ليعبر بها عما يجيش بنفسه المريضة من لاأخلاقية مفرطة ، وبأسلوب فاحش فيه الكثير من القذارة والدونية ، حيث أنه يذكر الممارسات الجنسية بالتفصيل ، واصفاً لها وصفاً دقيقاً ، متوخياً من ذلك إثارة الغرائز الجنسية عند القارئ ، ودفعه دفعاً لتقليدها وممارستها .
وقد يقول قائل : أن في الأدب العربي الجاهلي مثل هذا الفحش ؛ نراه عند امرئ القيس مثلاً ؛ هذا صحيح ولكن لو عقدنا مقارنة بين كل ما ذكر في الأدب العربي الأصيل ؛جاهليّه وإسلامه ؛ من فحش وبين ما نجده في حكاية واحدة فقط من حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، لوجدنا الفارق كبيراً جداً ، حيث نرى أن ما ورد في الأدب العربي منه ، ينطبع بطابع السذاجة والسطحية من ناحية ، ومن ناحية أخرى كان بعيداً كل البعد عن التصريح والبذاءة وعن الوصف الحي لهذا الفحش لأن الفحش ليس من سجايا العرب ، كما أنه يتعارض مع ما عرفوا به من حياء وعفاف . أما في كتاب ألف ليلة وليلة ، فهو صورة معبرة عما تألفه النفس الفارسية من هذا الفحش ، والذي تسمح لهم به دياناتهم ومعتقداتهم السابقة وعاداتهم وتقاليدهم المتداولة ، فجاء هذا الفحش مصور تصويراً دقيقاً ، لا يقدر على تصويره بهذه الدقـة إلا من قِبَلَ من ألفه واستساغه ومارسه ، وسقط عنه المانع الأخلاقي في التغني بـه وإظهاره .
فوصفت الحكايات ، الممارسات الجنسية وصفاً حسياً حيوانياً ، من عناق والتفاف الساق على الساق ،ووصف الأعضاء الأنثوية للمرأة وصفاً لا أخلاقياً مثير للتقزز والغثيان عند أهل النفوس الكريمة خالياً من كل حياء وعفاف ،وأوردت هذا الغزل الإباحي الصريح ؛ في أحداثها ؛ نثراً وشعراً ليكون تأثيره في نفس المتلقي أمكن وفي عقله أوكد وأكبر .
ففي حكاية الحمال والثلاث بنات(1) ، التي تطالعنا في أول الكتاب ، مغازلة جنسية رخيصة بين الحمال والثلاث بنات ، لا تخلو من وصف مثير للاشمئزاز للأعضاء الجنسية والتناسلية للرجل والمرأة . ونرى مثل هذا الغزل الفاحش بأعضاء المرأة الجنسية ، في حكاية زين المواصف ، بأبيات من الشعر تتغزل بكل عضوٍ من أعضاء المرأة الأنثوية ، بدون أي حياء أو خجل ، ومطلع الأبيات يقول : (2)
قف واستمع ما جرى لي في حب هذا الغزال
ومثل هذا الغزل الإباحي الرخيص ، كثير جداً في كتاب ألف ليلة وليلة ، فإذا أردنا ذكره جميعاً فعلينا أن ننقل الجزء الأكبر من الكتاب .
أما معاطات الدعارة ووصفها وتجويد ممارستها ، فذكرها كثير جداً هي الأخرى في هذا الكتاب الشعوبي ؛ وسوف أكتفي بإيراد البعض منها للبيان ؛ ففي حكاية تاج الملوك يقول الشاب : [000 وأقبلت علي وضمتني إلى صدرها وقبلتني وقبلتها ومصت شفتي التحتانية ومصصت شفتها الفوقانية ثم مددت يدي إلى خصرها وغمزته وما نزلنا في الأرض إلا سواء وحلت سـراويلها فنـزلت في خلاخل رجليها وأخذنـا في الهراش والتعنيف والغنج والكلام الرقيق وحمل السيقان والطواف بالبيت والأركان إلى أن ارتخت مفاصلها وغشي عليها ودخلت في غيبوبة ](1) . وفي الحكاية ذاتها يقول الشاب في مكان آخر : (2) [ 000 عند ذلك قامت الصبية وقلعت أثوابها وأتت في قميص رفيع مطرز بطراز من ذهب وقلعت لباسها وأخذت بيدي وطلعت بي فوق السرير وقالت لي ما في الحلال عيب ووقعت على السرير وانسطحت على ظهرها ورمتني على صدرها ثم شهقت شهقة واتبعت الشهقة بغنجة ثم كشفت الثوب حتى جعلته فوق نهودها فلما رأيتها على تلك الحال لم أتمالك نفسي دون أن أولجته فيها بعد أن مصصت شفتيها وهي تتأوه وتظهر الخشوع والخضوع والبكاء بالدموع وذكرتني في هذا الحال قول من قال :
ولما كشفت الثوب عن سطح
وجدت به ضيقاً كخلقي وأرزاقي
00 00 فقلت لما هذا فقالت علي الباقي ](1)
وفي حكاية علاء الدين أبو الشامات ، تقول الحكاية : [00 فضمته إلى حضنها وضمها إلى صدره واعتنق الاثنان ببعضهما ثم أخذته وراحت على ظهرها وفكت لباسها فتحرك عليه الذي خلفه له الوالد فقال مددك يا شيخ زكريا يا أبا العروق وحط يديه في خاصرتها وضع عرق الحلاوة في باب الخرق ودفعه فوصل إلى باب الشعرية وكان مروره من باب الفتوح وبعد ذلك دخل سوق الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس فوجد البساط على قدر الليوان ودور الحق على غطاه حتى ألتقاه ](2) .
وورد مثل هذا الفحش الفاضح في حكاية نور الدين ومريم الزناريـة : [ 000 فعند ذلك التفت نور الدين من وقته وساعته إلى تلك الجارية وضمها إلى صدره ومص شفتها الفوقية بعد أن مص التحتية ثم زرق اللسان بين الشفتين وقام إليها فوجدها درة لم تثقب ومطية لغيره ما ركبت فأزال بكارتها ونال منها الوصال وانعقدت بينهما المحبة بلا انفكاك ولا انفصال فتابع في خدها تقبيلاً كوقع الحصى في الماء ورهزاً كطعن الرماح في الغارة الشعواء لأن نور الدين كان مشتاقاً إلى اعتناق الحور ومص الثغور وحل الشعور وضم الخصور وعض الخدود وركوب ****************** مع حركات مصرية وغنج يمانية وشهيق حبشية وفتور هندية وغلمة نوبية وتضجر ريفية وأنين دمياطية وحرارة صعيدية وفترة اسكندرانية وكانت هذه الجارية جامعة لهذه الخصال مع فرط الجمال والدلال ](1) .
أما الأشعار الفاحشة فهي الأخرى كثيرة الورود في أحداث حكايات هذا الكتاب الشعوبي،ولا يمكن حصرها بعدد أو إيرادها جميعاً، وإليكم بعضاً منها، يقول محمود البلخي لعلاء الدين ليشجعه على ممارسة اللواطة وتحبيبها إليه : (2)
حدثنا عن بعض أشـياخه أبو هلال شيخنا عن شريك
لا يشتفي العاشق مما بـه بالضم والتقبيل حتى0000
وفي حكاية أبو الحسن مع ابنة طاهر بن علاء نجد كذلك أبياتاً شعرية تزخر بمثل هذا الفحش والفجور ، مطلعها :
قالت وقد لعب الغرام بعطفها في جنح ليل سابل الأحلاك
ومثل هذا الشعر الفاحش الفاجر ، كثير جداً في حكايات الكتاب ، وأكتفي بهذا القدر من الأمثلة وأظن بأنها تكفي لتوضيح الصورة اللاأخلاقية التي عليها الكتاب ، وأرجو أن ما ذكر يفي بالغرض ويظهر المقصود ويبين المراد .
ـ 4 ـ
أما عن التغزل بالغلمان المرد وتفضيل نكاح الذكر على نكاح الأنثى ؛ الوارد كثيراً في حكايات الكتاب ، والذي لم يُؤثر عن العرب أي شيء عنه البتة ، إن كان في أدبياتهم ، وإن حتى في المؤلفات الشعوبية التي حاولت أن تلصق كل نقيصة في الإنسان العربي قبل وبعد الإسلام ؛ نقول : لم يعرف المجتمع العربي هذه المشكلة الناقصة ، ولم يعاني منها إلا في العصور المتأخرة ؛ عصر سيطرة العجم على مقاليد الأمور ؛ ، حيث اقتدى البعض القليل بالفرس وتأثروا بهم في هذا المجال ، يقول فيليب حتي : وإذا كانت بعض الكتب قد أشارت إلى وجود الغلمان في عهد الرشيد فالراجح أن الأمين كان أول من أنشأ نظام الغلمان في العالم العربي لغاية اللواطة اقتداءً بالفرس (1) . وعلى ما في هذا الرأي من تجني على محمد الأمين ، إلا أنه يدل على أن هذه العادة المستهجنة ، طارئة ووافدة على المجتمع العربي ، جاءته عن طريق الفرس ، ونرى هذا النوع من الغزل واضحاً في حكايات الكتاب ، مع محاولة لصق هذه العادة القذرة بالمجتمع العربي وجعلها عنواناً له قديماً وحديثاً .
ومن المعروف عند الدارسين ، بأن المجتمع العربي لم يعانِ قبل العصر العباسي؛العصر الذهبي لانتشار المذاهب الفارسية الإباحية ؛ من هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة على الإطلاق ،ذلك لمناعة الخلق العربي ، وارتباط الإنسان العربي بقيم ومُثُل ومبادئ إلهية جليلة تصونه تماماً من هذه المشكلة الاجتماعية اللاأخلاقية المدمرة ، حيث أن ابتلاء أي مجتمع من المجتمعات البشرية بها كان مصيره الموت والفناء والاندثار، ولنا بقوم لوط خير شاهد وأحسن مثال .
ولحقارة هذه العادة المستنكرة ، وتأثيرها السلبي على المجتمع وعلى قوته وبقائه ، حاولت عامة الشعوبية تحسين وتجويد وتزويق هذه العادة في نظر العربي ، مصرحة حيناً وملمحة حيناً آخر بآرائها ، بتفضيل الذكر على الأنثى وجمالية التغزل بالغلمان ، ووصف اللذة الحاصلة من نكاح الأمرد ، وقد أتقنت شعوبية الحكايات الوصف المثير ، لمعرفتها الأكيدة بهذه العادة التي استمدتها من تراثها الفارسي الإباحي . فإذا كانت هذه العادة مستهجنة ومنبوذة عند العرب ؛ كما أوضحنا ؛ فهي مألوفة عند أبناء الأمة الفارسية ، فهم قد عرفوا بها منذ القدم ومارسوها ممارسة كاملة ، وهم أول من وضع نظام الغلمان في العالم كله ، وأول من مارس اللواط واستحسن ممارسته ، وأباحته لهم مذاهبهم الإباحية ، وهل هذا كثير على أمـة استباحت لأبنائها نكاح الأم والأخت وبقيت المحارم ؟ 00
وبما أن الفرس هم رأس البلاء الذي حل بالأمة العربية ، وبما أنهم هم القائمون على التيار الشعوبي الحاقد على العرب ومجتمعهم ودينهم ، فقد دخلت هذه العادة إلى المجتمع العربي عن طريقهم وبمباركتهم لها [ ثم أتى أبو نواس فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه ، وابتكر فن الغزل بالمذكر فمان هذا خروجاً على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس ](1) نرى أن الشعراء الشعوبيين ، كأبي نواس وأضرابه ، قد كرسوا أغلب أشعارهم فـي التغزل بالغلمان وذكر اللواط ومحاسنه .
أكثرت حكايات ألف ليلة وليلة الشعوبية ، من الغزل بالغلمان وتفضيلهم على النساء ، واظهار الخصال الجماليـة التي تميز الغلمان . فهذه حكاية سيدة المشايخ الموجودة في جملة أخبار الصالحين ، نجد مفاضلة غزلية فاحشة بين الذكر والأنثى (2) .
ومن أشعار الحكايات الكثيرة في هذا الفن القبيح ، سأورد هنا البعض منها كأمثلة على هذا الغزل الرخيص (3)
لا تقس أمرداً بأنثى ولا تصغ لواش يقول ذاك فسـق
بيـن أنثى الوجـه رجـلاً وغزال يقبل الأرض فرق
وفي نفس الليلة السابقة نجد :
فديتك إنما اخترتك عمداً لأنك لا تحيض ولا تبيض
ولو ملنا إلى وصل الغواني لضاق بنسلنا البلد العريض
ومن أشعار التغزل بالغلمان واظهار محاسنهم (1)
سلى خاطري عن زينب ونوارى بوردة خـد فـوق أس عذار وأصبحت بالظبي المقرمط مغرماً ولا أرى لي في عشق ذات سوار أنيسي في النادي وفي خلوتي معاً خلاف أنسـي فـي قرارة داري فيا لائمي في هجر هند وزينب وقد لاح عذري كالصباح لساري أترضى بأن أمسي أسير أسيرة محصنـة أو مـن وراء جـدار
ومثله :(2)
تعشق ظبياً ناعس الطرف أحورا تغار غصون البان منه إذا مشى
يمانعني والغيـر يحضى بوصلـه وذلك فضل الله يؤتـه من يشا

ومثله :(3)
يا فريـد الجمال حبك ديني واختياري على جميع المذاهب
قد تركت النسا لأجلك حتى زعم النـاس أنني اليوم راهب
أما اللواطة في الحكايات ، فشعرها كثير جداً هي الأخرى ، حتى أنها جاء بها وصف ذاك الزمان؛ زمان الليالي؛ بزمان قوم لوط: (1)
كأن زماننا من قوم لوط له شغف بتقديم الصغار
فهذا الشعر الأخير يتهم المجتمع العربي بهذه العادة الفاسدة ، ويوحي للمتلقي بأن هذه العادة متفشية بين عموم أبناء الأمة العربية ، مألوفة لديهم غير مستنكرة منهم . كما أن هناك حكايات تصور إعراض الناس في هذا المجتمع عن إتيان النساء واللجوء إلى اللواط مع الغلمان وإن اضطروا للنساء فلا يأتوهن إلا من أدبارهن ، تقول إحدى الحكايات : (2)
جاءت 0000 ناعـم فقلت أنـي لم 0000
فـانصرفت قائلــة يؤفك عنـه مـن أفك
0000 من قدام فـي هـذا الزمان قـد ترك
ودورت لـي فقحـة مثـل اللجين المنسـبك
أحسـنت يا سـيدتي أحسنت لا فجعت بك
أحسنت يا أوسع من فتـوح مولانـا الملك
ومثله :
قالت وقد أعرضت عن غشيانها يا أحمقاً في جهله يتناها
لم ترضى من قبلي لوجهك قبلـة لنوليك قبلـة ترضاها
وممارسة اللواط عند واضعي الحكايات جائز بعرفهم : (1)
0000 كبير والصغير يقول لي اطعن به الأحشاء وكن صنديدا
فأجبته ذا لا يجوز فقال لـي عنـدي يجوز 0000 تقليـدا
كما نجد في الحكايات دعوة صريحة لتعاطي هذه العادة القذرة : (2)
فلا تسعوا إلـى غيري فعندي معدن الخيري
وعندي قهـوة تجلـي سباها راهب الديـر
وعندي اللحم من ضأن وأصناف من الطيـر
كلوا إذاً واشربوا خمراً عتيقاً مذهب الضيـر
0000 بعضكم بعضاً ورسو بينكم 0000
بعد أن أوردنا كل هذه الأمثلة ، فإذا أردنا أن ندقق النظر بهذه الأشعار ، وإرجاع الشعر المؤكد لأصحابه ، نجد أن هؤلاء الشعراء جميعهم من الفرس الحاقدين على العروبة والإسلام ، وعلى رأس هؤلاء الشعراء ، أبو نواس ؛ هذا الفارسي الشعوبي الماجن ، الذي رويت في مجونه النوادر ؛ ولم تستطع شعوبية الليالي أن تأتي بشيء من هذه القاذورات على لسان أي شاعر عربي ، وهذا ما يؤكد بأن هذه العادة القذرة غير مقبولة عندهم ، بل وحتى عند الشعراء العرب الذين سايروا وتأثروا بالشعراء الفرس في تغزلهم بالنساء والخمور .
ـ 5 ـ
أما عادة معاقرة الخمور التي تظهر في الحكايات وكأنها عنوان للمجتمع العربي الإسلامي ، فإن المجتمع العربي لم يعانِ من هذه المشكلة الاجتماعية ، بل من المعروف أن هذه العادة كانت في الجاهلية مذمومة ، لما لها من عيوب ومساوئ مادية ومعنوية على حد سواء ، فهذا العباس بن مرداس يرد عن سائله عندما قيل له ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك ؟ . يقول : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ولا أرضَ أن أصبح سـيد القوم وأمسي سفيههم . وعندما يسأل أحد الأعراب عن سبب امتناعه عن شرب النبيذ يقول : لثلاث خلال فيه ، لأنه متلف للمال ، ومذهب للعقل ومسقط للمروءة . ويوجز قيس بن عاصم بشعره مضار الخمر حين يقول :
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سـقيما
ولا أعطي ثمناً حياتـي ولا أدعو لها أبـداً نديـما
فإن الخمر تفضح شاربها وتجنيهم بها الأمر العظيـما
وهذا لا يعني أن ليس هناك من لا يعاقر الخمرة بين أبناء الأمة العربية ولكن يؤكد بأن الخمرة لم تكن ذات شأن يذكر عندهم ، كما أنها ليس لها أي تأثير على حياتهم الاجتماعية ، فإن هم عاقروا الخمرة ، فقد عاقروها بسذاجة وعلى أيد غريبة عن مجتمعهم ، فإن من المؤكد تاريخياً أن حانات الخمور كانت تدار في أرضهم من قبل اليهود والغرباء .
لهذا كله لم يعرف العرب نظام موائد الخمر ، ولا آداب الراح ، كما عرفوا نظام الولائم من ذبح الجزور وإقامة القدور ، والتفاف الغني والفقير حول الماعون ، ومن المؤكد كذلك أن هذه العادة انتشرت فـي المجتمع العربـي أبان العصر العباسي وعلى يد الفرس [ وتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير ، كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني والأفكار ](1) لأن أبناء المجتمع الفارسي قد اشتهروا أكثر من غيرهم من أبناء المجتمعات الأخرى بالإدمان ومعاقرة الخمور ، في كل وقت وفي كل مناسبة ، وفي أعيادهم وأفراحهم الخاصة والعامة ، فابتدعوا لها آداباً خاصة ، ونظاماً متميزاً ، يقول أحمد أمين : والفرس من قديم ميالون إلى الإفراط في الشراب 00 حتى وصفهم هيرودوت بالإمعان في ذلك والغلو فيه ، وتصريفهم شؤون الدولة وهم سكارى(1) .
وبعد أن جاء الإسلام ونص القرآن الكريم على تحريم الخمر لكونها رجز من عمل الشيطان ، امتنع العرب عنها امتناعاً كاملاً ، لمضارها الكثيرة التي تفوق كل منفعة مرجوة منها ، وقد أكدت السنة النبوية الشريفة على هذا التحريم ، وبينت الكثير من مضارها المادية والمعنوية ، والآفات التي يصاب بها الإنسان والمجتمع من الابتلاء بهذه العادة الآثمة .
ولكن الحكايات عملت على تشجيع الناس على معاقرة الخمور ، وذلك ، بوصفها بأحلى الأوصاف وأجملها ، وبإصباغ المحاسن الجمة عليها وتبيان أو الإدعاء المنافع الكثيرة التي فيها ، فهي في الحكايات ماء الحياة :(2)
عجبت لعاصريها كيف ماتوا وقد تركوا لنا ماء الحياة
ومن أراد أن تتم سعادته وتزداد فرحته وتكتمل بهجته فما عليه إلا تناول الخمور ، فإنها تزيد الفرحة وتعلو بالإنسان إلى عالم النشور والحبور : (3)
لا يشرب الراح إلا من به طرب يكون في السكر في أفراحه راقي
كما حاولت الحكايات أن تبين فوائد الخمرة الصحية والاجتماعية وتؤكد بأن هذه الفوائد المادية والمعنوية هي الأساس في الحياة الصحية [ 00 وأما المنافع التي فيها فإنها تفتت حصى الكلى وتقوي الأمعاء وتنفي الهم وتحرك الكرم وتحفظ الصحة وتعين الهضم وتصح البدن وتخرج الأمراض من المفاصل وتنقي الجسـم من الأخلاط الفاسـدة وتولد الطرب والفرح وتقوي الغريزة وتشد المثانة وتقوي الكبد وتفتح السدد وتحمر الوجه وتنقي الفضلات من الرأس والدماغ وتبطئ بالمشيب ] .
أن مثل هذه المنافع التي سردتها حكايات ألف ليلة وليلة الشعوبية ، جميعها كذب وتلفيق ، لأن الحقيقة تقول غير ذلك تماماً ، فالأطباء قديمهم وحديثهم ، أثبتوا عملياً وبدون أي شك ، بأن الخمرة هي السبب الرئيسي والمباشر في إفساد الجهاز الهضمي للإنسان وفقدان الشهية ومرض الكبد وتقرحات المعدة والأمعاء ، كما أن الخمرة تعيق الدورة الدموية وتؤثر عليها مما يؤدي بالإنسان إلى الموت الفجائي ، كما أنها تضعف النسل وتؤثر على القوة العقلية والجهاز العصبي للإنسان مما يؤدي به إلى الجنون أو الشلل النصفي أو الكلي ، بالإضافة لهذه المضار ، تأتي المضار الاجتماعية الكبيرة الناتجة عن تناول هذا السم الزعاف .
ولكن الحكايات تكثر في أحداثها مثل هذا التخريف حول منافع الخمرة، فهي الدواء الشافي من كل سقم : (1،2)
وتمشت في مفاصلهم كتمشي البرء في السقم
ولا ملجأ للمحزون لتهوين أحزانه إلا بتناول هذا السم : (2)
تالله ما الكيميا في غيرها وجدت وكل ما قيل في أبوابها كذب
قيراط خمر على القنطار من الحزن يعود في الحين أفراحاً ينقلب
وقد ألصقت الحكايات هذه العادة المفتراة ، بشخوص عربية ،
وركزت بشكل خاص على عليَّة القوم ، تجاراً وأعياناً ، أمراءً وقادة وزراءً وملوكاً ، وغايتها من ذلك ، الترويج للخمرة بيـن ضعاف النفوس وإظهارها لهم بأنها مشروب الأكابر والملوك ، وبما أن الناس على دين ملوكهم ، وبما أن ؛ كما هو معروف في علم النفس الاجتماعي ؛ الناس يقلدون أكابر قومهم ، فتكون الغاية الأساسية من وراء ذلك دفع الناس ؛ كل الناس ؛ إلى الانغماس في هذا المستنقع القاتل ، وقد اتبعت الحكايات في ذلك ، كعادتها ، أسلوب الكذب والافتراء والتلفيق على رجال عرفوا بالتقوى والورع والصلاح ، ولهم مكانتهم ومنزلتهم الخاصة في نفوس عامة العرب المسلمين .
أن الهدف الذي يسعى إليه كتاب ألف ليلة وليلة ، بل الذي تسعى إليه الشعوبية عامة ، من مثل هذا ، هو هدم المجتمع العربي وانحلاله بأي وسيلة من الوسائل ، والخمرة من الوسائل التي يمكن عن طريق إفشائها في المجتمع العربي الإسلامي ، من أن تحقق شيئاً مما تصبو إليه الشعوبية ، لأن من أول وأهم مظاهر مضار الخمور ، هي المضار التي تنعكس على المجتمع انعكاسا سلبياً سيئاً بحيث تكون سبباً للانحلال الخلقي ، وتشويهاً للقيم والمثل التي يتسم بها المجتمع ، وضياعاً للدين والدنيا ، ومن ثم يكون بها سقوط الأمة في مهاوي الرذيلة والفسوق ، وبذلك يكون بداية اضمحلال الأمة وموتها ونهايتها وإزالتها من عالم الوجود ، فلذلك كله ، سعت الشعوبية عامة وبكل إمكاناتها المتاحة ، لنشر هذه المشكلة القاتلة في المجتمع العربي الإسلامي ، والعمل على تعقيد نتائجها الوخيمة ، لعلها بذلك تعجل فـي موت هذا المجتمع وفناء هذه الأمة الحضارية العظيمة .

(الجزء الخامس )

