المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع رجاء النقاش



د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:40 AM
1 ) الثلاثة الكبار الذين قدمهم النقاش في حديث عنه
.................................................. ..............

أثيرت في هذه الصفحة الثلاثاء الماضي ــ ضمن التحقيق الصحفي الذي تحدث فيه جيل النقاش عن فضله ــ مسألة تقديمه لثلاثة من أكبر المبدعين العرب‏,‏ وهم بالترتيب الزمني لما كتبه النقاش عنهم‏:‏ أحمد عبد المعطي حجازي‏(1959)‏ ثم الطيب صالح ومحمود درويش في الستينيات‏.‏
وهذا الأسبوع تنشر أدب كلمات هؤلاء الكبار الثلاثة الذين اكتشفهم النقاش عنه‏,‏ بعد ان استكتبتهم من القاهرة ولندن وعمان‏.‏
شعري ومقدمة رجاء مشروع مشترك
أحمد عبدالمعطي حجازي
من المؤكد أن مقدمة رجاء النقاش لديواني الأول مدينة بلا قلب هي التي قدمتني لقراء الشعر‏,‏ فأنا مدين لها بالكثير‏,‏ لكن بوسعي أيضا أن أقول إن رجاء النقاش مدين لهذه المقدمة بما يساوي ديني لها‏.‏ فهي التي قدمته لقراء الشعر وقراء الأدب كناقد مثقف قادر علي التقاط الملامح الجوهرية المميزة وتفسير ما فيها من جمال وكسب ثقة القارئ وإقناعه بما يقول‏.‏
نعم‏,‏ رجاء النقاش ناقد حقيقي‏.‏ والناقد الحقيقي هو الذي يستطيع أن يتسلل إلي داخل النص ويعرف كيف تشكل‏.‏ الناقد الحقيقي هو الذي يتقمص شخصية الكاتب أو الشاعر ويتمثله لحظة إبداعه ليعرف كيف أنشأ ما كتب أو ما نظم‏,‏ ومن المؤسف حقا أن يختفي هذا الصنف من النقاد وأن يتكأكأ علينا من يعجزون عن الاقتراب من الشعر والانفعال به والتغلغل في متاهاته‏.‏
لكن رجاء النقاش لم يقتصر دوره في ديواني الأول علي كتابة مقدمة له‏.‏ لقد نظمت معظم قصائد الديوان بعد أن تعرفت عليه وتوثقت صلتي به‏.‏ قصيدة واحدة في الديوان أو قصيدتان نظمتا قبل أن ألقاه أول مرة في أواخر عام‏1955,‏ يوم ذهبت إلي قهوة عبدالله في ميدان الجيزة لأقدم نفسي للناقد أنور المعداوي‏,‏ الذي كانت ندوته في القهوة تنعقد كل مساء بحضور مجموعة من أصدقائه ومريديه‏,‏ منهم رجاء الذي لم أكن قرأت له أو سمعت عنه من قبل‏,‏ وبقدر ما ظلت علاقتي بمعظم أعضاء الندوة محصورة في الندوة‏,‏ تحولت علاقتي برجاء فتجاوزت حدود الندوة وأصبح لقاؤنا اليومي أساسا في تلك المرحلة الحاسمة من حياتي‏.‏
كنت في العشرين من عمري قادما لتوي من ريف الوجه البحري أبحث عن عمل في صحافة القاهرة‏,‏ بعد أن نشرت لي بعض المجلات عددا من قصائدي الأولي‏,‏ وكان هو في الحادية والعشرين يطلب اللغة العربية وآدابها في جامعة القاهرة ويراسل مجلة الآداب البيروتية‏.‏
ولاشك أن مواهب رجاء لفتت إليه بعض الأنظار‏,‏ لكنه حين التقينا كان لايزال بعيدا عن دائرة الضوء‏.‏ وكنت أكثر بعدا وإن كانت قصائدي الأولي قد لفتت إلي أنا الآخر بعض الأنظار‏.‏ في تلك اللحظة صرنا صديقين حميمين‏,‏ أكتب القصيدة فيكون أول قارئ لها‏,‏ ويكتب الرسالة فأقرأها وأقرأ ما بين السطور‏.‏
لقد كتبت إذن ديواني الأول في دفء هذه الصداقة‏.‏ وفي هذا الديوان قصيدة عنه‏,‏ وأخري مهداة إليه‏.‏ وهو إذن لم يكن مجرد كاتب مقدمة لهذا الديوان‏,‏ وتلك حقيقة يلمسها قارئ المقدمة‏,‏ إذ يجد أن الناقد قد تقمص روح الشاعر وتكلم بلسانه‏.‏ من هنا أقول إن ديواني الأول بمقدمته كان مشروعا مشتركا للشاعر والناقد معا‏.‏ كان شعرا جديدا‏,‏ وكان بيانا شعريا جديدا‏.‏
في هذه المقدمة التي تقع في أكثر من ثمانين صفحة شخص رجاء عالمي الشعري بوصفه تعبيرا رمزيا عن مرحلة فاصلة في تاريخنا الحديث‏.‏ ويمكنني أن أشبه الدور الذي لعبته هذه المقدمة في حركة تجديد الشعر العربي‏,‏ بالدور الذي لعبته مقدمة وردزورث لديوانه الأقاصيص الشعرية في الحركة الرومانتيكية الانجليزية‏,‏ ومقدمة فيكتور هيجو لمسرحية كرومويل في المسرح الفرنسي الرومانتيكي‏.‏
محمود درويش
من الحب القاسي إلي نقيضه القاسي
محمود درويش
تحتفظ الذاكرة بما تنتقي‏,‏ وكالنقش في الحجر تبقي مجموعة الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الشعرية الأولي مدينة بلا قلب جزءا من ذاكرتي الشعرية فيها تعرفت إلي شعر جديد طازج لا يشبه شعرا آخر‏.‏ وفيها ايضا تعرفت إلي قراءة نقدية سخية الاحتفاء بهذا الشعر الجديد المبهر‏:‏ هي المقدمة الاحتفالية التي كتبها ناقد جديد هو رجاء النقاش‏.‏
من هذه المقدمة العلامة في العلاقة بين حركة الشعر العربي الحديث وقراءته الحديثة‏,‏ بدأت علاقتي برجاء النقاش‏.‏ عن بعد شفاف أتابع كتاباته بشغف المتعطش إلي الاطلاع علي مشهد الأدب العربي الجديد‏,‏ حيث أقام رجاء النقاش مرصدا للتبشير والاحتفاء بالمواهب الشابة‏,‏ وكصياد لؤلؤ ثاقب‏,‏ احتفل رجاء برائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلي الشمال التي شغلت جزءا من ذاكرتي الروائية‏.‏
قبل أربعين عاما‏,‏ عندما كنت شابا خاضعا للاقامة الاجبارية في مدينة حيفا‏..‏ لم أتخيل أن شبكة رجاء النقاش ستعثر علي وعلي زملائي‏,‏ وتنتشلنا من عتمة العزلة والحصار‏.‏ كان يمكن لي أن أفرح بمقالة تنبئ القارئ العزيز بأن هناك خلف الأسوار شعبا أسيرا فيه شباب يكتبون شعرا مختلفا عما سببته هزيمة يونيو‏1967‏ من احباط عام للشعر والشعراء في العالم العربي الجريح‏.‏
لكن رجاء النقاش فاجأني بأنه كرس لي كتابا كاملا ابهجني وأحرجني‏,‏ ابهجني لانه أسهم مع غسان كنفاني ويوسف الخطيب في فك الحصار عن اسمي الشعري المبتدئ‏.‏
وأحرجني لأنه لم يخضع محاولاتي الشعرية الأولي لمعايير النقد العامة‏,‏ ومنحني من الكرم الأدبي ما قد يعيقني عن تطوير موهبة الشك الذاتي فيما أكتب‏.‏
آنئذ صارت لظاهرة شعر المقاومة حصانة أخلاقية تضفي علي الشعر الفلسطيني وبلا تمييز احدي صفات القداسة‏,‏ وتحرم النقد من التعامل مع مستواه الجمالي‏.‏ كان ذلك حبا‏.‏ فان الكثيرين من العرب قد وجدوا في الظاهرة الفلسطينية الصاعدة تعويضا معنويا عن هزيمة يونيو‏.‏
وآنئذ كتبت‏:‏ أنقذونا من هذا الحب القاسي‏.‏ لكن هذا الحب القاسي كان في حاجة إلي وقت أطول ليشفي من عاطفته المتأججة‏,‏ فامتد بي الأجل لأري أن الشاعر الفلسطيني الذي تحرر من الحب القاسي‏,‏ قد تعرض للمقدار ذاته من الكره القاسي‏,‏ ربما لأن علي الفلسطيني أن يبقي موضوعا للشفقة لا ذاتا تنتج وتبدع‏,‏ وصار ينظر إلي الشاعر الفلسطيني من ثقب جغرافيته الضيقة فما دامت بلاده صغيرة فان أفقه الشعري ضيق‏.‏
لكن رجاء النقاش كان من أكبر المدافعين عن حقنا في النمو‏,‏ حتي لو كانت بلادنا أصغر من حارة في مدينة كبيرة‏.‏
الطيب الصالح
في رثاء رجاء النقاش
الطيب صالح
الخسارة في غياب رجاء النقاش‏,‏ لم تكن لمصر وحدها‏.‏ إنها خسارة عظيمة للعالم العربي كله‏,‏ ذلك لأن رجاء النقاش ـ رحمه الله ـ كان من الكتاب العرب القلائل الذين لم ينظروا إلي الأمور من زاوية ضيقة‏.‏
كان يتوخي في كل ما يكتب ايجاد ركائز فكرية ووجدانية مشتركة تدعم قيام روابط أوسع من‏(‏ الوطن‏)‏ بحدوده السياسية أو الجغرافية‏.‏
كان ذلك أمرا مهما جدا لديه‏,‏ يحفزه علي ذلك أيضا طبع من السماحة والمروءة والأريحية‏.‏ وقد ازدادت أهمية هذا الأمر‏.‏ بعد ما بدا من هزيمة الطموحات السياسية‏.‏ وهي هزيمة بلغ من قسوتها أنها زعزعت القناعات الوجدانية العميقة الكامنة في ضمير الأمة‏.‏
كان رجاء النقاش رحمه الله من أكثر المصريين إدراكا لأهمية دور مصر في تشييد هذه الرابطة الوجدانية الفكرية‏.‏
إذا كان دور مصر السياسي كما يبدو قد تعرض للضعف والانحسار‏,‏ فإن دورها الروحي والفكري قد زاد تماسكا وقوة‏,‏ وهو دور أجدر بالاستمرار والبقاء‏.‏
وقد كان رجاء النقاش يدرك إدراكا عظيما أن قدرة مصر في الاستمرار في دورها الذي حباها به الله في زعامة رابطة الشعوب التي تلتف حولها‏,‏ أن ذلك يعتمد علي عمق إدراك مصر لأحوال تلك الشعوب‏.‏
لذلك كان هو نفسه مهتما بالفعل بأحوال كل بلد عربي‏.‏ زار أغلب تلك الأقطار‏,‏ وعاش فترات طويلة في بعضها‏,‏ وكان يعرف المفكرين والكتاب من سائر البلاد العربية‏.‏ وقد صار عن جدارة مفكرا‏(‏ عربيا‏),‏ لم يعد مفكرا مصريا فحسب‏.‏
ولاشك أن أناسا كثيرين سوف يحزنون علي فقده في سوريا والسودان واليمن والمملكة العربية السعودية وتونس والمغرب وموريتانيا وقطر والكويت ولبنان وسائر البلاد العربية‏.‏
سوف يحزن الناس علي فقده في هذه البلاد‏,‏ ليس أقل مما يحزنون في مصر‏.‏
وكان من حسنات رجاء النقاش التي يندر وجودها عند سواه‏,‏ أن الصلات الفكرية لديه كانت تتحول دائما إلي علاقات شخصية‏,‏ وكأنه بذلك يضيف عمليا إلي تماسك ذلك البنيان الفكري والروحي الذي يؤمن به‏.‏
رحم الله الأخ العزيز والصديق الكريم والإنسان النبيل والمفكر الصادق الحدس الواسع الإدراك‏,‏ واسأل الله سبحانه وتعالي أن يحسن عزاء زوجته الفاضلة الدكتورة هانية التي كانت له نعم المعين في حياته وفي مساعيه النبيلة وإلي بقية أفراد أسرته‏.‏
..........................................
*الأهرام ـ في 18/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:41 AM
(2) تلميذ السيدة زينب

