المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جعلوني ( موسيقاراً )



محمد سرحان
20/03/2008, 10:39 AM
أنا رجل ترعرع في كنف النغم والموسيقى .... وهذا ما يفسر نزعتي الطربية
تحدث أمي بأني كنت اهتز فرحا عندما تتلقف أذناي أي أغنية ... كان ذلك عندما كنت صغيرا لا يتجاوز عمري الثلاث سنوات


وفي ميعة الصبا كنت أحسب نفسي بليغا آخر أو موجيا آخر
ولم أشعر اني سأكون وهابيا ( كنوع من التواضع أمام نفسي والعاقل من عرف للناس أقدارها) كنت أكتفي أن أضع نفسي موضع بليغ والموجي والطويل

كنت) أشخبط ) اسم بليغ حمدي في صف المدرسة وعلى كراساتي لدرجة ان المعلمين كانوا يخلعون علي لقب بليغ حمدي الصغير

يوم أن قضى بليغ حمدي نحبه كان يوم بؤس لدي كيوم بؤس النعمان بن المنذر... إني اذكر التاريخ تماما 13/9/1993
كان أصدقائي يمطرونني بالتعزية التي لا تخلو من سخرية ... لقد كنت أسرد عليهم ماذا سيدور بيني وبين بليغ حمدي عندما اقتحم بموهبتي عقر داره في القاهرة ... وكيف انه سيتبناني فنيا ..

والدتي ( أبقاها الله ) كانت تحسبه اسما لأحد أساتذتي الذي تأثرتُ به ... فلما إن علمتْ بانه اسم لموسيقار
نفضت سجادة الصلاة لتقول ( فلتهتم بدروسك يا ابني .... ودعك من هذه الأشياء) ...

ابتعتُ أول عود في حياتي وعندي من العمر 14 عاما .... كان اهل الحي يسخرون مني ويهتفون صائحين
( لقد جاء الموسيقار ..... لقد ذهب الموسيقار !! )
كنتُ وجبة دسمة من السمر بين شباب الحي الكبار مما لا تعنيهم الموسيقى بكثير أو قليل
ولكنه كان على أي حال يرضي غروري وطموحي الفني
فلقد أصبحت موهبتي حديث الصباح والمساء لأهل القرية
وكنت أجيبهم في قرارة نفسي : ستعلمون غدا من هو الموسيقار ... فمن هو الموسيقار إلم أكن أنا؟!....

انتسبت لناد ٍ موسيقي في الخامسة عشرة
ولكم أتذكر ذلك المدرس الموسيقي وقد طحنته الدهشة عندما قال لي يومها :
" فلتختر أغنية تحبها لاعلمك عزفها ؛ حتى تتدرب على مواقع النغمات "
أجبته بحماس : قارئة الفنجان يا سيدي !!!
تسربت ضحكاته عبر شقوق الحائط في ذلك النادي الذي يحتضن بعضا من الات الموسيقية العتيقة ....
وانا اتسلح بالاصرار .... نعم أريد ان أتعلم عزف قارئة الفنجان


إذن ستتعب يا بني !! ...
قالها وقد أدار ظهره ليتركني ألعب بأوتار العود في بلاهة
تمر السنون - سنون قليلة - لأجلس مع أصيحابي حاملا عودي
ها ... ماذا تريدون ان تسمعوا
صوت من هنا : وحياتك أغنية كل البنات بتحبك
صوت من هناك : لأ لأ نريد ان نسمع مقادير
إنهم يستفزونني طبعا .... أبعد كل هذه السنين والعذابات بين اوتار العود قضيتها مترحلا بين ألحان بليغ حمدي و محمد الموجي وعبدالوهاب و السنباطي
تطلبون مني أن أعزف لـ ............ !
إنكم تضيعون وقتي يا سادة ... سلام عليكم


الآن أنا أعزف لنفسي فقط ....
ولا أريد أن أعزف إلا لنفسي فقط .... أعلم ان هذا اعتراف خطير بنرجسيتي ... قولوا ما شئتم ... إن هذا يريحني


أنا أعزف على النوتة ... لا أزيد ولا أنقص من اللحن
جاء الوقت الذي صرت أعزف فيه على ( الرائحة ) فما أكاد أسمع كوبليها إلا وسارعت أصابعي لتحتضن الأوتار عازفة إياه بإتقان
يقولون : من طمح لشيء ...ناله ولو بعد حين
وهذا بالضبط ما حدث معي


قبل أيام قليلة ضحكت كثيرا على نفسي أو ضحكت من نفسي ....سمها ما شئت
أتدرون لم ؟
سأقوم بإخراج نسخة معدلة من رائعة عبدالوهاب (من غير ليه )
الأغنية تعجبني وأتمتم بها وأنا أذرع صالون البيت جيئة وذهابا

ولكن عقدتي من هذه الأغنية في الكوبليه الثاني: يالله زماني رماني في بحر عنيك
لقد لحنه عبدالوهاب من مقام يسمونه النهاوند (1).... يراودني إحساس أن عبدالوهاب لم يضع ثقله بالقدر الكافي في هذا الكوبليه كبقية الأغنية


إذن جاءت فرصتي لأقنع نفسي بأني موسيقار
أمسكت العود وقررت أن أصوغه على مقام السيكا (2) وأنا مقتنع بأن السيكا يعبر عن مضمون هذا المقطع
وبالفعل باشرت مهمتي ...
داعبت أوتار العود وأنا أتفصد عرقا !
وأصبحت كشخص يترنح من صعوبة الإخراج
أهمس لنفسي وقد أصابني الإعياء :
اختيارك خاطيء إن السيكا لا يطاوعك
فليكن العجم إذن
وبعد ان نفدت كنانتي الموسيقية من العجم للكرد للراست
انتصبت وقد رميت العود .... وشعرت كم انا قزم ! :
من ذا الذي يجرؤ على التطاول عليك يا ملك !
فليكن النهاوند يا عبدالوهاب
ولتمش ِ كلمتك !!
بعد كل هذا لكم أن تستنتجوا أني ملحن فاشل
وقد أدركت أنك قد تعزف بمهارة الأطرش ولكن قد لا تستطيع ان تخرج من تلقاء نفسك جملة لحنية واحدة


------------------
السيكا والنهاوند والعجم هي اسماء المقامات الموسيقية التي يتألف منها أي لحن