الباب الخامس
حياة العرب الاجتماعية
في ألف ليلة وليلة

تمثل الحياة العربية الحقة الوجود العربي الحق ، ويمثل الوجود العربي الحق الماهية العربية الحقة ، بمقوماتها الأساسية ، التي هي الجنس والأرض واللغة والدين والتاريخ ، كما تمثل خصائصها الأصيلة المتمثلة في : التأليهية المُوَّحِدَة والمثالية المثابرة والروحانية الصافية والأخلاقية العالية والإنسانية الخيرة والحضارية البناءة . فالحياة العربية الحقة ما هي إلا التجسيد الحقيقي والحي لحقيقة الأمة العربية التي هي القومية العربية عينها ، بكل مقوماتها وسماتها وخصائصها ومميزاتها وأركانها . كما تمثل ؛ هذه الحياة الأصيلة ؛ حياة الطهر والبراءة والصفاء والنقاء والتعالي والسمو والروحية والمعنوية والسماوية والأخروية . كما أنها تمثل حياة البساطة الإنسانية الموجبة ، في طبيعتها الفطرية وعفويتها ، وفي اعتدالها واتزانها ، وفي تعادلها وتوازنها .
ومن هنا ، فإن هذه الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، إذ تنشد التحضر ، تنشده حقيقة وحقاً لا زيفاً وباطلاً ، وجوهراً ومضموناً لا عرضاً وشكلاً ، أي تنشده تحضراً في الروح والقلب والعقل والضمير والذوق والشعور ، لا تحضراً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والاستماع (1) .
وقد هال الشعوبية هذا السمو في الحياة العربية ، فأخذ دعاتها يوجهون دسائسهم ويعملون نفاقهم ويلفقون أكاذيبهم في تشويه هذه الحياة الرائعة ومسخها ، وقد تستروا وراء التجاوب الحضاري بين الأمة العربية والأمم الأخرى ، وخاصة الأمة الفارسية منها ، بأن عمدوا إلى نشر المظاهر البريئة ، مثل وضع نظم جديدة لآداب المائدة وإدخال أذواق أخرى من الملبس المأكل وبناء المسكن ، إلى غير ذلك من آداب الحديث ، وترتيب المجالس والندوات ، وأشباهها من ضروب مظاهر الحياة الاجتماعية الفارسية [ 00 فتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني ] (2) .
وبدأت الحياة العربية تشاهد سيلاً من الاقتباسات الفارسية في الشؤون الاجتماعية ، لم تلبث أن بدأت تتلوث بجراثيم دعاة الشعوبية القاتلة ، فأخذ الشعوبيون يعملون رويداً رويداً على أن تتحول ؛ مثلاً ؛ آداب المائدة وتعاليمها الجديدة إلى سموم تنفث في جسد المجتمع العربي الإسلامي ، ومعاول تهدم تقاليد العربي في هذا الميدان المعروف ببساطته عند أبناء الأمة العربية واحترامه للفطرة السليمة . ونشر الأذواق في الملبس بما يؤدي إلى ازدياد الأناقة ازدياداً مفرطاً تحوِّل صاحبها إلى مرتبة التخنث وتبعده كلياً عن المظهر الرجولي الذي ألفه العربي في بساطة ملبسه ، وما تنطوي عليه هذه البساطة من دلائل الرجولة الكاملة وهيبتها ، التي تدعو إلى الاحترام والتوقير . ولم تقف الشعوبية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى ما هو أدهى وأشد من التأنق بالملبس والمأكل ، لإفساد الحياة العربية الأصيلة ، إذ عمدت إلى نشر كل ما صاحب حياة الأمة الفارسية من انحلال ، مثل الإقبال المفرط على معاقرة الخمور جهاراً والانغماس في الملذات الجنسية المفرطة بدون حياء ، حتى يصبح الفرد عبداً لغرائزه الدونية وأسيراً لنزواته الجسدية الرخيصة ، ليكون في ذلك ، ضيق الأفق سلبي العطاء ، لا يقدر على أن يتبين مواضع الغي من الرشد .
ومنذ أن انطلقت الحياة العربية الجديدة ، بعد التحامها المصيري بعقيدة العرب الكبرى ، التي هي الإسلام ، في مسار كينونتها التكاملية التفاعلية الكبرى ، القائمة على التطور الوجودي الخلاق ، انطلقت الشعوبية ؛ الحاقدة ؛ بدورها تعمل على تخريب هذه الحياة ، داخلاً وخارجاً وظاهراً وباطناً ، لتحول بينها وبين بلوغها منتهى كمالها الإنساني الحضاري المنشود .
وقد تركز نشاط الشعوبية التخريبي للحياة العربيـة بالتهجم
الشديد على مجمل ما كانت تحمله هذه الحياة من قيم ومثل ومبادئ ومعتقدات ، أو من عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات ، أو من شرائع وقوانين ونظم ومؤسسات ، أو من أنماط المأكل والمشرب ، والتفاخر بحيوات الأمم الأخرى لا سيما حياة الأمة الفارسية ، فقد بالغت الشعوبية الحاقدة مبالغة كبيرة في إبراز عظمة تلك الحيوات الأعجمية ، مما لا يمت إلى الحقائق أو الوقائع التاريخية بصلة .
وعملت الشعوبية على تسريب مختلف الألوان الحياتية الأجنبية الغريبة والشاذة إلى الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، وعلى نشرها وتعميمها وإرساء قواعدها ، بحيث ينجم عن كل ذلك مسخ الحياة العربية القومية الأصيلة ، وبالتالي إسقاطها في مهاوي السلب والعقم والعطالة ، ذلك أن الحياة الإبداعية الخلاقة هي ما كانت منسوجة نسجاً إيجابياً قويماً من الأصالـة الذاتيـة الحقة (1) .
ـ 2 ـ
لقد حاولت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تصور الحياة العربية تصويراً شعوبياً حاقداً ، حيث أظهرت هذه الحياة ترفل بالتحلل الخلقي ، قائمة على الوحشية والعنف والجهل والجدب العلمي والإبداعي ، مبنية على التوكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة والالتزام والشعور بالمسؤولية ، وقد اتبعت الحكايات كعادتها في ذلك الكذب والتلفيق والتشويه والتزوير والتحريف ، فتوجهت إلى الصور المشرقة والحية الرائعة في الحياة العربية ، وعملت مكرها ودهاؤها في مسخ هذه الصور وطمس معالمها ، وأخذت من الصور السوداء الشاذة وكبرتها وضخمتها وسلطت الضوء عليها ، موحية بأن ليس للأمة العربية إلا هذه الصور الشوهاء .وغايتها من عملها هذا ، غاية شعوبية صرفة ، ألا وهي إثارة الشك وريبة في نفس الإنسان العربي اتجاه حياة أمته العربية وتشويه صورتها الرائعة في نفسه ووجدانه ، لدفعه من ثم دفعاً إلى أن يستصغر هذه الحياة واحتقارها واستهجانها ، ومن ثم نبذها وابتعاده عنها كلياً ، والبحث حن حياة غيرها من حيوات الأمم الأخرى ، وبهذا يكون قد قطع كل صلة تربطه بتلك الحياة ، ومن ثم تنقطع كل صلة له بأمته العربية ، عندئذ يتردى الإنسان العربي ،حتماً ، في مهاوي الضياع التي لا نجاة له منها مطلقاً ، حيث تصبح حياته كإنسان وحياته كأمـة ، على كف عفريت الاسـتلاب والاستعباد .
فصورت الحكايات ، الحياة العربية بأنها حياة متحللة ترفل بالعيوب اللاأخلاقية المنحطة ، وهذا التصوير الكاذب المفترى ، لا يستند إلى أي حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما يستند بالأساس إلى عقدة الإسقاط ، أي إضافة العيوب المرتبطة بالمجتمع الفارسي المتحلل إلى المجتمع العربي الإسلامي .
إن ما يوصف به المجتمع العربي الإسلامي في هذا الخصوص ، ليس إلا قطرة في محيط العقد اللاأخلاقية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفارسي إلى يومنا هذا ، يقول الدكتور شوقي ضيف في ذلك : وكان تأثير المزدكية في المجتمع الفارسي أشد عمقاً بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقي والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع في إباحية مسرفة (1) ، ومن مظاهر هذا التحلل الخلقي الزنا ، فقد عرف المجتمع الفارسي الزنا وكان متفشياً بين أبناء هذا المجتمع ، مألوفاً لديهم لا يستنكره منهم أحد ، بينما لم يحبذ أبناء الأمة العربية هذه الظاهرة اللاأخلاقية الذميمة ولم يألفوها في أي عصر من عصورهم الموغلة في القدم ، وكان أشرافهم في الجاهلية يُحذرون قومهم من الزنا ويذمونه وينهون عنه وقد كانت لهم وصايا تحذيرية كثيرة في ذلك ، حيث نرى في وصية دريد بن الصمة حين يقول : إيّاكم وفضيحة النساء فإنها عقوبة غد ،وعار أبد ،يكاد صاحبها يعاقب فـي حرمـه بمثلها ، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها(1).
لقد صورت الليالي ، الحياة العربية حياة داعرة عابثة وماجنة مستهترة ، تقوم على تحري اللذائذ الجنسية ومعاقرة الخمور وسماع الغناء وما هنالك من لهو خبيث ، فالإنسان العربي ، في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له هدف ولا غاية يبتغيها في هذه الحياة المنحلـة ،إلا الحصول على امرأة جميلة ذات وجـه حسن وصوت مغرد ، بأي شكل من الأشكال ، وبأي ثمن كان ، حتى لو كان في ذلك فقد ما لديه من مال أو فقدان روحه حتى ، وينسى عند ذلك والديه وأولاده ، كل ذلك لإشباع غريزته الجنسية الحيوانية ، لذا صورة الحكايات ، المرأة في نظر العربي ، على أنها متاع بل من سقط متاع الدنيا ، تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، وتنهب ويسلب عفافها دون رادع من خلق أو دين ، فهي موضوع الجنس وأنها مسلوبة الإرادة أمام الرجل لا تستطيع دفع أو مقاومة الإغراء الجنسي .
فهذه حكاية مزين بغداد تظهر لنا هذا الاندفاع الجنسي عند المرأة العربية ، فهاهي زوجة البدوي تراود أخا مزين بغداد عن نفسه ، مع بشاعته التي تصفها لنا الحكاية ، وتستمر المرأة العربية بمحاولتها مع هذا القبيح ، حتى بعد أن يقوم زوجها بقطع شفتيه مما يزيده قبحاً على قبح يقول المزين[وكان للبدوي زوجة راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره](1) .
وأكثرت الحكايات من التغزل بالنساء ، أمعنت في الإفحاش بهذا الغزل الذي لم يعرف له مثيل عند العرب على الإطلاق ، ومرجع هذا الفحش كما يقول أحمد أمين : وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان ، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به ، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم ، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر ، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعاً ، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة(2) ، وفعلاً نرى هذا القول ينطبق كل الانطباق على حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، فهي من وضع وإخراج فارسي حتماً وبلا أدنى شك ، وذلك بما تحمله من روح فارسية ، ثم أن جميع الشعر المذكور في أحداث الحكايات ، أما أن يكون من وضع شاعر فارسي شعوبي كأبي نواس ، وأما أن يكون شعراً محرفاً ، قام بتحريفه واضعو هذه الحكايات ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، تدفع المرأة بالفعل إلى انتهاج نهج الدعارة والفجور ، وتلطف هذا المنهج لها وتحببه على قلبها ، وتهونه في عينيها ، كما أنها تدل وترشد المرأة على السبيل التي يمكن لها عن طريقها انتهاج هذا المنهج اللاإنساني الأسود .
وليست حياة العربي في الحكايات وقفاً على الانحلال الخلقي ، من خلال امتهان إنسانية المرأة ، بل هي مبنية أيضاً على معاقرة الخمور وسماع الغناء ، فلا تحلو حياة الإنسان العربي ولا ينال السعادة والفرح والسرور ولا يهنأ بعيش ، ما لم يجتمع له الوجه الحسن والكأس المرجرج المشعشع ؛ حسب تعبير الحكايات ؛ والصوت الطروب ، فيقضي الإنسان العربي ، من عليَّة القوم كان أم من عامتهم ، أيامه ولياليه في التحري عن هذا الثالوث ، لا يشغله شاغل في مسائه وصباحه ومستقره وترحاله ، إلا كيف الحصول على هذا الثالوث الغير مقدس، فإن ناله نسي كل شيء ، نسي الرعية إن كان خليفة أو أمير مثل ما جرى للخليفة هارون الرشيد ، كما تقول الحكاية : [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاظي وقعد شهراً كاملاً لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ](1) . ونسـي تجارته إن كان تاجراً ، ونسي عمله إن كان عاملاً ، بل أنه ينسى حتى دينه ، فلا عبادة ولا تعبد طالما هو في مجلس الأنس والجواري الحسان ، ويتمنى في قرارة نفسه أن يقضي بقية عمره على حاله هذا وفي مجلسه الذي يجلسه ، وكأنه قد جبل على ألفة هذا الثالوث اللعين جبلة فطرية .
هذا هو الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، وشتان ما بين هذا الكذب والتزوير ، وبين الحقيقة التي عُرف بها الإنسان العربي ، فقد عُرف هذا الإنسان من خلال تاريخه الطويل الحي ، بالعمل الدؤوب والسعي الدائم في توفير مستلزمات حياته الإنسانية ، وعرف بخشونة الحياة التي يحياها من خلال تجواله الدائم في أرجاء صحرائه الشاسعة ، التي أمدته ببساطة عيشه وفطرية حياته وعلو قيَّمه وسمو أخلاقه ، فلا يرضى أن يتخلى عن طبيعته قط ، حتى ولو كان في أعلى مراتب الغنى وبسط الحال والاقتدار ، روى ابن خلدون في تاريخه ، أن الحجاج بن يوسف الثقفي أَولَمَ في ختان بعض ولده ، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس ، وقال : أخبرني بأعظم صنيع شهدته ، فقال له : نعم أيها الأمير ، شهدت بعض مرازبة كسرى ، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ـ أربعاً على كل واحد ـ وتحمله وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس ، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ، فقال الحجاج : يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس (1) ، كأن الحجاج رأى في هذه العادة الفارسية ما يعارض طبيعته العربية ، لما فيها من إسراف وفخفخة كاذبة لا تستسيغها النفس العربية ، فنفر منها إلى عادات قومه وطبيعتهم .
فإذا كانت الحياة العربية عرفت مثل هذا الإسراف والمجون واللهو الخبيث ، فهي حتماً ظاهرة دخيلة على الحياة العربية الأصيلة ، ابتلت بها مما ابتلت بغيرها أبان عصور ضعف سلطان النفوذ العربي وتعاظم نفوذ السلطان الأجنبي ، [وعظم سلطان الفرس في عصره – هارون الرشيد – وعلى رأسهم البرامكة ، والفرس من قديم الزمان يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور ، والإفراط في حب النبيذ ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ وتجعله من شعائرها ، ولا يزال النبيذ كما يقول الأستاذ براون إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية ، كان الفرس قديماً يفرطون في شرب النبيذ ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء ، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب واللهو الخبيث ، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية ، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون ، نشـروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة ومـا كان فيهـا من لهو وعبث ](1) .
إذاً ، فإن هذه الحياة العابثة الماجنة التي صورتها الحكايات على أنها الحياة العربية الإسلامية ذاتها ، ما هي إلا صورة كاذبة ملفقة مفترية ، لأن الحقيقة تقول بأنها حياة غريبة كل الغرابة ولا تمت بصلة لحياة الأمة العربية ، وما هي إلا مظهر أصيل من مظاهر الحياة الفارسية المنحطة ، أسقطت عيوبها على حياة الأمة العربية مِن قِبَل مَن وضعوا وصنفوا حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، نعم أنها حياة الأمة الفارسية التي أَلِفَ أبناء جلدتها حياة الترف والفجور وعب الخمور منذ أقدم العصور ، وأفرطوا في طلب كل الملذات وخاصة الخبيثة منها وتفننوا في تحريها وابتدعوا السبل الخبيثة للوصول إليها ، ووضعوا الأساليب لممارستها .
ـ 3 ـ
ظهرت الحياة العربية في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، حياة قاحلة قاسية لا علم فيها ولا تعلم ، ولا نظام ينظمها ولا انضباط يضبطها ، ولا أمان ولا استقرار فيها ، حياة بدائية حيوانية تقوم بمجملها على الفوضى والجهل ، وتسيطر عليها شريعة الغاب الغاشمة ، جهل مطبق يسيطر على جميع مناحي هذه الحياة ، لا أثر للعلم ولا للعلماء فيها ، وكل ما يناله الإنسان العربي من العلم ، حفظ بعض آيات من القرآن الكريم ، يحفظها في صغره بمساعدة والديه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما الخاصة من العرب ، وبالذات الذين يدعون العلم والمعرفة ، فليس لديهم ؛ في الحكايات ؛ من سمات العلماء شيء ولا يملكون من العلم إلا الادعاء ، وبعض المظاهر الكاذبة التي يظهرونها للعامة لإقناعهم بأنهم أهل علم ومعرفة سرعان ما ينكشف أمرهم ما امتحنوا ، حتى ولو من قبل عاهرة فارسية ، كالجارية الفارسية تودد ، فهي تستطيع وبكل يسر التغلب عليهم وتسفيه آراء جمع منهم والزراية بهم وبعلمهم ، ولو كان النظام بن سيار بعلمه الواسع من بينهم ؛ كما تقول الحكاية ؛ أما فقهاء العرب في الدين ، فهم لا يفقهون شيئاً لا في أمور دينهم ولا دنياهم ، ليس لهم عمل إلا التحايل ؛ باسم الدين ؛ على حل المشاكل المخزية التي يقع بها ولاة نعمهم من خلفاء وحكام وأمراء وأثرياء ، بسبب طيشهم وحمقهم وطغيانهم ، حيث يقوم الفقيه بدور حلال مشاكل هؤلاء الخلفاء والحكام والأمراء والأثرياء ، بإيجاد الفتاوى المناسـبة لها ؛ نادراً ما تكون هذه الفتاوى متطابقـة ونصوص الشريعة ؛ لينقذ ولي نعمته من الوقوع بالإحراج أمام الناس ، قاصداً الاستفادة المادية والقربة وينسى الله وغضبه عليه . هذا ما نراه بوضوح عندما تذكر الحكايات في أحداثها الفقيه الجليل أبو يوسف الأنصاري وأمثاله ، فهم يقومون بالإفتاء ، لا من أجل الشريعة ورب الشريعة ، بل تقرباً من ذوي السلطان لكسب شيء من حطام الدنيا .
أما إذا ما ذكر علم من العلوم ، في الحكايات ، فلا يذكر إلا على لسان جارية من الجواري ، وعلى الخصوص ذوات الأصول الفارسية ، فهم عارفات بجميع العلوم ، الدينية والفلسفية واللغوية والفقهية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم أخرى ، أو على لسان وزير يصرح بأعجميته الفارسية ، كالوزير شماس ، أو على لسان ابن ملك فارسي ، كورد خان ابن الملك جلعان . لقد أرادت الحكايات من ذلك إظهار ؛ حسب زعمها ؛ ما تعانيه الحياة العربية من جهل وتخلف ، ومن ثم توجيه الإهانات بشكل مباشر لعلماء الأمة العربية وفقهائها والاستهزاء بهم إلى أبعد ما يكون الاستهزاء ، وبعد أن فعلت ذلك ، عملت على إظهار تفوق الأمة الفارسية في المجال العلمي وأنه حكر عليها ، وإن فارق السلطان هذه الأمة فإن العلم والمعرفة ما زالا لها وحدها وليس للعرب لهم منه شيء البتة .
كما صورت الحكايات ، الحياة العربية الإسلامية ، بالحياة المملوءة بالخوف والرعب ، لا أمان فيها ولا استقرار ، حياة تسودها شريعة الغاب الغاشمة ، القوي فيها يأكل الضعيف ، وفيها تنتهك الأعراض ، حياة يتلاعب بها اللصوص وقطاع الطرق،ويسيطر على مقدراتها المحتالين والشطار [ يا ولدي لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار كثير وتنبت فيها الشطارة كما تنبت البقل في الأرض ] يعيثون في الأرض فساداً ويتلاعبون بمصائر الناس ، ينهبون أموالهم ويسلبون أرزاقهم ، ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ويزهقون أرواحهم ، ليس للناس منهم ولي ولا نصير ، لا من سلطان ولا من أمير .
حياة ، ليس فيها شيء مصان ، فأعراض الناس مباحة ، تنهب نساؤهم وتغتصب حرائرهم لتهدى لخليفة أو أمير ، ليحظى الفاعل برضى هذا الخليفة أو ذاك الأمير ، دون اعتبار لخلق أو دين ، وتذكر لنا الحكايات مثل على ذلك في حكاية الحجاج بن يسف الثقفي مع الجارية ( نعم ) ، والمال عرضة للنهب والاستلاب من قبل ولي الأمر ، لنـزوة تعتريهم أو غضب يلم بهم على أحد أبناء الرعية ، فهذا الأمير محمد بن سلمان عامل هارون الرشيد على دمشق يأمر بنهب دار غانم بن أيوب ، لأن الخليفة قد غضب عليه [ ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليـه بدار غانم بن أيوب ](1) .
حياة تسيطر عليها الفوضى والضياع ، الحكام في واد والرعية في واد ، الحكام طغاة ظالمون ، في ملذاتهم لاهون ، عن أمور رعيتهم ساهون ، القضاة مرتشون شهوانيون لا هم لهم غير كنز المال والتحايل على النساء ، لا يميزون بين الحلال والحرام ، والرعية وحدها تدفع الثمن ، أفرادها يصطلون بنار ظلم وجور الحكام ، واقعون تحت رحمة أقوياء غاشمون ، يُقتلون ويُسلبون يُعرون ويجوعون ، لا يجدون لهم في هذه الحياة البائسة السالبة ، التي غابت عنها معاني الإنسانية ، ولياً ولا نصيراً .
وعلى هذا فإن الحياة العربية التي صورتها الحكايات ، ما هي إلا حياة حيوانية لا تمت بصلة إلى حيوات البشر ، حياة غابة يقطنها وحوش كواسر ، تتصف بالغشم واللؤم والشرسة ، وتتسم بحب سفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ، القوي يأكل الضعيف بدون رحمة ولا شفقة ، حياة تشمئز منها النفس البشرية السوية ، ويأبى الانتماء إليها أي مخلوق ، ومن ذا الذي يرغب أن ترتبط حياته بمثل هذه الحياة البهيمية ؟ لهذا كله كانت الحياة العربية في الحكايات ، حياة قاسية يسيطر عليها الخوف والجهل ، وتنتشر فيها مظاهر الدجل والتخريف والتعلق بالأسباب الموهومة في الحصول على الرغائب ، لعجز الإنسان عن تحصيلها بالوسائل المعقولة ، واعتقاد عامة الناس بالسحر والطلاسم والبحث عن الكنوز المخبوءة ، ونحو ذلك من مظاهر الدجل والتخريف .
هكذا أراد واضعو الحكايات ، أن يظهروا هذا الجانب من حياة الأمة العربية ، والحق يقال : لقد أبدعوا هؤلاء الشعوبيون ، الوصف وأتقنوا التزوير والتهويل ، حتى يكاد أن يحسبها المتلقي حقيقة لا جدال فيها من حقائق الحياة العربية .
ـ 4 ـ
وعمدت الحكايات إلى إظهار الحياة العربية ، بأنها حياة قائمة على التوكل والبطالة ، والركون إلى القضاء والقدر ، أي أنها حياة سالبة ، تفتقر للمثابرة والإيجابية ، وتتسم بالعدمية واللامسئولية ، حياة موات جامدة بعيدة عن العطاء والفاعلية ، وذلك بما أشاعته الحكايات في مجريات أحداثها لمبدأ الجبرية ، الذي هو أحد أسـلحة الشعوبية الفتاكة الذي أشـهرته بوجه الحياة العربية الإسلامية بخاصة ، وبوجه كل ما يمت للدين الإسلامي بعامة . حيث جردت الإنسـان العربي ، بهذا المبدأ ، مـن حريـة الاختيار ؛ اختيار أفعاله وأعماله ؛ ولم تترك له أثراً شخصياً في تصرفاته [ وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](1) .
الحقيقة أن هذا المبدأ ، من ابتداع رجال منحدرين من أصل فارسي ، ينتسبون إلى الإسلام زوراً ، وهم حاقدون على الأمة العربية وعلى دينها الإسلامي الحنيف ؛ مثل جهم بن صفوان وأضرابه ؛ ممن أطلق عليهم تسمية الجبرية ،حيث قالت هذه الجماعة الضالة المضللة : أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فأنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى غير الله فسبيله إعجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس(2) . وغايتهم من إشاعة هذا المبدأ ، في المجتمع العربي ووصمه به ، ما هي في الحقيقة إلا كيدٌ للدين الإسلامي الحنيف وتشويهٌ لمبادئه الإلهية العظمى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تعطيل مسيرة الحياة العربية الخلاقة ،حيث أن هذا المبدأ الفارسي ، [ مـن التعاليم الهدامـة التي كانت تدعو إلى البطالـة والتواكل
والركون إلى القدر من غير عمل حتى تصاب الأمـة العربيـة

بشـلل اقتصادي وتلك هي رغبة الموالي ](1).
ولا يقتصر هذا المبدأ الشعوبي الهدام على إشاعة الكسل والخمول في المجتمع العربي فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى الإباحية ، وهو ما تقول به الديانة الفارسية القديمة [ كانت النظرية الزورانية التي شاعت أيام الساسانيين وبالاً على الدين إذ بثت فكرة الجبر وهي السم الزعاف للديانة المزدية ](2) ، هذا ما تريده الشعوبية للمجتمع العربي ، ذلك لأن مبدأ الجبر يهيئ أسباب الرذيلة والفساد للإنسان ، ويُسَوِّغ له ارتكاب الخطيئة والإثم ما دام مسيراً غير مخير ،وأفعاله كلها من عند الله وبالكتاب مسطور ، فإن زنى الزاني فذلك بقضاء الله ، فهذه صبية تزني مع حشـاش تقول :[فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان من قضاء الله عليـا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](3) .
هذه الجبرية المطلقة التي وصف بها الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، والتي أريد بها إظهاره بمظهر حيواني بحت ، ومن ثم دفعه دفعاً للانغماس في ملذاته وشهواته الدونية ، والوصول به إلى الغاية الشعوبية الهدامة ، من خلال إلغاء دور هذا الإنسان الحضاري المثال ، والحد من مساهمته الإيجابية الفعالة في ديمومة الحياة والبناء الحضاري ، ونشر رسالة الإسلام الخالدة ، إن هذه الجبرية لم تكن إلا من ابتداع الشعوبية مستلهمة من تراث الفرس الفكري
# # # #
إن هذه الحكايات الشعوبية في حديثها عن الحياة العربية الإسلامية ، وتصوير سلبياتها ، مالت بكل وضوح إلى التضخيم والتهويل مع الكذب والتزوير والافتراء وإنكار إيجابيات هذه الحياة ، والدافع من وراء ذلك ، أن هذا التضخم في سلبيات الحياة العربية مرده عقدة الإسقاط ،كما وضحنا سابقاً ، ومن ثم نظرة الاستعلاء العنصري المسيطرة على الفرس .

عبد اللطيف ذياب أحمد
11/03/2011, 11:53 AM
( الجزء الخامس

الباب الخامس
حياة العرب الاجتماعية
في ألف ليلة وليلة

تمثل الحياة العربية الحقة الوجود العربي الحق ، ويمثل الوجود العربي الحق الماهية العربية الحقة ، بمقوماتها الأساسية ، التي هي الجنس والأرض واللغة والدين والتاريخ ، كما تمثل خصائصها الأصيلة المتمثلة في : التأليهية المُوَّحِدَة والمثالية المثابرة والروحانية الصافية والأخلاقية العالية والإنسانية الخيرة والحضارية البناءة . فالحياة العربية الحقة ما هي إلا التجسيد الحقيقي والحي لحقيقة الأمة العربية التي هي القومية العربية عينها ، بكل مقوماتها وسماتها وخصائصها ومميزاتها وأركانها . كما تمثل ؛ هذه الحياة الأصيلة ؛ حياة الطهر والبراءة والصفاء والنقاء والتعالي والسمو والروحية والمعنوية والسماوية والأخروية . كما أنها تمثل حياة البساطة الإنسانية الموجبة ، في طبيعتها الفطرية وعفويتها ، وفي اعتدالها واتزانها ، وفي تعادلها وتوازنها .
ومن هنا ، فإن هذه الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، إذ تنشد التحضر ، تنشده حقيقة وحقاً لا زيفاً وباطلاً ، وجوهراً ومضموناً لا عرضاً وشكلاً ، أي تنشده تحضراً في الروح والقلب والعقل والضمير والذوق والشعور ، لا تحضراً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والاستماع (1) .
وقد هال الشعوبية هذا السمو في الحياة العربية ، فأخذ دعاتها يوجهون دسائسهم ويعملون نفاقهم ويلفقون أكاذيبهم في تشويه هذه الحياة الرائعة ومسخها ، وقد تستروا وراء التجاوب الحضاري بين الأمة العربية والأمم الأخرى ، وخاصة الأمة الفارسية منها ، بأن عمدوا إلى نشر المظاهر البريئة ، مثل وضع نظم جديدة لآداب المائدة وإدخال أذواق أخرى من الملبس المأكل وبناء المسكن ، إلى غير ذلك من آداب الحديث ، وترتيب المجالس والندوات ، وأشباهها من ضروب مظاهر الحياة الاجتماعية الفارسية [ 00 فتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني ] (2) .
وبدأت الحياة العربية تشاهد سيلاً من الاقتباسات الفارسية في الشؤون الاجتماعية ، لم تلبث أن بدأت تتلوث بجراثيم دعاة الشعوبية القاتلة ، فأخذ الشعوبيون يعملون رويداً رويداً على أن تتحول ؛ مثلاً ؛ آداب المائدة وتعاليمها الجديدة إلى سموم تنفث في جسد المجتمع العربي الإسلامي ، ومعاول تهدم تقاليد العربي في هذا الميدان المعروف ببساطته عند أبناء الأمة العربية واحترامه للفطرة السليمة . ونشر الأذواق في الملبس بما يؤدي إلى ازدياد الأناقة ازدياداً مفرطاً تحوِّل صاحبها إلى مرتبة التخنث وتبعده كلياً عن المظهر الرجولي الذي ألفه العربي في بساطة ملبسه ، وما تنطوي عليه هذه البساطة من دلائل الرجولة الكاملة وهيبتها ، التي تدعو إلى الاحترام والتوقير . ولم تقف الشعوبية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى ما هو أدهى وأشد من التأنق بالملبس والمأكل ، لإفساد الحياة العربية الأصيلة ، إذ عمدت إلى نشر كل ما صاحب حياة الأمة الفارسية من انحلال ، مثل الإقبال المفرط على معاقرة الخمور جهاراً والانغماس في الملذات الجنسية المفرطة بدون حياء ، حتى يصبح الفرد عبداً لغرائزه الدونية وأسيراً لنزواته الجسدية الرخيصة ، ليكون في ذلك ، ضيق الأفق سلبي العطاء ، لا يقدر على أن يتبين مواضع الغي من الرشد .
ومنذ أن انطلقت الحياة العربية الجديدة ، بعد التحامها المصيري بعقيدة العرب الكبرى ، التي هي الإسلام ، في مسار كينونتها التكاملية التفاعلية الكبرى ، القائمة على التطور الوجودي الخلاق ، انطلقت الشعوبية ؛ الحاقدة ؛ بدورها تعمل على تخريب هذه الحياة ، داخلاً وخارجاً وظاهراً وباطناً ، لتحول بينها وبين بلوغها منتهى كمالها الإنساني الحضاري المنشود .
وقد تركز نشاط الشعوبية التخريبي للحياة العربيـة بالتهجم
الشديد على مجمل ما كانت تحمله هذه الحياة من قيم ومثل ومبادئ ومعتقدات ، أو من عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات ، أو من شرائع وقوانين ونظم ومؤسسات ، أو من أنماط المأكل والمشرب ، والتفاخر بحيوات الأمم الأخرى لا سيما حياة الأمة الفارسية ، فقد بالغت الشعوبية الحاقدة مبالغة كبيرة في إبراز عظمة تلك الحيوات الأعجمية ، مما لا يمت إلى الحقائق أو الوقائع التاريخية بصلة .
وعملت الشعوبية على تسريب مختلف الألوان الحياتية الأجنبية الغريبة والشاذة إلى الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، وعلى نشرها وتعميمها وإرساء قواعدها ، بحيث ينجم عن كل ذلك مسخ الحياة العربية القومية الأصيلة ، وبالتالي إسقاطها في مهاوي السلب والعقم والعطالة ، ذلك أن الحياة الإبداعية الخلاقة هي ما كانت منسوجة نسجاً إيجابياً قويماً من الأصالـة الذاتيـة الحقة (1) .
ـ 2 ـ
لقد حاولت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تصور الحياة العربية تصويراً شعوبياً حاقداً ، حيث أظهرت هذه الحياة ترفل بالتحلل الخلقي ، قائمة على الوحشية والعنف والجهل والجدب العلمي والإبداعي ، مبنية على التوكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة والالتزام والشعور بالمسؤولية ، وقد اتبعت الحكايات كعادتها في ذلك الكذب والتلفيق والتشويه والتزوير والتحريف ، فتوجهت إلى الصور المشرقة والحية الرائعة في الحياة العربية ، وعملت مكرها ودهاؤها في مسخ هذه الصور وطمس معالمها ، وأخذت من الصور السوداء الشاذة وكبرتها وضخمتها وسلطت الضوء عليها ، موحية بأن ليس للأمة العربية إلا هذه الصور الشوهاء .وغايتها من عملها هذا ، غاية شعوبية صرفة ، ألا وهي إثارة الشك وريبة في نفس الإنسان العربي اتجاه حياة أمته العربية وتشويه صورتها الرائعة في نفسه ووجدانه ، لدفعه من ثم دفعاً إلى أن يستصغر هذه الحياة واحتقارها واستهجانها ، ومن ثم نبذها وابتعاده عنها كلياً ، والبحث حن حياة غيرها من حيوات الأمم الأخرى ، وبهذا يكون قد قطع كل صلة تربطه بتلك الحياة ، ومن ثم تنقطع كل صلة له بأمته العربية ، عندئذ يتردى الإنسان العربي ،حتماً ، في مهاوي الضياع التي لا نجاة له منها مطلقاً ، حيث تصبح حياته كإنسان وحياته كأمـة ، على كف عفريت الاسـتلاب والاستعباد .
فصورت الحكايات ، الحياة العربية بأنها حياة متحللة ترفل بالعيوب اللاأخلاقية المنحطة ، وهذا التصوير الكاذب المفترى ، لا يستند إلى أي حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما يستند بالأساس إلى عقدة الإسقاط ، أي إضافة العيوب المرتبطة بالمجتمع الفارسي المتحلل إلى المجتمع العربي الإسلامي .
إن ما يوصف به المجتمع العربي الإسلامي في هذا الخصوص ، ليس إلا قطرة في محيط العقد اللاأخلاقية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفارسي إلى يومنا هذا ، يقول الدكتور شوقي ضيف في ذلك : وكان تأثير المزدكية في المجتمع الفارسي أشد عمقاً بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقي والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع في إباحية مسرفة (1) ، ومن مظاهر هذا التحلل الخلقي الزنا ، فقد عرف المجتمع الفارسي الزنا وكان متفشياً بين أبناء هذا المجتمع ، مألوفاً لديهم لا يستنكره منهم أحد ، بينما لم يحبذ أبناء الأمة العربية هذه الظاهرة اللاأخلاقية الذميمة ولم يألفوها في أي عصر من عصورهم الموغلة في القدم ، وكان أشرافهم في الجاهلية يُحذرون قومهم من الزنا ويذمونه وينهون عنه وقد كانت لهم وصايا تحذيرية كثيرة في ذلك ، حيث نرى في وصية دريد بن الصمة حين يقول : إيّاكم وفضيحة النساء فإنها عقوبة غد ،وعار أبد ،يكاد صاحبها يعاقب فـي حرمـه بمثلها ، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها(1).
لقد صورت الليالي ، الحياة العربية حياة داعرة عابثة وماجنة مستهترة ، تقوم على تحري اللذائذ الجنسية ومعاقرة الخمور وسماع الغناء وما هنالك من لهو خبيث ، فالإنسان العربي ، في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له هدف ولا غاية يبتغيها في هذه الحياة المنحلـة ،إلا الحصول على امرأة جميلة ذات وجـه حسن وصوت مغرد ، بأي شكل من الأشكال ، وبأي ثمن كان ، حتى لو كان في ذلك فقد ما لديه من مال أو فقدان روحه حتى ، وينسى عند ذلك والديه وأولاده ، كل ذلك لإشباع غريزته الجنسية الحيوانية ، لذا صورة الحكايات ، المرأة في نظر العربي ، على أنها متاع بل من سقط متاع الدنيا ، تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، وتنهب ويسلب عفافها دون رادع من خلق أو دين ، فهي موضوع الجنس وأنها مسلوبة الإرادة أمام الرجل لا تستطيع دفع أو مقاومة الإغراء الجنسي .
فهذه حكاية مزين بغداد تظهر لنا هذا الاندفاع الجنسي عند المرأة العربية ، فهاهي زوجة البدوي تراود أخا مزين بغداد عن نفسه ، مع بشاعته التي تصفها لنا الحكاية ، وتستمر المرأة العربية بمحاولتها مع هذا القبيح ، حتى بعد أن يقوم زوجها بقطع شفتيه مما يزيده قبحاً على قبح يقول المزين[وكان للبدوي زوجة راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره](1) .
وأكثرت الحكايات من التغزل بالنساء ، أمعنت في الإفحاش بهذا الغزل الذي لم يعرف له مثيل عند العرب على الإطلاق ، ومرجع هذا الفحش كما يقول أحمد أمين : وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان ، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به ، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم ، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر ، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعاً ، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة(2) ، وفعلاً نرى هذا القول ينطبق كل الانطباق على حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، فهي من وضع وإخراج فارسي حتماً وبلا أدنى شك ، وذلك بما تحمله من روح فارسية ، ثم أن جميع الشعر المذكور في أحداث الحكايات ، أما أن يكون من وضع شاعر فارسي شعوبي كأبي نواس ، وأما أن يكون شعراً محرفاً ، قام بتحريفه واضعو هذه الحكايات ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، تدفع المرأة بالفعل إلى انتهاج نهج الدعارة والفجور ، وتلطف هذا المنهج لها وتحببه على قلبها ، وتهونه في عينيها ، كما أنها تدل وترشد المرأة على السبيل التي يمكن لها عن طريقها انتهاج هذا المنهج اللاإنساني الأسود .
وليست حياة العربي في الحكايات وقفاً على الانحلال الخلقي ، من خلال امتهان إنسانية المرأة ، بل هي مبنية أيضاً على معاقرة الخمور وسماع الغناء ، فلا تحلو حياة الإنسان العربي ولا ينال السعادة والفرح والسرور ولا يهنأ بعيش ، ما لم يجتمع له الوجه الحسن والكأس المرجرج المشعشع ؛ حسب تعبير الحكايات ؛ والصوت الطروب ، فيقضي الإنسان العربي ، من عليَّة القوم كان أم من عامتهم ، أيامه ولياليه في التحري عن هذا الثالوث ، لا يشغله شاغل في مسائه وصباحه ومستقره وترحاله ، إلا كيف الحصول على هذا الثالوث الغير مقدس، فإن ناله نسي كل شيء ، نسي الرعية إن كان خليفة أو أمير مثل ما جرى للخليفة هارون الرشيد ، كما تقول الحكاية : [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاظي وقعد شهراً كاملاً لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ](1) . ونسـي تجارته إن كان تاجراً ، ونسي عمله إن كان عاملاً ، بل أنه ينسى حتى دينه ، فلا عبادة ولا تعبد طالما هو في مجلس الأنس والجواري الحسان ، ويتمنى في قرارة نفسه أن يقضي بقية عمره على حاله هذا وفي مجلسه الذي يجلسه ، وكأنه قد جبل على ألفة هذا الثالوث اللعين جبلة فطرية .
هذا هو الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، وشتان ما بين هذا الكذب والتزوير ، وبين الحقيقة التي عُرف بها الإنسان العربي ، فقد عُرف هذا الإنسان من خلال تاريخه الطويل الحي ، بالعمل الدؤوب والسعي الدائم في توفير مستلزمات حياته الإنسانية ، وعرف بخشونة الحياة التي يحياها من خلال تجواله الدائم في أرجاء صحرائه الشاسعة ، التي أمدته ببساطة عيشه وفطرية حياته وعلو قيَّمه وسمو أخلاقه ، فلا يرضى أن يتخلى عن طبيعته قط ، حتى ولو كان في أعلى مراتب الغنى وبسط الحال والاقتدار ، روى ابن خلدون في تاريخه ، أن الحجاج بن يوسف الثقفي أَولَمَ في ختان بعض ولده ، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس ، وقال : أخبرني بأعظم صنيع شهدته ، فقال له : نعم أيها الأمير ، شهدت بعض مرازبة كسرى ، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ـ أربعاً على كل واحد ـ وتحمله وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس ، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ، فقال الحجاج : يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس (1) ، كأن الحجاج رأى في هذه العادة الفارسية ما يعارض طبيعته العربية ، لما فيها من إسراف وفخفخة كاذبة لا تستسيغها النفس العربية ، فنفر منها إلى عادات قومه وطبيعتهم .
فإذا كانت الحياة العربية عرفت مثل هذا الإسراف والمجون واللهو الخبيث ، فهي حتماً ظاهرة دخيلة على الحياة العربية الأصيلة ، ابتلت بها مما ابتلت بغيرها أبان عصور ضعف سلطان النفوذ العربي وتعاظم نفوذ السلطان الأجنبي ، [وعظم سلطان الفرس في عصره – هارون الرشيد – وعلى رأسهم البرامكة ، والفرس من قديم الزمان يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور ، والإفراط في حب النبيذ ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ وتجعله من شعائرها ، ولا يزال النبيذ كما يقول الأستاذ براون إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية ، كان الفرس قديماً يفرطون في شرب النبيذ ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء ، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب واللهو الخبيث ، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية ، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون ، نشـروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة ومـا كان فيهـا من لهو وعبث ](1) .
إذاً ، فإن هذه الحياة العابثة الماجنة التي صورتها الحكايات على أنها الحياة العربية الإسلامية ذاتها ، ما هي إلا صورة كاذبة ملفقة مفترية ، لأن الحقيقة تقول بأنها حياة غريبة كل الغرابة ولا تمت بصلة لحياة الأمة العربية ، وما هي إلا مظهر أصيل من مظاهر الحياة الفارسية المنحطة ، أسقطت عيوبها على حياة الأمة العربية مِن قِبَل مَن وضعوا وصنفوا حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، نعم أنها حياة الأمة الفارسية التي أَلِفَ أبناء جلدتها حياة الترف والفجور وعب الخمور منذ أقدم العصور ، وأفرطوا في طلب كل الملذات وخاصة الخبيثة منها وتفننوا في تحريها وابتدعوا السبل الخبيثة للوصول إليها ، ووضعوا الأساليب لممارستها .
ـ 3 ـ
ظهرت الحياة العربية في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، حياة قاحلة قاسية لا علم فيها ولا تعلم ، ولا نظام ينظمها ولا انضباط يضبطها ، ولا أمان ولا استقرار فيها ، حياة بدائية حيوانية تقوم بمجملها على الفوضى والجهل ، وتسيطر عليها شريعة الغاب الغاشمة ، جهل مطبق يسيطر على جميع مناحي هذه الحياة ، لا أثر للعلم ولا للعلماء فيها ، وكل ما يناله الإنسان العربي من العلم ، حفظ بعض آيات من القرآن الكريم ، يحفظها في صغره بمساعدة والديه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما الخاصة من العرب ، وبالذات الذين يدعون العلم والمعرفة ، فليس لديهم ؛ في الحكايات ؛ من سمات العلماء شيء ولا يملكون من العلم إلا الادعاء ، وبعض المظاهر الكاذبة التي يظهرونها للعامة لإقناعهم بأنهم أهل علم ومعرفة سرعان ما ينكشف أمرهم ما امتحنوا ، حتى ولو من قبل عاهرة فارسية ، كالجارية الفارسية تودد ، فهي تستطيع وبكل يسر التغلب عليهم وتسفيه آراء جمع منهم والزراية بهم وبعلمهم ، ولو كان النظام بن سيار بعلمه الواسع من بينهم ؛ كما تقول الحكاية ؛ أما فقهاء العرب في الدين ، فهم لا يفقهون شيئاً لا في أمور دينهم ولا دنياهم ، ليس لهم عمل إلا التحايل ؛ باسم الدين ؛ على حل المشاكل المخزية التي يقع بها ولاة نعمهم من خلفاء وحكام وأمراء وأثرياء ، بسبب طيشهم وحمقهم وطغيانهم ، حيث يقوم الفقيه بدور حلال مشاكل هؤلاء الخلفاء والحكام والأمراء والأثرياء ، بإيجاد الفتاوى المناسـبة لها ؛ نادراً ما تكون هذه الفتاوى متطابقـة ونصوص الشريعة ؛ لينقذ ولي نعمته من الوقوع بالإحراج أمام الناس ، قاصداً الاستفادة المادية والقربة وينسى الله وغضبه عليه . هذا ما نراه بوضوح عندما تذكر الحكايات في أحداثها الفقيه الجليل أبو يوسف الأنصاري وأمثاله ، فهم يقومون بالإفتاء ، لا من أجل الشريعة ورب الشريعة ، بل تقرباً من ذوي السلطان لكسب شيء من حطام الدنيا .
أما إذا ما ذكر علم من العلوم ، في الحكايات ، فلا يذكر إلا على لسان جارية من الجواري ، وعلى الخصوص ذوات الأصول الفارسية ، فهم عارفات بجميع العلوم ، الدينية والفلسفية واللغوية والفقهية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم أخرى ، أو على لسان وزير يصرح بأعجميته الفارسية ، كالوزير شماس ، أو على لسان ابن ملك فارسي ، كورد خان ابن الملك جلعان . لقد أرادت الحكايات من ذلك إظهار ؛ حسب زعمها ؛ ما تعانيه الحياة العربية من جهل وتخلف ، ومن ثم توجيه الإهانات بشكل مباشر لعلماء الأمة العربية وفقهائها والاستهزاء بهم إلى أبعد ما يكون الاستهزاء ، وبعد أن فعلت ذلك ، عملت على إظهار تفوق الأمة الفارسية في المجال العلمي وأنه حكر عليها ، وإن فارق السلطان هذه الأمة فإن العلم والمعرفة ما زالا لها وحدها وليس للعرب لهم منه شيء البتة .
كما صورت الحكايات ، الحياة العربية الإسلامية ، بالحياة المملوءة بالخوف والرعب ، لا أمان فيها ولا استقرار ، حياة تسودها شريعة الغاب الغاشمة ، القوي فيها يأكل الضعيف ، وفيها تنتهك الأعراض ، حياة يتلاعب بها اللصوص وقطاع الطرق،ويسيطر على مقدراتها المحتالين والشطار [ يا ولدي لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار كثير وتنبت فيها الشطارة كما تنبت البقل في الأرض ] يعيثون في الأرض فساداً ويتلاعبون بمصائر الناس ، ينهبون أموالهم ويسلبون أرزاقهم ، ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ويزهقون أرواحهم ، ليس للناس منهم ولي ولا نصير ، لا من سلطان ولا من أمير .
حياة ، ليس فيها شيء مصان ، فأعراض الناس مباحة ، تنهب نساؤهم وتغتصب حرائرهم لتهدى لخليفة أو أمير ، ليحظى الفاعل برضى هذا الخليفة أو ذاك الأمير ، دون اعتبار لخلق أو دين ، وتذكر لنا الحكايات مثل على ذلك في حكاية الحجاج بن يسف الثقفي مع الجارية ( نعم ) ، والمال عرضة للنهب والاستلاب من قبل ولي الأمر ، لنـزوة تعتريهم أو غضب يلم بهم على أحد أبناء الرعية ، فهذا الأمير محمد بن سلمان عامل هارون الرشيد على دمشق يأمر بنهب دار غانم بن أيوب ، لأن الخليفة قد غضب عليه [ ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليـه بدار غانم بن أيوب ](1) .
حياة تسيطر عليها الفوضى والضياع ، الحكام في واد والرعية في واد ، الحكام طغاة ظالمون ، في ملذاتهم لاهون ، عن أمور رعيتهم ساهون ، القضاة مرتشون شهوانيون لا هم لهم غير كنز المال والتحايل على النساء ، لا يميزون بين الحلال والحرام ، والرعية وحدها تدفع الثمن ، أفرادها يصطلون بنار ظلم وجور الحكام ، واقعون تحت رحمة أقوياء غاشمون ، يُقتلون ويُسلبون يُعرون ويجوعون ، لا يجدون لهم في هذه الحياة البائسة السالبة ، التي غابت عنها معاني الإنسانية ، ولياً ولا نصيراً .
وعلى هذا فإن الحياة العربية التي صورتها الحكايات ، ما هي إلا حياة حيوانية لا تمت بصلة إلى حيوات البشر ، حياة غابة يقطنها وحوش كواسر ، تتصف بالغشم واللؤم والشرسة ، وتتسم بحب سفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ، القوي يأكل الضعيف بدون رحمة ولا شفقة ، حياة تشمئز منها النفس البشرية السوية ، ويأبى الانتماء إليها أي مخلوق ، ومن ذا الذي يرغب أن ترتبط حياته بمثل هذه الحياة البهيمية ؟ لهذا كله كانت الحياة العربية في الحكايات ، حياة قاسية يسيطر عليها الخوف والجهل ، وتنتشر فيها مظاهر الدجل والتخريف والتعلق بالأسباب الموهومة في الحصول على الرغائب ، لعجز الإنسان عن تحصيلها بالوسائل المعقولة ، واعتقاد عامة الناس بالسحر والطلاسم والبحث عن الكنوز المخبوءة ، ونحو ذلك من مظاهر الدجل والتخريف .
هكذا أراد واضعو الحكايات ، أن يظهروا هذا الجانب من حياة الأمة العربية ، والحق يقال : لقد أبدعوا هؤلاء الشعوبيون ، الوصف وأتقنوا التزوير والتهويل ، حتى يكاد أن يحسبها المتلقي حقيقة لا جدال فيها من حقائق الحياة العربية .
ـ 4 ـ
وعمدت الحكايات إلى إظهار الحياة العربية ، بأنها حياة قائمة على التوكل والبطالة ، والركون إلى القضاء والقدر ، أي أنها حياة سالبة ، تفتقر للمثابرة والإيجابية ، وتتسم بالعدمية واللامسئولية ، حياة موات جامدة بعيدة عن العطاء والفاعلية ، وذلك بما أشاعته الحكايات في مجريات أحداثها لمبدأ الجبرية ، الذي هو أحد أسـلحة الشعوبية الفتاكة الذي أشـهرته بوجه الحياة العربية الإسلامية بخاصة ، وبوجه كل ما يمت للدين الإسلامي بعامة . حيث جردت الإنسـان العربي ، بهذا المبدأ ، مـن حريـة الاختيار ؛ اختيار أفعاله وأعماله ؛ ولم تترك له أثراً شخصياً في تصرفاته [ وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](1) .
الحقيقة أن هذا المبدأ ، من ابتداع رجال منحدرين من أصل فارسي ، ينتسبون إلى الإسلام زوراً ، وهم حاقدون على الأمة العربية وعلى دينها الإسلامي الحنيف ؛ مثل جهم بن صفوان وأضرابه ؛ ممن أطلق عليهم تسمية الجبرية ،حيث قالت هذه الجماعة الضالة المضللة : أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فأنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى غير الله فسبيله إعجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس(2) . وغايتهم من إشاعة هذا المبدأ ، في المجتمع العربي ووصمه به ، ما هي في الحقيقة إلا كيدٌ للدين الإسلامي الحنيف وتشويهٌ لمبادئه الإلهية العظمى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تعطيل مسيرة الحياة العربية الخلاقة ،حيث أن هذا المبدأ الفارسي ، [ مـن التعاليم الهدامـة التي كانت تدعو إلى البطالـة والتواكل
والركون إلى القدر من غير عمل حتى تصاب الأمـة العربيـة