بقلم : رجاء النقاش
............................

في الشهور الأخيرة من حياة يحيي حقي‏1905‏ ـ‏1992‏ اشتد المرض علي الأديب الكبير‏,‏ وأصدر رئيس الوزراء في ذلك الوقت الدكتور عاطف صدقي ـ رحمه الله ـ قرارا بعلاجه علي نفقة الدولة‏,‏ ودخل يحيي حقي المستشفي بناء علي هذا القرار‏,‏ وبعد أيام قليلة وقع زلزال مصر الشهير في‏12‏ أكتوبر سنة‏1992,‏ فأصر يحيي حقي علي الخروج من المستشفي وقال‏:‏ إن السرير الذي أشغله أولي به أحد المصابين في الزلزال‏,‏ ولم تطل حياة يحيي حقي بعد ذلك كثيرا‏,‏ فقد عاد إلي المستشفي وتوفي في يوم‏9‏ ديسمبر‏1992.‏
لم يكن موقف يحيي حقي عندما أصر علي ترك سريره في المستشفي لأحد المصابين في الزلزال نوعا من التمثيل لإثارة العطف أو لفت الأنظار‏,‏ بل كان موقفا حقيقيا صادقا من جانب أديب انسان عاش حياته كلها ملتزما بالصدق والأمانة من البداية إلي النهاية‏.‏
ولد يحيي حقي الذي نحتفل بذكري ميلاده المئوية هذا العام في حارة الميضة بحي السيدة زينب في‏7‏ يناير سنة‏1905,‏ وقد سافر يحيي حقي بعد إتمام تعليمه في كلية الحقوق سنة‏1925‏ إلي كثير من بلدان العالم‏,‏ وتعلم لغات عديدة‏,‏ وعرف العواصم الكبري وعلي رأسها باريس وروما‏,‏ وتزوج من السيدة جان الفرنسية‏,‏ بعد أن ماتت زوجته الأولي التي أنجبت له ابنته الوحيدة السيدة نهي ومع هذه التجارب كلها ظل حي السيدة زينب في قلبه علي الدوام‏,‏ لاينساه ولايبتعد عنه روحيا ولو بخطوة واحدة‏.‏ ويكاد يحيي حقي يقول لنا في كل ما يكتبه إن هذا الحي الشعبي العريق هو الجامعة التي تعلم فيها أحسن العلم‏,‏ وأحسن الأدب‏,‏ وأحسن الأخلاق‏,‏
وأحسن الألفاظ والعبارات‏,‏ ولاينافس يحيي حقي في عشق المكان إلا عبقري آخر هو نجيب محفوظ الذي عشق حي الجمالية بنفس الدرجة التي عشق بها يحيي حقي حي السيدة زينب‏,‏ ويكفي أن نلقي نظرة سريعة علي عناوين كتب يحيي حقي حتي نعرف أن قاموسه الأدبي مستمد من هذا الحي‏,‏ أو من هذه الجامعة الشعبية الكبيرة‏,‏ فمن عناوين كتب يحيي حقي نقرأ أم العواجز وهي لقب يطلقه الناس علي السيدة زينب نفسها‏,‏ وهناك ايضا قنديل أم هاشم وأم هاشم هو لقب آخر يطلقه الناس علي السيدة زينب‏,‏ ثم نقرأ من عناوين يحيي حقي الأخري خليها علي الله ومن فيض الكريم وعطر الأحباب ومن باب العشم وكناسة الدكان وكل هذه العناوين وثيقة الصلة بلغة حي السيدة زينب‏,‏ وهي لغة التواضع والتسامح‏,‏ والفرح بالحياة‏,‏ والتأدب في مخاطبة الناس‏,‏ وفتح الباب بالمحبة والمشاعر الطيبة للتعامل الكريم مع الآخرين‏.‏
إن تأثير أجواء السيدة زينب واضح جدا علي يحيي حقي وأدبه‏,‏ وشخصية يحيي حقي نفسها منعكسة تماما علي لغته الأدبية‏,‏ أي علي أسلوبه وهنا نجد تطبيقا حيا صادقا للقول الفرنسي المشهور بأن الأسلوب هو الرجل‏,‏ ونستطيع أن نقول بناء علي هذه القاعدة الصحيحة إن لغة يحيي حقي‏,‏ هي يحيي حقي نفسه‏,‏ وفي هذه اللغة نجد نوعا من الخشوع والتقوي والتدين‏,‏ وهو شعور نخرج به دائما من كتابات يحيي حقي‏,‏ ولا أظن أبدا أن الذين يحبون هذه الكتابات يخطئون حين يشعرون بأنهم يقرأون كتابة فيها روح دينية صوفية‏,‏ بالاضافة إلي ذلك فنحن نجد أننا مع يحيي حقي أمام لغة دقيقة ليس فيها طرطشة‏,‏ ولاثرثرة‏,‏ وليس فيها ذيول يجرها كاتبها وراءه دون أي ضرورة فكرية أو لغوية‏,‏ ومن أقوال يحيي حقي عن نفسه أنه دائما يلتزم بدقة اختيار اللفظ ووضعه في مكانه ثم يضيف إلي ذلك قوله إنني عاشق متيم باللغة العربية فهي من أغني لغات العالم‏,‏ وقواعدها بسيطة‏,‏ ومن الممكن معرفتها بسهولة‏.‏
هذا هو إحساس يحيي حقي باللغة العربية التي يعبر بها عن أفكاره ومشاعره‏,‏ فهو من ناحية يحرص علي الدقة في اختيار ألفاظه‏,‏ بحيث تبدو اللغة في كتابته لغة هندسية ومنضبطة‏,‏ ومن ناحية أخري فإن عشقه للغة العربية يجعله قادرا علي اكتشاف مافي هذه اللغة من جمال‏,‏ لانك لاتستطيع أبدا اكتشاف جمال شيء إلا إذا أحببته باخلاص وصدق واستمتاع‏.‏
وقد اندفع يحيي حقي من خلال حبه للغة العربية إلي قراءة الأصول الأدبية الأساسية في هذه اللغة‏,‏ فقرأ روائع الشعر العربي في عصوره المختلفة‏,‏ من الجاهلية إلي العصر الحديث‏,‏ وعندما نقول انه قرأ هذا التراث الشعري‏,‏ فينبغي أن نعرف انه قرأه قراءة متأآنية دقيقة متذوقة‏,‏ وقرأه بفهم عميق واحساس صادق أصيل‏,‏ ولم يقرأ هذا الشعر قراءة سريعة خاطفة‏,‏ وهذه نقطة ينبغي أن تلتفت إليها أنظار الأجيال الأدبية الجديدة‏,‏ حيث يظن البعض أن القصة لا علاقة لها بالشعر‏,‏ وهذا خطأ كبير‏,‏ يحذرنا منه يحيي حقي‏,‏
فهذا الأديب الكبير لم يصل إلي لغته النقية المكثفة الدقيقة إلا من خلال جهد واسع في قراءة التراث الشعري العربي‏,‏ وجهد آخر في استيعابه ودراسته وتذوقه‏,‏ بل لقد وضع يحيي حقي أمامنا معني بالغ الأهمية من خلال حبه للغة العربية وتراثها الشعري‏,‏ وقد عبر عن هذا المعني بقوله إنني أشترط أن يكون في أي قصة نفس شعري‏,‏ وتلك فكرة دقيقة ومهمة‏,‏ فالقصة إذا خلت من روح الشعر فقدت الكثير من أهميتها وقدرتها علي التأثير العميق‏,‏ وهذا مانحسه بوضوح في أدب يحيي حقي‏,‏ فإلي جانب إحساسه الصوفي الديني بالناس والاشياء‏,‏ وأفكاره العميقة في النظر إلي ال حياة والمجتمع‏,‏ فإننا نحس بروح الشعر وهي ترفرف علي أدب يحيي حقي كله فترفعه إلي مستوي فني وانساني بالغ القيمة والمتعة والجمال‏,‏ وتوفر له نوعا من الموسيقي الرقيقة الخفية التي لايخطئها القلب علي الإطلاق‏.‏
وفي أدب يحيي حقي نلتقي بظاهرة أخري شديدة التميز‏,‏ فهو أدب يخلو تماما من الصراخ والخطابة والوعظ والإرشاد والمناقشات الطويلة المملة‏,‏ وهو أدب شديد التركيز والكثافة دون أن يقوده ذلك إلي أي نوع من الغموض المرفوض‏,‏ وفي عبارة بديعة ليحيي حقي نسمعه يقول‏:‏ حين تكتب أغلق فمك‏,‏ وإياك أن تفتحه وهذه عبارة رائعة تستحق أن يضعها كل كاتب حقيقي صادق أمام عينيه‏,‏ وأن يقرأها كل يوم‏,‏ مرة واحدة علي الأقل‏,‏ فالكتابة المهمة غير الصاخبة والبعيدة عن الضوضاء والخالية من الزخارف الشكلية هي التي تصنع الناس وتؤثر في المجتمعات وتقود الحياة إلي الأمام وفي عبارة جميلة أخري عن الأدب المثالي في نظره يقول يحيي حقي‏:‏ إنني حين أقرأ هذا الأدب‏,‏ لا أشعر أنني أقرأ‏.‏
وهكذا يقدم لنا يحيي حقي مقياسا دقيقا للأدب الجميل المؤثر‏,‏ فقمة النجاح الأدبي تكون عندما يشعر قاريء الأدب انه لا يعاني من أي إرهاق روحي أو ذهني‏,‏ وأنه يقرأ كلاما قريبا إلي القلب‏,‏ وليس أدبا فضفاضا زاعقا مليئا بالضجيج والصخب‏,‏ فالأدب الجميل المؤثر هو الذي نقرؤه ونحس كأننا لانقرأ من فرط السهولة واليسر والتجاوب بيننا وبين مانقرؤه‏,‏ وليس ذلك لأن هذا الأدب سطحي يتناول الحياة والتجارب الانسانية بخفة وسهولة‏,‏ بل علي العكس تماما‏,‏ لأنه يكون أدبا صادقا يتسلل إلي النفوس دون تعقيد أو افتعال‏.‏
تلك بعض اللمحات من حياة يحيي حقي الخصبة التي تستحق أن نتوقف أمامها طويلا بمناسبة ذكري ميلاده المئوية‏,‏ والهدف من ذلك هو تجديد الاهتمام به‏,‏ والإشارة بوضوح إلي أن الذين يريدون أن يدخلوا عالما من الافكار الرائعة والفن الجميل ويريدون أن يلتقوا بشخصية انسانية ساحرة في حديثها إلينا عن طريق القصص أو المقالات من يريدون شيئا من ذلك‏,‏ فعليهم بالعودة إلي يحيي حقي وكتاباته الممتعة التي تفيض بالفكر والحكمة والجمال والتنوع غير المحدود فقد كان يحيي حقي إلي جانب موهبته الأدبية الرائعة صاحب ثقافة واسعة جدا‏,‏ كما أنه كان من أصحاب التجارب الكبري التي اتاحت له أن يعرف الكثير عن الدنيا والناس‏.‏ كل ذلك جعل منه شخصية فريدة‏,‏ وقد انعكست مواهبه وتجاربه وثقافته علي كتاباته‏,‏ فأنت مع هذه الكتابات تعيش في عالم ممتع متنوع الفكر والثقافة والتجربة‏.‏
كل ذلك في إطار من طيبة القلب والأمانة والدقة‏,‏ مع الإحساس الدائم بأن يحيي حقي يكتب كأنه يصلي‏.‏
ولاعجب في ذلك‏,‏ فهو تلميذ السيدة زينب‏,‏ وقد بقي تلميذا لها حتي بعد أن دار ولف في أنحاء العالم وعرف أهم لغات الدنيا‏,‏ وقد تعود‏,‏ مهما ابتعد‏,‏ أن يعود من جديد إلي رحاب الست الطاهرة أم هاشم‏,‏ فهناك فتح عينيه علي الحياة‏,‏ وهناك أقام بوجدانه وقلبه وروحه إلي النهاية‏,‏ وهناك استحق أن نقول عنه انه تلميذ السيدة زينب وياليت الذين يقرأون هذا الكلام‏,‏ ممن لهم كلام أن يطلقوا اسم يحيي حقي ولو علي حارة الميضة التي ولد فيها‏,‏ فلاشك أن ذلك سوف يكون خير نبأ تسعد به وتطرب له روح هذا الأديب العظيم‏.‏
.................................
الأهرام 22/5/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:42 AM
( 3 ) رجاء النقاش يروى ذكريات العمر (1)