بشـلل اقتصادي وتلك هي رغبة الموالي ](1).
ولا يقتصر هذا المبدأ الشعوبي الهدام على إشاعة الكسل والخمول في المجتمع العربي فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى الإباحية ، وهو ما تقول به الديانة الفارسية القديمة [ كانت النظرية الزورانية التي شاعت أيام الساسانيين وبالاً على الدين إذ بثت فكرة الجبر وهي السم الزعاف للديانة المزدية ](2) ، هذا ما تريده الشعوبية للمجتمع العربي ، ذلك لأن مبدأ الجبر يهيئ أسباب الرذيلة والفساد للإنسان ، ويُسَوِّغ له ارتكاب الخطيئة والإثم ما دام مسيراً غير مخير ،وأفعاله كلها من عند الله وبالكتاب مسطور ، فإن زنى الزاني فذلك بقضاء الله ، فهذه صبية تزني مع حشـاش تقول :[فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان من قضاء الله عليـا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](3) .
هذه الجبرية المطلقة التي وصف بها الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، والتي أريد بها إظهاره بمظهر حيواني بحت ، ومن ثم دفعه دفعاً للانغماس في ملذاته وشهواته الدونية ، والوصول به إلى الغاية الشعوبية الهدامة ، من خلال إلغاء دور هذا الإنسان الحضاري المثال ، والحد من مساهمته الإيجابية الفعالة في ديمومة الحياة والبناء الحضاري ، ونشر رسالة الإسلام الخالدة ، إن هذه الجبرية لم تكن إلا من ابتداع الشعوبية مستلهمة من تراث الفرس الفكري
# # # #
إن هذه الحكايات الشعوبية في حديثها عن الحياة العربية الإسلامية ، وتصوير سلبياتها ، مالت بكل وضوح إلى التضخيم والتهويل مع الكذب والتزوير والافتراء وإنكار إيجابيات هذه الحياة ، والدافع من وراء ذلك ، أن هذا التضخم في سلبيات الحياة العربية مرده عقدة الإسقاط ،كما وضحنا سابقاً ، ومن ثم نظرة الاستعلاء العنصري المسيطرة على الفرس .

( الجزء السادس )

الباب السادس
السلطة العربية
في ألف ليلة وليلة

السلطة في الأمة تعني القيادة المسؤولة عن تطبيق القانون والعمل بمقتضاه ، وهي كفيلة بإقرار العلاقات بين الراعي والرعية ، على أساس من السلم والعدل والطمأنينة ، التي ينهض عليها بناء السلام الاجتماعي سليماً راسخ الأركان ، وهي ضرورة لازمة في بناء الأمة ، وركن أساسي من أركان الدولة ، لا يمكن الاستغناء عن هذا الركن أو تجاوزه بأي حال من الأحوال ، لما له من أهمية وخطورة في حياة الأمة واستقرارها ورقيها .
فبالسلطة وحدها يصان الدين والشريعة ، وبها تحافظ الأمة على سلامة كيانها وصون وجودها ، ومن ثم تحافظ على أمن واستقرار أبناء الأمة وإشاعة العدل فيما بينهم ، وتحفظ لهم دينهم ودنياهم ، أي أن السلطة هي الحارس الأمين للأمة في الداخل والخارج ، وإن ضياعها وهدمها يعني ضياعاً لهيبة الأمة وقوتها ، فيكون بذلك ، ترديها في مهاوي الفوضى والضياع ، ومن ثم استلابها وتفتتها وموتها .
وقد أوجبت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ، منذ القدم ضرورة السلطة للأمة ، فكانت في الإسلام ضرورة لازمة للحفاظ على الدين والدنيا ، [ مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد ، فالفسطاط الإسلام ، والعمود السلطان ، والأطناب والأوتاد الناس ، لا يصلح بعضه إلا ببعض ](1) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا : يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها ، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي ،عليه الصلاة والسلام ، إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم (2) .
ولقد اتخذت الدولة العربية الإسلامية الوليدة الخلافة لنظام الحكم فيها ، فكانت الخلافة هي الشكل القومي المستحدث بها ، وقد وجدت في هذا الشكل من نظام الحكم التعبير الصحيح عن المجتمع العربي في صيرورته الحقة المنشودة ، والتجسيد السليم للأمة العربية في كينونتها الحقيقية المثلى ، وقد اتخذت هذه الخلافة شكل كيان دنيوي آخروي معاً ، جامعة بين السلطتين الروحية والزمنية التي تنتظم وتنظم حياة المجتمع العربي بكامله ، أفراداً وجماعات وهيئات ، وشعباً ووطناً وأمة وحضارة (1) .
فالسلطة في الدولـة العربيـة الإسلامية ، قامت على مبادئ الإسلام وأسسه ، ومن أجل تحقيق هذه المبادئ والأسس وصيانتها ، إذاً فهي من الإسلام وللإسلام ، فالسلطان والدين إخوان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر ، كما يُقال ، أي أن هناك علاقة عضوية متينة بين الإسلام وسلطته ، ونظراً لهذه العلاقة العضوية المتينة ، فإن أي تخريب لأي منهما يؤدي حتماً إلى تخريب الآخر .
فالغاية الأساسية من السلطة في الشريعة الإسلامية أن تحافظ على مصالح الأمة الدينية والدنيوية معاً ، لأنه منوط بها شرعاً العمل على تحقيق المصالح الدنيوية لأفراد الأمة ، ودفع المضار والمفاسد عنهم ، ومطلوب منها في الوقت نفسه أن تعمل على الحفاظ على دينهم وتحقيق المصالح الآخروية لهم ، وبمعنى آخر ، تقوم السلطة بتحقيق الغاية الأساسية من الحكم في الإسلام ، وهي حراسة الدين وسياسة الدنيا .
ـ 2 ـ
لقد أدركت الشعوبية قيمة السلطة العربية في استمرار الدولة العربية الإسلامية ، وقوة وعزة أبناء الأمة ، فعملت جاهدة على تخريب هذه السلطة ، والعمل على إضعافها بشتى الأساليب وبمختلف السبل ، المباشرة والغير مباشرة منها ، أما الأعمال المباشرة ، فقد تكلمت عنها كتب التاريخ بكثير من التفصيل ، والتي تتلخص بقيام الحركات المسلحة الهدامة ضد السلطة في الدولة العربية ، أما الأعمال الغير مباشرة ، فهي العمل على إظهار العرب بصورة لا تؤهل أياً منهم لإمارة أو قيادة دفة الحكم وإدارة المجتمع ، وإظهار السلطة العربية الإسلامية بمظهر مخالف لحقيقتها الحقة ، وذلك ليسهل على الشعوبية النيل منها .
وبما أن العدالة هي المعيار الرئيسي والأساسي الذي يحكم الناس بموجبه على صلاح السلطة أو الحاكم منذ أقدم العصور ، وخير الحكام بنظر الناس العادل وأسوأهم الظالم ، وأحسن ما يخلد ذكر الحاكم الصالح مناقبه التي تبين حرصـه على تطبيق العدالـة . لذا عملت الشـعوبية خيالها المريض في وضع القصص والحكايات الكاذبة ، وتزوير الأحداث التاريخية ، وغايتها من ذلك إظهار السلطة العربية الإسلامية ، بمظهر السلطة الجائرة الطاغية ، ولن تنسى الشعوبية بالمقابل من أن تتغنى بالحكام والملوك الأعاجم وتبيان سياستهم الرشيدة وعدلهم لرعاياهم ، وركزت بشكل خاص على الملوك وأكاسرة الفرس ووزرائهم .
حاولت الشعوبية إظهار ملوك وأمراء الدولة العربية الإسلامية بمظهر الكافرين المارقين الخارجين على تعاليم الإسلام ومبادئه ، وغايتها من ذلك الضحك على عقول العامة من الناس لكسبهم إلى صفها ، أو لتحييدهم على الأقل ، لأن الشعوبية تعرف تماماً أن الإسلام يوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم ، لقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، ولقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع الإمام فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى الإمام فقد عصاني } .
وتعرف الشعوبية ، بأن الإسلام يمنع المسلمين من الخروج على الإمام أو الأمير طالما أنه مستكمل أسباب الإيمان ، لذا حاولت أن ترمي ولاة الأمور بمسائل يستنتج منها (( الكفر البواح )) الذي يجوز عند ذلك ؛ كما قال بعض الفقهاء ؛ منازعة الأمير والعمل على إبعاده من السلطة ، لأن الرسول الكريم ، قد أمر المسلمين بأن يرفضوا تنفيذ أوامر السلطان التي تتنافى مع نصوص الشريعة الإسلامية ، وأن يخلعوا هذا السلطان إذا بلغ كفره درجة الكفر البواح ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المرفوع:{لا طاعـة في معصية إنما الطاعة في المعروف } .
إن غاية الشعوبية في محاربتها للسلطة العربية الإسلامية ، ومحاولاتها المستمرة لتدميرها ، ما هي إلا تدمير أسباب قوة العرب الأساسية المتمثلة في الدين الإسلامي الحنيف ، ليتسنى لها إرجاع المجد الكسروي الغابر ، ومجد الدولة الفارسية التي سقطت تحت سنابك خيول العرب المسلمين ، فبقى هذا الأمل يراودهم ، فعملوا لتحقيقه وبشروا بعضهم بقرب بلوغ هذا الأمل ، فهذا أحد رجال الشعوبية من الفرس الموتورين والملقب بزيدان يقول عنه ابن النديم : ( أنه كان يزعم أنه وجد في الحكم النجومي انتقال دولة الإسلام إلى دولة الفرس ودينهم الذي هو المجوسية ، في القِران الثامن لانتقال المثلثة من برج العقرب الدال على الملّة إلى برج القوس الدال على ديانة العظائم ، يروم انقلاب الدولة )(1) .
وقد تعاظم هذا النهج ، الغير مباشر ، في التهجم على السلطة العربية الإسلامية ، وخاصة بعد فشل كل المحاولات الشعوبية المسلحة في تحقيق ذلك الأمل في إسقاط الدولة العربية الإسلامية وبعث دولة الفرس والدين المجوسي المندرس من جديد ، وقد أتاح لها هذا الأسلوب الماكر ، الوصول إلى غايتها السوداء ، فضعفت السلطة العربية وسقطت الدولة العربية الإسلامية ، وتشتت الأمة العربية إلى دويلات ضعيفة واهنة القوى ، وما زالت على هذا الحال المؤسف إلى يومنا هذا ، ومع كل هذا النجاح الذي حققته ، ما زال دعاتها الفرس الحاقدون ماضون في غيهم لطمس كل ما هو عربي .
ـ 3 ـ
لقد اتبعت الحكايات ؛ التي تمثل النتاج الشعوبي في هذا المضمار الأدبي ؛ الأسلوب القصصي في محاولتها مسخ الإنسان العربي ، وتشويه الدين الإسلامي الحنيف ، وتكدير صفاء الأخلاق العربية ، وتلطيخ الحياة الاجتماعية العربية ، واتبعت الأسلوب ذاته في محاولتها تشويه ومسخ السلطة العربية الإسلامية ، الممثلة للقوة الأساسية التي فيها يحافظ على كيان الدولة العربية والمجتمع العربي من الانحلال والضياع ، هذا الأسلوب الذي قدمته في الظاهر للتسلية والتظرف ، بينما أرادت منه في الباطن الوصول إلى غايتها الشعوبية الحاقدة .
لقد أفلحت حكايات هذا الكتاب الشعوبي ، بفضل هذا الأسلوب الماكر في الوصول إلى غايتها في تشويه الصورة التاريخية الرائعة للأمة العربية ، وإعطائها بدلاً عنها صورة شوهاء قاتمة ؛ وقد رأينا في الأبواب السابقة ؛ كيف عملت مسخاً وتشويهاً وتحقيراً لكل ما هو عربي ، وسنرى في هذا الباب أيضاً كيف هاجمت هذه الحكايات الشعوبية ، السلطة العربية الإسلامية ، وبأي صورة كاذبة صورتها ، وبأي صفة دونية وصفتها .
ولكن قبل أن نبدأ بتبيان ذلك ، أرى من اللازم التكلم ولو بشكل موجز عن علمين من أعلام العروبة والإسلام ، تناولتهم الحكايات بشيء من التركيز وبكثير من التشويه والتقول الكاذب عليهما ، وحياكة الأحداث والحكايات المزورة حولهما ، هذان العلمان هما الخليفة العباسي هارون الرشيد ، والقائد العربي الحجاج بن يوسف الثقفي ، لأن في هذا توضيحاً وتبياناً للحقد الفارسي الشعوبي الأسود على الأمة العربية وعلى رجالاتها وقادتها العظام .
فالخليفة هارون الرشيد ، الذي اتهمته الحكايات بكل نقيصة ، من غدر وقلة وفاء ، والارتجال بالحكم وتسرعه في البت بأمور الرعية والدولة على غير هدى ، وبالظلم والطغيان ، إلى إظهاره فاسقاً رعديداً ماجناً ، يلهو ويلعب ولا يحلو له غير مجالسة المغنين والمغنيات ، ودار خلافته ماخور للعهر والفجور ، يقضي فيه أوقاته بين الجواري ومعاقرة الخمور ، فهو في مجالسه ؛ كما تصفه الحكايات ؛ تحف به الجواري والقيان ، وبين يديه الأباريق المترعة تترجرج أفواهها والكؤوس تتقارع حافاتها ، وما إلى ذلك من تهم وأكاذيب ، يفتقر إلى هيبة الحاكم وليس له من الصفات النبيلة شيء يذكر ، خالياً من كل عمل يحمد عليه . فما حقيقة هذا الرجل ؟ ولم هذا الهجوم القاسي المتجني عليه من قبل عامة الشعوبية ومن سار على منوالهم ؟ .
كان هارون الرشيد بحق ، واسطة عقد بني العباس رجولة ومروءة وديناً وعفة وتصدقاً ، ولم يكن متزمتاً جافاً ، بل يبيح لنفسه أن تلهو لهواً بريئاً شريفا ، كما أنه كان ذا جهاد صادق في سبيل الله ودمعة سريعة خوفاً من الله ، كان متديناً يحج سنة ويغزو أخرى ، كذلك مدة خلافته إلا سنين قليلة ، وهو أول من حج من الخلفاء ماشياً على قدميه ، كان يصلي في اليوم مائة ركعة ، ويتصدق من خالص ماله على الفقراء والمساكين في سبيل الله ، ولم يقرب منكر عمره كله [ وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق وفتاواهم فيه معروفة ، وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها ] (1) . لقد بلغت الدولة العربية الإسلامية درجة عالية من الحضارة والتقدم ، والقوة والمنعة والسمو والرفعة، مهابـة الجانب في الداخل والخرج ، مستقرة الأحوال الطرق آمنة والناس مطمئنة على حياتها وممتلكاتها مما حذا بالمؤرخين والمحققين إطلاق (( العصر الذهبي للدولة العربية )) على عصره .
هذا هو الخليفة هارون الرشيد باختصار شديد ، أما لماذا هذا الكره والحقد على هذه الشخصية العظيمة الذي وقع عليه من قبل الشعوبية ، فهناك أسباب كثيرة ، منها ميله إلى الجانب العربي ، وتمسكه ومحافظته على التقاليد العربية ومثل وأخلاق وقيم العرب ، فقد وقف بشدة وحزم ضد المفاسد والسموم التي بثها الفرس الزنادقة ، من مجون ومعاقرة الخمور في المجتمع العربي المسلم [ ولم تقف حكومة الرشيد مكتوفة الأيدي أمام هذه المفاسد ، بل أخذت الشرطة تطاردهم حيثما وجدتهم ، وتعاقبهم وتنزل بهم القصاص الشرعي من جلد وحبس وغيره ](1) ، هذا كله أغاظ الشعوبية التي حاولت أن تدمر المجتمع العربي ، عن طريق إشاعة الفساد واللاأخلاقية بين أبناء العروبة .
ومما زاد في غيظها وأفقدها رشدها وصوابها ، قيام الخليفة بعمله التاريخي العظيم في القضاء على العائلة البرمكية الفارسية التي كانت تمثل رأس الأفعى للشعوبية ، المنعقد عليها آمال الفرس في إرجاع مجدهم الكسروي الغابر ، فنكل بهم شر تنكيل واجتث جذورهم المتغلغلة في جميع مناحي الدولة العربية ، وأنقذ بذلك الأمة العربية من أخطر محاولة شعوبية ، مرسومة بكل دقة ومكر ، وأبعدها أثراً في الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية والسياسية ، وكان الشعوبيون الحاقدون قد عقدوا الآمال الكبار على هذه الأسرة الفارسية في الوصول إلى بغيتهم وتحقيق أحلامهم الخائبة .
لهذه الأسباب مجتمعة ، كان عداء الشـعوبية ، لهارون الرشيد ، وصب حقدها الأسود عليه ، حيث حاولت جاهدة في أن تشوه سيرته الطيبة ، من خلال وضع الحكايات الكاذبة واختلاق الأحداث المزورة للنيل من دينه ودنياه ، ولأن تاريخ هذا العلم العربي كتب بيد فارسية حاقدة ، فإن كل ما جاء عنه في هذه الكتابات مشكوك فيه ، يجب إعادة النظر بما كتب ونسب لهارون الرشيد من أكاذيب أو لغيره من أعلام العروبة .
أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي أظهرته الحكايات ، بالطاغية الذي لا يرحم ، الخارج على الدين ، الظالم الذي لا يخاف الله ، الموغل بالكذب والأفك والخداع ، ذي نفس جبلت على الحقد والغدر واللصوصية ، والتي حاولت الحكايات النيل منه في كل مناسبة وبأي شكل كان . فحقيقة هذا العربي الفذ العظيم ، خلاف ذلك تماماً ، فالحجاج كان رجلاً متديناً إلى درجة لا يرقى إليها الشك ، مستقيماً لا تأخذه في قول الحق وفعله لوم لائم عفيفاً عن أموال الغير غيوراً على أعراض الناس ، [ وكان صادقاً يكره الكذب ويحب الصدق ويعفو عنه ](1) .
وهو القائد العربي الفذ الذي استطاع بحكمته وقوته وتصميمه وصبره على أن يقضي على فلول الفرس القائمين على رأس الشعوبية العاملة حينذاك على مسخ عروبة العراق ، ولإثارة الفوضى والحروب داخل الدولة العربية الفتية ، إنه الأمير العربي الذي أنقذ عروبة العراق وبكل شجاعة من مؤامرات الفرس الحاقدين ، أي أنه هو القائد العربي الفذ الذي ألجم صوت الشعوبية في العراق ، وثبت السلطة العربية في هذه المنطقة الخالصة العروبة ، التي كانت مأوى الدهاقنة الفرس الحاقدين على العرب والعروبة ، ومسـرحاً لنشـاطهم التخريبي الموجه إلى الأمة العربية ، وهذا ما أكسبه عداء الشعوبية ؛ التي أعلنت حرب لا هوادة فيها عليه وعلى سيرته العظيمة ؛ إلى يومنا هذا .
ـ 4 ـ
لقد ركزت الحكايات على إظهار ولاة أمور الدولة العربية الإسلامية بمظهر لا أخلاقي رخيص ، ووصمتهم بكل نقيصة وقبيحة ، فهم يرتكبون المحرمات عياناً ولا ينهون أحداً عنها ، فالخمر أصبح عندهم مباح يعاقرونه علناً ولا يردعون رعيتهم عنه وهذا كذب وافتراء ،لأن العرب لم يستسيغوا هذه العادة الوافدة ، ثم من المعلوم أن الخمر محرم في الإسلام ، وقد أمر الله باجتنابه، حيث قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } ، ومن ثم كانت العرب أسبق من غيرها في معرفة مضار الخمر على الفرد والمجتمع ، ولهذا لم يتفشى بين العرب المسلمين ، فكيف له أن يتفشى بين حكامهم ؟ والموانع كانت أمامهم كثيرة تمنعهم من السقوط في هذا المستنقع الآسن .
لقد جاء في كثير من الحكايات ، بأن قادة الدولة العربية الإسلامية يتعاطون المسكر ، واتهمت بعضهم بصريح العبارة ، فلا يمر ذكر مسئول عربي في الحكايات إلا وقرن به تعاطي الخمور . وقد ركزت بشكل واضح على الخليفة هارون الرشيد ، أظهرته في أحداثها ، سكيراً مدمناً على الخمور . هذا الاتهام الباطل لهذا العلم العربي العظيم ، يرِد كثيراً في أحداث الحكايات ، نورد هنا مثلاً واحداً إلى ذلك ، مع كثرة الأمثلة الموجودة في هذا الكتاب الشعوبي،تقول إحدى الحكايات [ ثم دنى من التخت ؛ أي الرشيد ؛ فرأى الذي فوقه صية نايمة وقد تجللت بشعرها فكشف عن وجهها فرآها كأنها البدر ليلة تمامه فملأ الخليفة الكأس من الخمر وشربـه على ورد خدها ومالت نفسه إليها فقبل أثراً كان بوجهها ](1).
كما اتهمت ؛ هذه الحكايات الشعوبية ؛ الخليفة عبد الملك بن مروان بمعاقرة الخمر ، هذا الخليفة التي أجمعت المصادر العربية التاريخية على تقواه وورعه ، يقول الخضري بك رحمه الله في عبد الملك : ولما شب كان عاقلاً حازماً أديباً لبيباً وكان معدوداً من فقهاء المدينة يقرن بسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ، وقال الشعبي ما ذكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فأني ما ذكرت له حديثاً إلا زادني فيه ولا شعراً إلا زادني فيه(2) . فهل يعقل على من كان على هذه الدرجة من المكانة العظيمة والمعرفة الواعية بأمور الدين أن يخرج على تعاليم الدين ويقع بالإثم وارتكاب الموبقات ؟ كيف يعقل أن يكون هذا الخليفة قد عاقر الخمر ؟ وكيف يعقل أن يرى أخته في مجلس تدور فيه كؤوس الخمر على جالسيه ولا يحرك ساكن ؟ ، هذا ما لفق عليه في كتاب ألف ليلة وليلة الشعوبي ، ففي حكاية نعم ونعمة [ ثم أن نعماً أعطت العود لسيدها نعمة وقالت غني لنا شعراً فأخذه وأصلحه وأطرب بالنغمات فلما فرغ من شعره ملأت له قدحاً وناولته إياه فأخذه وشربه ثم ملأت قدحاً آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته ، ولم يزالوا ينشدون الأشعار ويشربون على نغمات الأوتار وهم في لذة وحبور وفرح وسرور فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أمير المؤمنين فلما نظروه قاموا إليه وقبلوا الأرض بين يديه واستدعت أخت الخليفة بالطعام فقدمته لأخيها فأكل وجلـس معهم في تلك الحضرة ثم ملأ قدحاً وأومى إلى نغم أن تنشد له شيء من الشعر فأخذت العود بعد أن شربت قدحين وأنشدت 00 فطرب أمير المؤمنين وملأ قدحاً آخر وناوله إلى نغم وأمرها أن تغني ](1) .
إن ذكر الخليفة عبد الملك بهذه الصورة ، له أسبابه ودوافعه عند عامة الشعوبية ، فهو الذي جمع أمر الأمة العربية ، ووحدها وقضى على الفوضى والاضطرابات التي كادت أن تعصف بها ، والتي تشكل مثل هذه الحالة البيئة المثلى لتحرك الشعوبية التي لا تستطيع الصيد إلا بالماء العكر . وهو الذي عرَّب الدواوين من الفارسية إلى العربية ، فكان هذا العمل العظيم فيه الضربة القاصمة لظهر دعاة الشعوبية من الفرس ، ويظهر أثر هذا العمل جلياً في قول الفارسي ( مردانشاه بن زادان فروخ ) لناقل الديوان إلى العربية :قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية (2) ، وهو الذي قضى على فلول الشعوبية المتآمرين على الدولة العربية ، بسحق دهاقنة الفرس المجوس في العراق العربي ، وذلك بواسطة عامله العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، لكل هذه الأعمال العروبية التي قام بها أثارت حفيضة الشعوبية عليه ، فناصبته العداء وناصبت قادته الذين ساعدوه في أعماله العظيمة هذه ، نفس العداء .
وأظهرت الحكايات كثيراً من الشخصيات العربية الإسلامية الأخرى ، بهذا المظهر المجافي لروح الإسلام ومبادئه ، فهذا الخليفة الأمين وذاك الخليفة المأمون ، وهؤلاء الأمراء كأبي عيسى وعلي بن هشام وغيرهم ، ناهيك مِن مَن ذكر من عليّة القوم وعامة العرب ، جميعهم يشربون الراح في الليالي العجاف وفي الليالي الملاح على حد سواء .
وصورت الحكايات قصور الخلفاء بصورة زائفة ، أظهرتها في أحداثها وكأنها مواخير للدعارة والفجور ، أعدت لتعاطي المسكرات وممارسة العهر والفسق والمجون ، لا لإدارة البلاد والنظر في أمور العباد ، فترينا الحكايات من خلال أحداثها صورة لما يجري داخل هذه القصور ، فهذه جارية تترنح من السكر في ممرات القصر ، وتلك جارية أخرى تتعاطى اللذة المحرمة مع عشيقاً ، وهذه زوجة الخليفة تحيك مؤامرة ضد إحدى الجواري التي سلبت منها زوجها والخليفة لا عمل له إلا الدوران على مقصورات الجواري ، يغازل هذه الجارية أو يشرب الخمر على ورد خدود تلك ، أو يراود إحداهن عن نفسها ويطلب منها الوصال ، لا يخلو ركن من أركان قصر الخلافة ؛ في ليل أو نهار ؛ من آلة تعلو بالنغمات أو من مائدة عامرة بالخمور ، أو من عناق وتقبيل ولعب ولهو ومجون ، ولا راحة لأمير المسلمين ولا تطيب له نفساً إلا النوم بين جاريتين أو أكثر ليلعبن له في جهازه التناسلي لتخفيف شبقه وصبوته ، وإذا وقع بغرام جارية ؛ وكم يقع في ذلك على رأي الحكايات ؛ نسيَ كل شيء ، الخلافة والرعية والأهل والولد ، بل نسيَ نفسه ذاتها .
نرى هذه الحالة في حكاية الرشيد مع الجاريـة قوت القلوب [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاضي وقعد شهراً كاملاً لا يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ] ، وعندما يعظم ذلك على أرباب الدولة لا يجدون من يشكون إليه سوء الحال إلا جعفر البرمكي ؛ وهنا إشارة خبيثة من دعاة الشـعوبية ، وهي أن السياسـة للفرس وحدهم ولولا خبرتهم ومهارتهم في هذا المجال لما استطاع العرب تسييس أمور دولتهم ؛ فتتابع الحكاية قولها : [ فصبر الوزير على أمير المؤمنين حتي كان يوم الجمعة فدخل الجامع واجتمع بأمير المؤمنين ] ، ويحاول البرمكي مع الخليفة لإرجاعه لعقله وترك ما اعتراه من هوى ، ولم تنسَ الحكاية من إظهار معرفة البرمكي بخفايا السياسة وإدارة الأمور [ واعلم يا أمير المؤمنين أن أحسن ما تفخر به الملوك وأبناء الملوك هو الصيد والقنص واغتنام اللهو والفرص فإذا فعلت ذلك ربما تشتغل به عنها وربما تنساها ](1) .
ليس هذا فحسب ، بل أن حكام الدولة العربية ، في الحكايات ، يحبذون فجور حاشيتهم ومقربيهم ، لا يردعونهم ولا ينهونهم عن فسقهم وفجورهم وانحلال أخلاقهم ، بل يشجعونهم ويؤيدونهم على ذلك . نرى هذا عندما يأتي الخليفة هارون الرشيد إلى دار أبي نواس ويجده يعاقر الخمرة مع ثلة من الغلمان المرد ، يلوط بهم ويلاط به [ فلما غلب السكر على أبي نواس ولم يعرف له يداً من رأس مال على الغلمان بالبوس والعناق والتفاف الساق على الساق ولم يبالي إثم ولا عار ] ، فيستأذن الرشيد بالدخول ويؤذن له ، يرى الوضع المزري الذي كان عليه أبي نواس ورفقته ، يسأل الخليفة عن هذا الحال ، فيكون رد أبو نواس [ الحال يغني عن السؤال ، فبدلاً من أن يعتري الخليفة الغضب على هذا الفاسق الماجن أو ينهاه عن فجوره ، يأخذ الرشيد بممازحة أبي نواس فيقول :[يا أبا نواس استخرت الله تعالى ووليتك قاضي المعرصين ] ولم تنتهِ الحكاية عند هذا بل تستمر بإظهار جرأة أبي نواس على الخليفة ويسـأل : [ وهـل تحب لي هذه الولايـة يا أمير المؤمنين ] ، وعندما يرد عليه الخليفـة بالإيجاب ، يقول : [ يا أمير المؤمنين هل لك دعوة تدعوها عندي ] ، عندها فقط يغتاظ الخليفة ويترك أبا نواس وهو يضمر له الشر والانتقام ، لا على فسقه وفجوره أو غيرة على الدين الذي يلوثه هذا الماجن المأفون ، وإنما على ما لحقه من إهانة(1) .
ولا تكتفي الحكايات بتصوير حكام العرب بمحبذي الفسق والفجور ، بل يساعدون ندماءهم وحاشيتهم على الموبقات ، فهذا أبو نواس مرة أخرى ، يجده حاجب الخليفة مرتهناً في بعض خمارات العاصمة بغداد على ألف درهم أنفقها على الفسق والفجور والمجون مع أحد الغلمان المرد ، وعندما يحكي حكايته للحاجب ، يقول الحاجب [ أرني إياه - أي الأمرد – فإن كان يستحق ذلك فأنت معذور ] ، فلما يعرف الحاجب حال أبي نواس ومدى غرامه بذلك الغلام الأمرد [ فرجع إلى الخليفة وأخبره بحاله فأحضر الخليفة ألف درهم وأمر الحاجب أن يأخذها ويرجع بها إلى أبي نواس ويدفعها عنه ويخلصه من الرهن ] وعندما يحضر أبو نواس بين يدي الخليفة ، لا يذكر أمير المؤمنين أي شيء عن الموضوع ولا حتى أن يسأله عن حالته التي كان عليها ، وإما يطلب منه إنشاد الشعر ، وكأن شيئاً لم يكن قد حصل ، لأن مثل هذا الفسق والفجور ؛ حسب رأي الحكايات ؛ مألوف لديه لا تثير عنده أي غيرة على خلق ولا على دين (1) .
ـ 5 ـ
وتتابع الحكايات بنفث سمومها الشعوبية ، بإظهار ظلم وطغيان وعتو وتعسف ولاة أمور الدولة العربية الإسلامية ، فهم يحكمون بأهوائه ونزواتهم ، لا كما أمر الله وكما تتطلبه العدالة ، يأخذون ما بأيدي الرعية لأنفسهم غصباً واقتداراً ، دون أن يستطيع أحد من دفع أذاهم أو منع ظلمهم وطغيانهم.
ففي حكاية خليفة الصياد ، نرى تعسف وظلم الخليفة الرشيد ، وعدم توانيه عن سلب أموال الرعية ولا يسلم منه حتى الفقراء منهم [ فلا بد أمير المؤمنين هارون الرشيد يسمع بخبرك من آحاد الناس فربما يحتاج إلى مال فيرسل إليك ويقول لك إني محتاج إلى مبلغ من الدنانير وقد بلغني أن عندك مائة دينار فأقرضني إياها فأقول يا أمير المؤمنين أنا رجل فقير والذي أخبرك أن عندي شيء من ذلك كذب علي وليس لدي ولا عندي شيء من ذلك فيسلمني إلى الوالي ويقول له جرده من ثيابه وعاقبه بالضرب حتى يقر ويأتي بالمائة دينار التي عنده ](1) ، بل أن حكام الدولة العربية الإسلامية قد تجاوزوا هذا الظلم والطغيان إلى ما هو أفضع وأبشع من ذلك ، فلم يكتفوا بسلب مال الرعية وأرزاقهم ، بل كانوا يسلبون نساءهم وجواريهم قهراً وغصباً . فهذه الجارية تحفة العواد ، في حكاية حسن البصري ، تخاف أن يتعرف أمير المؤمنين إلى زوجة حسن البصري منار السنا ، فيقتل زوجها ويأخذها منه غصباً ، تقول الجارية لسيدتها زبيدة زوجة الخليفة [ رأيت جارية في الحمام معها ولدان صغيران كأنهما قمران ما رأى أحد مثلها لا قبلها ولا بعدها وليس مثل صورتها في الدنيا بأسرها وحق نعمتك يا سيدتي إن عرف بها أمير المؤمنين قتل زوجها وأخذها منه 00 وأنا أخاف يا سيدتي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع ويقتل زوجها ويتزوج بها ](2) .
ونرى مثل هذا الظلم والقهر والتعسف بحق الرعية في الدولة العربية ، في حكاية مروان بن الحكم عامل معاوية بن أبي سفيان على المدينة المنورة ، حيث أنه يجبر الإعرابي على طلاق زوجته ثم يتزوج منها ، لأنه أحبها لحسنها وجمالها ، تقول الحكاية [ فلما وقفت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب فصار لي خصماً وعلي منكراً وأظهر لي الغضب وبعثني إلى السجن فصرت كأنما نزلت من السماء واستوى بي الريح في مكان سحيق ثم قال لأبيها هل لك أن تزوجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم وأنا ضامن خلاصها من هذا الإعرابي فرغب أبوها في البدل وأجابه إلى ذلك فأحضرني ونظر إليَ كالأسد الغضبان وقال يا إعرابي طلق سعاد قلت لا أطلقها فسلط جماعة من غلمانه فصاروا يعذبوني بأنواع العذاب فلم أجـد لـي بـداً إلا طلاقها ففعلت فأعادني إلى السجن فمكثت فيـه إلى أن انقضت العدة فتزوج بهـا وأطلقني ](1) .
وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي ، أمير العراقين ، والقائد العربي العظيم ، يستغل منصبه ، كما تقول الحكايات ، فيحتال على أخذ الجارية ( نعم ) زوجة التاجر نعمة تعسفاً ، وغايته من ذلك إرسالها إلى الخليفة عبد الملك بن مروا في دمشق [ لا بد لي أن أحتال على أخذ هذه الجارية التي اسمها نعم وأرسلها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لأنه لم يوجد في قصره مثلها ولا أطيب من غناها ] ، فبعد أن يفعل الحجاج فعلته الشنيعة بخطف الجارية بمساعدة من إحدى العجائز المحتالات ، يبدأ نعمة بالبحث عن زوجته ، فيداري صاحب الشرطة الأمر عن نعمة خوفاً من بطش الحجاج ، فإن سأله عن زوجته قال له لا يعلم ذلك إلا الله، ويشكو نعمة أمره إلى الحجاج نفسه ، فيظهر أسفه وعدم معرفته بهذه الفعلة الشنيعة ، ويأمر صاحب شرطته بالبحث عن الجارية المخطوفة من بيت زوجها ، ويعد زوجها بمجازاة مرتكب هذه الجريمة ، وأخير يعلم نعمة من أبيه بأن غريمه وخاطف زوجته هو الحجاج نفسه(1) . إن هذه الحكاية مع ما أظهرته من ظلم وجور وتعسف أمراء الدولة العربية الإسلامية ، فهي مكرسة تكريساً كلياً للنيل من الحجاج ، باتهامه باللصوصية والكذب ، [ فقالت أخت الخليفة يا أمير المؤمنين هذه نعم المسروقة سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأوصلها لك وكذب فيما ادعاه في كتابه من أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار ](2) .
ونجد استبداد الحكام العرب وطمعهم بما في أيد الرعية ولصوصيتهم ، في حكاية محمد الأمين ابن هارون الرشيد [ ثم أن محمد الأمين بن زبيد توجه يوماً لقصد الطرب إلى دار جعفر فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه فأصلحت الآلات وغنت بأطيب النغمات فأخذ محمد الأمين بن زبيدة في الشراب والطرب وأمر السقاة أن يكثر الشراب على جعفر حتى يسكره ثم أخذ الجارية معه ](3) ، فهذه الحكاية تتهم الأمين بشرب الخمر والخيانة والغدر بمن قام بواجب الضيافة نحوه ، ومن ثم اتهامه بالسرقة واللصوصية والاحتيال ، ولكن هناك ملاحظة هامة في هذه الحكاية ، وفي مثيلاتها التي يذكر فيها محمد الأمين ابن هارون الرشيد ، فكلما ورد اسم الأمين في حكاية من الحكايات نسب إلى أمه زبيدة لا إلى أبيه هارون الرشيد كما هو المفروض ، وهنا تكمن غاية شعوبية بكل تأكيد ، هي النيل من محمد الأمين ومن أمه زبيدة ، فمن محمد الأمين ؟ الذي ظهر في جميع الآثار الشعوبية بصورة الخليفـة الماجن المستهتر الفاجر ، إنـه الأمير العربي الذي وقف بحزم بجانب الصف العربي الذي كان في صراع مع العناصر الفارسية التي نشطت بعد موت الرشيد ، والتي وجدت في الأمين الخصم العنيد لها ، والمقوض لآمالها إن استمر في الخلافة التي هي حق شرعي له ، فحاكت المؤامرات ضده حتى استطاعت من إنهائه وقتله ، ومن ثم أخذت بتشويه سـيرته تشويهاً ليس له مثيل ، والنيل من زبيدة ابنة أبي جعفر المنصور العربية القريشية التي لعبت دوراً بارزاً في مجابهة المؤامرات الفارسية التي كان يحيكها البرامكة ضد الدولة العربية الإسلامية ، واستطاعت بذكائها أن تنبه زوجها الرشيد إلى مكر البرامكة وتحثه بالإسراع في القضاء على رؤوس المتآمرين الذين يحيكون هذه المؤامرات ضد بني قومها العرب ، لهذا حقدت عليها الشعوبية كل الحقد ، فعندما تنسب الحكايات محمد الأمين إلى والدته لا إلى والده ، تريد من ذلك المسبة والتشهير بزبيدة ، لأن في عرف العرب النسب إلى الأم شتيمة ، فإن أرادوا أن يشككوا بنسب شخص ما أو أن ينبزوا أمه بالفجور ، نسبوه إلى أمه ، قالوا ابن فلانة لا ابن فلان ، فالشعوبية بهذا الأسلوب القذر تحاول أن توحي للمتلقي بأن محمد الأمين أبن زنا ، وأن أمه زبيدة زانية ، ويمتد هذا السباب إلى العرب جميعهم ، فهم جميعاً أولاد زنا ونساؤهم فاجرات لا يحفظن فروجهن .
وهذه حكاية أخرى ، تظهر نوعاً جديداً من ظلم وجور الحكام العرب وتعسفهم واستبدادهم بالرعية ، فهذه حبيبة قمر الزمان كانت زوجة الصائغ البصري في أول أمرها ، وقدم زوجها الصائغ خدمة لوالي البصرة ، فأراد الوالي إكرامه فسأله أن يتمني عليه أي شيء يرغب فيه ، فيستشير الصائغ زوجته ، فتشير عليه بأن يطلب من الوالي أن يأمر رعيته بأن تُخلا شـوارع المدينة من المارة ضحى الجمعة ولمدة ساعتين ، ومن يُرى في الشارع أو مطلاً من باب أو نافذة في هذا الوقت يقطع رأسه ، ويستجيب الوالي لذلك وينفذ للصائغ هذا الطلب الغريب ، وكانت زوجة الصائغ تخرج في ذلك الوقت مع جواريها الثمانين فمن وجد من خلق الله في الطريق قتلته ، إن كان من أهل المدينة أو كان غريباً عابر سبيل فيها ، فضج الناس وتذمروا من هذه المصيبة ، ولكن أمر الوالي بقي نافذاً عليهم مقيداً لحريتهم ، لمجرد رغبة سخيفة أرادتها زوجة صائغ ثري قدم خدمة لذلك الوالي .
ـ 6 ـ
يظهر لنا كتاب ألف ليلة وليلة من خلال أحداث حكاياته ، صورة أخرى من صور جور حكام العرب المسلمين ، وذلك حينما تصور حال حاشية الحكام وولاتهم ووزرائهم ، فخليفة العرب المسلمين تحيط به حاشية جاهلة فاجرة ، لا همّ لها إلا الشراب والفجور والفساد ، وهو يستعين بالشطار والمحتالين في تسييس دولته وإذلال رعيتـه ، فيقدم هؤلاء اللصوص ويرتب لهم المراتب الكبيرة [ أنه كان في زمن خلافة هارون الرشيد رجل يسمى أحمد الدنف وآخر اسمه حسن شومان وكانا صاحبا مكر وحيل ولهما أفعال عجيبة فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة وجعله مقدم الميمنة وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة وجعل لكل منهما أربعون رجلاً مـن تحت يده ](1) .
وهذه دليلة المحتالة تصبح مقدمة بغداد ، ذلك عندما يعجب الخليفة هارون الرشيد بحيلها ومكرها ، فيطلب منها أن تتمنى عليه فتقول لـه [ إن أبي كان عندك حاكم البطانة وأنا ربيت حمام الرسائل وزوجي كان مقدم بغداد ومرادي استحقاق زوجي ومراد ابنتي استحقاق أبيها فرسم لهما الخليفة بما أرادتاه ](1).
هؤلاء الشطار يعيثون فساداً في الدولة العربية ويتصرفون بحياة الناس كما يحلو لهم وكما يشاءون ، وهم مطمئنون آمنون من أن ينالهم أي عقاب ، أو عتاب عن ما تقترفه أيديهم من جرائم ، وذلك لمساندة الخليفة لهم وإعجابه اللامحدود لأعمالهم القذرة ، فهذا أحمد الدنف يقتل عاملين يهوديين من عمال الخليفة ويسلبهم مالهم بدون خوف ولا وجل من أحد [ وخرجا من بغداد ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى الكروم والبساتين فوجدا يهوديين من عمال الخليفة راكبين على بغلتين فقال لهم أحمد الدنف هاتوا الغفر فقال اليهود نعطيك الغفر على أي شيء فقال لهم أنا غفير هذا الوادي فأعطاه كل واحد منهما مائـة وبعد ذلك قتلهما أحمد الدنف وأخذ البغلتين ](2).
ولن تنسى الحكايات من إلباس بغداد عاصمة الخلافة ، ثوب الفوضى والإجرام ، بتصويرها مأوى للشطار والمحتالين [ يا ولدي
لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار

كثير وتنبت فيها الشطارة كما ينبت البقل في الأرض ](1) .
هذه هي الحال التي عليها حكام الدولة العربية الإسلامية ، وهذه هي حاشية الخليفة هارون الرشيد وأعوانه ، ثلة من اللصوص والشطار والمحتالين رأس مالهم المكر والخداع والاحتيال ، هكذا أرادت ؛ حكايات هذا الكتاب الشعوبي ؛ أن تظهر حاشية الحاكم العربي .
والملفت للنظر في هذه الحكايات التي تتحدث عـن الشطار
والمحتالين لم يرد فيها ذكر البرامكة على الإطلاق ، بل لم يرد فيها ذكر لأي فارسي لا من قريب ولا من بعيد ، وذلك بخلاف ما نجده في بقية الحكايات الأخرى ، وعندي : أن هذا الإغفال للبرامكة وسواهم من الفرس في حكايات الشطار ، له مغزى ومعنى وقصد ، وكأن الحكايات تريد أن تقول : أن هذه الأحداث وقعت بعد أن غدر الرشيد بالبرامكة فذهب بذهابهم خيار الناس وساستهم وعقلاؤهم ، ولم يبق أمام الخليفة هارون الرشيد غير الشطار والمحتالين والرعاع يعتمد عليهم في حكم الرعية ، فعاثوا بالعباد فساداً وخربوا البلاد باستباحتهم إياها نهباً وسلباً ، بعد أن كانت في ظل البرامكة الفرس تهنأ بالاستقرار والأمن والطمأنينة .
وتظهر الحكايات أمراء الأقاليم الإسلامية ، ظلاماً مجرمين ، يبطشون بالرعية مستغلين مناصبهم العالية في تحقيق أغراضهم ومقاصدهم ومآربهم الشخصية ، ففي الحكاية المنسوبة إلى المعين بن ساوي والفضل بن خاقان ، نرى هذا الاستغلال ، فعندما يقف دلال الجواري في السوق ، يحذر علي بن نور الدين بن الفضل من بطش المعين عامل الخليفة هارون الرشيد ويصف كره الناس له ، وينصحه أن يحمل جاريته التي كان يريد بيعها ، ويعود بها من حيث أتى ،فأن رآها المعين واشتراها فهو لا يدفع الثمن بل يكتب ورقة ، كما يفعل في كل مرة ، فلا يقبض الثمن منه أبداً . (1)
كما تصور لنا هذه الحكاية نفسها ، الصراع المستمر بين عمال الخليفة من أجل السلطان والنفوذ والبقاء في الإمارة ، فهذا الوزير الفضل بن خاقان نراه بصراع مستمر وعداء دائم مع المعين بن ساوي ، ويبقى هذا العداء قائماً حتى بعد موت الفضل ، نرى ذلك حينما يعمل ابن ساوي بكل جهده على إبعاد ابن الفضل علي نور الدين ، عن البلد بل يتآمر على قتله لكي يتخلص منه إلى الأبد .
وهناك في الحكايات صور كثيرة من هذا الصراع بين عمال ووزراء الخلفاء ، ففي حكاية الوزيرين شمس الدين ونور الدين ، عندما يموت الوزير نور الدين ، ويتقاعس ابنه حسن نور الدين عن مقابلة السلطان ، فيولي السلطان الوزارة لغيره ، نرى أن أول عمل يقوم به الوزير الجديد [ أن يختم على أماكن نور الدين وعلى ماله وعلى عماراته وعلى أملاكه ](1)، وذلك ليستخلصها لنفسه ، كما أنه أراد قتل ابن نور الدين خوفاً من أن يسترد مكانة أبيه ، لولا هربه بمساعدة أحد مماليك أبيه الذي سهل له الفرار وتخليصه من مصيره المحتوم .
وتخبرنا حكاية غانم بن أيوب ، عن جهل وحمق وطغيان أمراء الأقاليم الإسلامية وتعسفهم وظلمهم للرعية ، فعندما يرسل الخليفة هارون الرشيد مكتوباً لنائبه على دمشق يأمره فيه بالقبض على غانم [ ثم كتب مكتوباً للأمير محمد بن سلمان الزيني وكان نائباً على دمشق ، ومضمونه ساعة وصول المكتوب إلى يديك تقبض على غانم بن أيوب وترسله لي ] ، لكن نائبه على دمشق لا يكتفي بتنفيذ ما أمر به بل يظهر تعسفه وطغيانه ، عندما يأمر زبانيته بنهب بيت غانم والقبض على أمه العجوز وأخته المريضـة [ فلما وصل المرسوم إليه قبله ووضعه على رأسه ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليه بدار غانم بن أيوب فجاءوا إلى الدار فوجدوا أم غانم وأختـه قد صنعا قبراً وقعدتا عنده يبكيان فقبضوا عليهما ونهبوا الدار ولم تعلما ما الخبر ] (1) .
ـ 7 ـ
وصورت الحكايات الجهل الذي عليه حكام الدولة العربية الإسلامية ، وما هم عليه من حمق وسذاجة ، وعدم أهليتهم لحكم العباد ، وقلة درايتهم بأمور الإدارة والسياسة . متبعة في ذلك الكذب والتزوير والتهويل ، فهذه حكاية خليفة الصياد ، تظهر حمق وسذاجة الخليفة هارون الرشيد وقلة عقله وسفاهة حكمته ، حينما يضع مصير خليفة الصياد على كف عفريت [ أن أحضر خليفة الصياد وآمره أن يأخذ ورقة من هذه الأوراق لا يعرف ما فيها إلا أنا وأنت فأي شيء كان فيها ملكته له ولو كان فيها الخلافة نزعت نفسي منها وملكته إياها ولا أبخل بـها عليه وإن فيها شـنق أو قطع أو هلاك فعلته به ](2) .
وخليفة العرب المسلمين، في هذه الحكايات الشعوبية ، أحمق سفيه ، يوم ينسيه غناء الجارية أنيس الجليس ، مكانته العالية ومقامه الرفيع ، فيتصرف تصرف من كان في عقله مس من جنون ، فها هو ؛في هذه الحكاية ؛ يتسلق شجرة مطلة على المكان الذي توجد فيه أنيس الجليـس ليرى ما يحدث هناك [ فرأى شجرة جوز عالية فقال يا جعفر أريد أن أطلع على هذه الشجرة فإن فروعها قريبة من الشبابيك وأنظر إليهم ثم أن الخليفة طلع فوق الشجرة ولم يزل يتعلق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشبابيك ](1) وتتابع الحكاية في تشويهها لصورة الخليفة هارون الرشيد ، عندما يرضى أن يلبس ثياب كريم الصياد المليئة بالقاذورات [ يا كريم اقلع ثيابك فقلع ثيابـه وكانت عليه جبة فيها مائة رقعة من الصوف الخشن وفيها من القمل الذي له أذناب ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض وقلع عمامته من فوق رأسه وكان له ثلاث سنين ما حلها وإنما كان إذا رأى خرقة لفها عليها وما كاد يلبسها الخليفة حتى جال القمل على جلد الخليفة فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي به ](2) ، لقد قام خليفة العرب المسلمين بكل هذه الحماقات ، ليشبع رغبة مجنونة راودته ، ليتمتع بسماع أنيس الجليس ، فعندما يجلس إليها ، بعد هذا العناء ، ويسمع غناءها ويطرب لصوتها الجميل ، ينسيه اندفاعه وطربه ونشوته ، من معاقبة خولي البستان الذي أقسم قبلاً على معاقبته بسبب إحداثه الهرج وإيوائه جارية غريبة مع صاحبها في بستان الخليفة ، مخالفاً أوامر الخليفة التي أمره بها بعدم السماح لأي كان في الدخول إلى هذا البستان .
ومثل هذه الحكاية كثير جداً في كتاب ألف ليلة وليلة ، وبتركيز خاص على شخص هارون الرشيد ، فهو إذا أرق وجفاه النوم طلب من أعوانه أن يجدوا سبباً بإزالة هذه الحالة عنه وإلا ضرب أعناقهم [ وأنا أقسم بآبائي الطاهرين أن لم تتسبب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك ](1).
وهذه حكاية أخرى ، حكاية الصبية المقتولة ، تصور كذلك حمق وتعسف الخليفة هارون الرشيد ، وطيش قراراته وعدم سدادها ، فهو يأمر ؛ كما تقول الحكاية ؛ جعفر البرمكي أن يجد قاتل الصبية وإن فشـل سيكون مصيره القتل [ وحق اتصال نسبي بالخلفاء من بني العباس إن لم تأتني بالذي قتل هذه الفتاة لأنصفها منه لأصلبنك على باب قصري أنت وأربعين من بني عمك ] ، ويكاد الخليفة أن ينفذ وعده بجعفر البرمكي عندما يعود إليه دون أن يجد قاتل الصبية ، فيأمر الخليفة بصلب جعفر البرمكي وأبناء عمومته ، وهنا تستغل الحكاية هـذا الحـدث لتظهر حب الناس لآل برمك ، فتقـول [ وصار الخلق يتباكون على جعفر وعلى أولاد عمومته ] وقبل أن ينفذ الخليفة ما عزم عليه ، يتقدم أحد الناس ويعترف باقترافه هذه الجريمة ، إن الذي دفعه للاعتراف ، كما تقول الحكاية ، حبه للبرامكة ولولا حبه لهم لبقي مستتراً ، هذه الصبية هي زوجة لهذا الرجل قتلها لشبهة لحقت بها . وتتابع الحكاية أحداثها الملفقة للنيل من الرشيد ، يأمر الخليفة بصلب الاثنين ، ولكن الحكاية لا تنسى هنا من إظهار عدل آل برمك وحسن حكمتهم ورجاحة عقولهم واهتمامهم بأمور الرعية ، عندما يقول جعفر للخليفـة [ إذا كان القاتل واحد فقتل الثاني ظلم ] ، وتؤكد الحكاية من جديد على حمق الخليفة وظلمه ، عندما يعرف سبب قتل الفتاة ، وأن المسبب الحقيقي لهذه الجريمة عبد من العبيد غير معروف الهوية ، فيقول الخليفة لجعفر البرمكي [ أحضر لي هذا العبد الخبيث الذي كان سبباً في هذه القضية وإن لم تحضره فأنت تقتل عوضاً عنه ](1) .
إن هذه الحكاية بقدر ما حاولت من النيل من حكام الدولة العربية الإسلامية ، حاولت كذلك أن تقول أن نكبة البرامكة التي نفذها الخليفة هارون الرشيد ، لم تكن بسبب جناية قد اقترفوها أو خيانة قد دبروها ضد الخليفة والدولة والأمة العربية ، وإنما كان سبب نكبتهم حمق هذا الخليفة وتهوره وجنونه التي راح ضحيتها هذه العائلة التي خدمت العباسيين بكل إخلاص ، ولكن التاريخ يكذب هذا التزوير وهذا الهذيان الشعوبي الأخرق .
ـ 8 ـ
هناك صورة أخرى زاهية عن الحكام جاءت بها الحكايات ، ألا وهي صورة ملوك التاريخ العظماء ، وجميع من ذكر فيها من الأصول الأعجمية الفارسية ، ولا يوجد بينهم عربي واحد ، هذه الصورة الزاهية ، أبرزت الصفات المثالية التي عليها ملوك الفرس وأمراؤهم ، فأظهرتهم آية في العدل والسهر على مصالح الرعية ، وعلو همتهم وروعة حكمتهم ورجاحة عقولهم . فهذه حكاية أنوشروان الفارسي التي يوصف فيها بالملك العادل ، فهو يُظهر يوماً المرض ويأمر ثقاته أن يطوفوا أقطار مملكته وأكتاف ولايته ليأتوا له بلبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها ، كما أشار عليه الأطباء ، وعندما يعود الثقاة إلى مليكهم ويخبرونه بفشلهم في إيجاد طلبه ، يفرح أنوشروان ويقول لحاشيته [ إنما أردت أن أجرب ولايتي وأختبر مملكتي لأعلم هل بقي فيها موضع خرب لأعمره وحيث أنه الآن لم يبقَ فيها مكان إلا وهو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجة الكمال ] ، ثم تأخذ هذه الحكاية بمدح ملوك الفرس بشكل صريح [ فعلم أيها الملك أن أولئك الملوك القدماء ما كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولايتهم إلا لعلمهم أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفر لأنهم كانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه حيث قالوا أن الدين بالملك والملك بالجند والجند بالمال والمال بعمارة البلاد وعمارة البلاد بالعدل في العباد فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم ولا يرضون لحشمهم بالتعدي علماً منهم أن الرعيـة لا تثبت على الجور وأن البلاد والأماكن تخرب إذا اسـتولى عليها الظالمون ](1) .
فأين حكام الدولة العربية الإسلامية ؛ في كتاب ألف ليلة وليلة ؛ من هذا كله ، فهم لا دين لهم ولا ذمة ، وبلادهم خراب تنعق بها وعلى أنقاضها الغربان ، ورعيتهم مقهورة مسحوقة تحت وطأة الظلم والطغيان ، وتفتقد هذه الرعية أبسط قواعد العدل والإنصاف وتفتقر للأمن والطمأنينة ، والمقربون من الحكام العرب يعيثون إفساداً وفساداً في الأرض أمام أعين أسيادهم ، فهم بالجملة ظالمون طغاة متجبرون .
وعملت الحكايات على تصوير عظمة آل برمك الفرس ، وإبراز حسن سيرتهم بين الناس ، وذلك كلما سنحت لها الفرصة بذلك ، فلا أحد يستطيع أن يفك العاني والمغموم وأن يقدم مساعدة لمن وقع في محنة ، غير البرامكة ، حتى الخليفة نفسه لا يستطيع أن يعمل عملهم الخيِّر اتجاه الرعية [ لا أحد يقدر على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك غير البرامكة ](1) . واتبعت الحكايات في ذلك أسلوب لا يخلو من الخبث والمكر للوصول إلى غايتها الشعوبية الحاقدة ، فهي كلما أظهرت الخليفة الرشيد بمظهر مزري منحط ، أظهرت بالمقابل محاسن البرامكة وعظمتهم ، كما رأينا في حكاية الفتاة المقتولة ، التي تظهر مدى جهل وحمق الخليفـة الرشيد ، ومدى عدل وحكمة جعفر البرمكي .
ونرى مثل هذه المقارنة الشعوبية الماكرة ، في حكاية منصور بن زياد عامل الخليفة الرشيد ، فبينما تظهر الحكاية تشدد وتعنت الرشيد في معاملة رجاله وأعوانه ، المنكب على ملذاته ، الناسي أمور رعيته ، الغافل عن مشاكل دولته ، تظهر الحكايات وبنفس الوقت ، البرامكة الفرس ، بأنهم الملاذ الوحيد وملاك الرحمة في التخلص من هذا الظلم والتشدد والتعنت ، المسيرين أمور الدولة بكفاءة وخبرة عالية ، الساهرين على راحة الرعية ، فعندما يأمر الخليفة الرشيد عامله منصور بن زياد بتسديد ما عليه من ديون لبيت المال ، ويساعده البرامكة على تسديد هذا الدين ، ويعلم الرشيد بذلك ، يقول انه لا يقدر أحد على إنقاذ منصور إلا البرامكة ، فكأنه بهذا كان يعلم أن عامله لا يملك المال اللازم لسداد ديونه ، وأن طلبه تسديد ما عليه ، فيه تعسف وظلم وتكليف بما لا يطاق ، وأن البرامكة هم أصحاب فضل على من يغدر بهم الخليفة ، من الخاصة والعامة ، ويزيد فضلهم حينما ينقل إليهم الواشي جحود منصور ، وأن هذا الرجل الذي أنقذوه من موت محقق على يد الخليفة ، ينكر جميلهم عليه ، ويقر أنهم فعلوا معه ما فعلوه خوفاً منه لا كرماً منهم ، فيلتمسون له العذر ويسامحونه(1) .
وفي حكاية الحمال والثلاث بنات ، يظهر فيها وفاء البرمكي جعفر بن يحيى ، وحنث الخليفة الرشيد بالوعد وعدم وفائه به ، حيث أن البنات الثلاثة قد اشترطن على من حضر مجلسهن في تلك الليلة أن لا يسألهن شيئاً عما يرونه من حالهن ، وبعد أن يرى الخليفة ؛ المتنكر بزي التجار ؛ غريب حالهن ، يصر على معرفة أمرهن ناسياً الوعد الذي قطعه على نفسه ، ولكن جعفر لا يرضى أن يحنث بوعده فيقول : [ ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا شرطاً فنوفي به ](2) .
إن مثل هذه المقارنة الشعوبية بين جهل وحمق وظلم وغدر الخليفة الرشيد وبين عقل وحكمة وعدل ووفاء البرامكة ، كثير جداً في أحداث الحكايات ، وكأنها أرادت من هذه المقارنة الشعوبية تبيان سفه وجهل وظلم وغدر الحكام العرب المسلمين ، من خلال سفه وجهل وظلم وغدر الخليفة ،المفترى عليه هارون الرشيد ، ورشد وعقل وعدل ووفاء الملوك والأمراء الفرس ، من خلال رشد وعدل ووفاء البرامة الفرس .