بقلم: فريدة الشوباشي
........................

أدباء "ملائكة".. وأدباء "وحوش"

لا أبالغ إذا قلت إن أقوى ما يمكن أن يصيب الإنسان هو استخدام كلمة "كان" للتحدث عن عزيز فقده.. وهذا هو حالي وأنا أتكلم عن أحد الجواهر الأصيلة في مصر، الوطن الذي أحبه ووهب حياته في سبيل إعلاء شأنه بإعلاء شأن ثقافته..
يحتل "رجاء النقاش" مكانا أساسيا في حياتي وأجمل ما في الأمر أنني وزوجي الكاتب الراحل على الشوباشي وابني الإعلامي نبيل الشوباشي نعتبر أن “رجاء" وقرينته الجميلة والنبيلة الدكتور هانية وأولادهما لميس وسميح أفراد في أسرتنا الصغيرة، وقد نشأت ظروف أدت إلى أن نتقارب تقاربا وثيقا، وأن نجلس معا لمدة ساعات في حوارات وذكريات في باريس، وهو ما يصعب أن يتاح لنا الآن في القاهرة التي تقسو علينا يوما بعد يوم..
وذات يوم قلت لـ "رجاء" إنني أريد أن أغوص في قلبه وعقله.. سألني بسرعة.. أين سأنشر.. أجبت: "العربي".. فكان قراره بلا تردد واتفقنا أن أترك له ما أشاء من أسئلة وهو يجيب عنها كتابة وبخط يده وقد عبر عن مكانة "العربي" لديه ومكانة رئيس تحريرها الكاتب عبدالله السناوي عندما قال في إحدى حلقات "ذكريات العمر": من هنا كنت قد أغلقت باب الذكريات والمذكرات حتى أتفرغ لما أنا فيه الآن، ولكنك يا عزيزتي فريدة الشوباشي فتحت هذا الباب من جديد ولاحقتني بتليفونات أخي الذي لم تلده أمي عبدالله السناوي رئيس تحرير "العربي" بعواطفه الكريمة وصوته المتحمس الصادق ليقول لي إن باب الذكريات الذي فتحته فريدة الشوباشي يجب أن يظل مفتوحا حتى تنتهي فريدة من عملية "الجرد" الكاملة لحجرة الذكريات هذه.
وللأسف الشديد لم يستطع "رجاء" مواصلة عملية الجرد بسب المرض الذي تمكن منه وكان يزيد من آلامه شهرا بعد شهر ثم يوما بعد يوم.. لكن عبدالله السناوي وأنا وكثيرين من الأعزاء من كبار المثقفين، نعتبر أن ما أفضى به "رجاء النقاش" لـ "العربي" جدير بإعادة قراءته والعمل بنصائحه بصدد إعادة بعض الكتب وإلقاء مزيدا من الضوء على شهادة رجل أجمع الأصدقاء والخصوم على نزاهته وأمانته وبصيرته وشفافيته.. فبالرغم من عدم اكتمال "الجرد" فإن ما قاله "رجاء" في ست حلقات شديد الثراء وفيه دروس وعبر للأجيال المصرية الحالية والقادمة.. إن "رجاء النقاش" هو "مايسترو" في حب مصر.. دون زعيق ودون خطب طنانة.. بل بكلمات بسيطة عميقة، صادقة سيبقى ضوءه باهرا.. لأنه اختار طريق النور الحقيقي.
ما من مرة قرأت لـ "رجاء النقاش" إلا وثار في ذهني ذات السؤال كيف يجمع هذا الرجل النادر بين صلابة الفولاذ والقوة الخارقة في الدفاع عن الحق وعن كل القيم المتصلة به وبين رقة النسيم وهشاشة الغصن الغض الذي لا يتحمل أي إيذاء كان بل ولا يتحمل الآخرون الأسوياء ـ إيذاءه.. كيف يعيش في "رجاء النقاش" مقاتل شرس لا يثنيه عن قناعاته تهديد أو وعيد أيا كان "السلطان" وكتلة من الرقة والحياء يستبد به القلق والخجل إذا نمت إلى أذنيه عبارة مديح أو بالأحرى عرفان بجميل عطائه لنا.
أعتقد أن سر قوة "رجاء النقاش" وصلابته هو زهده العجيب في كل مغريات الدنيا، إنه يقول كلمته ويمضى دون انتظار لشكر أو جزاء وأيضا.. دونما خوف أو رهبة.. مادام يعتقد فيما يكتبه.. ومن هنا لم يكن غريبا أن يثور البعض وما أكثر المتشدقين بالديمقراطية منهم ـ لنقد "النقاش" ـ لأنه يعلم أن قلمه يحظى بمصداقية نادرة.. وأنه.. علم من أعلام حياتنا الثقافية والأدبية وإذا قلنا "رجاء النقاش" فنحن نقول حياة حافلة بالعطاء وكأنه نهر كريم يمنح ولا يأخذ.. لذلك كانت فرحتي عميقة وشديدة بحصوله على جائزة الدولة التقديرية والتي أعتقد أنها تأخرت كثيرا وكانت مناسبة ليفتح "النقاش" قلبه لـ "العربي" وأن نغوص في حياته الحافلة الثرية وما تخللها من محطات ومعارك.
وعن كيفية تحقيق “رجاء النقاش” هذا القدر الهائل من الموضوعية في نقده وتقييمه للمبدعين أدباء وشعراء بالرغم من أن بعض أصحاب المواهب الفنية فيهم لا يتمتع بالمعايير الأخلاقية المتفق عليها. يقول الناقد الكبير: عندما جئت إلى القاهرة لأول مرة سنة 1951 لكي أدخل الجامعة، كانت صورة الأدباء والمثقفين في ذهني لا تختلف كثيرا عن صورة “الملائكة”. فقد كنت أتصور أن الذين يكتبون أدبا جميلا ويقدمون فنا رفيعا ويتحدثون إلى الناس بأفكار كبيرة لابد أن يكونوا هم أكثر الناس مثالية في أخلاقهم وسلوكهم وتعاملهم مع الناس أو مع بعضهم البعض، ولكنني بعد أن اقتربت بصورة واقعية من الحياة الأدبية والفنية والثقافية أخذت التجربة تعلمني أن ما كان في ذهني عن “ملائكية” الأدباء والمفكرين والفنانين هو لون من ألوان الوهم والخيال، واتضح بعد التجربة أن الثقافة هي مهنة من المهن، فيها الطيبون وفيها الأشرار. وأن المسرح الثقافي مليء بما في الحياة نفسها من الصراعات القاسية، وأن “التنافس” بين الأدباء والمفكرين والفنانين يلعب نفس الدور الذي يلعبه في مجالات الحياة الأخرى.
وأذكر بهذه المناسبة أن أستاذنا الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين كتب في الثمانينيات مقالا لا أنساه قال فيه إن زوجته السيدة “ديزي” وهى سيدة عالية الثقافة والتعليم، قالت له يوما ما معناه إن زواجي منك قد جعلني أتعرف على كثير من الأدباء والفنانين. وقد نتج عن ذلك أنني “مصدومة” فيهم صدمة كبيرة. فقد كانت صورتهم في ذهني قبل الزواج منك صورة رائعة وبديعة، أما بعد أن عرفتهم عن قرب فقد وجدت فيهم كثيرا من الجوانب السلبية التي أحزنتني وأزعجتني.
وقد علق أحمد بهاء الدين على كلام زوجته بما كان معروفا عنه من نظرة واقعية نافذة عميقة ودقيقة، فطالب بضرورة التفرقة بين موهبة الفنان وبين الجانب الشخصي فيه، وأن علينا أن نرفع أيدينا إلى السماء وأن نعلن التسليم بأن هناك فرقا بين الإنتاج الفني والفكري والأدبي وبين الأخلاق والسلوك الشخصي، وأن نحاسب الناس على إنتاجهم فهذا هو عملهم العام الذي يصح لنا أن نحاسبهم عليه، أما الجوانب الشخصية فمن حقنا أن نقبلها أو نرفضها.. حسب الحالة التي نراها أمامنا ولكن بعيدا عن الحساب النقدي للأعمال الفنية والفكرية. ليس هذا هو كلام أحمد بهاء الدين بنصه، ولكنه معنى كلامه كما أتذكره، ولعل الذاكرة لا تكون قد خانتني في تلخيصه وأنا لا أختلف كثيرا في مشاعري ومواقفي عما عبرت عنه السيدة “ديزي” زوجة أحمد بهاء الدين. فقد صدمتني ظاهرة التناقض في بعض الحالات بين الموهبة التي تعبر عن نفسها بصورة بديعة وبين السلوك الشخصي الذي فيه سخف وابتذال وميل شديد إلى العدوان وتجريح الآخرين.
والتفكير في هذا التناقض أحزنني كثيرا، وأنا أحس في شخصيتي استعدادا طبيعيا للحزن بسبب قسوة بعض الظروف التي مررت بها، خاصة في بدايات حياتي، ولا مجال للتعرض لها في حديثي الآن. المهم أنه كانت هناك “قشة” أتعلق بها وهى إيماني بأن الموهبة تعنى الأخلاق الرفيعة في الوقت نفسه. ولكنني فقدت هذه “القشة” تماما وأصبحت واقعيا على طريقة أحمد بهاء الدين، أي أنني دربت نفسي على التفرقة بين الإنتاج الأدبي والفني وبين صاحب هذا الإنتاج، حتى أتمكن من دراسة أي نص أدبي أو فني بعيدا عن تأثير مشاعري الخاصة.