# * # * #
لقد نجحت الشعوبية من خلال حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، من تشويه حقيقة السلطة العربية الإسلامية ، وإظهارها بمظهر الخارج على الدين ، الجائر على العباد ، الساهية عن أمور الرعية ، المنغمسة في الملذات والرذيلة ، وبذلك تسوغ للعامة الخروج على السلطة ، ودفعهم للعمل على هدمها ، وتحاول أن تؤثر في نفوس أهل الورع والتزمت من رجال الدين وعلماء المذاهب ، وتثيرهم عليها .

عبد اللطيف ذياب أحمد
14/03/2011, 11:03 PM
( الجزء الخامس

الباب الخامس
حياة العرب الاجتماعية
في ألف ليلة وليلة

تمثل الحياة العربية الحقة الوجود العربي الحق ، ويمثل الوجود العربي الحق الماهية العربية الحقة ، بمقوماتها الأساسية ، التي هي الجنس والأرض واللغة والدين والتاريخ ، كما تمثل خصائصها الأصيلة المتمثلة في : التأليهية المُوَّحِدَة والمثالية المثابرة والروحانية الصافية والأخلاقية العالية والإنسانية الخيرة والحضارية البناءة . فالحياة العربية الحقة ما هي إلا التجسيد الحقيقي والحي لحقيقة الأمة العربية التي هي القومية العربية عينها ، بكل مقوماتها وسماتها وخصائصها ومميزاتها وأركانها . كما تمثل ؛ هذه الحياة الأصيلة ؛ حياة الطهر والبراءة والصفاء والنقاء والتعالي والسمو والروحية والمعنوية والسماوية والأخروية . كما أنها تمثل حياة البساطة الإنسانية الموجبة ، في طبيعتها الفطرية وعفويتها ، وفي اعتدالها واتزانها ، وفي تعادلها وتوازنها .
ومن هنا ، فإن هذه الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، إذ تنشد التحضر ، تنشده حقيقة وحقاً لا زيفاً وباطلاً ، وجوهراً ومضموناً لا عرضاً وشكلاً ، أي تنشده تحضراً في الروح والقلب والعقل والضمير والذوق والشعور ، لا تحضراً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والاستماع (1) .
وقد هال الشعوبية هذا السمو في الحياة العربية ، فأخذ دعاتها يوجهون دسائسهم ويعملون نفاقهم ويلفقون أكاذيبهم في تشويه هذه الحياة الرائعة ومسخها ، وقد تستروا وراء التجاوب الحضاري بين الأمة العربية والأمم الأخرى ، وخاصة الأمة الفارسية منها ، بأن عمدوا إلى نشر المظاهر البريئة ، مثل وضع نظم جديدة لآداب المائدة وإدخال أذواق أخرى من الملبس المأكل وبناء المسكن ، إلى غير ذلك من آداب الحديث ، وترتيب المجالس والندوات ، وأشباهها من ضروب مظاهر الحياة الاجتماعية الفارسية [ 00 فتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني ] (2) .
وبدأت الحياة العربية تشاهد سيلاً من الاقتباسات الفارسية في الشؤون الاجتماعية ، لم تلبث أن بدأت تتلوث بجراثيم دعاة الشعوبية القاتلة ، فأخذ الشعوبيون يعملون رويداً رويداً على أن تتحول ؛ مثلاً ؛ آداب المائدة وتعاليمها الجديدة إلى سموم تنفث في جسد المجتمع العربي الإسلامي ، ومعاول تهدم تقاليد العربي في هذا الميدان المعروف ببساطته عند أبناء الأمة العربية واحترامه للفطرة السليمة . ونشر الأذواق في الملبس بما يؤدي إلى ازدياد الأناقة ازدياداً مفرطاً تحوِّل صاحبها إلى مرتبة التخنث وتبعده كلياً عن المظهر الرجولي الذي ألفه العربي في بساطة ملبسه ، وما تنطوي عليه هذه البساطة من دلائل الرجولة الكاملة وهيبتها ، التي تدعو إلى الاحترام والتوقير . ولم تقف الشعوبية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى ما هو أدهى وأشد من التأنق بالملبس والمأكل ، لإفساد الحياة العربية الأصيلة ، إذ عمدت إلى نشر كل ما صاحب حياة الأمة الفارسية من انحلال ، مثل الإقبال المفرط على معاقرة الخمور جهاراً والانغماس في الملذات الجنسية المفرطة بدون حياء ، حتى يصبح الفرد عبداً لغرائزه الدونية وأسيراً لنزواته الجسدية الرخيصة ، ليكون في ذلك ، ضيق الأفق سلبي العطاء ، لا يقدر على أن يتبين مواضع الغي من الرشد .
ومنذ أن انطلقت الحياة العربية الجديدة ، بعد التحامها المصيري بعقيدة العرب الكبرى ، التي هي الإسلام ، في مسار كينونتها التكاملية التفاعلية الكبرى ، القائمة على التطور الوجودي الخلاق ، انطلقت الشعوبية ؛ الحاقدة ؛ بدورها تعمل على تخريب هذه الحياة ، داخلاً وخارجاً وظاهراً وباطناً ، لتحول بينها وبين بلوغها منتهى كمالها الإنساني الحضاري المنشود .
وقد تركز نشاط الشعوبية التخريبي للحياة العربيـة بالتهجم
الشديد على مجمل ما كانت تحمله هذه الحياة من قيم ومثل ومبادئ ومعتقدات ، أو من عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات ، أو من شرائع وقوانين ونظم ومؤسسات ، أو من أنماط المأكل والمشرب ، والتفاخر بحيوات الأمم الأخرى لا سيما حياة الأمة الفارسية ، فقد بالغت الشعوبية الحاقدة مبالغة كبيرة في إبراز عظمة تلك الحيوات الأعجمية ، مما لا يمت إلى الحقائق أو الوقائع التاريخية بصلة .
وعملت الشعوبية على تسريب مختلف الألوان الحياتية الأجنبية الغريبة والشاذة إلى الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، وعلى نشرها وتعميمها وإرساء قواعدها ، بحيث ينجم عن كل ذلك مسخ الحياة العربية القومية الأصيلة ، وبالتالي إسقاطها في مهاوي السلب والعقم والعطالة ، ذلك أن الحياة الإبداعية الخلاقة هي ما كانت منسوجة نسجاً إيجابياً قويماً من الأصالـة الذاتيـة الحقة (1) .
ـ 2 ـ
لقد حاولت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تصور الحياة العربية تصويراً شعوبياً حاقداً ، حيث أظهرت هذه الحياة ترفل بالتحلل الخلقي ، قائمة على الوحشية والعنف والجهل والجدب العلمي والإبداعي ، مبنية على التوكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة والالتزام والشعور بالمسؤولية ، وقد اتبعت الحكايات كعادتها في ذلك الكذب والتلفيق والتشويه والتزوير والتحريف ، فتوجهت إلى الصور المشرقة والحية الرائعة في الحياة العربية ، وعملت مكرها ودهاؤها في مسخ هذه الصور وطمس معالمها ، وأخذت من الصور السوداء الشاذة وكبرتها وضخمتها وسلطت الضوء عليها ، موحية بأن ليس للأمة العربية إلا هذه الصور الشوهاء .وغايتها من عملها هذا ، غاية شعوبية صرفة ، ألا وهي إثارة الشك وريبة في نفس الإنسان العربي اتجاه حياة أمته العربية وتشويه صورتها الرائعة في نفسه ووجدانه ، لدفعه من ثم دفعاً إلى أن يستصغر هذه الحياة واحتقارها واستهجانها ، ومن ثم نبذها وابتعاده عنها كلياً ، والبحث حن حياة غيرها من حيوات الأمم الأخرى ، وبهذا يكون قد قطع كل صلة تربطه بتلك الحياة ، ومن ثم تنقطع كل صلة له بأمته العربية ، عندئذ يتردى الإنسان العربي ،حتماً ، في مهاوي الضياع التي لا نجاة له منها مطلقاً ، حيث تصبح حياته كإنسان وحياته كأمـة ، على كف عفريت الاسـتلاب والاستعباد .
فصورت الحكايات ، الحياة العربية بأنها حياة متحللة ترفل بالعيوب اللاأخلاقية المنحطة ، وهذا التصوير الكاذب المفترى ، لا يستند إلى أي حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما يستند بالأساس إلى عقدة الإسقاط ، أي إضافة العيوب المرتبطة بالمجتمع الفارسي المتحلل إلى المجتمع العربي الإسلامي .
إن ما يوصف به المجتمع العربي الإسلامي في هذا الخصوص ، ليس إلا قطرة في محيط العقد اللاأخلاقية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفارسي إلى يومنا هذا ، يقول الدكتور شوقي ضيف في ذلك : وكان تأثير المزدكية في المجتمع الفارسي أشد عمقاً بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقي والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع في إباحية مسرفة (1) ، ومن مظاهر هذا التحلل الخلقي الزنا ، فقد عرف المجتمع الفارسي الزنا وكان متفشياً بين أبناء هذا المجتمع ، مألوفاً لديهم لا يستنكره منهم أحد ، بينما لم يحبذ أبناء الأمة العربية هذه الظاهرة اللاأخلاقية الذميمة ولم يألفوها في أي عصر من عصورهم الموغلة في القدم ، وكان أشرافهم في الجاهلية يُحذرون قومهم من الزنا ويذمونه وينهون عنه وقد كانت لهم وصايا تحذيرية كثيرة في ذلك ، حيث نرى في وصية دريد بن الصمة حين يقول : إيّاكم وفضيحة النساء فإنها عقوبة غد ،وعار أبد ،يكاد صاحبها يعاقب فـي حرمـه بمثلها ، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها(1).
لقد صورت الليالي ، الحياة العربية حياة داعرة عابثة وماجنة مستهترة ، تقوم على تحري اللذائذ الجنسية ومعاقرة الخمور وسماع الغناء وما هنالك من لهو خبيث ، فالإنسان العربي ، في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له هدف ولا غاية يبتغيها في هذه الحياة المنحلـة ،إلا الحصول على امرأة جميلة ذات وجـه حسن وصوت مغرد ، بأي شكل من الأشكال ، وبأي ثمن كان ، حتى لو كان في ذلك فقد ما لديه من مال أو فقدان روحه حتى ، وينسى عند ذلك والديه وأولاده ، كل ذلك لإشباع غريزته الجنسية الحيوانية ، لذا صورة الحكايات ، المرأة في نظر العربي ، على أنها متاع بل من سقط متاع الدنيا ، تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، وتنهب ويسلب عفافها دون رادع من خلق أو دين ، فهي موضوع الجنس وأنها مسلوبة الإرادة أمام الرجل لا تستطيع دفع أو مقاومة الإغراء الجنسي .
فهذه حكاية مزين بغداد تظهر لنا هذا الاندفاع الجنسي عند المرأة العربية ، فهاهي زوجة البدوي تراود أخا مزين بغداد عن نفسه ، مع بشاعته التي تصفها لنا الحكاية ، وتستمر المرأة العربية بمحاولتها مع هذا القبيح ، حتى بعد أن يقوم زوجها بقطع شفتيه مما يزيده قبحاً على قبح يقول المزين[وكان للبدوي زوجة راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره](1) .
وأكثرت الحكايات من التغزل بالنساء ، أمعنت في الإفحاش بهذا الغزل الذي لم يعرف له مثيل عند العرب على الإطلاق ، ومرجع هذا الفحش كما يقول أحمد أمين : وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان ، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به ، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم ، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر ، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعاً ، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة(2) ، وفعلاً نرى هذا القول ينطبق كل الانطباق على حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، فهي من وضع وإخراج فارسي حتماً وبلا أدنى شك ، وذلك بما تحمله من روح فارسية ، ثم أن جميع الشعر المذكور في أحداث الحكايات ، أما أن يكون من وضع شاعر فارسي شعوبي كأبي نواس ، وأما أن يكون شعراً محرفاً ، قام بتحريفه واضعو هذه الحكايات ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، تدفع المرأة بالفعل إلى انتهاج نهج الدعارة والفجور ، وتلطف هذا المنهج لها وتحببه على قلبها ، وتهونه في عينيها ، كما أنها تدل وترشد المرأة على السبيل التي يمكن لها عن طريقها انتهاج هذا المنهج اللاإنساني الأسود .
وليست حياة العربي في الحكايات وقفاً على الانحلال الخلقي ، من خلال امتهان إنسانية المرأة ، بل هي مبنية أيضاً على معاقرة الخمور وسماع الغناء ، فلا تحلو حياة الإنسان العربي ولا ينال السعادة والفرح والسرور ولا يهنأ بعيش ، ما لم يجتمع له الوجه الحسن والكأس المرجرج المشعشع ؛ حسب تعبير الحكايات ؛ والصوت الطروب ، فيقضي الإنسان العربي ، من عليَّة القوم كان أم من عامتهم ، أيامه ولياليه في التحري عن هذا الثالوث ، لا يشغله شاغل في مسائه وصباحه ومستقره وترحاله ، إلا كيف الحصول على هذا الثالوث الغير مقدس، فإن ناله نسي كل شيء ، نسي الرعية إن كان خليفة أو أمير مثل ما جرى للخليفة هارون الرشيد ، كما تقول الحكاية : [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاظي وقعد شهراً كاملاً لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ](1) . ونسـي تجارته إن كان تاجراً ، ونسي عمله إن كان عاملاً ، بل أنه ينسى حتى دينه ، فلا عبادة ولا تعبد طالما هو في مجلس الأنس والجواري الحسان ، ويتمنى في قرارة نفسه أن يقضي بقية عمره على حاله هذا وفي مجلسه الذي يجلسه ، وكأنه قد جبل على ألفة هذا الثالوث اللعين جبلة فطرية .
هذا هو الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، وشتان ما بين هذا الكذب والتزوير ، وبين الحقيقة التي عُرف بها الإنسان العربي ، فقد عُرف هذا الإنسان من خلال تاريخه الطويل الحي ، بالعمل الدؤوب والسعي الدائم في توفير مستلزمات حياته الإنسانية ، وعرف بخشونة الحياة التي يحياها من خلال تجواله الدائم في أرجاء صحرائه الشاسعة ، التي أمدته ببساطة عيشه وفطرية حياته وعلو قيَّمه وسمو أخلاقه ، فلا يرضى أن يتخلى عن طبيعته قط ، حتى ولو كان في أعلى مراتب الغنى وبسط الحال والاقتدار ، روى ابن خلدون في تاريخه ، أن الحجاج بن يوسف الثقفي أَولَمَ في ختان بعض ولده ، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس ، وقال : أخبرني بأعظم صنيع شهدته ، فقال له : نعم أيها الأمير ، شهدت بعض مرازبة كسرى ، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ـ أربعاً على كل واحد ـ وتحمله وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس ، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ، فقال الحجاج : يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس (1) ، كأن الحجاج رأى في هذه العادة الفارسية ما يعارض طبيعته العربية ، لما فيها من إسراف وفخفخة كاذبة لا تستسيغها النفس العربية ، فنفر منها إلى عادات قومه وطبيعتهم .
فإذا كانت الحياة العربية عرفت مثل هذا الإسراف والمجون واللهو الخبيث ، فهي حتماً ظاهرة دخيلة على الحياة العربية الأصيلة ، ابتلت بها مما ابتلت بغيرها أبان عصور ضعف سلطان النفوذ العربي وتعاظم نفوذ السلطان الأجنبي ، [وعظم سلطان الفرس في عصره – هارون الرشيد – وعلى رأسهم البرامكة ، والفرس من قديم الزمان يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور ، والإفراط في حب النبيذ ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ وتجعله من شعائرها ، ولا يزال النبيذ كما يقول الأستاذ براون إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية ، كان الفرس قديماً يفرطون في شرب النبيذ ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء ، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب واللهو الخبيث ، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية ، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون ، نشـروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة ومـا كان فيهـا من لهو وعبث ](1) .
إذاً ، فإن هذه الحياة العابثة الماجنة التي صورتها الحكايات على أنها الحياة العربية الإسلامية ذاتها ، ما هي إلا صورة كاذبة ملفقة مفترية ، لأن الحقيقة تقول بأنها حياة غريبة كل الغرابة ولا تمت بصلة لحياة الأمة العربية ، وما هي إلا مظهر أصيل من مظاهر الحياة الفارسية المنحطة ، أسقطت عيوبها على حياة الأمة العربية مِن قِبَل مَن وضعوا وصنفوا حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، نعم أنها حياة الأمة الفارسية التي أَلِفَ أبناء جلدتها حياة الترف والفجور وعب الخمور منذ أقدم العصور ، وأفرطوا في طلب كل الملذات وخاصة الخبيثة منها وتفننوا في تحريها وابتدعوا السبل الخبيثة للوصول إليها ، ووضعوا الأساليب لممارستها .
ـ 3 ـ
ظهرت الحياة العربية في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، حياة قاحلة قاسية لا علم فيها ولا تعلم ، ولا نظام ينظمها ولا انضباط يضبطها ، ولا أمان ولا استقرار فيها ، حياة بدائية حيوانية تقوم بمجملها على الفوضى والجهل ، وتسيطر عليها شريعة الغاب الغاشمة ، جهل مطبق يسيطر على جميع مناحي هذه الحياة ، لا أثر للعلم ولا للعلماء فيها ، وكل ما يناله الإنسان العربي من العلم ، حفظ بعض آيات من القرآن الكريم ، يحفظها في صغره بمساعدة والديه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما الخاصة من العرب ، وبالذات الذين يدعون العلم والمعرفة ، فليس لديهم ؛ في الحكايات ؛ من سمات العلماء شيء ولا يملكون من العلم إلا الادعاء ، وبعض المظاهر الكاذبة التي يظهرونها للعامة لإقناعهم بأنهم أهل علم ومعرفة سرعان ما ينكشف أمرهم ما امتحنوا ، حتى ولو من قبل عاهرة فارسية ، كالجارية الفارسية تودد ، فهي تستطيع وبكل يسر التغلب عليهم وتسفيه آراء جمع منهم والزراية بهم وبعلمهم ، ولو كان النظام بن سيار بعلمه الواسع من بينهم ؛ كما تقول الحكاية ؛ أما فقهاء العرب في الدين ، فهم لا يفقهون شيئاً لا في أمور دينهم ولا دنياهم ، ليس لهم عمل إلا التحايل ؛ باسم الدين ؛ على حل المشاكل المخزية التي يقع بها ولاة نعمهم من خلفاء وحكام وأمراء وأثرياء ، بسبب طيشهم وحمقهم وطغيانهم ، حيث يقوم الفقيه بدور حلال مشاكل هؤلاء الخلفاء والحكام والأمراء والأثرياء ، بإيجاد الفتاوى المناسـبة لها ؛ نادراً ما تكون هذه الفتاوى متطابقـة ونصوص الشريعة ؛ لينقذ ولي نعمته من الوقوع بالإحراج أمام الناس ، قاصداً الاستفادة المادية والقربة وينسى الله وغضبه عليه . هذا ما نراه بوضوح عندما تذكر الحكايات في أحداثها الفقيه الجليل أبو يوسف الأنصاري وأمثاله ، فهم يقومون بالإفتاء ، لا من أجل الشريعة ورب الشريعة ، بل تقرباً من ذوي السلطان لكسب شيء من حطام الدنيا .
أما إذا ما ذكر علم من العلوم ، في الحكايات ، فلا يذكر إلا على لسان جارية من الجواري ، وعلى الخصوص ذوات الأصول الفارسية ، فهم عارفات بجميع العلوم ، الدينية والفلسفية واللغوية والفقهية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم أخرى ، أو على لسان وزير يصرح بأعجميته الفارسية ، كالوزير شماس ، أو على لسان ابن ملك فارسي ، كورد خان ابن الملك جلعان . لقد أرادت الحكايات من ذلك إظهار ؛ حسب زعمها ؛ ما تعانيه الحياة العربية من جهل وتخلف ، ومن ثم توجيه الإهانات بشكل مباشر لعلماء الأمة العربية وفقهائها والاستهزاء بهم إلى أبعد ما يكون الاستهزاء ، وبعد أن فعلت ذلك ، عملت على إظهار تفوق الأمة الفارسية في المجال العلمي وأنه حكر عليها ، وإن فارق السلطان هذه الأمة فإن العلم والمعرفة ما زالا لها وحدها وليس للعرب لهم منه شيء البتة .
كما صورت الحكايات ، الحياة العربية الإسلامية ، بالحياة المملوءة بالخوف والرعب ، لا أمان فيها ولا استقرار ، حياة تسودها شريعة الغاب الغاشمة ، القوي فيها يأكل الضعيف ، وفيها تنتهك الأعراض ، حياة يتلاعب بها اللصوص وقطاع الطرق،ويسيطر على مقدراتها المحتالين والشطار [ يا ولدي لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار كثير وتنبت فيها الشطارة كما تنبت البقل في الأرض ] يعيثون في الأرض فساداً ويتلاعبون بمصائر الناس ، ينهبون أموالهم ويسلبون أرزاقهم ، ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ويزهقون أرواحهم ، ليس للناس منهم ولي ولا نصير ، لا من سلطان ولا من أمير .
حياة ، ليس فيها شيء مصان ، فأعراض الناس مباحة ، تنهب نساؤهم وتغتصب حرائرهم لتهدى لخليفة أو أمير ، ليحظى الفاعل برضى هذا الخليفة أو ذاك الأمير ، دون اعتبار لخلق أو دين ، وتذكر لنا الحكايات مثل على ذلك في حكاية الحجاج بن يسف الثقفي مع الجارية ( نعم ) ، والمال عرضة للنهب والاستلاب من قبل ولي الأمر ، لنـزوة تعتريهم أو غضب يلم بهم على أحد أبناء الرعية ، فهذا الأمير محمد بن سلمان عامل هارون الرشيد على دمشق يأمر بنهب دار غانم بن أيوب ، لأن الخليفة قد غضب عليه [ ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليـه بدار غانم بن أيوب ](1) .
حياة تسيطر عليها الفوضى والضياع ، الحكام في واد والرعية في واد ، الحكام طغاة ظالمون ، في ملذاتهم لاهون ، عن أمور رعيتهم ساهون ، القضاة مرتشون شهوانيون لا هم لهم غير كنز المال والتحايل على النساء ، لا يميزون بين الحلال والحرام ، والرعية وحدها تدفع الثمن ، أفرادها يصطلون بنار ظلم وجور الحكام ، واقعون تحت رحمة أقوياء غاشمون ، يُقتلون ويُسلبون يُعرون ويجوعون ، لا يجدون لهم في هذه الحياة البائسة السالبة ، التي غابت عنها معاني الإنسانية ، ولياً ولا نصيراً .
وعلى هذا فإن الحياة العربية التي صورتها الحكايات ، ما هي إلا حياة حيوانية لا تمت بصلة إلى حيوات البشر ، حياة غابة يقطنها وحوش كواسر ، تتصف بالغشم واللؤم والشرسة ، وتتسم بحب سفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ، القوي يأكل الضعيف بدون رحمة ولا شفقة ، حياة تشمئز منها النفس البشرية السوية ، ويأبى الانتماء إليها أي مخلوق ، ومن ذا الذي يرغب أن ترتبط حياته بمثل هذه الحياة البهيمية ؟ لهذا كله كانت الحياة العربية في الحكايات ، حياة قاسية يسيطر عليها الخوف والجهل ، وتنتشر فيها مظاهر الدجل والتخريف والتعلق بالأسباب الموهومة في الحصول على الرغائب ، لعجز الإنسان عن تحصيلها بالوسائل المعقولة ، واعتقاد عامة الناس بالسحر والطلاسم والبحث عن الكنوز المخبوءة ، ونحو ذلك من مظاهر الدجل والتخريف .
هكذا أراد واضعو الحكايات ، أن يظهروا هذا الجانب من حياة الأمة العربية ، والحق يقال : لقد أبدعوا هؤلاء الشعوبيون ، الوصف وأتقنوا التزوير والتهويل ، حتى يكاد أن يحسبها المتلقي حقيقة لا جدال فيها من حقائق الحياة العربية .
ـ 4 ـ
وعمدت الحكايات إلى إظهار الحياة العربية ، بأنها حياة قائمة على التوكل والبطالة ، والركون إلى القضاء والقدر ، أي أنها حياة سالبة ، تفتقر للمثابرة والإيجابية ، وتتسم بالعدمية واللامسئولية ، حياة موات جامدة بعيدة عن العطاء والفاعلية ، وذلك بما أشاعته الحكايات في مجريات أحداثها لمبدأ الجبرية ، الذي هو أحد أسـلحة الشعوبية الفتاكة الذي أشـهرته بوجه الحياة العربية الإسلامية بخاصة ، وبوجه كل ما يمت للدين الإسلامي بعامة . حيث جردت الإنسـان العربي ، بهذا المبدأ ، مـن حريـة الاختيار ؛ اختيار أفعاله وأعماله ؛ ولم تترك له أثراً شخصياً في تصرفاته [ وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](1) .
الحقيقة أن هذا المبدأ ، من ابتداع رجال منحدرين من أصل فارسي ، ينتسبون إلى الإسلام زوراً ، وهم حاقدون على الأمة العربية وعلى دينها الإسلامي الحنيف ؛ مثل جهم بن صفوان وأضرابه ؛ ممن أطلق عليهم تسمية الجبرية ،حيث قالت هذه الجماعة الضالة المضللة : أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فأنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى غير الله فسبيله إعجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس(2) . وغايتهم من إشاعة هذا المبدأ ، في المجتمع العربي ووصمه به ، ما هي في الحقيقة إلا كيدٌ للدين الإسلامي الحنيف وتشويهٌ لمبادئه الإلهية العظمى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تعطيل مسيرة الحياة العربية الخلاقة ،حيث أن هذا المبدأ الفارسي ، [ مـن التعاليم الهدامـة التي كانت تدعو إلى البطالـة والتواكل
والركون إلى القدر من غير عمل حتى تصاب الأمـة العربيـة

بشـلل اقتصادي وتلك هي رغبة الموالي ](1).
ولا يقتصر هذا المبدأ الشعوبي الهدام على إشاعة الكسل والخمول في المجتمع العربي فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى الإباحية ، وهو ما تقول به الديانة الفارسية القديمة [ كانت النظرية الزورانية التي شاعت أيام الساسانيين وبالاً على الدين إذ بثت فكرة الجبر وهي السم الزعاف للديانة المزدية ](2) ، هذا ما تريده الشعوبية للمجتمع العربي ، ذلك لأن مبدأ الجبر يهيئ أسباب الرذيلة والفساد للإنسان ، ويُسَوِّغ له ارتكاب الخطيئة والإثم ما دام مسيراً غير مخير ،وأفعاله كلها من عند الله وبالكتاب مسطور ، فإن زنى الزاني فذلك بقضاء الله ، فهذه صبية تزني مع حشـاش تقول :[فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان من قضاء الله عليـا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](3) .
هذه الجبرية المطلقة التي وصف بها الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، والتي أريد بها إظهاره بمظهر حيواني بحت ، ومن ثم دفعه دفعاً للانغماس في ملذاته وشهواته الدونية ، والوصول به إلى الغاية الشعوبية الهدامة ، من خلال إلغاء دور هذا الإنسان الحضاري المثال ، والحد من مساهمته الإيجابية الفعالة في ديمومة الحياة والبناء الحضاري ، ونشر رسالة الإسلام الخالدة ، إن هذه الجبرية لم تكن إلا من ابتداع الشعوبية مستلهمة من تراث الفرس الفكري
# # # #
إن هذه الحكايات الشعوبية في حديثها عن الحياة العربية الإسلامية ، وتصوير سلبياتها ، مالت بكل وضوح إلى التضخيم والتهويل مع الكذب والتزوير والافتراء وإنكار إيجابيات هذه الحياة ، والدافع من وراء ذلك ، أن هذا التضخم في سلبيات الحياة العربية مرده عقدة الإسقاط ،كما وضحنا سابقاً ، ومن ثم نظرة الاستعلاء العنصري المسيطرة على الفرس .

( الجزء السادس )

الباب السادس
السلطة العربية
في ألف ليلة وليلة

السلطة في الأمة تعني القيادة المسؤولة عن تطبيق القانون والعمل بمقتضاه ، وهي كفيلة بإقرار العلاقات بين الراعي والرعية ، على أساس من السلم والعدل والطمأنينة ، التي ينهض عليها بناء السلام الاجتماعي سليماً راسخ الأركان ، وهي ضرورة لازمة في بناء الأمة ، وركن أساسي من أركان الدولة ، لا يمكن الاستغناء عن هذا الركن أو تجاوزه بأي حال من الأحوال ، لما له من أهمية وخطورة في حياة الأمة واستقرارها ورقيها .
فبالسلطة وحدها يصان الدين والشريعة ، وبها تحافظ الأمة على سلامة كيانها وصون وجودها ، ومن ثم تحافظ على أمن واستقرار أبناء الأمة وإشاعة العدل فيما بينهم ، وتحفظ لهم دينهم ودنياهم ، أي أن السلطة هي الحارس الأمين للأمة في الداخل والخارج ، وإن ضياعها وهدمها يعني ضياعاً لهيبة الأمة وقوتها ، فيكون بذلك ، ترديها في مهاوي الفوضى والضياع ، ومن ثم استلابها وتفتتها وموتها .
وقد أوجبت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ، منذ القدم ضرورة السلطة للأمة ، فكانت في الإسلام ضرورة لازمة للحفاظ على الدين والدنيا ، [ مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد ، فالفسطاط الإسلام ، والعمود السلطان ، والأطناب والأوتاد الناس ، لا يصلح بعضه إلا ببعض ](1) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا : يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها ، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي ،عليه الصلاة والسلام ، إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم (2) .
ولقد اتخذت الدولة العربية الإسلامية الوليدة الخلافة لنظام الحكم فيها ، فكانت الخلافة هي الشكل القومي المستحدث بها ، وقد وجدت في هذا الشكل من نظام الحكم التعبير الصحيح عن المجتمع العربي في صيرورته الحقة المنشودة ، والتجسيد السليم للأمة العربية في كينونتها الحقيقية المثلى ، وقد اتخذت هذه الخلافة شكل كيان دنيوي آخروي معاً ، جامعة بين السلطتين الروحية والزمنية التي تنتظم وتنظم حياة المجتمع العربي بكامله ، أفراداً وجماعات وهيئات ، وشعباً ووطناً وأمة وحضارة (1) .
فالسلطة في الدولـة العربيـة الإسلامية ، قامت على مبادئ الإسلام وأسسه ، ومن أجل تحقيق هذه المبادئ والأسس وصيانتها ، إذاً فهي من الإسلام وللإسلام ، فالسلطان والدين إخوان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر ، كما يُقال ، أي أن هناك علاقة عضوية متينة بين الإسلام وسلطته ، ونظراً لهذه العلاقة العضوية المتينة ، فإن أي تخريب لأي منهما يؤدي حتماً إلى تخريب الآخر .
فالغاية الأساسية من السلطة في الشريعة الإسلامية أن تحافظ على مصالح الأمة الدينية والدنيوية معاً ، لأنه منوط بها شرعاً العمل على تحقيق المصالح الدنيوية لأفراد الأمة ، ودفع المضار والمفاسد عنهم ، ومطلوب منها في الوقت نفسه أن تعمل على الحفاظ على دينهم وتحقيق المصالح الآخروية لهم ، وبمعنى آخر ، تقوم السلطة بتحقيق الغاية الأساسية من الحكم في الإسلام ، وهي حراسة الدين وسياسة الدنيا .
ـ 2 ـ
لقد أدركت الشعوبية قيمة السلطة العربية في استمرار الدولة العربية الإسلامية ، وقوة وعزة أبناء الأمة ، فعملت جاهدة على تخريب هذه السلطة ، والعمل على إضعافها بشتى الأساليب وبمختلف السبل ، المباشرة والغير مباشرة منها ، أما الأعمال المباشرة ، فقد تكلمت عنها كتب التاريخ بكثير من التفصيل ، والتي تتلخص بقيام الحركات المسلحة الهدامة ضد السلطة في الدولة العربية ، أما الأعمال الغير مباشرة ، فهي العمل على إظهار العرب بصورة لا تؤهل أياً منهم لإمارة أو قيادة دفة الحكم وإدارة المجتمع ، وإظهار السلطة العربية الإسلامية بمظهر مخالف لحقيقتها الحقة ، وذلك ليسهل على الشعوبية النيل منها .
وبما أن العدالة هي المعيار الرئيسي والأساسي الذي يحكم الناس بموجبه على صلاح السلطة أو الحاكم منذ أقدم العصور ، وخير الحكام بنظر الناس العادل وأسوأهم الظالم ، وأحسن ما يخلد ذكر الحاكم الصالح مناقبه التي تبين حرصـه على تطبيق العدالـة . لذا عملت الشـعوبية خيالها المريض في وضع القصص والحكايات الكاذبة ، وتزوير الأحداث التاريخية ، وغايتها من ذلك إظهار السلطة العربية الإسلامية ، بمظهر السلطة الجائرة الطاغية ، ولن تنسى الشعوبية بالمقابل من أن تتغنى بالحكام والملوك الأعاجم وتبيان سياستهم الرشيدة وعدلهم لرعاياهم ، وركزت بشكل خاص على الملوك وأكاسرة الفرس ووزرائهم .
حاولت الشعوبية إظهار ملوك وأمراء الدولة العربية الإسلامية بمظهر الكافرين المارقين الخارجين على تعاليم الإسلام ومبادئه ، وغايتها من ذلك الضحك على عقول العامة من الناس لكسبهم إلى صفها ، أو لتحييدهم على الأقل ، لأن الشعوبية تعرف تماماً أن الإسلام يوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم ، لقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، ولقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع الإمام فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى الإمام فقد عصاني } .
وتعرف الشعوبية ، بأن الإسلام يمنع المسلمين من الخروج على الإمام أو الأمير طالما أنه مستكمل أسباب الإيمان ، لذا حاولت أن ترمي ولاة الأمور بمسائل يستنتج منها (( الكفر البواح )) الذي يجوز عند ذلك ؛ كما قال بعض الفقهاء ؛ منازعة الأمير والعمل على إبعاده من السلطة ، لأن الرسول الكريم ، قد أمر المسلمين بأن يرفضوا تنفيذ أوامر السلطان التي تتنافى مع نصوص الشريعة الإسلامية ، وأن يخلعوا هذا السلطان إذا بلغ كفره درجة الكفر البواح ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المرفوع:{لا طاعـة في معصية إنما الطاعة في المعروف } .
إن غاية الشعوبية في محاربتها للسلطة العربية الإسلامية ، ومحاولاتها المستمرة لتدميرها ، ما هي إلا تدمير أسباب قوة العرب الأساسية المتمثلة في الدين الإسلامي الحنيف ، ليتسنى لها إرجاع المجد الكسروي الغابر ، ومجد الدولة الفارسية التي سقطت تحت سنابك خيول العرب المسلمين ، فبقى هذا الأمل يراودهم ، فعملوا لتحقيقه وبشروا بعضهم بقرب بلوغ هذا الأمل ، فهذا أحد رجال الشعوبية من الفرس الموتورين والملقب بزيدان يقول عنه ابن النديم : ( أنه كان يزعم أنه وجد في الحكم النجومي انتقال دولة الإسلام إلى دولة الفرس ودينهم الذي هو المجوسية ، في القِران الثامن لانتقال المثلثة من برج العقرب الدال على الملّة إلى برج القوس الدال على ديانة العظائم ، يروم انقلاب الدولة )(1) .
وقد تعاظم هذا النهج ، الغير مباشر ، في التهجم على السلطة العربية الإسلامية ، وخاصة بعد فشل كل المحاولات الشعوبية المسلحة في تحقيق ذلك الأمل في إسقاط الدولة العربية الإسلامية وبعث دولة الفرس والدين المجوسي المندرس من جديد ، وقد أتاح لها هذا الأسلوب الماكر ، الوصول إلى غايتها السوداء ، فضعفت السلطة العربية وسقطت الدولة العربية الإسلامية ، وتشتت الأمة العربية إلى دويلات ضعيفة واهنة القوى ، وما زالت على هذا الحال المؤسف إلى يومنا هذا ، ومع كل هذا النجاح الذي حققته ، ما زال دعاتها الفرس الحاقدون ماضون في غيهم لطمس كل ما هو عربي .
ـ 3 ـ
لقد اتبعت الحكايات ؛ التي تمثل النتاج الشعوبي في هذا المضمار الأدبي ؛ الأسلوب القصصي في محاولتها مسخ الإنسان العربي ، وتشويه الدين الإسلامي الحنيف ، وتكدير صفاء الأخلاق العربية ، وتلطيخ الحياة الاجتماعية العربية ، واتبعت الأسلوب ذاته في محاولتها تشويه ومسخ السلطة العربية الإسلامية ، الممثلة للقوة الأساسية التي فيها يحافظ على كيان الدولة العربية والمجتمع العربي من الانحلال والضياع ، هذا الأسلوب الذي قدمته في الظاهر للتسلية والتظرف ، بينما أرادت منه في الباطن الوصول إلى غايتها الشعوبية الحاقدة .
لقد أفلحت حكايات هذا الكتاب الشعوبي ، بفضل هذا الأسلوب الماكر في الوصول إلى غايتها في تشويه الصورة التاريخية الرائعة للأمة العربية ، وإعطائها بدلاً عنها صورة شوهاء قاتمة ؛ وقد رأينا في الأبواب السابقة ؛ كيف عملت مسخاً وتشويهاً وتحقيراً لكل ما هو عربي ، وسنرى في هذا الباب أيضاً كيف هاجمت هذه الحكايات الشعوبية ، السلطة العربية الإسلامية ، وبأي صورة كاذبة صورتها ، وبأي صفة دونية وصفتها .
ولكن قبل أن نبدأ بتبيان ذلك ، أرى من اللازم التكلم ولو بشكل موجز عن علمين من أعلام العروبة والإسلام ، تناولتهم الحكايات بشيء من التركيز وبكثير من التشويه والتقول الكاذب عليهما ، وحياكة الأحداث والحكايات المزورة حولهما ، هذان العلمان هما الخليفة العباسي هارون الرشيد ، والقائد العربي الحجاج بن يوسف الثقفي ، لأن في هذا توضيحاً وتبياناً للحقد الفارسي الشعوبي الأسود على الأمة العربية وعلى رجالاتها وقادتها العظام .
فالخليفة هارون الرشيد ، الذي اتهمته الحكايات بكل نقيصة ، من غدر وقلة وفاء ، والارتجال بالحكم وتسرعه في البت بأمور الرعية والدولة على غير هدى ، وبالظلم والطغيان ، إلى إظهاره فاسقاً رعديداً ماجناً ، يلهو ويلعب ولا يحلو له غير مجالسة المغنين والمغنيات ، ودار خلافته ماخور للعهر والفجور ، يقضي فيه أوقاته بين الجواري ومعاقرة الخمور ، فهو في مجالسه ؛ كما تصفه الحكايات ؛ تحف به الجواري والقيان ، وبين يديه الأباريق المترعة تترجرج أفواهها والكؤوس تتقارع حافاتها ، وما إلى ذلك من تهم وأكاذيب ، يفتقر إلى هيبة الحاكم وليس له من الصفات النبيلة شيء يذكر ، خالياً من كل عمل يحمد عليه . فما حقيقة هذا الرجل ؟ ولم هذا الهجوم القاسي المتجني عليه من قبل عامة الشعوبية ومن سار على منوالهم ؟ .
كان هارون الرشيد بحق ، واسطة عقد بني العباس رجولة ومروءة وديناً وعفة وتصدقاً ، ولم يكن متزمتاً جافاً ، بل يبيح لنفسه أن تلهو لهواً بريئاً شريفا ، كما أنه كان ذا جهاد صادق في سبيل الله ودمعة سريعة خوفاً من الله ، كان متديناً يحج سنة ويغزو أخرى ، كذلك مدة خلافته إلا سنين قليلة ، وهو أول من حج من الخلفاء ماشياً على قدميه ، كان يصلي في اليوم مائة ركعة ، ويتصدق من خالص ماله على الفقراء والمساكين في سبيل الله ، ولم يقرب منكر عمره كله [ وإنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق وفتاواهم فيه معروفة ، وأما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها ] (1) . لقد بلغت الدولة العربية الإسلامية درجة عالية من الحضارة والتقدم ، والقوة والمنعة والسمو والرفعة، مهابـة الجانب في الداخل والخرج ، مستقرة الأحوال الطرق آمنة والناس مطمئنة على حياتها وممتلكاتها مما حذا بالمؤرخين والمحققين إطلاق (( العصر الذهبي للدولة العربية )) على عصره .
هذا هو الخليفة هارون الرشيد باختصار شديد ، أما لماذا هذا الكره والحقد على هذه الشخصية العظيمة الذي وقع عليه من قبل الشعوبية ، فهناك أسباب كثيرة ، منها ميله إلى الجانب العربي ، وتمسكه ومحافظته على التقاليد العربية ومثل وأخلاق وقيم العرب ، فقد وقف بشدة وحزم ضد المفاسد والسموم التي بثها الفرس الزنادقة ، من مجون ومعاقرة الخمور في المجتمع العربي المسلم [ ولم تقف حكومة الرشيد مكتوفة الأيدي أمام هذه المفاسد ، بل أخذت الشرطة تطاردهم حيثما وجدتهم ، وتعاقبهم وتنزل بهم القصاص الشرعي من جلد وحبس وغيره ](1) ، هذا كله أغاظ الشعوبية التي حاولت أن تدمر المجتمع العربي ، عن طريق إشاعة الفساد واللاأخلاقية بين أبناء العروبة .
ومما زاد في غيظها وأفقدها رشدها وصوابها ، قيام الخليفة بعمله التاريخي العظيم في القضاء على العائلة البرمكية الفارسية التي كانت تمثل رأس الأفعى للشعوبية ، المنعقد عليها آمال الفرس في إرجاع مجدهم الكسروي الغابر ، فنكل بهم شر تنكيل واجتث جذورهم المتغلغلة في جميع مناحي الدولة العربية ، وأنقذ بذلك الأمة العربية من أخطر محاولة شعوبية ، مرسومة بكل دقة ومكر ، وأبعدها أثراً في الحياة الاجتماعية والعلمية والأدبية والسياسية ، وكان الشعوبيون الحاقدون قد عقدوا الآمال الكبار على هذه الأسرة الفارسية في الوصول إلى بغيتهم وتحقيق أحلامهم الخائبة .
لهذه الأسباب مجتمعة ، كان عداء الشـعوبية ، لهارون الرشيد ، وصب حقدها الأسود عليه ، حيث حاولت جاهدة في أن تشوه سيرته الطيبة ، من خلال وضع الحكايات الكاذبة واختلاق الأحداث المزورة للنيل من دينه ودنياه ، ولأن تاريخ هذا العلم العربي كتب بيد فارسية حاقدة ، فإن كل ما جاء عنه في هذه الكتابات مشكوك فيه ، يجب إعادة النظر بما كتب ونسب لهارون الرشيد من أكاذيب أو لغيره من أعلام العروبة .
أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، الذي أظهرته الحكايات ، بالطاغية الذي لا يرحم ، الخارج على الدين ، الظالم الذي لا يخاف الله ، الموغل بالكذب والأفك والخداع ، ذي نفس جبلت على الحقد والغدر واللصوصية ، والتي حاولت الحكايات النيل منه في كل مناسبة وبأي شكل كان . فحقيقة هذا العربي الفذ العظيم ، خلاف ذلك تماماً ، فالحجاج كان رجلاً متديناً إلى درجة لا يرقى إليها الشك ، مستقيماً لا تأخذه في قول الحق وفعله لوم لائم عفيفاً عن أموال الغير غيوراً على أعراض الناس ، [ وكان صادقاً يكره الكذب ويحب الصدق ويعفو عنه ](1) .
وهو القائد العربي الفذ الذي استطاع بحكمته وقوته وتصميمه وصبره على أن يقضي على فلول الفرس القائمين على رأس الشعوبية العاملة حينذاك على مسخ عروبة العراق ، ولإثارة الفوضى والحروب داخل الدولة العربية الفتية ، إنه الأمير العربي الذي أنقذ عروبة العراق وبكل شجاعة من مؤامرات الفرس الحاقدين ، أي أنه هو القائد العربي الفذ الذي ألجم صوت الشعوبية في العراق ، وثبت السلطة العربية في هذه المنطقة الخالصة العروبة ، التي كانت مأوى الدهاقنة الفرس الحاقدين على العرب والعروبة ، ومسـرحاً لنشـاطهم التخريبي الموجه إلى الأمة العربية ، وهذا ما أكسبه عداء الشعوبية ؛ التي أعلنت حرب لا هوادة فيها عليه وعلى سيرته العظيمة ؛ إلى يومنا هذا .
ـ 4 ـ
لقد ركزت الحكايات على إظهار ولاة أمور الدولة العربية الإسلامية بمظهر لا أخلاقي رخيص ، ووصمتهم بكل نقيصة وقبيحة ، فهم يرتكبون المحرمات عياناً ولا ينهون أحداً عنها ، فالخمر أصبح عندهم مباح يعاقرونه علناً ولا يردعون رعيتهم عنه وهذا كذب وافتراء ،لأن العرب لم يستسيغوا هذه العادة الوافدة ، ثم من المعلوم أن الخمر محرم في الإسلام ، وقد أمر الله باجتنابه، حيث قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } ، ومن ثم كانت العرب أسبق من غيرها في معرفة مضار الخمر على الفرد والمجتمع ، ولهذا لم يتفشى بين العرب المسلمين ، فكيف له أن يتفشى بين حكامهم ؟ والموانع كانت أمامهم كثيرة تمنعهم من السقوط في هذا المستنقع الآسن .
لقد جاء في كثير من الحكايات ، بأن قادة الدولة العربية الإسلامية يتعاطون المسكر ، واتهمت بعضهم بصريح العبارة ، فلا يمر ذكر مسئول عربي في الحكايات إلا وقرن به تعاطي الخمور . وقد ركزت بشكل واضح على الخليفة هارون الرشيد ، أظهرته في أحداثها ، سكيراً مدمناً على الخمور . هذا الاتهام الباطل لهذا العلم العربي العظيم ، يرِد كثيراً في أحداث الحكايات ، نورد هنا مثلاً واحداً إلى ذلك ، مع كثرة الأمثلة الموجودة في هذا الكتاب الشعوبي،تقول إحدى الحكايات [ ثم دنى من التخت ؛ أي الرشيد ؛ فرأى الذي فوقه صية نايمة وقد تجللت بشعرها فكشف عن وجهها فرآها كأنها البدر ليلة تمامه فملأ الخليفة الكأس من الخمر وشربـه على ورد خدها ومالت نفسه إليها فقبل أثراً كان بوجهها ](1).
كما اتهمت ؛ هذه الحكايات الشعوبية ؛ الخليفة عبد الملك بن مروان بمعاقرة الخمر ، هذا الخليفة التي أجمعت المصادر العربية التاريخية على تقواه وورعه ، يقول الخضري بك رحمه الله في عبد الملك : ولما شب كان عاقلاً حازماً أديباً لبيباً وكان معدوداً من فقهاء المدينة يقرن بسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ، وقال الشعبي ما ذكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك فأني ما ذكرت له حديثاً إلا زادني فيه ولا شعراً إلا زادني فيه(2) . فهل يعقل على من كان على هذه الدرجة من المكانة العظيمة والمعرفة الواعية بأمور الدين أن يخرج على تعاليم الدين ويقع بالإثم وارتكاب الموبقات ؟ كيف يعقل أن يكون هذا الخليفة قد عاقر الخمر ؟ وكيف يعقل أن يرى أخته في مجلس تدور فيه كؤوس الخمر على جالسيه ولا يحرك ساكن ؟ ، هذا ما لفق عليه في كتاب ألف ليلة وليلة الشعوبي ، ففي حكاية نعم ونعمة [ ثم أن نعماً أعطت العود لسيدها نعمة وقالت غني لنا شعراً فأخذه وأصلحه وأطرب بالنغمات فلما فرغ من شعره ملأت له قدحاً وناولته إياه فأخذه وشربه ثم ملأت قدحاً آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته ، ولم يزالوا ينشدون الأشعار ويشربون على نغمات الأوتار وهم في لذة وحبور وفرح وسرور فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أمير المؤمنين فلما نظروه قاموا إليه وقبلوا الأرض بين يديه واستدعت أخت الخليفة بالطعام فقدمته لأخيها فأكل وجلـس معهم في تلك الحضرة ثم ملأ قدحاً وأومى إلى نغم أن تنشد له شيء من الشعر فأخذت العود بعد أن شربت قدحين وأنشدت 00 فطرب أمير المؤمنين وملأ قدحاً آخر وناوله إلى نغم وأمرها أن تغني ](1) .
إن ذكر الخليفة عبد الملك بهذه الصورة ، له أسبابه ودوافعه عند عامة الشعوبية ، فهو الذي جمع أمر الأمة العربية ، ووحدها وقضى على الفوضى والاضطرابات التي كادت أن تعصف بها ، والتي تشكل مثل هذه الحالة البيئة المثلى لتحرك الشعوبية التي لا تستطيع الصيد إلا بالماء العكر . وهو الذي عرَّب الدواوين من الفارسية إلى العربية ، فكان هذا العمل العظيم فيه الضربة القاصمة لظهر دعاة الشعوبية من الفرس ، ويظهر أثر هذا العمل جلياً في قول الفارسي ( مردانشاه بن زادان فروخ ) لناقل الديوان إلى العربية :قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية (2) ، وهو الذي قضى على فلول الشعوبية المتآمرين على الدولة العربية ، بسحق دهاقنة الفرس المجوس في العراق العربي ، وذلك بواسطة عامله العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي ، لكل هذه الأعمال العروبية التي قام بها أثارت حفيضة الشعوبية عليه ، فناصبته العداء وناصبت قادته الذين ساعدوه في أعماله العظيمة هذه ، نفس العداء .
وأظهرت الحكايات كثيراً من الشخصيات العربية الإسلامية الأخرى ، بهذا المظهر المجافي لروح الإسلام ومبادئه ، فهذا الخليفة الأمين وذاك الخليفة المأمون ، وهؤلاء الأمراء كأبي عيسى وعلي بن هشام وغيرهم ، ناهيك مِن مَن ذكر من عليّة القوم وعامة العرب ، جميعهم يشربون الراح في الليالي العجاف وفي الليالي الملاح على حد سواء .
وصورت الحكايات قصور الخلفاء بصورة زائفة ، أظهرتها في أحداثها وكأنها مواخير للدعارة والفجور ، أعدت لتعاطي المسكرات وممارسة العهر والفسق والمجون ، لا لإدارة البلاد والنظر في أمور العباد ، فترينا الحكايات من خلال أحداثها صورة لما يجري داخل هذه القصور ، فهذه جارية تترنح من السكر في ممرات القصر ، وتلك جارية أخرى تتعاطى اللذة المحرمة مع عشيقاً ، وهذه زوجة الخليفة تحيك مؤامرة ضد إحدى الجواري التي سلبت منها زوجها والخليفة لا عمل له إلا الدوران على مقصورات الجواري ، يغازل هذه الجارية أو يشرب الخمر على ورد خدود تلك ، أو يراود إحداهن عن نفسها ويطلب منها الوصال ، لا يخلو ركن من أركان قصر الخلافة ؛ في ليل أو نهار ؛ من آلة تعلو بالنغمات أو من مائدة عامرة بالخمور ، أو من عناق وتقبيل ولعب ولهو ومجون ، ولا راحة لأمير المسلمين ولا تطيب له نفساً إلا النوم بين جاريتين أو أكثر ليلعبن له في جهازه التناسلي لتخفيف شبقه وصبوته ، وإذا وقع بغرام جارية ؛ وكم يقع في ذلك على رأي الحكايات ؛ نسيَ كل شيء ، الخلافة والرعية والأهل والولد ، بل نسيَ نفسه ذاتها .
نرى هذه الحالة في حكاية الرشيد مع الجاريـة قوت القلوب [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاضي وقعد شهراً كاملاً لا يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ] ، وعندما يعظم ذلك على أرباب الدولة لا يجدون من يشكون إليه سوء الحال إلا جعفر البرمكي ؛ وهنا إشارة خبيثة من دعاة الشـعوبية ، وهي أن السياسـة للفرس وحدهم ولولا خبرتهم ومهارتهم في هذا المجال لما استطاع العرب تسييس أمور دولتهم ؛ فتتابع الحكاية قولها : [ فصبر الوزير على أمير المؤمنين حتي كان يوم الجمعة فدخل الجامع واجتمع بأمير المؤمنين ] ، ويحاول البرمكي مع الخليفة لإرجاعه لعقله وترك ما اعتراه من هوى ، ولم تنسَ الحكاية من إظهار معرفة البرمكي بخفايا السياسة وإدارة الأمور [ واعلم يا أمير المؤمنين أن أحسن ما تفخر به الملوك وأبناء الملوك هو الصيد والقنص واغتنام اللهو والفرص فإذا فعلت ذلك ربما تشتغل به عنها وربما تنساها ](1) .
ليس هذا فحسب ، بل أن حكام الدولة العربية ، في الحكايات ، يحبذون فجور حاشيتهم ومقربيهم ، لا يردعونهم ولا ينهونهم عن فسقهم وفجورهم وانحلال أخلاقهم ، بل يشجعونهم ويؤيدونهم على ذلك . نرى هذا عندما يأتي الخليفة هارون الرشيد إلى دار أبي نواس ويجده يعاقر الخمرة مع ثلة من الغلمان المرد ، يلوط بهم ويلاط به [ فلما غلب السكر على أبي نواس ولم يعرف له يداً من رأس مال على الغلمان بالبوس والعناق والتفاف الساق على الساق ولم يبالي إثم ولا عار ] ، فيستأذن الرشيد بالدخول ويؤذن له ، يرى الوضع المزري الذي كان عليه أبي نواس ورفقته ، يسأل الخليفة عن هذا الحال ، فيكون رد أبو نواس [ الحال يغني عن السؤال ، فبدلاً من أن يعتري الخليفة الغضب على هذا الفاسق الماجن أو ينهاه عن فجوره ، يأخذ الرشيد بممازحة أبي نواس فيقول :[يا أبا نواس استخرت الله تعالى ووليتك قاضي المعرصين ] ولم تنتهِ الحكاية عند هذا بل تستمر بإظهار جرأة أبي نواس على الخليفة ويسـأل : [ وهـل تحب لي هذه الولايـة يا أمير المؤمنين ] ، وعندما يرد عليه الخليفـة بالإيجاب ، يقول : [ يا أمير المؤمنين هل لك دعوة تدعوها عندي ] ، عندها فقط يغتاظ الخليفة ويترك أبا نواس وهو يضمر له الشر والانتقام ، لا على فسقه وفجوره أو غيرة على الدين الذي يلوثه هذا الماجن المأفون ، وإنما على ما لحقه من إهانة(1) .
ولا تكتفي الحكايات بتصوير حكام العرب بمحبذي الفسق والفجور ، بل يساعدون ندماءهم وحاشيتهم على الموبقات ، فهذا أبو نواس مرة أخرى ، يجده حاجب الخليفة مرتهناً في بعض خمارات العاصمة بغداد على ألف درهم أنفقها على الفسق والفجور والمجون مع أحد الغلمان المرد ، وعندما يحكي حكايته للحاجب ، يقول الحاجب [ أرني إياه - أي الأمرد – فإن كان يستحق ذلك فأنت معذور ] ، فلما يعرف الحاجب حال أبي نواس ومدى غرامه بذلك الغلام الأمرد [ فرجع إلى الخليفة وأخبره بحاله فأحضر الخليفة ألف درهم وأمر الحاجب أن يأخذها ويرجع بها إلى أبي نواس ويدفعها عنه ويخلصه من الرهن ] وعندما يحضر أبو نواس بين يدي الخليفة ، لا يذكر أمير المؤمنين أي شيء عن الموضوع ولا حتى أن يسأله عن حالته التي كان عليها ، وإما يطلب منه إنشاد الشعر ، وكأن شيئاً لم يكن قد حصل ، لأن مثل هذا الفسق والفجور ؛ حسب رأي الحكايات ؛ مألوف لديه لا تثير عنده أي غيرة على خلق ولا على دين (1) .
ـ 5 ـ
وتتابع الحكايات بنفث سمومها الشعوبية ، بإظهار ظلم وطغيان وعتو وتعسف ولاة أمور الدولة العربية الإسلامية ، فهم يحكمون بأهوائه ونزواتهم ، لا كما أمر الله وكما تتطلبه العدالة ، يأخذون ما بأيدي الرعية لأنفسهم غصباً واقتداراً ، دون أن يستطيع أحد من دفع أذاهم أو منع ظلمهم وطغيانهم.
ففي حكاية خليفة الصياد ، نرى تعسف وظلم الخليفة الرشيد ، وعدم توانيه عن سلب أموال الرعية ولا يسلم منه حتى الفقراء منهم [ فلا بد أمير المؤمنين هارون الرشيد يسمع بخبرك من آحاد الناس فربما يحتاج إلى مال فيرسل إليك ويقول لك إني محتاج إلى مبلغ من الدنانير وقد بلغني أن عندك مائة دينار فأقرضني إياها فأقول يا أمير المؤمنين أنا رجل فقير والذي أخبرك أن عندي شيء من ذلك كذب علي وليس لدي ولا عندي شيء من ذلك فيسلمني إلى الوالي ويقول له جرده من ثيابه وعاقبه بالضرب حتى يقر ويأتي بالمائة دينار التي عنده ](1) ، بل أن حكام الدولة العربية الإسلامية قد تجاوزوا هذا الظلم والطغيان إلى ما هو أفضع وأبشع من ذلك ، فلم يكتفوا بسلب مال الرعية وأرزاقهم ، بل كانوا يسلبون نساءهم وجواريهم قهراً وغصباً . فهذه الجارية تحفة العواد ، في حكاية حسن البصري ، تخاف أن يتعرف أمير المؤمنين إلى زوجة حسن البصري منار السنا ، فيقتل زوجها ويأخذها منه غصباً ، تقول الجارية لسيدتها زبيدة زوجة الخليفة [ رأيت جارية في الحمام معها ولدان صغيران كأنهما قمران ما رأى أحد مثلها لا قبلها ولا بعدها وليس مثل صورتها في الدنيا بأسرها وحق نعمتك يا سيدتي إن عرف بها أمير المؤمنين قتل زوجها وأخذها منه 00 وأنا أخاف يا سيدتي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع ويقتل زوجها ويتزوج بها ](2) .
ونرى مثل هذا الظلم والقهر والتعسف بحق الرعية في الدولة العربية ، في حكاية مروان بن الحكم عامل معاوية بن أبي سفيان على المدينة المنورة ، حيث أنه يجبر الإعرابي على طلاق زوجته ثم يتزوج منها ، لأنه أحبها لحسنها وجمالها ، تقول الحكاية [ فلما وقفت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب فصار لي خصماً وعلي منكراً وأظهر لي الغضب وبعثني إلى السجن فصرت كأنما نزلت من السماء واستوى بي الريح في مكان سحيق ثم قال لأبيها هل لك أن تزوجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم وأنا ضامن خلاصها من هذا الإعرابي فرغب أبوها في البدل وأجابه إلى ذلك فأحضرني ونظر إليَ كالأسد الغضبان وقال يا إعرابي طلق سعاد قلت لا أطلقها فسلط جماعة من غلمانه فصاروا يعذبوني بأنواع العذاب فلم أجـد لـي بـداً إلا طلاقها ففعلت فأعادني إلى السجن فمكثت فيـه إلى أن انقضت العدة فتزوج بهـا وأطلقني ](1) .
وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي ، أمير العراقين ، والقائد العربي العظيم ، يستغل منصبه ، كما تقول الحكايات ، فيحتال على أخذ الجارية ( نعم ) زوجة التاجر نعمة تعسفاً ، وغايته من ذلك إرسالها إلى الخليفة عبد الملك بن مروا في دمشق [ لا بد لي أن أحتال على أخذ هذه الجارية التي اسمها نعم وأرسلها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لأنه لم يوجد في قصره مثلها ولا أطيب من غناها ] ، فبعد أن يفعل الحجاج فعلته الشنيعة بخطف الجارية بمساعدة من إحدى العجائز المحتالات ، يبدأ نعمة بالبحث عن زوجته ، فيداري صاحب الشرطة الأمر عن نعمة خوفاً من بطش الحجاج ، فإن سأله عن زوجته قال له لا يعلم ذلك إلا الله، ويشكو نعمة أمره إلى الحجاج نفسه ، فيظهر أسفه وعدم معرفته بهذه الفعلة الشنيعة ، ويأمر صاحب شرطته بالبحث عن الجارية المخطوفة من بيت زوجها ، ويعد زوجها بمجازاة مرتكب هذه الجريمة ، وأخير يعلم نعمة من أبيه بأن غريمه وخاطف زوجته هو الحجاج نفسه(1) . إن هذه الحكاية مع ما أظهرته من ظلم وجور وتعسف أمراء الدولة العربية الإسلامية ، فهي مكرسة تكريساً كلياً للنيل من الحجاج ، باتهامه باللصوصية والكذب ، [ فقالت أخت الخليفة يا أمير المؤمنين هذه نعم المسروقة سرقها الحجاج بن يوسف الثقفي وأوصلها لك وكذب فيما ادعاه في كتابه من أنه اشتراها بعشرة آلاف دينار ](2) .
ونجد استبداد الحكام العرب وطمعهم بما في أيد الرعية ولصوصيتهم ، في حكاية محمد الأمين ابن هارون الرشيد [ ثم أن محمد الأمين بن زبيد توجه يوماً لقصد الطرب إلى دار جعفر فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه فأصلحت الآلات وغنت بأطيب النغمات فأخذ محمد الأمين بن زبيدة في الشراب والطرب وأمر السقاة أن يكثر الشراب على جعفر حتى يسكره ثم أخذ الجارية معه ](3) ، فهذه الحكاية تتهم الأمين بشرب الخمر والخيانة والغدر بمن قام بواجب الضيافة نحوه ، ومن ثم اتهامه بالسرقة واللصوصية والاحتيال ، ولكن هناك ملاحظة هامة في هذه الحكاية ، وفي مثيلاتها التي يذكر فيها محمد الأمين ابن هارون الرشيد ، فكلما ورد اسم الأمين في حكاية من الحكايات نسب إلى أمه زبيدة لا إلى أبيه هارون الرشيد كما هو المفروض ، وهنا تكمن غاية شعوبية بكل تأكيد ، هي النيل من محمد الأمين ومن أمه زبيدة ، فمن محمد الأمين ؟ الذي ظهر في جميع الآثار الشعوبية بصورة الخليفـة الماجن المستهتر الفاجر ، إنـه الأمير العربي الذي وقف بحزم بجانب الصف العربي الذي كان في صراع مع العناصر الفارسية التي نشطت بعد موت الرشيد ، والتي وجدت في الأمين الخصم العنيد لها ، والمقوض لآمالها إن استمر في الخلافة التي هي حق شرعي له ، فحاكت المؤامرات ضده حتى استطاعت من إنهائه وقتله ، ومن ثم أخذت بتشويه سـيرته تشويهاً ليس له مثيل ، والنيل من زبيدة ابنة أبي جعفر المنصور العربية القريشية التي لعبت دوراً بارزاً في مجابهة المؤامرات الفارسية التي كان يحيكها البرامكة ضد الدولة العربية الإسلامية ، واستطاعت بذكائها أن تنبه زوجها الرشيد إلى مكر البرامكة وتحثه بالإسراع في القضاء على رؤوس المتآمرين الذين يحيكون هذه المؤامرات ضد بني قومها العرب ، لهذا حقدت عليها الشعوبية كل الحقد ، فعندما تنسب الحكايات محمد الأمين إلى والدته لا إلى والده ، تريد من ذلك المسبة والتشهير بزبيدة ، لأن في عرف العرب النسب إلى الأم شتيمة ، فإن أرادوا أن يشككوا بنسب شخص ما أو أن ينبزوا أمه بالفجور ، نسبوه إلى أمه ، قالوا ابن فلانة لا ابن فلان ، فالشعوبية بهذا الأسلوب القذر تحاول أن توحي للمتلقي بأن محمد الأمين أبن زنا ، وأن أمه زبيدة زانية ، ويمتد هذا السباب إلى العرب جميعهم ، فهم جميعاً أولاد زنا ونساؤهم فاجرات لا يحفظن فروجهن .
وهذه حكاية أخرى ، تظهر نوعاً جديداً من ظلم وجور الحكام العرب وتعسفهم واستبدادهم بالرعية ، فهذه حبيبة قمر الزمان كانت زوجة الصائغ البصري في أول أمرها ، وقدم زوجها الصائغ خدمة لوالي البصرة ، فأراد الوالي إكرامه فسأله أن يتمني عليه أي شيء يرغب فيه ، فيستشير الصائغ زوجته ، فتشير عليه بأن يطلب من الوالي أن يأمر رعيته بأن تُخلا شـوارع المدينة من المارة ضحى الجمعة ولمدة ساعتين ، ومن يُرى في الشارع أو مطلاً من باب أو نافذة في هذا الوقت يقطع رأسه ، ويستجيب الوالي لذلك وينفذ للصائغ هذا الطلب الغريب ، وكانت زوجة الصائغ تخرج في ذلك الوقت مع جواريها الثمانين فمن وجد من خلق الله في الطريق قتلته ، إن كان من أهل المدينة أو كان غريباً عابر سبيل فيها ، فضج الناس وتذمروا من هذه المصيبة ، ولكن أمر الوالي بقي نافذاً عليهم مقيداً لحريتهم ، لمجرد رغبة سخيفة أرادتها زوجة صائغ ثري قدم خدمة لذلك الوالي .
ـ 6 ـ
يظهر لنا كتاب ألف ليلة وليلة من خلال أحداث حكاياته ، صورة أخرى من صور جور حكام العرب المسلمين ، وذلك حينما تصور حال حاشية الحكام وولاتهم ووزرائهم ، فخليفة العرب المسلمين تحيط به حاشية جاهلة فاجرة ، لا همّ لها إلا الشراب والفجور والفساد ، وهو يستعين بالشطار والمحتالين في تسييس دولته وإذلال رعيتـه ، فيقدم هؤلاء اللصوص ويرتب لهم المراتب الكبيرة [ أنه كان في زمن خلافة هارون الرشيد رجل يسمى أحمد الدنف وآخر اسمه حسن شومان وكانا صاحبا مكر وحيل ولهما أفعال عجيبة فبسبب ذلك خلع الخليفة على أحمد الدنف خلعة وجعله مقدم الميمنة وخلع على حسن شومان خلعة وجعله مقدم الميسرة وجعل لكل منهما أربعون رجلاً مـن تحت يده ](1) .
وهذه دليلة المحتالة تصبح مقدمة بغداد ، ذلك عندما يعجب الخليفة هارون الرشيد بحيلها ومكرها ، فيطلب منها أن تتمنى عليه فتقول لـه [ إن أبي كان عندك حاكم البطانة وأنا ربيت حمام الرسائل وزوجي كان مقدم بغداد ومرادي استحقاق زوجي ومراد ابنتي استحقاق أبيها فرسم لهما الخليفة بما أرادتاه ](1).
هؤلاء الشطار يعيثون فساداً في الدولة العربية ويتصرفون بحياة الناس كما يحلو لهم وكما يشاءون ، وهم مطمئنون آمنون من أن ينالهم أي عقاب ، أو عتاب عن ما تقترفه أيديهم من جرائم ، وذلك لمساندة الخليفة لهم وإعجابه اللامحدود لأعمالهم القذرة ، فهذا أحمد الدنف يقتل عاملين يهوديين من عمال الخليفة ويسلبهم مالهم بدون خوف ولا وجل من أحد [ وخرجا من بغداد ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى الكروم والبساتين فوجدا يهوديين من عمال الخليفة راكبين على بغلتين فقال لهم أحمد الدنف هاتوا الغفر فقال اليهود نعطيك الغفر على أي شيء فقال لهم أنا غفير هذا الوادي فأعطاه كل واحد منهما مائـة وبعد ذلك قتلهما أحمد الدنف وأخذ البغلتين ](2).
ولن تنسى الحكايات من إلباس بغداد عاصمة الخلافة ، ثوب الفوضى والإجرام ، بتصويرها مأوى للشطار والمحتالين [ يا ولدي
لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار

كثير وتنبت فيها الشطارة كما ينبت البقل في الأرض ](1) .
هذه هي الحال التي عليها حكام الدولة العربية الإسلامية ، وهذه هي حاشية الخليفة هارون الرشيد وأعوانه ، ثلة من اللصوص والشطار والمحتالين رأس مالهم المكر والخداع والاحتيال ، هكذا أرادت ؛ حكايات هذا الكتاب الشعوبي ؛ أن تظهر حاشية الحاكم العربي .
والملفت للنظر في هذه الحكايات التي تتحدث عـن الشطار
والمحتالين لم يرد فيها ذكر البرامكة على الإطلاق ، بل لم يرد فيها ذكر لأي فارسي لا من قريب ولا من بعيد ، وذلك بخلاف ما نجده في بقية الحكايات الأخرى ، وعندي : أن هذا الإغفال للبرامكة وسواهم من الفرس في حكايات الشطار ، له مغزى ومعنى وقصد ، وكأن الحكايات تريد أن تقول : أن هذه الأحداث وقعت بعد أن غدر الرشيد بالبرامكة فذهب بذهابهم خيار الناس وساستهم وعقلاؤهم ، ولم يبق أمام الخليفة هارون الرشيد غير الشطار والمحتالين والرعاع يعتمد عليهم في حكم الرعية ، فعاثوا بالعباد فساداً وخربوا البلاد باستباحتهم إياها نهباً وسلباً ، بعد أن كانت في ظل البرامكة الفرس تهنأ بالاستقرار والأمن والطمأنينة .
وتظهر الحكايات أمراء الأقاليم الإسلامية ، ظلاماً مجرمين ، يبطشون بالرعية مستغلين مناصبهم العالية في تحقيق أغراضهم ومقاصدهم ومآربهم الشخصية ، ففي الحكاية المنسوبة إلى المعين بن ساوي والفضل بن خاقان ، نرى هذا الاستغلال ، فعندما يقف دلال الجواري في السوق ، يحذر علي بن نور الدين بن الفضل من بطش المعين عامل الخليفة هارون الرشيد ويصف كره الناس له ، وينصحه أن يحمل جاريته التي كان يريد بيعها ، ويعود بها من حيث أتى ،فأن رآها المعين واشتراها فهو لا يدفع الثمن بل يكتب ورقة ، كما يفعل في كل مرة ، فلا يقبض الثمن منه أبداً . (1)
كما تصور لنا هذه الحكاية نفسها ، الصراع المستمر بين عمال الخليفة من أجل السلطان والنفوذ والبقاء في الإمارة ، فهذا الوزير الفضل بن خاقان نراه بصراع مستمر وعداء دائم مع المعين بن ساوي ، ويبقى هذا العداء قائماً حتى بعد موت الفضل ، نرى ذلك حينما يعمل ابن ساوي بكل جهده على إبعاد ابن الفضل علي نور الدين ، عن البلد بل يتآمر على قتله لكي يتخلص منه إلى الأبد .
وهناك في الحكايات صور كثيرة من هذا الصراع بين عمال ووزراء الخلفاء ، ففي حكاية الوزيرين شمس الدين ونور الدين ، عندما يموت الوزير نور الدين ، ويتقاعس ابنه حسن نور الدين عن مقابلة السلطان ، فيولي السلطان الوزارة لغيره ، نرى أن أول عمل يقوم به الوزير الجديد [ أن يختم على أماكن نور الدين وعلى ماله وعلى عماراته وعلى أملاكه ](1)، وذلك ليستخلصها لنفسه ، كما أنه أراد قتل ابن نور الدين خوفاً من أن يسترد مكانة أبيه ، لولا هربه بمساعدة أحد مماليك أبيه الذي سهل له الفرار وتخليصه من مصيره المحتوم .
وتخبرنا حكاية غانم بن أيوب ، عن جهل وحمق وطغيان أمراء الأقاليم الإسلامية وتعسفهم وظلمهم للرعية ، فعندما يرسل الخليفة هارون الرشيد مكتوباً لنائبه على دمشق يأمره فيه بالقبض على غانم [ ثم كتب مكتوباً للأمير محمد بن سلمان الزيني وكان نائباً على دمشق ، ومضمونه ساعة وصول المكتوب إلى يديك تقبض على غانم بن أيوب وترسله لي ] ، لكن نائبه على دمشق لا يكتفي بتنفيذ ما أمر به بل يظهر تعسفه وطغيانه ، عندما يأمر زبانيته بنهب بيت غانم والقبض على أمه العجوز وأخته المريضـة [ فلما وصل المرسوم إليه قبله ووضعه على رأسه ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليه بدار غانم بن أيوب فجاءوا إلى الدار فوجدوا أم غانم وأختـه قد صنعا قبراً وقعدتا عنده يبكيان فقبضوا عليهما ونهبوا الدار ولم تعلما ما الخبر ] (1) .
ـ 7 ـ
وصورت الحكايات الجهل الذي عليه حكام الدولة العربية الإسلامية ، وما هم عليه من حمق وسذاجة ، وعدم أهليتهم لحكم العباد ، وقلة درايتهم بأمور الإدارة والسياسة . متبعة في ذلك الكذب والتزوير والتهويل ، فهذه حكاية خليفة الصياد ، تظهر حمق وسذاجة الخليفة هارون الرشيد وقلة عقله وسفاهة حكمته ، حينما يضع مصير خليفة الصياد على كف عفريت [ أن أحضر خليفة الصياد وآمره أن يأخذ ورقة من هذه الأوراق لا يعرف ما فيها إلا أنا وأنت فأي شيء كان فيها ملكته له ولو كان فيها الخلافة نزعت نفسي منها وملكته إياها ولا أبخل بـها عليه وإن فيها شـنق أو قطع أو هلاك فعلته به ](2) .
وخليفة العرب المسلمين، في هذه الحكايات الشعوبية ، أحمق سفيه ، يوم ينسيه غناء الجارية أنيس الجليس ، مكانته العالية ومقامه الرفيع ، فيتصرف تصرف من كان في عقله مس من جنون ، فها هو ؛في هذه الحكاية ؛ يتسلق شجرة مطلة على المكان الذي توجد فيه أنيس الجليـس ليرى ما يحدث هناك [ فرأى شجرة جوز عالية فقال يا جعفر أريد أن أطلع على هذه الشجرة فإن فروعها قريبة من الشبابيك وأنظر إليهم ثم أن الخليفة طلع فوق الشجرة ولم يزل يتعلق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشبابيك ](1) وتتابع الحكاية في تشويهها لصورة الخليفة هارون الرشيد ، عندما يرضى أن يلبس ثياب كريم الصياد المليئة بالقاذورات [ يا كريم اقلع ثيابك فقلع ثيابـه وكانت عليه جبة فيها مائة رقعة من الصوف الخشن وفيها من القمل الذي له أذناب ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض وقلع عمامته من فوق رأسه وكان له ثلاث سنين ما حلها وإنما كان إذا رأى خرقة لفها عليها وما كاد يلبسها الخليفة حتى جال القمل على جلد الخليفة فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي به ](2) ، لقد قام خليفة العرب المسلمين بكل هذه الحماقات ، ليشبع رغبة مجنونة راودته ، ليتمتع بسماع أنيس الجليس ، فعندما يجلس إليها ، بعد هذا العناء ، ويسمع غناءها ويطرب لصوتها الجميل ، ينسيه اندفاعه وطربه ونشوته ، من معاقبة خولي البستان الذي أقسم قبلاً على معاقبته بسبب إحداثه الهرج وإيوائه جارية غريبة مع صاحبها في بستان الخليفة ، مخالفاً أوامر الخليفة التي أمره بها بعدم السماح لأي كان في الدخول إلى هذا البستان .
ومثل هذه الحكاية كثير جداً في كتاب ألف ليلة وليلة ، وبتركيز خاص على شخص هارون الرشيد ، فهو إذا أرق وجفاه النوم طلب من أعوانه أن يجدوا سبباً بإزالة هذه الحالة عنه وإلا ضرب أعناقهم [ وأنا أقسم بآبائي الطاهرين أن لم تتسبب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك ](1).
وهذه حكاية أخرى ، حكاية الصبية المقتولة ، تصور كذلك حمق وتعسف الخليفة هارون الرشيد ، وطيش قراراته وعدم سدادها ، فهو يأمر ؛ كما تقول الحكاية ؛ جعفر البرمكي أن يجد قاتل الصبية وإن فشـل سيكون مصيره القتل [ وحق اتصال نسبي بالخلفاء من بني العباس إن لم تأتني بالذي قتل هذه الفتاة لأنصفها منه لأصلبنك على باب قصري أنت وأربعين من بني عمك ] ، ويكاد الخليفة أن ينفذ وعده بجعفر البرمكي عندما يعود إليه دون أن يجد قاتل الصبية ، فيأمر الخليفة بصلب جعفر البرمكي وأبناء عمومته ، وهنا تستغل الحكاية هـذا الحـدث لتظهر حب الناس لآل برمك ، فتقـول [ وصار الخلق يتباكون على جعفر وعلى أولاد عمومته ] وقبل أن ينفذ الخليفة ما عزم عليه ، يتقدم أحد الناس ويعترف باقترافه هذه الجريمة ، إن الذي دفعه للاعتراف ، كما تقول الحكاية ، حبه للبرامكة ولولا حبه لهم لبقي مستتراً ، هذه الصبية هي زوجة لهذا الرجل قتلها لشبهة لحقت بها . وتتابع الحكاية أحداثها الملفقة للنيل من الرشيد ، يأمر الخليفة بصلب الاثنين ، ولكن الحكاية لا تنسى هنا من إظهار عدل آل برمك وحسن حكمتهم ورجاحة عقولهم واهتمامهم بأمور الرعية ، عندما يقول جعفر للخليفـة [ إذا كان القاتل واحد فقتل الثاني ظلم ] ، وتؤكد الحكاية من جديد على حمق الخليفة وظلمه ، عندما يعرف سبب قتل الفتاة ، وأن المسبب الحقيقي لهذه الجريمة عبد من العبيد غير معروف الهوية ، فيقول الخليفة لجعفر البرمكي [ أحضر لي هذا العبد الخبيث الذي كان سبباً في هذه القضية وإن لم تحضره فأنت تقتل عوضاً عنه ](1) .
إن هذه الحكاية بقدر ما حاولت من النيل من حكام الدولة العربية الإسلامية ، حاولت كذلك أن تقول أن نكبة البرامكة التي نفذها الخليفة هارون الرشيد ، لم تكن بسبب جناية قد اقترفوها أو خيانة قد دبروها ضد الخليفة والدولة والأمة العربية ، وإنما كان سبب نكبتهم حمق هذا الخليفة وتهوره وجنونه التي راح ضحيتها هذه العائلة التي خدمت العباسيين بكل إخلاص ، ولكن التاريخ يكذب هذا التزوير وهذا الهذيان الشعوبي الأخرق .
ـ 8 ـ
هناك صورة أخرى زاهية عن الحكام جاءت بها الحكايات ، ألا وهي صورة ملوك التاريخ العظماء ، وجميع من ذكر فيها من الأصول الأعجمية الفارسية ، ولا يوجد بينهم عربي واحد ، هذه الصورة الزاهية ، أبرزت الصفات المثالية التي عليها ملوك الفرس وأمراؤهم ، فأظهرتهم آية في العدل والسهر على مصالح الرعية ، وعلو همتهم وروعة حكمتهم ورجاحة عقولهم . فهذه حكاية أنوشروان الفارسي التي يوصف فيها بالملك العادل ، فهو يُظهر يوماً المرض ويأمر ثقاته أن يطوفوا أقطار مملكته وأكتاف ولايته ليأتوا له بلبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها ، كما أشار عليه الأطباء ، وعندما يعود الثقاة إلى مليكهم ويخبرونه بفشلهم في إيجاد طلبه ، يفرح أنوشروان ويقول لحاشيته [ إنما أردت أن أجرب ولايتي وأختبر مملكتي لأعلم هل بقي فيها موضع خرب لأعمره وحيث أنه الآن لم يبقَ فيها مكان إلا وهو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجة الكمال ] ، ثم تأخذ هذه الحكاية بمدح ملوك الفرس بشكل صريح [ فعلم أيها الملك أن أولئك الملوك القدماء ما كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولايتهم إلا لعلمهم أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفر لأنهم كانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه حيث قالوا أن الدين بالملك والملك بالجند والجند بالمال والمال بعمارة البلاد وعمارة البلاد بالعدل في العباد فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم ولا يرضون لحشمهم بالتعدي علماً منهم أن الرعيـة لا تثبت على الجور وأن البلاد والأماكن تخرب إذا اسـتولى عليها الظالمون ](1) .
فأين حكام الدولة العربية الإسلامية ؛ في كتاب ألف ليلة وليلة ؛ من هذا كله ، فهم لا دين لهم ولا ذمة ، وبلادهم خراب تنعق بها وعلى أنقاضها الغربان ، ورعيتهم مقهورة مسحوقة تحت وطأة الظلم والطغيان ، وتفتقد هذه الرعية أبسط قواعد العدل والإنصاف وتفتقر للأمن والطمأنينة ، والمقربون من الحكام العرب يعيثون إفساداً وفساداً في الأرض أمام أعين أسيادهم ، فهم بالجملة ظالمون طغاة متجبرون .
وعملت الحكايات على تصوير عظمة آل برمك الفرس ، وإبراز حسن سيرتهم بين الناس ، وذلك كلما سنحت لها الفرصة بذلك ، فلا أحد يستطيع أن يفك العاني والمغموم وأن يقدم مساعدة لمن وقع في محنة ، غير البرامكة ، حتى الخليفة نفسه لا يستطيع أن يعمل عملهم الخيِّر اتجاه الرعية [ لا أحد يقدر على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمك غير البرامكة ](1) . واتبعت الحكايات في ذلك أسلوب لا يخلو من الخبث والمكر للوصول إلى غايتها الشعوبية الحاقدة ، فهي كلما أظهرت الخليفة الرشيد بمظهر مزري منحط ، أظهرت بالمقابل محاسن البرامكة وعظمتهم ، كما رأينا في حكاية الفتاة المقتولة ، التي تظهر مدى جهل وحمق الخليفـة الرشيد ، ومدى عدل وحكمة جعفر البرمكي .
ونرى مثل هذه المقارنة الشعوبية الماكرة ، في حكاية منصور بن زياد عامل الخليفة الرشيد ، فبينما تظهر الحكاية تشدد وتعنت الرشيد في معاملة رجاله وأعوانه ، المنكب على ملذاته ، الناسي أمور رعيته ، الغافل عن مشاكل دولته ، تظهر الحكايات وبنفس الوقت ، البرامكة الفرس ، بأنهم الملاذ الوحيد وملاك الرحمة في التخلص من هذا الظلم والتشدد والتعنت ، المسيرين أمور الدولة بكفاءة وخبرة عالية ، الساهرين على راحة الرعية ، فعندما يأمر الخليفة الرشيد عامله منصور بن زياد بتسديد ما عليه من ديون لبيت المال ، ويساعده البرامكة على تسديد هذا الدين ، ويعلم الرشيد بذلك ، يقول انه لا يقدر أحد على إنقاذ منصور إلا البرامكة ، فكأنه بهذا كان يعلم أن عامله لا يملك المال اللازم لسداد ديونه ، وأن طلبه تسديد ما عليه ، فيه تعسف وظلم وتكليف بما لا يطاق ، وأن البرامكة هم أصحاب فضل على من يغدر بهم الخليفة ، من الخاصة والعامة ، ويزيد فضلهم حينما ينقل إليهم الواشي جحود منصور ، وأن هذا الرجل الذي أنقذوه من موت محقق على يد الخليفة ، ينكر جميلهم عليه ، ويقر أنهم فعلوا معه ما فعلوه خوفاً منه لا كرماً منهم ، فيلتمسون له العذر ويسامحونه(1) .
وفي حكاية الحمال والثلاث بنات ، يظهر فيها وفاء البرمكي جعفر بن يحيى ، وحنث الخليفة الرشيد بالوعد وعدم وفائه به ، حيث أن البنات الثلاثة قد اشترطن على من حضر مجلسهن في تلك الليلة أن لا يسألهن شيئاً عما يرونه من حالهن ، وبعد أن يرى الخليفة ؛ المتنكر بزي التجار ؛ غريب حالهن ، يصر على معرفة أمرهن ناسياً الوعد الذي قطعه على نفسه ، ولكن جعفر لا يرضى أن يحنث بوعده فيقول : [ ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا شرطاً فنوفي به ](2) .
إن مثل هذه المقارنة الشعوبية بين جهل وحمق وظلم وغدر الخليفة الرشيد وبين عقل وحكمة وعدل ووفاء البرامكة ، كثير جداً في أحداث الحكايات ، وكأنها أرادت من هذه المقارنة الشعوبية تبيان سفه وجهل وظلم وغدر الحكام العرب المسلمين ، من خلال سفه وجهل وظلم وغدر الخليفة ،المفترى عليه هارون الرشيد ، ورشد وعقل وعدل ووفاء الملوك والأمراء الفرس ، من خلال رشد وعدل ووفاء البرامة الفرس .

# * # * #
لقد نجحت الشعوبية من خلال حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، من تشويه حقيقة السلطة العربية الإسلامية ، وإظهارها بمظهر الخارج على الدين ، الجائر على العباد ، الساهية عن أمور الرعية ، المنغمسة في الملذات والرذيلة ، وبذلك تسوغ للعامة الخروج على السلطة ، ودفعهم للعمل على هدمها ، وتحاول أن تؤثر في نفوس أهل الورع والتزمت من رجال الدين وعلماء المذاهب ، وتثيرهم عليها .