ومع ذلك فأنا أريد أن أقدم بعض الاعترافات الصريحة، فالأدباء والفنانون عندي ينقسمون إلى ثلاثة نماذج.. النموذج الأول: هو الذي يبدو فيه “انسجام تام” بين إنتاجه وشخصيته الإنسانية مثل: نجيب محفوظ وصلاح جاهين والطيب صالح وسميح القاسم وفؤاد حداد، وهذا هو النموذج الذي أفضله بل وأعشقه وأجد المتعة والراحة كلما أقبلت على دراسته وتحليل أعماله والبحث فيها، والنموذج الثاني: الذي تبدو أعماله الأدبية جميلة وممتعة، ولكنه يعانى من اضطراب في شخصيته له أسبابه الواضحة عندي، وهذا النموذج يثير تعاطفي الشديد، لأن أسباب اضطرابه تكون كما أتصور أسبابا خارجية ضاغطة عليه، فهو ضحية للظروف، وليس فاعلا أصليا للأخطاء.
وهذا النموذج يمثله الأديب الشاعر نجيب سرور، فقد كان فنانا مبدعا، ولكنه كان يعانى من اضطرابات تؤدى أحيانا إلى إيذاء نفسه وإيذاء غيره. وقد نالني بعض الأذى منه، ولكنني كنت أستطيع أن أتفهم ظروفه والأسباب القاسية التي تقف وراء ما يعانيه من اضطرابات، ولذلك لم أفقد التعاطف معه أبدا.. لا في حياته ولا بعد رحيله.
أما النموذج الثالث: فيمثله الأدباء والفنانون الذين يتعمدون الإساءة إلى الآخرين وتجريحهم، فهؤلاء لا أستطيع إلا الابتعاد عنهم أدبيا وفنيا وشخصيا بصورة شبه نهائية، وأذكر لك حادثة وقعت في أوائل سنة 1973، فقد كنت ذات يوم أجلس على مقهى “ريش” الشهير، وكنت يومها أشعر بالتعب الشديد، وكنت أعيش في فترة من حياتي مليئة بالإحباط لأنني كنت واحدا من العشرات الذين “رفدتهم” لجنة النظام في الاتحاد الاشتراكي التي كان يترأسها حينذاك محمد عثمان إسماعيل، وقد أصبح هذا الرجل بعد ذلك محافظا لـ “أسيوط” ومستشارا للرئيس السادات، وأثبتت كثير من الوثائق أن هذا الرجل كان من الصانعين الأساسيين لجماعات التطرف الديني، وهو الذي أقنع الرئيس السادات بإنشاء هذه الجماعات لمحاربة الناصريين وسائر اليساريين، وقد انقلبت هذه الجماعات على الرئيس السادات، وكانت وراء اغتياله في نهاية المطاف، وأعود معك إلى القصة الأصلية فقد كنت أجلس على مقهى “ريش” مرفودا ومحبطا، وجاءني أديب شاب من أصحاب المواهب القوية التي لا شك فيها، ودون سبب على الإطلاق وجدته يسبني ويشتمني ويلقى في وجهي بكوب ماء كانت أمامي.
وقد جرحني هذا التصرف جرحا عميقا ولم أجد سببا يفسره لي على الإطلاق. فلم أغفر له هذا الموقف. وقد حاول بعد ذلك أن يعتذر لي، ولكنني لم أقبل اعتذاره، وحتى الآن لا أستطيع أن أكتب عن هذا الأديب الموهوب حرفا واحدا وأنا ألوم نفسي كثيرا على ذلك، لكنني لم أستطع أبدا أن أغير مشاعري تجاه هذا الأديب فكلما طالعت عملا أدبيا له وأعجبني هذا العمل فنيا وجدت فجوة روحية بيني وبينه لا أستطيع أن أتجاوزها أبدا فقد كان جارحا وشرسا معي ومع الكثيرين غيري دون سبب معقول يبرر له ذلك ويجعلنا نتحمله ونغفر له.
وقد سمعت أن ذلك الأديب يردد أن الشراسة والسلوك العدواني هما وسيلته الوحيدة لإثبات وجوده، أي أنه “يتعمد” ارتكاب الشر. وهذا ما أكرهه وأنفر منه، ولا أستطيع أن أتعامل مع صاحبه على أي مستوى من المستويات. والخلاصة أنني أحب الفنان الموهوب صاحب الشخصية الإنسانية الجميلة، وأغفر للفنان صاحب الشخصية المضطربة، إذا كان هناك أسباب قوية تبرر هذا الاضطراب وتفسره ولا أعفو بيني وبين نفسي عمن يتعمدون الشر. ولكنني بصورة عامة أصبحت مقتنعا بأن جمال الفن لا علاقة له بالسلوك الشخصي. فالجمال الفني مثل جمال المرأة، هناك امرأة جميلة وفاضلة، وهناك امرأة جميلة أيضا ولكنها غير فاضلة.
وأنا مع الجمال الفاضل ولا أجد في نفسي قدرة كافية للتعامل مع الجمال الخالي من الفضيلة والذي يتعمد أصحابه في سلوكهم أن يحرجوا الناس ويعتدوا عليهم، بحجة أنهم موهوبون وأن من حقهم أن يفعلوا ما يشاءون ولعلى أكون صريحا لو ضربت مثلا آخر على ما أقول، وهو مثل مستمد من واقعنا الأدبي الراهن فأنا أحب شعر أحمد فؤاد نجم وأحفظ عددا من قصائده، وأجد في هذا الشعر تجارب فنية وإنسانية قوية ومدهشة، ولكنني لم أعد أتحمل شخصية الشاعر العدوانية.
فقد تعود أن “يعض” الناس ويقوم بتجريحهم ويمارس هذا الأسلوب ضد الكثيرين من الأبرياء والشرفاء، ولا يراجع نفسه أو ضميره في إلقاء التهم العشوائية القاسية ضد الآخرين، ولم أسلم أنا شخصيا من عدوانه الظالم ضدي بأسلوب فج هو أول من يعلم أنه كاذب فيه، فقد وقفت إلى جانبه بقوة وبقدر ما أستطيع وفوق ما أستطيع في كل المحن التي مر بها، وكان يزورني باستمرار عندما كان مختفيا من الشرطة، ولو كنت أحمل له شرا في نفسي لكان من السهل أن أسلمه للأمن، أو أدل على مكان اختفائه، ولكنني لم أفعل شيئا من ذلك وتحملت مسئولية كانت يمكن أن تؤذيني واخترت الوقوف إلى جانبه وساعدته في محنته، ومع ذلك لم “يتمر” فيه شيء من هذا فهو يهاجمني هجوما جارحا باستمرار.
وهذا الموقف أوجد حاجزا قويا بيني وبين الاقتراب من شعره لدراسته والبحث فيه وتحليله والكشف عما ينطوي عليه من عناصر الجمال الفني والإنساني. وقد يرى البعض أنني مخطئ في الخلط بين الفن وصاحبه في مثل هذه الحالات، ولكنني من جانبي أرى أن مهنة النقد ليست مهنة ملائكة، ولكنها مهنة نفوس يمكن أن تتألم وتضيق بالشراسة والعدوان وسوء الأدب. وأخيرا أحب أن أقول لك إن هناك بعض الوسائل التي تعينني على الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الموضوعية والحرص على العدالة والإنصاف في أي حديث عن الأدباء والفنانين، وعلى رأس هذه الوسائل أنني أعيش منذ فترة طويلة في نوع من العزلة بعيدا عن أي علاقات اجتماعية، وقد اخترت هذه العزلة لحاجتي إليها من حيث الوقت الذي أقضيه في المطالعة والعمل، وأفادتني هذه العزلة كثيرا في الاقتراب من الأعمال الأدبية بعيدا عن العلاقات الشخصية التي يمكن أن تؤثر في الأفكار والمشاعر وخلاصة ما أحب أن أقوله هو إنني أبذل جهدا كبيرا للسيطرة على نفسي حتى لا أتأثر بأي مشاعر سلبية وشخصية في أي موضوع.
فإن عجزت عن السيطرة على نفسي امتنعت عن الاقتراب من الموضوع الذي أحس أنني “مرتبك” من الناحية النفسية أمامه وأنا أفضل في النهاية أن اقترب بالبحث والدراسة ممن أحبهم وأجد مكانا كبيرا لهم في قلبي، ولكنني حريص في الحب، حتى لا يقودني الحب إلى مواقف عشوائية مضطربة، وأنا بكل تواضع من عشاق المنطق الصحيح والصدق في الشعور والتفكير، والإنصاف والعدالة في الأحكام ولا أطيق الكذب على نفسي، أو على الناس، ولا أتحمل مخالفة الضمير الأدبي من أجل إرضاء أحد، وفى المقابل فإنني أتحمل نتيجة آرائي مهما كانت ا

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:45 AM
(4) علاء الأسواني موهبة روائية جديدة‏

بقلم : رجاء النقاش
...........................

لا أظن أن هناك مرحلة تتميز بالشوق الشديد لكل ما هو جديد مثل المرحلة التي نعيش فيها الآن‏.‏ فالناس يشعرون بشيء من الملل ويتطلعون إلي سماع مطرب جديد متميز‏,‏ أو رؤية وجه سينمائي قادر علي التعبير بصورة مختلفة عن الصورة المألوفة لنا منذ فترة طويلة‏,‏ وهذا هو نفسه ما ينطبق علي كل مجالات الأدب والفنون المختلفة‏,‏ فالجميع في حالة انتظار وشوق لميلاد مواهب أخري جديدة‏,‏ وحالة الانتظار والشوق هذه هي حالة لها تفسيرها‏,‏ فالدنيا اختلفت‏,‏ وتجارب الناس المادية والروحية اتسعت‏,‏ والأذواق تطورت وتغيرت‏,‏ وقد أصبح ما أنجزناه في الماضي القريب أو الماضي البعيد غير كاف للتعبير عن أحوالنا الجديدة‏.‏
ولاشك في أننا في مجال الأدب والفن علي الخصوص قد عشنا طويلا مع إنتاج جميل مؤثر في الغناء والموسيقي والشعر والقصة والمسرح والرواية والتمثيل‏,‏ وأصبحت نفوسنا ممتلئة بما تم تقديمه في هذه المجالات من ألوان رائعة في الفنون والآداب‏,‏ وأصبحنا نشعر برغبة كبيرة وشوق حار إلي ما هو جديد ومختلف‏.‏ فلا يستطيع عقل الناس أو وجدانهم أن يعيش فقط علي ما كنا نعيش عليه منذ خمسين سنة إلي الآن‏,‏ لأنه‏,‏ حتي الجمال‏,‏ إذا عشنا معه طويلا واشتدت مشاعر الألفة له‏,‏ فإنه يصبح جمالا عاديا يحتاج إلي إضافة وإنعاش وتجديد‏.‏ ولعل من الشائع في حياتنا الآن أننا إذا اجتمع عدد منا مع بعضهم البعض فنحن نردد القول بأنه فين أيام زمان‏,‏ ثم نتحدث في شيء من الحب والحسرة معا عن أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم‏,‏ وعن العصر الذهبي للكوميديا والفن الساخر من نجيب الريحاني إلي إسماعيل ياسين إلي فؤاد المهندس وعادل إمام‏,‏ فنحن نحب هذا الماضي الجميل الذي لا يزال بعضه حيا إلي الآن‏.‏ وهذا الحديث نفسه كثيرا ما يدور حول الفنون الأخري مثل الشعر والقصة والرواية وغير ذلك‏.‏ فنحن نشعر بالحنين إلي الماضي‏,‏ قريبا كان أو بعيدا‏,‏ ونتمني أو يولد بيننا شيء جديد ي
ختلف عن هذا الماضي ويكون في الوقت نفسه امتدادا له‏.‏ والخلاصة أن حالة الأمة الآن من ناحية الحضارة والثقافة والذوق والعواطف هي حالة من الملل الذي ينطوي علي شوق ملهوف لشيء جديد لابد أن يولد حتي ينكسر هذا الملل وتمضي الحياة في جريانها ولا نبقي في حالة محلك سر‏.‏
والمتشائمون منا يرون أن حالة الملل والشوق إلي الجديد بهذه الصورة هي حالة أزمة وكساد ينذران بالخطر والشر‏,‏ أما المتفائلون ـوأنا منهمـ فيظنون أن هذه الحالة هي بشارة بنهضة قادمة‏,‏ وأنها حالة استعداد حضاري لإشراق فجر جديد من الإبداع المختلف في كل المجالات‏.‏ فالأزياء المألوفة لم تعد مناسبة ولابد من أزياء أخري تناسب المقاس المختلف‏,‏ وفي ظل هذه الحالة فإن أي جديد وجميل لابد أن يجد فرصته السريعة في الاهتمام به والالتفاف حوله‏,‏ لأننا جميعا متعطشون لهذا الجديد الجميل ومنتظرون له في شوق شديد اللهفة والحرارة‏.‏
وأرجو أن يكون المتفائلون علي حق‏.‏
أخرج بعد ذلك من هذا كله بالتعبير عن سعادتي بميلاد موهبة أدبية روائية جديدة‏,‏ هي موهبة الكاتب الفنان علاء الأسواني صاحب الرواية الفاتنة عمارة يعقوبيان‏.‏ ولعل من المصادفات الطريفة أن يكون علاء الأسواني طبيب أسنان‏,‏ وأن يظهر علي الساحة الأدبية في وقت تعرضت فيه سمعة أطباء الأسنان لبعض الشروخ‏,‏ بسبب اتهامات تمس اثنين منهم لا يزال القضاء ينظر فيها‏,‏ وقد ألقت هذه الاتهامات بعض الظلال الداكنة علي أطباء الأسنان‏,‏ ولكن هذه الظلال لابد أن تزول مع الأيام‏,‏ ولعل مما يساعد علي إزالة هذه الظلال أن نكتشف الآن فنانا موهوبا جدا من بين هؤلاء الأطباء وهو علاء الأسواني‏.‏ وهي مصادفة حسنة‏.‏ وعلي العموم فإن من الظلم الشديد أن يحكم أحد علي مهنة فيها عشرات الآلاف من الشرفاء‏,‏ علي أساس تصرفات مازالت منظورة أمام القضاء وقع فيها اثنان من هؤلاء الأطباء‏.‏
وأعود إلي علاء الأسوانئ وروايته عمارة يعقوبيان‏,‏ وفي حدود علمي ـوأنا لا أعرف كاتب الرواية معرفة شخصيةـ فإن هذه الرواية هي الرواية الأولي للكاتب الفنان‏,‏ وهي رواية فيها الكثير من العناصر الأساسية للنجاح والمتعة والتأثير‏,‏ فأسلوب الكاتب سهل موجز‏,‏ لا تعقيد فيه ولا ثرثرة‏,‏ بل إنه أسلوب يبدو في بعض الأحيان هندسيا بالغ الدقة بعيدا عن أي طرطشة‏,‏ وفي ذلك دليل علي أن هذا الفنان الجديد قد اجتهد اجتهادا كبيرا في تخليص أسلوبه من العيوب الشائعة‏,‏ وهي عيوب يقع فيها كثيرون ممن يدخلون عالم الأدب لأول مرة‏,‏ حيث يظنون‏,‏ وبعض الظن الأدبي إثم‏,‏ أنهم مطالبون بإدهاش الناس‏,‏ وأن هذا الإدهاش لا يتحقق إلا بما هو غريب ومعقد وقادر علي أن يحقق صدمة للذين يقرأون‏,‏ أما علاء الأسوانء فقد اجتهد إلي أبعد حد واستطاع أن يحقق لنفسه العبور الناجح من مرحلة المراهقة الأدبية التي تريد أن تلفت النظر وتدهش الناس ولو بالألاعيب والافتعالات‏,‏ فنحن نقرأ رواية عمارة يعقوبيان في سهولة ويسر ودون عناء‏,‏ وذلك لأن فيها نظافة أسلوبية وصفاء وانضباطا ودقة في التعبير‏,‏ مما يساعدنا علي الوصول دون صعوبة إلي القضايا الجوهرية التي يريد الفنان أن يعبر عنها‏,‏ وهي قضايا أهم وأكرم من أن ينشغل عنها بتفاهات شكلية أو سخافات خارجة علي الموضوع‏.‏
وعمارة يعقوبيان هي عمارة كبيرة قديمة يسكنها ألوان من الناس‏,‏ وليس من الصعب أن ندرك أن العمارة هنا هي المجتمع‏,‏ وأن الناس فيها هم المواطنون‏,‏ وأن هؤلاء المواطنين يختلفون في طبقاتهم وظروفهم بين الفقر والثراء‏,‏ وبين الضعف والقوة‏,‏ وبين الحظوظ الخائبة والحظوظ الطيبة‏,‏ وفي حكمة شديدة ومقدرة فنية مثيرة للإعجاب استطاع علاء الأسواني في روايته الجميلة أن يصور حالة كاملة لأوضاع المجتمع من وجهة نظره‏,‏ واستطاع أن يرسم لوحة حية للمشكلات التي يعانيها المجتمع ويتطلع إلي حلها‏,‏ وإن كان الروائي الفنان لم يقدم حلولا‏,‏ وإنما اكتفي بالتشريح والتشخيص اللذين يساعدان من يريدون ويقدرون علي أن يضعوا الحلول المناسبة‏.‏ ومن البدهي الذي يتكرر في أقوال النقاد الثابتة أن الفنان الحقيقي لا يقدم حلولا‏,‏ فتلك ليست مهمته‏,‏ وإذا أقدم عليها فإن ذلك يفسد فنه ويؤذيه‏,‏ ولكن مهمة الفنان هي أشبه بمهمة الفلاح الفصيح في الأدب الفرعوني القديم‏,‏ أي أن يعبر في وضوح وانفعال قوي عن الشكوي ثم يضعها أمام الضمير العام أملا في التأثير والتغيير‏.‏