عبد اللطيف ذياب أحمد
19/03/2011, 02:30 PM
( الجزء الخامس

الباب الخامس
حياة العرب الاجتماعية
في ألف ليلة وليلة

تمثل الحياة العربية الحقة الوجود العربي الحق ، ويمثل الوجود العربي الحق الماهية العربية الحقة ، بمقوماتها الأساسية ، التي هي الجنس والأرض واللغة والدين والتاريخ ، كما تمثل خصائصها الأصيلة المتمثلة في : التأليهية المُوَّحِدَة والمثالية المثابرة والروحانية الصافية والأخلاقية العالية والإنسانية الخيرة والحضارية البناءة . فالحياة العربية الحقة ما هي إلا التجسيد الحقيقي والحي لحقيقة الأمة العربية التي هي القومية العربية عينها ، بكل مقوماتها وسماتها وخصائصها ومميزاتها وأركانها . كما تمثل ؛ هذه الحياة الأصيلة ؛ حياة الطهر والبراءة والصفاء والنقاء والتعالي والسمو والروحية والمعنوية والسماوية والأخروية . كما أنها تمثل حياة البساطة الإنسانية الموجبة ، في طبيعتها الفطرية وعفويتها ، وفي اعتدالها واتزانها ، وفي تعادلها وتوازنها .
ومن هنا ، فإن هذه الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، إذ تنشد التحضر ، تنشده حقيقة وحقاً لا زيفاً وباطلاً ، وجوهراً ومضموناً لا عرضاً وشكلاً ، أي تنشده تحضراً في الروح والقلب والعقل والضمير والذوق والشعور ، لا تحضراً في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والاستماع (1) .
وقد هال الشعوبية هذا السمو في الحياة العربية ، فأخذ دعاتها يوجهون دسائسهم ويعملون نفاقهم ويلفقون أكاذيبهم في تشويه هذه الحياة الرائعة ومسخها ، وقد تستروا وراء التجاوب الحضاري بين الأمة العربية والأمم الأخرى ، وخاصة الأمة الفارسية منها ، بأن عمدوا إلى نشر المظاهر البريئة ، مثل وضع نظم جديدة لآداب المائدة وإدخال أذواق أخرى من الملبس المأكل وبناء المسكن ، إلى غير ذلك من آداب الحديث ، وترتيب المجالس والندوات ، وأشباهها من ضروب مظاهر الحياة الاجتماعية الفارسية [ 00 فتسرب إلى الحياة العربية من فارس شيء كثير كالألقاب والخمر والزوجات والسراري والأغاني ] (2) .
وبدأت الحياة العربية تشاهد سيلاً من الاقتباسات الفارسية في الشؤون الاجتماعية ، لم تلبث أن بدأت تتلوث بجراثيم دعاة الشعوبية القاتلة ، فأخذ الشعوبيون يعملون رويداً رويداً على أن تتحول ؛ مثلاً ؛ آداب المائدة وتعاليمها الجديدة إلى سموم تنفث في جسد المجتمع العربي الإسلامي ، ومعاول تهدم تقاليد العربي في هذا الميدان المعروف ببساطته عند أبناء الأمة العربية واحترامه للفطرة السليمة . ونشر الأذواق في الملبس بما يؤدي إلى ازدياد الأناقة ازدياداً مفرطاً تحوِّل صاحبها إلى مرتبة التخنث وتبعده كلياً عن المظهر الرجولي الذي ألفه العربي في بساطة ملبسه ، وما تنطوي عليه هذه البساطة من دلائل الرجولة الكاملة وهيبتها ، التي تدعو إلى الاحترام والتوقير . ولم تقف الشعوبية عند هذا الحد ، بل تجاوزته إلى ما هو أدهى وأشد من التأنق بالملبس والمأكل ، لإفساد الحياة العربية الأصيلة ، إذ عمدت إلى نشر كل ما صاحب حياة الأمة الفارسية من انحلال ، مثل الإقبال المفرط على معاقرة الخمور جهاراً والانغماس في الملذات الجنسية المفرطة بدون حياء ، حتى يصبح الفرد عبداً لغرائزه الدونية وأسيراً لنزواته الجسدية الرخيصة ، ليكون في ذلك ، ضيق الأفق سلبي العطاء ، لا يقدر على أن يتبين مواضع الغي من الرشد .
ومنذ أن انطلقت الحياة العربية الجديدة ، بعد التحامها المصيري بعقيدة العرب الكبرى ، التي هي الإسلام ، في مسار كينونتها التكاملية التفاعلية الكبرى ، القائمة على التطور الوجودي الخلاق ، انطلقت الشعوبية ؛ الحاقدة ؛ بدورها تعمل على تخريب هذه الحياة ، داخلاً وخارجاً وظاهراً وباطناً ، لتحول بينها وبين بلوغها منتهى كمالها الإنساني الحضاري المنشود .
وقد تركز نشاط الشعوبية التخريبي للحياة العربيـة بالتهجم
الشديد على مجمل ما كانت تحمله هذه الحياة من قيم ومثل ومبادئ ومعتقدات ، أو من عادات وتقاليد وأعراف وسلوكيات ، أو من شرائع وقوانين ونظم ومؤسسات ، أو من أنماط المأكل والمشرب ، والتفاخر بحيوات الأمم الأخرى لا سيما حياة الأمة الفارسية ، فقد بالغت الشعوبية الحاقدة مبالغة كبيرة في إبراز عظمة تلك الحيوات الأعجمية ، مما لا يمت إلى الحقائق أو الوقائع التاريخية بصلة .
وعملت الشعوبية على تسريب مختلف الألوان الحياتية الأجنبية الغريبة والشاذة إلى الحياة العربية الإسلامية الأصيلة ، وعلى نشرها وتعميمها وإرساء قواعدها ، بحيث ينجم عن كل ذلك مسخ الحياة العربية القومية الأصيلة ، وبالتالي إسقاطها في مهاوي السلب والعقم والعطالة ، ذلك أن الحياة الإبداعية الخلاقة هي ما كانت منسوجة نسجاً إيجابياً قويماً من الأصالـة الذاتيـة الحقة (1) .
ـ 2 ـ
لقد حاولت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، أن تصور الحياة العربية تصويراً شعوبياً حاقداً ، حيث أظهرت هذه الحياة ترفل بالتحلل الخلقي ، قائمة على الوحشية والعنف والجهل والجدب العلمي والإبداعي ، مبنية على التوكل المؤدي إلى الافتقار للمثابرة والالتزام والشعور بالمسؤولية ، وقد اتبعت الحكايات كعادتها في ذلك الكذب والتلفيق والتشويه والتزوير والتحريف ، فتوجهت إلى الصور المشرقة والحية الرائعة في الحياة العربية ، وعملت مكرها ودهاؤها في مسخ هذه الصور وطمس معالمها ، وأخذت من الصور السوداء الشاذة وكبرتها وضخمتها وسلطت الضوء عليها ، موحية بأن ليس للأمة العربية إلا هذه الصور الشوهاء .وغايتها من عملها هذا ، غاية شعوبية صرفة ، ألا وهي إثارة الشك وريبة في نفس الإنسان العربي اتجاه حياة أمته العربية وتشويه صورتها الرائعة في نفسه ووجدانه ، لدفعه من ثم دفعاً إلى أن يستصغر هذه الحياة واحتقارها واستهجانها ، ومن ثم نبذها وابتعاده عنها كلياً ، والبحث حن حياة غيرها من حيوات الأمم الأخرى ، وبهذا يكون قد قطع كل صلة تربطه بتلك الحياة ، ومن ثم تنقطع كل صلة له بأمته العربية ، عندئذ يتردى الإنسان العربي ،حتماً ، في مهاوي الضياع التي لا نجاة له منها مطلقاً ، حيث تصبح حياته كإنسان وحياته كأمـة ، على كف عفريت الاسـتلاب والاستعباد .
فصورت الحكايات ، الحياة العربية بأنها حياة متحللة ترفل بالعيوب اللاأخلاقية المنحطة ، وهذا التصوير الكاذب المفترى ، لا يستند إلى أي حقيقة تاريخية ثابتة ، وإنما يستند بالأساس إلى عقدة الإسقاط ، أي إضافة العيوب المرتبطة بالمجتمع الفارسي المتحلل إلى المجتمع العربي الإسلامي .
إن ما يوصف به المجتمع العربي الإسلامي في هذا الخصوص ، ليس إلا قطرة في محيط العقد اللاأخلاقية التي عاشها وما زال يعيشها المجتمع الفارسي إلى يومنا هذا ، يقول الدكتور شوقي ضيف في ذلك : وكان تأثير المزدكية في المجتمع الفارسي أشد عمقاً بما كانت تدعو إليه من التحلل الخلقي والعكوف على اللهو والمجون والاندفاع في إباحية مسرفة (1) ، ومن مظاهر هذا التحلل الخلقي الزنا ، فقد عرف المجتمع الفارسي الزنا وكان متفشياً بين أبناء هذا المجتمع ، مألوفاً لديهم لا يستنكره منهم أحد ، بينما لم يحبذ أبناء الأمة العربية هذه الظاهرة اللاأخلاقية الذميمة ولم يألفوها في أي عصر من عصورهم الموغلة في القدم ، وكان أشرافهم في الجاهلية يُحذرون قومهم من الزنا ويذمونه وينهون عنه وقد كانت لهم وصايا تحذيرية كثيرة في ذلك ، حيث نرى في وصية دريد بن الصمة حين يقول : إيّاكم وفضيحة النساء فإنها عقوبة غد ،وعار أبد ،يكاد صاحبها يعاقب فـي حرمـه بمثلها ، ولا يزال لازماً ما عاش له عارها(1).
لقد صورت الليالي ، الحياة العربية حياة داعرة عابثة وماجنة مستهترة ، تقوم على تحري اللذائذ الجنسية ومعاقرة الخمور وسماع الغناء وما هنالك من لهو خبيث ، فالإنسان العربي ، في هذه الحكايات الشعوبية ، ليس له هدف ولا غاية يبتغيها في هذه الحياة المنحلـة ،إلا الحصول على امرأة جميلة ذات وجـه حسن وصوت مغرد ، بأي شكل من الأشكال ، وبأي ثمن كان ، حتى لو كان في ذلك فقد ما لديه من مال أو فقدان روحه حتى ، وينسى عند ذلك والديه وأولاده ، كل ذلك لإشباع غريزته الجنسية الحيوانية ، لذا صورة الحكايات ، المرأة في نظر العربي ، على أنها متاع بل من سقط متاع الدنيا ، تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، وتنهب ويسلب عفافها دون رادع من خلق أو دين ، فهي موضوع الجنس وأنها مسلوبة الإرادة أمام الرجل لا تستطيع دفع أو مقاومة الإغراء الجنسي .
فهذه حكاية مزين بغداد تظهر لنا هذا الاندفاع الجنسي عند المرأة العربية ، فهاهي زوجة البدوي تراود أخا مزين بغداد عن نفسه ، مع بشاعته التي تصفها لنا الحكاية ، وتستمر المرأة العربية بمحاولتها مع هذا القبيح ، حتى بعد أن يقوم زوجها بقطع شفتيه مما يزيده قبحاً على قبح يقول المزين[وكان للبدوي زوجة راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره](1) .
وأكثرت الحكايات من التغزل بالنساء ، أمعنت في الإفحاش بهذا الغزل الذي لم يعرف له مثيل عند العرب على الإطلاق ، ومرجع هذا الفحش كما يقول أحمد أمين : وتطورت الحياة فلم يعد العرب هم الذين يستبدون بالشعر مصورين فيه مروءتهم وارتفاعهم بالمرأة عن الصغار والامتهان ، بل مضى شعراء الفرس يستبدون به ، إذ كان أكثر الشعراء حينئذ منهم ، فلم يعرفوا للمرأة حقها من الصيانة والارتفاع عن الفجر الفاجر ، بل لعلهم كانوا يدفعونها إليه دفعاً ، بما كانوا ينظمون من أشعار صريحة عاهرة(2) ، وفعلاً نرى هذا القول ينطبق كل الانطباق على حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، فهي من وضع وإخراج فارسي حتماً وبلا أدنى شك ، وذلك بما تحمله من روح فارسية ، ثم أن جميع الشعر المذكور في أحداث الحكايات ، أما أن يكون من وضع شاعر فارسي شعوبي كأبي نواس ، وأما أن يكون شعراً محرفاً ، قام بتحريفه واضعو هذه الحكايات ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد أن حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، تدفع المرأة بالفعل إلى انتهاج نهج الدعارة والفجور ، وتلطف هذا المنهج لها وتحببه على قلبها ، وتهونه في عينيها ، كما أنها تدل وترشد المرأة على السبيل التي يمكن لها عن طريقها انتهاج هذا المنهج اللاإنساني الأسود .
وليست حياة العربي في الحكايات وقفاً على الانحلال الخلقي ، من خلال امتهان إنسانية المرأة ، بل هي مبنية أيضاً على معاقرة الخمور وسماع الغناء ، فلا تحلو حياة الإنسان العربي ولا ينال السعادة والفرح والسرور ولا يهنأ بعيش ، ما لم يجتمع له الوجه الحسن والكأس المرجرج المشعشع ؛ حسب تعبير الحكايات ؛ والصوت الطروب ، فيقضي الإنسان العربي ، من عليَّة القوم كان أم من عامتهم ، أيامه ولياليه في التحري عن هذا الثالوث ، لا يشغله شاغل في مسائه وصباحه ومستقره وترحاله ، إلا كيف الحصول على هذا الثالوث الغير مقدس، فإن ناله نسي كل شيء ، نسي الرعية إن كان خليفة أو أمير مثل ما جرى للخليفة هارون الرشيد ، كما تقول الحكاية : [ ثم أن الخليفة اشتغل قلبه بتلك الجارية المسماة بقوت القلوب وترك السيدة زبيدة بنت القاسم 00وترك جميع المحاظي وقعد شهراً كاملاً لم يخرج من عند تلك الجارية إلا لصلاة الجمعة ثم يعود إليها على الفور ](1) . ونسـي تجارته إن كان تاجراً ، ونسي عمله إن كان عاملاً ، بل أنه ينسى حتى دينه ، فلا عبادة ولا تعبد طالما هو في مجلس الأنس والجواري الحسان ، ويتمنى في قرارة نفسه أن يقضي بقية عمره على حاله هذا وفي مجلسه الذي يجلسه ، وكأنه قد جبل على ألفة هذا الثالوث اللعين جبلة فطرية .
هذا هو الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، وشتان ما بين هذا الكذب والتزوير ، وبين الحقيقة التي عُرف بها الإنسان العربي ، فقد عُرف هذا الإنسان من خلال تاريخه الطويل الحي ، بالعمل الدؤوب والسعي الدائم في توفير مستلزمات حياته الإنسانية ، وعرف بخشونة الحياة التي يحياها من خلال تجواله الدائم في أرجاء صحرائه الشاسعة ، التي أمدته ببساطة عيشه وفطرية حياته وعلو قيَّمه وسمو أخلاقه ، فلا يرضى أن يتخلى عن طبيعته قط ، حتى ولو كان في أعلى مراتب الغنى وبسط الحال والاقتدار ، روى ابن خلدون في تاريخه ، أن الحجاج بن يوسف الثقفي أَولَمَ في ختان بعض ولده ، فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس ، وقال : أخبرني بأعظم صنيع شهدته ، فقال له : نعم أيها الأمير ، شهدت بعض مرازبة كسرى ، وقد صنع لأهل فارس صنيعاً أحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ـ أربعاً على كل واحد ـ وتحمله وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس ، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ، فقال الحجاج : يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس (1) ، كأن الحجاج رأى في هذه العادة الفارسية ما يعارض طبيعته العربية ، لما فيها من إسراف وفخفخة كاذبة لا تستسيغها النفس العربية ، فنفر منها إلى عادات قومه وطبيعتهم .
فإذا كانت الحياة العربية عرفت مثل هذا الإسراف والمجون واللهو الخبيث ، فهي حتماً ظاهرة دخيلة على الحياة العربية الأصيلة ، ابتلت بها مما ابتلت بغيرها أبان عصور ضعف سلطان النفوذ العربي وتعاظم نفوذ السلطان الأجنبي ، [وعظم سلطان الفرس في عصره – هارون الرشيد – وعلى رأسهم البرامكة ، والفرس من قديم الزمان يعرفون بالميل إلى اللهو والسرور ، والإفراط في حب النبيذ ، وقد كانت الديانة الزرادشتية تبيح شرب النبيذ وتجعله من شعائرها ، ولا يزال النبيذ كما يقول الأستاذ براون إلى اليوم ظاهرة قوية في الحياة اليومية للفرس الزرادشتية ، كان الفرس قديماً يفرطون في شرب النبيذ ، وكانوا يفرطون في سماع الغناء ، وكانوا يفرطون في فنون كثيرة من اللهو الطيب واللهو الخبيث ، فلما عاد سلطانهم في الدولة العباسية ، وخاصة في عهد الرشيد والمأمون ، نشـروا مع نفوذهم حياة الأكاسرة ومـا كان فيهـا من لهو وعبث ](1) .
إذاً ، فإن هذه الحياة العابثة الماجنة التي صورتها الحكايات على أنها الحياة العربية الإسلامية ذاتها ، ما هي إلا صورة كاذبة ملفقة مفترية ، لأن الحقيقة تقول بأنها حياة غريبة كل الغرابة ولا تمت بصلة لحياة الأمة العربية ، وما هي إلا مظهر أصيل من مظاهر الحياة الفارسية المنحطة ، أسقطت عيوبها على حياة الأمة العربية مِن قِبَل مَن وضعوا وصنفوا حكايات كتاب ألف ليلة وليلة ، نعم أنها حياة الأمة الفارسية التي أَلِفَ أبناء جلدتها حياة الترف والفجور وعب الخمور منذ أقدم العصور ، وأفرطوا في طلب كل الملذات وخاصة الخبيثة منها وتفننوا في تحريها وابتدعوا السبل الخبيثة للوصول إليها ، ووضعوا الأساليب لممارستها .
ـ 3 ـ
ظهرت الحياة العربية في أحداث حكايات ألف ليلة وليلة ، حياة قاحلة قاسية لا علم فيها ولا تعلم ، ولا نظام ينظمها ولا انضباط يضبطها ، ولا أمان ولا استقرار فيها ، حياة بدائية حيوانية تقوم بمجملها على الفوضى والجهل ، وتسيطر عليها شريعة الغاب الغاشمة ، جهل مطبق يسيطر على جميع مناحي هذه الحياة ، لا أثر للعلم ولا للعلماء فيها ، وكل ما يناله الإنسان العربي من العلم ، حفظ بعض آيات من القرآن الكريم ، يحفظها في صغره بمساعدة والديه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما الخاصة من العرب ، وبالذات الذين يدعون العلم والمعرفة ، فليس لديهم ؛ في الحكايات ؛ من سمات العلماء شيء ولا يملكون من العلم إلا الادعاء ، وبعض المظاهر الكاذبة التي يظهرونها للعامة لإقناعهم بأنهم أهل علم ومعرفة سرعان ما ينكشف أمرهم ما امتحنوا ، حتى ولو من قبل عاهرة فارسية ، كالجارية الفارسية تودد ، فهي تستطيع وبكل يسر التغلب عليهم وتسفيه آراء جمع منهم والزراية بهم وبعلمهم ، ولو كان النظام بن سيار بعلمه الواسع من بينهم ؛ كما تقول الحكاية ؛ أما فقهاء العرب في الدين ، فهم لا يفقهون شيئاً لا في أمور دينهم ولا دنياهم ، ليس لهم عمل إلا التحايل ؛ باسم الدين ؛ على حل المشاكل المخزية التي يقع بها ولاة نعمهم من خلفاء وحكام وأمراء وأثرياء ، بسبب طيشهم وحمقهم وطغيانهم ، حيث يقوم الفقيه بدور حلال مشاكل هؤلاء الخلفاء والحكام والأمراء والأثرياء ، بإيجاد الفتاوى المناسـبة لها ؛ نادراً ما تكون هذه الفتاوى متطابقـة ونصوص الشريعة ؛ لينقذ ولي نعمته من الوقوع بالإحراج أمام الناس ، قاصداً الاستفادة المادية والقربة وينسى الله وغضبه عليه . هذا ما نراه بوضوح عندما تذكر الحكايات في أحداثها الفقيه الجليل أبو يوسف الأنصاري وأمثاله ، فهم يقومون بالإفتاء ، لا من أجل الشريعة ورب الشريعة ، بل تقرباً من ذوي السلطان لكسب شيء من حطام الدنيا .
أما إذا ما ذكر علم من العلوم ، في الحكايات ، فلا يذكر إلا على لسان جارية من الجواري ، وعلى الخصوص ذوات الأصول الفارسية ، فهم عارفات بجميع العلوم ، الدينية والفلسفية واللغوية والفقهية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم أخرى ، أو على لسان وزير يصرح بأعجميته الفارسية ، كالوزير شماس ، أو على لسان ابن ملك فارسي ، كورد خان ابن الملك جلعان . لقد أرادت الحكايات من ذلك إظهار ؛ حسب زعمها ؛ ما تعانيه الحياة العربية من جهل وتخلف ، ومن ثم توجيه الإهانات بشكل مباشر لعلماء الأمة العربية وفقهائها والاستهزاء بهم إلى أبعد ما يكون الاستهزاء ، وبعد أن فعلت ذلك ، عملت على إظهار تفوق الأمة الفارسية في المجال العلمي وأنه حكر عليها ، وإن فارق السلطان هذه الأمة فإن العلم والمعرفة ما زالا لها وحدها وليس للعرب لهم منه شيء البتة .
كما صورت الحكايات ، الحياة العربية الإسلامية ، بالحياة المملوءة بالخوف والرعب ، لا أمان فيها ولا استقرار ، حياة تسودها شريعة الغاب الغاشمة ، القوي فيها يأكل الضعيف ، وفيها تنتهك الأعراض ، حياة يتلاعب بها اللصوص وقطاع الطرق،ويسيطر على مقدراتها المحتالين والشطار [ يا ولدي لا تحسب بغداد مثل مصر هذه بغداد محل الخلافة وفيها شطار كثير وتنبت فيها الشطارة كما تنبت البقل في الأرض ] يعيثون في الأرض فساداً ويتلاعبون بمصائر الناس ، ينهبون أموالهم ويسلبون أرزاقهم ، ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ويزهقون أرواحهم ، ليس للناس منهم ولي ولا نصير ، لا من سلطان ولا من أمير .
حياة ، ليس فيها شيء مصان ، فأعراض الناس مباحة ، تنهب نساؤهم وتغتصب حرائرهم لتهدى لخليفة أو أمير ، ليحظى الفاعل برضى هذا الخليفة أو ذاك الأمير ، دون اعتبار لخلق أو دين ، وتذكر لنا الحكايات مثل على ذلك في حكاية الحجاج بن يسف الثقفي مع الجارية ( نعم ) ، والمال عرضة للنهب والاستلاب من قبل ولي الأمر ، لنـزوة تعتريهم أو غضب يلم بهم على أحد أبناء الرعية ، فهذا الأمير محمد بن سلمان عامل هارون الرشيد على دمشق يأمر بنهب دار غانم بن أيوب ، لأن الخليفة قد غضب عليه [ ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليـه بدار غانم بن أيوب ](1) .
حياة تسيطر عليها الفوضى والضياع ، الحكام في واد والرعية في واد ، الحكام طغاة ظالمون ، في ملذاتهم لاهون ، عن أمور رعيتهم ساهون ، القضاة مرتشون شهوانيون لا هم لهم غير كنز المال والتحايل على النساء ، لا يميزون بين الحلال والحرام ، والرعية وحدها تدفع الثمن ، أفرادها يصطلون بنار ظلم وجور الحكام ، واقعون تحت رحمة أقوياء غاشمون ، يُقتلون ويُسلبون يُعرون ويجوعون ، لا يجدون لهم في هذه الحياة البائسة السالبة ، التي غابت عنها معاني الإنسانية ، ولياً ولا نصيراً .
وعلى هذا فإن الحياة العربية التي صورتها الحكايات ، ما هي إلا حياة حيوانية لا تمت بصلة إلى حيوات البشر ، حياة غابة يقطنها وحوش كواسر ، تتصف بالغشم واللؤم والشرسة ، وتتسم بحب سفك الدماء وزهق الأرواح البريئة ، القوي يأكل الضعيف بدون رحمة ولا شفقة ، حياة تشمئز منها النفس البشرية السوية ، ويأبى الانتماء إليها أي مخلوق ، ومن ذا الذي يرغب أن ترتبط حياته بمثل هذه الحياة البهيمية ؟ لهذا كله كانت الحياة العربية في الحكايات ، حياة قاسية يسيطر عليها الخوف والجهل ، وتنتشر فيها مظاهر الدجل والتخريف والتعلق بالأسباب الموهومة في الحصول على الرغائب ، لعجز الإنسان عن تحصيلها بالوسائل المعقولة ، واعتقاد عامة الناس بالسحر والطلاسم والبحث عن الكنوز المخبوءة ، ونحو ذلك من مظاهر الدجل والتخريف .
هكذا أراد واضعو الحكايات ، أن يظهروا هذا الجانب من حياة الأمة العربية ، والحق يقال : لقد أبدعوا هؤلاء الشعوبيون ، الوصف وأتقنوا التزوير والتهويل ، حتى يكاد أن يحسبها المتلقي حقيقة لا جدال فيها من حقائق الحياة العربية .
ـ 4 ـ
وعمدت الحكايات إلى إظهار الحياة العربية ، بأنها حياة قائمة على التوكل والبطالة ، والركون إلى القضاء والقدر ، أي أنها حياة سالبة ، تفتقر للمثابرة والإيجابية ، وتتسم بالعدمية واللامسئولية ، حياة موات جامدة بعيدة عن العطاء والفاعلية ، وذلك بما أشاعته الحكايات في مجريات أحداثها لمبدأ الجبرية ، الذي هو أحد أسـلحة الشعوبية الفتاكة الذي أشـهرته بوجه الحياة العربية الإسلامية بخاصة ، وبوجه كل ما يمت للدين الإسلامي بعامة . حيث جردت الإنسـان العربي ، بهذا المبدأ ، مـن حريـة الاختيار ؛ اختيار أفعاله وأعماله ؛ ولم تترك له أثراً شخصياً في تصرفاته [ وإذا بصارخ في جوف الليل ويقول إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وما أنا جاهل بك ولكن خطيئة قضيتها علي في قديم أزلك فاغفر لـي مـا فرط مني ](1) .
الحقيقة أن هذا المبدأ ، من ابتداع رجال منحدرين من أصل فارسي ، ينتسبون إلى الإسلام زوراً ، وهم حاقدون على الأمة العربية وعلى دينها الإسلامي الحنيف ؛ مثل جهم بن صفوان وأضرابه ؛ ممن أطلق عليهم تسمية الجبرية ،حيث قالت هذه الجماعة الضالة المضللة : أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فأنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى غير الله فسبيله إعجاز وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار ودارت الرحى وجرى الماء وانخسفت الشمس(2) . وغايتهم من إشاعة هذا المبدأ ، في المجتمع العربي ووصمه به ، ما هي في الحقيقة إلا كيدٌ للدين الإسلامي الحنيف وتشويهٌ لمبادئه الإلهية العظمى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تعطيل مسيرة الحياة العربية الخلاقة ،حيث أن هذا المبدأ الفارسي ، [ مـن التعاليم الهدامـة التي كانت تدعو إلى البطالـة والتواكل
والركون إلى القدر من غير عمل حتى تصاب الأمـة العربيـة

بشـلل اقتصادي وتلك هي رغبة الموالي ](1).
ولا يقتصر هذا المبدأ الشعوبي الهدام على إشاعة الكسل والخمول في المجتمع العربي فحسب ، بل يتجاوز ذلك إلى الإباحية ، وهو ما تقول به الديانة الفارسية القديمة [ كانت النظرية الزورانية التي شاعت أيام الساسانيين وبالاً على الدين إذ بثت فكرة الجبر وهي السم الزعاف للديانة المزدية ](2) ، هذا ما تريده الشعوبية للمجتمع العربي ، ذلك لأن مبدأ الجبر يهيئ أسباب الرذيلة والفساد للإنسان ، ويُسَوِّغ له ارتكاب الخطيئة والإثم ما دام مسيراً غير مخير ،وأفعاله كلها من عند الله وبالكتاب مسطور ، فإن زنى الزاني فذلك بقضاء الله ، فهذه صبية تزني مع حشـاش تقول :[فما وجدت أحداً أوسخ ولا أقذر منك فطلبتك وقد كان من قضاء الله عليـا وقـد خلصت من اليمين التي حلفتها ](3) .
هذه الجبرية المطلقة التي وصف بها الإنسان العربي في كتاب ألف ليلة وليلة ، والتي أريد بها إظهاره بمظهر حيواني بحت ، ومن ثم دفعه دفعاً للانغماس في ملذاته وشهواته الدونية ، والوصول به إلى الغاية الشعوبية الهدامة ، من خلال إلغاء دور هذا الإنسان الحضاري المثال ، والحد من مساهمته الإيجابية الفعالة في ديمومة الحياة والبناء الحضاري ، ونشر رسالة الإسلام الخالدة ، إن هذه الجبرية لم تكن إلا من ابتداع الشعوبية مستلهمة من تراث الفرس الفكري
# # # #
إن هذه الحكايات الشعوبية في حديثها عن الحياة العربية الإسلامية ، وتصوير سلبياتها ، مالت بكل وضوح إلى التضخيم والتهويل مع الكذب والتزوير والافتراء وإنكار إيجابيات هذه الحياة ، والدافع من وراء ذلك ، أن هذا التضخم في سلبيات الحياة العربية مرده عقدة الإسقاط ،كما وضحنا سابقاً ، ومن ثم نظرة الاستعلاء العنصري المسيطرة على الفرس .

( الجز الأخير )
الخاتمـة

لقد حاولت في كتابي هذا ، توضيح الصورة الحقيقية الحقة ، لكتاب ألف ليلة وليلة ، هذا الأثر الشعوبي الذي نال الحظوة والأثرة لدى المستشرقين وأتباعهم من التغريبيين العرب ، والذي حسب على التراث الثقافي العربي الإسلامي زوراً وبهتاناً ، بل جعلوا ، هذا الأثر الشعوبي الأسود ، مرآة للحضارة العربية وصورة عن المجتمع العربي في العصر الإسلامي ، والممثل الوحيد والصادق عنه ، وإلى ما شابه ذلك من نعوت رنانة طنانة ، ولقد خُدع بالبريق الذي صنعه هؤلاء حول هذا الأثر الشعوبي ، كثير من أنصاف المثقفين العرب ، بل ومن بعض مثقفيهم ، فأخذوا بهذه الآراء على علاتها جملة وتفصيلاً ، دون أن يبذلوا أي جهد يذكر في تمحيص هذه الآراء أو دراستها وتبيان حقيقتها والكشف عن مرادها ومقصدها الشرير الموجه ضد الأمة العربية وضد التراث العربي الإسلامي الخالد .
لقد فرض علينا نحن عرب هذا العصر ، أمثال هذا الأثر الشعوبي الثقافي الأسود فرضاً ، وحيل بيننا وبين تراثنا الثقافي العربي الإسلامي الأصيل ، وذلك لغاية هدامة في نفوس من قاموا بهذا العمل . فقد حاولت التغريبية الهدامة ومنذ مطلع ما يُدعى بعصر اليقظة العربية ، بين المثقف العربي وبين فكره العربي التثقيفي الأصيل المتمثل في تراثه الثقافي العروبي المحض ، فقدمت لنا وبمباركة من شعوبية اليوم ، ومِن مَن ركبوا مركبها من التغريبيين ودعاة الفكر والثقافة ، قدمت لنا التراث الشعوبي ، الذي أجهدت نفسها وصرفت جل وقتها في سبيل اكتشافه وإحيائه ، على أنه هو المعبر الوحيد والممثل الأكيد للتراث الثقافي العربي الإسلامي ، فكان أن غدا الفكر والثقافة العربية المحدثة مجردة عموماً من الأصالة العروبية المتفردة ، وكان أن أمسى المثقف العربي مثقفاً غير عربي بعامة ، وكان أن دخل التثقيف العربي الحديث في محنته السلبية الراهنة ، وهذه هي إحدى غايات أعداء الأمة العربية .
فإذا نحن ، وصمن كتاب ألف ليلة وليلة على أنه أثر شعوبي ، لما يحتويه من آراء ومعتقدات وأخلاق شـعوبية مناقضة لمـا هي عليـه عند أبناء الأمـة العربية ، وأكدنا على أن هناك في تراثنا الثقافي العربي ، تراثاً عربياً أصيلاً ، وتراثاً شعوبياً دخيلاً ، ففي هذه الحالة يجب علينا أن نبين هنا وباختصار :
أولاً ـ ماهيَّة التراث العربي الأصيل .
ثانياً ـ ماهيّة التراث الشعوبي الدخيل .
ثالثاً ـ هل التراث العربي الأصيل جميعه تراث حي نافع ؟
رابعاً ـ هل نلتزم بتراثنا العربي الأصيل ككل ، ونكون مسؤولين عنه ، أو يكون التزامنا ومسئوليتنا عن بعضه دون الباقي ؟ .
إن هذه الأسئلة تفرض نفسها فرضاً على أي مثقف عروبي له اهتمام بموضوع التراث ، ولا مناص لنا من الجواب إذا أردنا أن نمنع حدوث الفوضى والتكلف والارتجال في دراسـة التراث الشعوبي الدخيل ، ليسهل علينا اكتشافه والعمل على إبعاده عـن تراثنا الثقافي العظيم .
إن التراث الثقافي للأمة ؛ أي أمة ؛ هو التراث الذي يعبر بشكل مطلق عن ذاتية الأمة التي أنشأته بجميع خصائصها الروحية والنفسية والعقلية والوجدانية الأصيلة ، وما عدا هذا فهو خارج عن حظيرة تراثها ، حتى ولو سطر بلغة هذه الأمة .
ويتمثل التراث الثقافي العربي الأصيل في جميع ما أبدعته الذات العربية في صيرورتها الحياتية الكونية القومية العظمى ، من نتاج في كل ميدان من ميادين الدين والأدب والفلسفة والفن والعلم والاجتماع والسياسة والتاريخ والأخلاق وغيرها .
فيكون التراث العروبي الخصوصي الخاص ، هو التراث العروبي الذي يتمتع مطلقاً بالخصائص العظمى التالية : التأليهية والتوحيدية والروحانية والمثالية والأخلاقية والإنسانية والحضارية . ذلك لأن هذه الخصائص هي ذاتها الخصائص الذاتية الخالدة للماهية الأصيلة للأمة العربية ومن ثم هي ذاتها الخصائص الذاتية للفكر العربي الأصيل .
أما التراث الشعوبي الدخيل ، فهو التراث الذي استمد مادته الفكرية الأساسية ، من مصادر عقائدية غريبة ، وبالأخص العقائد الفارسية المجوسية ، هذا الفكر الذي دخل على التراث العربي عن طريق مفكرين أعاجم حاقدين ، على العرب والعروبة وعلى الدين الإسلامي الحنيف ، كأبي عبيد معمر بن المثنى ، وعلان الشعوبي ، وسعيد بن حميد البختكاني، والنضر بن شميل، وخالد بن المخزومي ، وأمثالهم من الفرس الحاقدين ، الذين استغلوا ثقة الناس في علمهم الغزير فعبثوا بحقائق التاريخ بما وضعوه على العرب من أخبار وأمثال وقصص مخزية كانت تسير في البلاد طولاً وعرضاً ، وقلما يفطن الناس إلـى اختلاقها ، بل قلما يفطن إلى أنها مكيدة مدبرة ونكاية مقصودة تستهدف العرب والأمة العربية ، فكان هذا التراث الدخيل مبايناً ومناقضاً ومناهضاً للخصائص الذاتية التي يتمتع بها التراث العربي الأصيل ، ومنافياً تماماً لخصائص الأمة العربية ، الروحية والنفسية والعقلية والوجدانية الأصيلة .
وبرغم من إدخال هذا التراث الشعوبي الدخيل في حظيرة التراث العربي قسراً ، فإنه في حقيقته الكلية العامة ، لا يكاد يحمل من العربية سوى هذه التسمية اللفظية المجردة ، كما رأينا في دراستنا لكتاب ألف ليلة وليلة ، ، أما من حيث المسمى ، فهو في مجمله تراث لا عربي غريب ، إن روحاً ومحتوى وإن شكلاً وأسلوباً ، وذلك لكونه لا يشتمل على شيء ما من مقومات التراث الثقافي العربي الأصيل الجوهرية ، وخصائصه الأصلية وسماته الأصيلة ، أو بالأحرى لكونه يشتمل عل مقومات وخصائص وسمات تباين وتناقض وتناهض هذا النتاج ، وهي مقومات وخصائص وسمات نجمت نجوماً طبيعياً عن العناصر الأساسية الكبرى التي تكوَّن منها أصلاً . ومع ما يتمتع به التراث العروبي نفسه من صلاحية تامة وجودة كاملة ككل عام ، فإنه يشتمل على أجزاء بسيطة جداً ، ضئيلة الصلاحية والجودة ، وعلى هذا فالتراث العروبي ينطوي على أربعة ضروب ، هي : التراث الحي والتراث الميت من جهة ، والتراث الممتاز والتراث العادي من جهة أخرى ، أما التراث الحي فهو التراث الذي يحمل فكراً خالداً يؤهله لأن يكون صالحاً لكل عصر ، وبالتالي لأن يكون مستمراً في كل زمان ، على حين أن التراث الميت هو التراث الذي يفتقد إلى مثل هـذا الفكر ، وبالتالي فهو لا يصلح إلا لعصره وزمانه ، لا يتجاوزهما إلى غيرهما من العصور والأزمان ، وأما التراث الممتاز ، فهو التراث الذي يحمل قدراً وافراً من الفكرية الرفيعة ، على حين أن التراث العادي هو التراث الذي تقل أو تندر فيه هذه الفكرية .
أما موقف العروبي من تراث الأمة العربية الثقافي بشكل عام ، ولتراثه الثقافي العربي الإسلامي بشكل خاص ، فهو بالبداهة موقف التبني الكلي لقسمه العروبي الأعظم ، ولا سيما ضربيه الأكبرين الحي والممتاز ، والالتزام التام به والمسؤولية الكاملة عنه ، ومن ثم
وقف العناية المطلقة به ، بحثاً ودراسة وتحصيلاً واستملاكاً ، وتمثلاً وتشبعاً وتجديداً وإبداعاً (1) .



تم الكتاب بعون الله تعالى


















مراجع الكتاب

1. ألف لبلة وليلة : الطبعة الأولى ، مقابلـة وتصحيح الشـيخ محمد قطة العدوي ؛ أعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ، بغداد ؛ مطبعة بولاق 1252 هـ
2. ألف ليلة وليلة سهير القلماوي
3. أثر ألف ليلة وليلة في الآداب الأوربية عبد الجبار محمود السامرائي
4. الإسلام والحضارة العربية محمد كرد علي
5. ألف ليلة وليلة ( مرآة الحضارة والمجتمع في العصر العباسي ) ميخائيل عواد
6. أخبار النساء ابن قيم الجوزية
7. الأحكام السلطانية والولاية الدينية الماوردي
8. إيران في عهد الساسانيين آرثر كريستنسن
9. بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب محمد شكري الآلوسي
10. البرامكة في ظلال الخلفاء محمد أحمد برانق
11. البخلاء أبو عثمان الجاحظ
12. التثقيف العربي الأمثل إسماعيل العرفي
13. تراث فارس أ . ج . أريري . تر : محمد كفافي
14. تاريخ الإسلام السياسي حسن إبراهيم حسن
15. تاريخ آداب العرب مصطفى صادق الرافعي
16. تاريخ الخلفاء جلال الدين السيوطي
17. تاريخ الرسل والملوك ابن جرير الطبري
18. تاريخ الدولة العباسية محمد أسعد طلس
19. الثورة والتراث حميد سعيد
20. الرد على الدهريين جمال الدين الأفغاني
21. الرسالة الإمام الشافعي
22. السياسة الشرعية ابن تيمية
23. ضحى الإسلام ، يوم الإسلام أحمد أمين
24. طبيعة الدعوة العباسية فاروق فوزي عمر
25. الطبقات الكبرى ابن سعد
26. العرب تاريخ موجز فيليب حتي
27. العبر وديون المبتدأ والخبر ابن خلدون
28. العصر العباسي الأول شوقي ضيف
29. العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
30. العباسيون الأوائل فاروق فوزي عمر
31. عيون الأخبار ابن قتيبة
32. الغلو والفرق الغالية عبد الله سلوم السامرائي
33. في الشعوبية إسماعيل العرفي
34. الكامل في التاريخ ابن الأثير
35. كتاب الحيوان الجاحظ
36. كتاب العرب القومي إسماعيل العرفي
37. مقالات الإسلاميين أبو الحسن الأشعري
38. محاضرات الأدباء الأصبهاني
39. مظاهر الشعوبية في الأدب العربي محمد نبيه حجاب
40. محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية الشيخ محمد خضري بيك
41. مقدمة في تاريخ صدر لإسلام عبد العزيز الدوري
42. المذاهب الإسلامية محمد أبو زهرة
43. مقالة في العروبة والإسلام إسماعيل العرفي
44. المجتمع العربي ومناهضة الشعوبية إبراهيم أحمد العدوي
45.مقالات في أثر الشعوبية ( في الأدب العربي وتاريخه ) نعمة رحيم العزاوي
46. محاضرات في تاريخ العرب صالح أحمد العلي
47. نقد العلم والعلماء أو تلبيس إبليس أبو فرج ابن الجوزي
48. نشأت الحركة العربية الحديثة محمد عزة دروزة
50. هارون الرشيد عبد الجبار الجومرد
فهرس الكتاب

الإهداء 2
المقدمة 4
الباب الأول : المدخل 10
الباب الثاني: العرب في ألف ليلة وليلة 20
الباب الثالث : الإسلام في ألف ليلة وليلة 54
الباب الرابع : الخلق العرب في ألف ليلة وليلة 102
الباب الخامس : حياة العرب الاجتماعية في ألف ليلة وليلة 128
الباب السادس : السلطة العربية في ألف ليلة وليلة 148
الخاتمة 188
مراجع الكتاب 194