ومن الصعب تلخيص عمارة يعقوبيان لتعدد أشخاصها وتشابك أحداثها‏,‏ ولكن في الإمكان أن نتوقف أمام بعض الأنغام الرئيسية في هذه الرواية الجميلة‏.‏ وهذه الرواية بصورة عامة هي رواية غضب علي الواقع وحنين إلي تغييره والقضاء علي ما فيه من سلبيات‏.‏ والفنان لا يلام علي الغضب‏,‏ فالغضب هو من أجمل ينابيع الفن الجميل‏,‏ وكل فن‏,‏ خاصة في الأدب‏,‏ لابد أن يكون غاضبا بدرجة من الدرجات‏,‏ لأن الفنان الحقيقي يريد أن ينهض بالإنسان ويرتقي بالواقع‏,‏ وهو يحلم دائما بالمستقبل الذي ينبغي أن يكون أجمل وأكمل مما هو موجود‏.‏ والغضب واضح في هذه الرواية خاصة ضد الفقر والتطرف والفساد‏.‏ ولكن غضب الفنان هنا هو غضب حكيم وليس غضبا أعمي‏,‏ فالغضب الأعمي لا يقدم فنا وإنما يقدم صرخات وتشنجات‏,‏ وليس في الرواية شيء من ذلك‏.‏
هناك نغمة أخري في هذه الرواية هي نغمة الصراع بين القوة والضعف‏,‏ وبالتحديد بين الأثرياء وأصحاب النفوذ من جانب‏,‏ وبين الفقراء المغلوبين علي أمرهم من جانب آخر‏.‏ وفي هذا الصراع يتحول الفقراء إلي ضحايا لأصحاب المال والنفوذ‏,‏ فحاتم رشيد الثري الشاذ ينشب أظافره في عبدربه الشاب الصعيدي القوي المكافح‏,‏ الذي يعاني الفقر الشديد ويجاهد من أجل الرزق ولقمة العيش‏,‏ ومحمد عزام رجل الأعمال المليونير يستغل الأرملة الجميلة الفقيرة سعاد جابر‏,‏ وطلال شنن صاحب محل الملابس يستغل الفتاة الشابة بثينة السيد التي يتفجر جسمها بالحيوية والنضارة ولكنها فقيرة إلي حد يصعب معه أي تحصل علي قوتها وقوت عائلتها دون أن تخضع للاستغلال الذي تتعرض له من صاحب العمل‏.‏ والطريف والممتع في هذه الرواية أن كل الفقراء أصحاء وأقوياء ويملكون مواهب الحياة الطبيعية من نشاط وجمال وحيوية‏,‏ أما الأثرياء وأصحاب النفوذ فهم مرضي في أجسامهم أو نفوسهم وبهم ضعف في صحة الجسم أو صحة الأرواح والأذواق والأخلاق‏.‏ وهذا الصراع القائم بشكل يكاد يكون هندسيا بين الأقوياء والضعفاء ينتهي إلي الانفجار والاصطدام الشديد‏.‏ ومعني ذلك أن هذا النوع من الصراع الذي يقوم علي الاستغلال ليس أمامه فرصة للحل الهادئ أو التفاهم السليم أو التحالف علي أساس المصالح المشتركة المعقولة بين الطرفين من أجل النجاح والسعادة‏.‏ ومعني ذلك أيضا أن الكاتب الفنان يقول لنا إن رؤيته لهذا الصراع بين الضعفاء والأقوياء لم تجد نقطة يلتقي فيها الطرفان ويتعاونان‏,‏ بدلا من مبدأ الاستغلال الذي ينتهي إلي الحرب والقتال‏.‏
فالمبدأ السائد في مجتمع الرواية هو مبدأ استغلال الأقوياء للضعفاء‏,‏ فإن قام الضعفاء بالتمرد خسروا حياتهم في سبيل الانتقام من الأقوياء وإلحاق الأذي بهم‏,‏ وهنا نشعر بأن الرواية تقول لنا‏:‏ لابد من حل غير الصراع القائم علي الاستغلال من جانب والانتقام من جانب آخر‏,‏ فهذا الصراع لا يمكنه أن يقدم سوي الأحزان والكوارث وانهيار المعبد فوق رءوس الضعفاء والأقوياء معا‏.‏
وفي الرواية طفلان‏,‏ ولكن هذين الطفلين يموتان‏,‏ أحدهما يموت وهو جنين وذلك بإرغام الأم علي الإجهاض رغم مقاومتها العنيفة لذلك‏,‏ أما الثاني فيموت من الجفاف الذي لم يستطع الطب أن يعالجه في الوقت المناسب‏.‏ وموت الطفلين الوحيدين في الرواية يوحي إلينا بأن الفنان علاء الأسواني لم يجد في روايته نافذة للأمل يطل منها علي المستقبل‏,‏ فلا يزال هذا الفنان واقفا في قلب الأزمة يبحث عن طريق‏,‏ وحتي الصفحة الأخيرة فإنه لم يعثر عليه‏.‏ ولعل الفنان ينبهنا إلي ذلك‏,‏ ويدعونا ـبالفن الجميلـ إلي البحث عن أسلوب يؤدي بالأطفال إلي أن يولدوا ويعيشوا في سلام لكي يصنعوا المستقبل‏.‏ فلا مستقبل لمجتمع يموت فيه الأطفال‏,‏ بعضهم وهو جنين‏,‏ وبعضهم الآخر قبل أن يتعلم النطق بالكلمات‏.‏
وفي الرواية دراسة معجونة بالفن الجميل لظاهرتين مقلقتين هما‏:‏ التطرف الديني الذي يقود إلي العنف‏,‏ والفساد الذي يحاربه مجتمعنا ويشكو منه‏.‏ والأضواء التي تلقيها الرواية علي التطرف والفساد أضواء قوية تمتد إلي الجذور وتحاول أن تمسك بها‏,‏ فالظاهرة المنحرفة لها ميلاد وبداية ونمو وذلك قبل أن تتحول إلي مرض فيه خطر علي الجميع‏.‏
والرواية تنتهي في سطورها الأخيرة بحفلة فرح وزعرودة زواج‏,‏ ولكن الحب في هذا الزواج حب مقهور مكسور الجناح‏,‏ فهو حب حزين‏,‏ ولكنه مع ذلك حب‏.‏ وفي ذلك إشارة خفيفة لطيفة ولكنها حادة جدا تقول‏:‏ إن الحب هو الفرصة الوحيدة للخلاص‏,‏ ولو كان حبا فيه نزيف شديد‏.‏
هذه بعض الألحان التي تعزفها رواية عمارة يعقوبيان التي تجعلنا نقول عنها إنها رواية جميلة فيها عمق وعذوبة وشمول‏,‏ وأنها رواية تحمل شهادة ميلاد فنان مبدع موهوب اسمه‏:‏ علاء الأسواني‏.‏ فالجمال الفني والفكري في هذه الرواية هو جمال فيه إحكام وانضباط‏,‏ ووراءه جهد أدبي ومعنوي وروحي كبير‏.‏ والفنان هنا يقدم إلينا عملا له مذاق جديد خاص لا يختلط بمذاق آخر‏,‏ وإن كان الفنان بلا شك متأثرا بغيره من أساتذة الفن الروائي‏,‏ ولكنه تأثر ليس فيه ذوبان للشخصية الخاصة والموهبة المستقلة‏.‏
ولا شك في أن علاء الأسواني قد تأثر بكاتبين كبيرين هما نجيب محفوظ وفتحي غانم‏,‏ ولكن هذا التأثر هو أفضل صورة للطريقة التي يمكن أن يستفيد فيها الفنان بغيره من الكبار الذين سبقوه دون أن يفقد صوته الخاص‏.‏
علي أن في هذه الرواية الجميلة عيبا لابد أن نشير إليه ونحذر الفنان الجديد الموهوب منه‏,‏ وهذا العيب هو أن بعض مواقفه وشخصياته فيها استسلام غير مقبول لشائعات تتردد‏,‏ وليس هناك ما يشير إلي أن مثل هذه الشائعات معتمدة علي حقائق‏,‏ بل ربما كانت هذه الشائعات ثمرة لمنافسات شخصية وأحقاد خاصة مشكوك في صحتها وأمانتها‏.‏
ولن يجدي الفنان الموهوب في شيء أن يقال إنه يتحدث عن أحداث محددة أو أشخاص معينين‏.‏ فمثل هذه الترجمة الفوتوغرافية الآلية للشائعات التي يرددها البعض قد يحتاج إليها فنان مفلس ليس عنده ما يقدمه للناس‏,‏ فهو يريد أن يجذب الأنظار ويقول‏:‏ أنا هنا‏.‏ وليس من مصلحة العمل الفني الجميل أن يسقط في مثل هذا المطب‏,‏ فهو مطب رخيص ومبتذل‏.‏ ولا أريد أن أستطرد كثيرا في هذا الحديث‏,‏ لأنه شائك‏,‏ رغم اقتناعي بأنه أمر يحتاج إلي مزيد من الشرح والتفسير‏,‏ وأنه بحاجة أيضا إلي مزيد من اللوم والتأنيب للفنان الجديد الموهوب علاء الأسواني‏,‏ الذي يعنينا هنا هو أن أي محاولة للتصوير الفوتوغرافي للأحداث والناس هي إضعاف للعمل الفني وليست مصدر قوة فيه‏,‏ فإنها من ناحية قد تخالف الصدق والأمانة المطلوبين من الفنان‏,‏ وهي من ناحية أخري قد تؤدي إلي جدل ثانوي يطغي علي القيمة الأصلية للعمل الفني‏.‏ وعلي الفنان الحقيقي أن يسعي بكل ما يملك من قدرة وموهبة إلي القبض علي جمرة النار الموجودة في واقع الحياة وفي الأزمات الجدية التي يعاني فيها الناس‏,‏ وذلك بعيدا عن أي تعبير مباشر يعتمد علي الفرقعات والصواريخ والشائعات والثرثرات‏,‏ وقد أصيبت رواية علاء ا
لأسواني الجميلة في بعض صفحاتها بشيء من هذه السلبيات‏,‏ والأمل كبير في أن يتخلص الفنان الموهوب من ذلك تماما في أعماله الجديدة‏.‏
.......................
*المصدر: الأهرام في 18/8/2002م

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:46 AM
( 5 ) إنها عقدة الخواجة‏...‏ ياجميل‏!‏

بقلم: رجاء النقاش
......................

تعودت كثيرا أن أحاول أحيانا الابتعاد عن الواقع الذي أعيش فيه‏,‏ طلبا للراحة والهدوء‏,‏ ولو ليوم أو عدة أيام‏,‏ فالحياة الواقعية مثيرة للتوترات والانفعالات‏,‏ وهي تفرض علي الانسان ان يكون منتبها علي الدوام‏,‏ والانتباه الدائم هو مرض من أمراض الاعصاب له كثير من الخطورة والضرر‏,‏ ومن أجل هذا أحاول ان أغيب قليلا عن الواقع‏,‏ وذلك بأن أمد يدي الي مكتبي وأترك للصدفة ما سوف ينتج عن ذلك‏,‏ وفي الفترة الأخيرة وقع كتاب في يدي بهذه الطريقة العشوائية‏,‏ كتاب صغير للعالم والأديب الكبير الدكتور حسين فوزي‏1900‏ ـ‏1988‏ صديق توفيق الحكيم الدائم وأحد الأدباء والمفكرين الرواد منذ الربع الأول من القرن العشرين وحتي نهاية هذا القرن العشرين‏,‏ وللدكتور فوزي كثير من الكتب المهمة علي رأسها كتابه الشهير سندباد من مصر والذي يروي فيها تاريخ مصر منذ أيام الفراعنة حتي العصور الحديثة بطريقة فاتنة‏,‏ تحتفظ للتاريخ بحقائقه الواضحة ولكنها تقدم ذلك في اسلوب فني ساحر سهل بديع‏.‏
كان الكتاب الذي وقع في يدي وانا أفتش عن كتاب يخرج معي بالصدفة‏,‏ ويحملني إلي عصر غير عصرنا‏,‏ أملا في أن يبعدني ذلك ساعات أو أياما عن مشاغل الواقع الراهن‏,‏ هو كتاب الدكتور حسين فوزي وعنوانه تأملات في عصر الرينسانس والكتاب لطيف ومليء بالمعلومات الدقيقة‏,‏ وهو كتاب صغير لايجد الانسان تعبا في قراءته‏,‏ ولايستغرق وقتا طويلا في هذه القراءة‏,‏ ولكنني قبل ان أقرأ أي صفحة من الكتاب‏,‏ وجدتني غير مرتاح علي الاطلاق لاستخدام المؤلف كلمة الرينسانس في عنوان كتابه‏,‏ وقد كنت أعذر الدكتور فوزي إذا لجأ إلي ذلك لضرورة لامفر منها‏,‏ والضرورة هنا هي أن تكون اللغة العربية عاجزة عن تقديم لفظة بديلة لكلمة الرينسانس تكون في نفس الوقت معبرة عن المعني بمنتهي الدقة‏,‏ وقد وجدت الدكتور فوزي في صفحات كتابه يفعل ما فعله في العنوان‏,‏ فيستخدم كلمات أجنبية أخري في فصول كتابه المختلفة مثل الهيومانزم والهيومانيين‏.‏
لا أريد هنا أن أتحدث عن الكتاب نفسه‏,‏ فالكتاب كما أشرت من قبل هو كتاب بسيط وممتع ومفيد وشديد التركيز في تقديم المعلومات الرئيسية عن عصر الإحياء أو عصر النهضة الأوروبية‏,‏ وكاتبه من هذه الناحية يعرف موضوعه حق المعرفة‏,‏ وهو موثوق به وجدير بالاحترام والتقدير‏,‏ ولكنني رغم ذلك وجدتني أنظر الي هذا الكتاب بعد أن انتهيت من قراءته للمرة الثانية علي انه نوع من الأدب الحرام‏,‏ ولو كان الدكتور فوزي حيا لقلت له ولكتابه الممتع بلغة أولاد البلد‏:‏
إن ما يعيبك يادكتور هو عقدة الخواجة‏...‏ ياجميل‏!!,‏ فليست اللغة العربية عاجزة عن أن تجعل من عنوان الكتاب تأملات في عصر الإحياء أو النهضة بدلا من تأملات في عصر الرينسانس‏,‏ ولاهي عاجزة عن أن تقول النزعة الانسانية بدلا من الهيومانزم‏,‏ وأصحاب النزعة الانسانية بدلا من الهيومانيين‏,‏ ولابأس بعد ذلك من وضع المصطلح الأوروبي الي جانب العبارة العربية داخل الكتاب وليس في عنوانه‏,‏ وذلك إذا أراد المؤلف ان يحتفظ بالمصطلح الأوروبي طلبا للدقة العلمية‏.‏
إن هناك حقيقة تاريخية مؤكدة‏,‏ والذين قاموا بتأكيدها قبل غيرهم هم المؤرخون الغربيون قبل المؤرخين العرب‏,‏ وهذه الحقيقة تقول إن الأوروبيين قد أخذوا من العرب كثيرا من الأشياء التي أسهمت في مقدمات عصر النهضة الأوروبية‏,‏ ويمكن في هذا المجال مراجعة موسوعة قصة الحضارة للمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في الجزءين‏19‏ و‏20‏ من الموسوعة وعنوانهما النهضة وفي الجزءين‏41‏ و‏42‏ وعنوانهما الاسلام والشرق الاسلامي وبعض المؤرخين الغربيين يقولون ان معظم مقدمات النهضة هي عربية بالكامل‏,‏ وقد استمد الأوروبيون العناصر العربية في نهضتهم من مصدرين هما‏:‏ الأندلس وحضارتها المزدهرة‏,‏ ثم ما نقله الأوروبيون في أثناء الحروب الصليبية من المشرق العربي الي بلادهم بعد ارتدادهم اليها مطرودين مهزومين علي يد صلاح الدين‏,‏ وللأسف الشديد فإنني لم أجد في كتاب الدكتور حسين فوزي عن النهضة الأوروبية سوي اشارات خفيفة متفرقة طفيفة عن الاثر العربي في هذه النهضة‏,‏ وفي الوقت الذي يعترف فيه الأوروبيون بذلك اعترافا صريحا نجد الدكتور فوزي مهتما في كتابه بالتأثيرات اللاتينية واليونانية في النهضة الأوروبية‏,‏ ونجده غافلا أو متغافلا عن عمق التأثير العربي في نهضة أوروبا‏.‏
علي أن هناك حقيقة يجب ان يلتفت اليها‏,‏ فقد كان الأوروبيون لايترددون في أن يأخذوا من العرب ما يفيدهم‏,‏ ولكنهم كانوا في مجال اللغة ـ يحرصون علي كتابة الأشياء المأخوذة منا بلغتهم ويلبسونها ثيابهم‏,‏ حتي أسماء الأعلام العرب‏,‏ وهم الذين كانوا أساتذة للأوروبيين‏,‏ ألبسها هؤلاء الأوروبيون القبعة قبل أن ينطقوا بها‏,‏ حيث نجد أن ابن سينا عند الأوروبيين هو آفي سيني وابن رشد عندهم هو افيروس وكذلك أسماء المدن التي عرفوها فانهم حرفوها لتكون ملائمة للنطق بها‏,‏ في لغاتهم‏,‏ فالقاهرة هي كايرو ودمشق هي داماسكس وطرابلس هي تريبولي‏,‏ وماكان عندهم ابدا ما يمكن ان نسميه باسم العقدة العربية أو العقدة الشرقية مما قد يفرض عليهم ان يستخدموا الألفاظ العربية كما هي دون مبرر حتي يثبتوا انهم من العلماء الذين يأخذون العلم من العرب وغيرهم‏,‏ لقد كان الأوروبيون يهضمون كل شيء أولا‏,‏ ثم ينطقون به ويتعاملون معه بعد ذلك‏,‏ وكانوا لايخجلون من أن يقولوا انهم أخذوا من العرب‏,‏ ولكنهم كانوا يحرصون علي الا يكونوا نسخة طبق الأصل من أساتذتهم العرب‏,‏ بل كانوا يعبرون عن انفسهم بطريقتهم المستقلة وأسلوبهم المناسب لهم‏,‏ مع الحرص في جميع الأحوال علي
لغتهم الوطنية‏,‏ ولكننا نصل الي العصر الحديث فنجد أمامنا تيارا واسعا من الذين يفضلون استخدام الكلمات الأجنبية‏,‏ حتي لو كان هناك بديل لها واضح ودقيق في اللغة العربية‏,‏ وهؤلاء جميعا لايعلمون أن اللغة العربية عمرها الان أكثر من ألفي سنة‏,‏ ولعلها تكون أقدم لغة حية في العالم كله‏.‏
هذه الظاهرة هي ما أسميه باسم الأدب الحرام‏,‏ وهذا التعبير ليس من عندي بل هو تعبير حي جميل ساخر لصاحب العبارة الموسيقية‏,‏ وصاحب الضمير الوطني والقومي النقي‏,‏ أستاذ الأساتذة أحمد حسن الزيات‏1885‏ ـ‏1968,‏ فقد أشار الي هذه الظاهرة في مقال بديع له نشره في مجلته الرسالة القديمة‏1933‏ ـ‏1953‏ بتاريخ‏7‏ مارس سنة‏1937,‏ وعندما قرأت هذا المقال احسست كأنه مكتوب اليوم‏,‏ وكأنه مكتوب للدكتور فوزي وأمثاله‏,‏ ومن هم امتداد له من أصحاب عقدة الخواجة أو أصحاب الأدب الحرام‏.‏
يقول الزيات في مقاله وعنوانه في حفلة أدبية‏:‏
دعت السيدة أ‏.‏خ‏.‏ الي مأدبة لرجال الأعمال ونسائه‏,‏ كانت علي رأي من شهدها مظهرا لذلك الأدب النغل أي اللقيط الذي يصعب عليك ان تعزوه الي وطن أو تنسبه الي أمة‏.‏
ثم يروي الزيات حادثة طريفة وقعت في هذه الحفلة فيقول‏:‏ أقبلت صاحبة الحفلة علي الاستاذ المازني وقدمت له سيدة يقولون إنها من الأديبات النابغات‏,‏ ونوهت ـ وهي تقدم السيدة ـ الي الأستاذ المازني بأثر المازني في الأدب ومكانه في النهضة‏,‏ ثم تركتهما معا‏,‏ وانتظر المازني ان تتحدث اليه السيدة الأديبة في قصة من قصصه أو رأي من آرائه‏,‏ فيكون ذلك بعض الترضية لأدبنا العربي المهان في بلده وبين قومه‏,‏ ولكن السيدة الأديبة بدأت الحديث مع المازني بهذا السؤال‏:‏ حضرتك من مصر ولا من الشام؟ ولا أدري أقامت السيدة بإلقاء كلام علي المازني أم بإلقاء دلو من الماء؟ وقد تخلص المازني منها بلباقة وأقبل علينا يقول‏:‏ واضيعتاه‏!‏ أبعد ثلاثين عاما قضيتها في الأدب‏,‏ أكتب في كل يوم مقالا‏,‏ والقي في كل اسبوع محاضرة‏,‏ وأخرج في كل سنة كتابا‏..‏ اجد في المتعلمات بالقاهرة من يسأل‏:‏ أمن الشام أنا أم من مصر؟‏.‏
ويختم الزيات مقاله البديع معلقا علي ما رآه في الحفلة الأدبية من حرص الحاضرين ـ وفيهم أسماء كبيرة علي الحديث ـ طول الوقت ـ بلغة غير العربية وهو ما يسميه الزيات باسم الأدب الحرام يقول الزيات‏:‏
إذا جاز لهؤلاء السيدات الأديبات ان يتكلمن بغير لغتهن بحكم نشأتهن وطبيعة ثقافتهن‏,‏ فكيف يجوز لأساتذة اللغة وزعماء الأدب ان يديروا في أفواههم ذلك اللسان الأجنبي‏,‏ وما كانت قيمتهم في الناس‏,‏ ولا دعوتهم في هذا الحفل إلا لأنهم يتقنون العربية ويتزعمون الثقافة العربية؟ ان من هوان نفسك عليك وإهانة جنسك في الناس‏,‏ ان تتكلم غير لغتك في بلدك وبين قومك من غير ضرورة ولامناسبة‏,‏ فإن ذلك ان دل علي شيء فانه يدل علي عدم استقلالك في شخصيتك وعقيدتك ونوع تفكيريك واسلوب حياتك‏.‏
ثم يتحدث الزيات عن ظاهرة كانت شائعة في مصر وفي لبنان في تلك الفترة‏,‏ أي سنة‏1937‏ وما قبلها وما بعدها فيقول‏:‏
هل تستطيع ان تدلني علي بقعة من بقاع الارض غير مصر ولبنان يجتمع في دار من دورها مجلس من مجالس الأدب يحضره لفيف من أساتذة الجامعة واعلام الأدب وأقطاب الصحافة‏,‏ ثم لايكون حديثهم إلا بالفرنسية‏,‏ ولايدور نقاشهم الا علي موضوعات أجنبية‏,‏ وأخيرا يقول الزيات فيما يشبه النداء الوطني العام‏:‏
ياقومنا
إن لغة المرء هي تاريخه وذاته‏,‏ فالغض منها غض منه‏,‏ والتفضيل عليها تفضيل عليه‏,‏ ولا يرضي لنفسه الضعة والصغار الا من هان علي نفسه وكان من العاجزين‏.‏
وهكذا اردت ان استريح بقراءة سهلة لطيفة تنسيني الواقع من حولي‏,‏ فانفتحت أمامي كل أبواب الريح‏!‏
...........................................
*الأهرام ـ في 27/5/2007م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:47 AM
( 6 ) في ذاكره‏..‏ المازني أديب كبير

بقلم: رجاء النقاش
...................

في‏10‏ أغسطس الحالي تكون قد مرت‏58‏ سنة علي رحيل الأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني‏(1890‏ ـ‏1949)‏ وقد سعدت كثيرا عندما علمت من صديقي الدكتور عماد أبو غازي بصدور الأعمال الكاملة للمازني ضمن مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة‏,‏ وهذا عمل جليل‏,‏ لأن كتابات المازني ظلت منذ وفاته يعلوها الغبار ويطويها النسيان ولا يهتم بها ناشر ولا قارئ ولا ناقد‏,‏ وإن كان هناك عدد قليل من الباحثين والأدباء والنقاد لم ينسوا المازني وظلوا يذكرونه ويواصلون صحبته ومحبته ويكتبون عنه برغم جو الاهمال العام الذي احاط به‏,‏ وفي مقدمة هؤلاء الأديب العالم الشاعر الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم والأديب الناقد القانوني احمد السيد عوضين‏,‏ وقد كان من السابقين في الكتابة عن المازني الدكتورة نعمات فؤاد والاستاذ فاروق خورشيد‏.‏ ومع ذلك فإنه منذ وفاة المازني سنة‏1949‏ قد أصابه الإهمال الأدبي فلم يقم احد بنشر اعماله الكاملة‏,‏ ولم تعد الاجيال الجديدة تعلم عنه شيئا والكثير منهم لا يعرفون حتي اسمه‏,‏ كل ذلك برغم ان المازني هو واحد من أكبر الأدباء العرب في كل العصور‏,‏ وقد كان ينبغي علينا أن نتيح قراءة اعماله للاجيال الجديدة حتي يستمتعوا بها وينتفعوا بما فيها من فن وعلم ومعرفة غزيرة‏.‏
المازني كاتب فريد في أدبنا العربي كله وله قامة عالية تقف الي جانب العقاد وطه حسين وهيكل والزيات واحمد أمين وزكي مبارك‏,‏ وهو ليس من المعروفين بعبقريته الادبيه فقط‏,‏ بل إنه كان من أكثر أدباء جيله في انسانيته وتعامله الكريم مع الناس‏,‏ وهذا هو الجانب الذي اريد أن اقف أمامه اليوم‏,‏ أي الجانب الانساني في شخصية المازني‏,‏ وهو الجانب الذي رفعه الي جانب عبقريته الأدبية الي القمة بين رجال عصره‏,‏ وإن كان بعد رحيله‏,‏ قد لقي كثيرا من الاهمال الذي لا يستحقه ولا يليق بمقامه الأدبي والانساني الرفيع‏.‏
كان المازني شديد الصدق والحساسية‏,‏ وكانت الاحداث التي تدور حوله تؤثر فيه بقوة وعنف‏,‏ وقد كان شاعرا فتوقف عن الشعر‏,‏ واشتغل بالنقد الأدبي‏,‏ وكان يقول الحق ويضع يده علي الخطأ فلا يسكت عنه ولا يجامل فيه‏,‏ ولقي في ذلك عناء كبيرا‏,‏ وتجمع حوله الاعداء يريدون الاساءة اليه بسبب ما كانوا يسمونه طول اللسان والجرأة علي الادباء الكبار‏,‏ وقد تأثر المازني بالعداء له‏,‏ ولم يكن قادرا علي ان يجعل من نقده مجاملة بعيدة عن الحق والصدق من اجل كسب مودة الناس‏,‏ فتوقف عن الكتابة في النقد‏,‏ وكتب مقالا يعلن فيه عن هذا التوقف والمقال منشور في جريدة‏(‏ البلاغ المصرية سنة‏1934),‏ وكان المازني في نحو الخامسة والاربعين من عمره‏,‏ وهذا المقال كتبه المازني بخفة ظله التي تخفي تحتها احساسا عميقا بالألم والحزن والتأثر بتجارب الحياة السلبية القاسية‏,‏ يقول المازني في مقاله‏:‏ لو أنني بدأت حياتي من جديد لآثرت ان اكون بائع فجل ولا أكون ناقدا‏,‏ لا اتقاء للعداوات‏,‏ فما يستطيع الانسان ان يتقيها ولو عاش في كهف‏,‏ بل لأن النقد الذي ضربت به الآخرين هو جهل وسفاهة وتطاول ذميم وقلة حياء‏,‏ ولماذا لا نحيا وندع غيرنا يحيا‏,‏ ونعمل ونفسح لسوانا ان يعمل‏,‏ ومن الذي يسعه أن يصنع خيرا مما صنع ويحجم عن ذلك‏,‏ وكيف يطالب المرء بأكثر مما يدخل في طوقه‏,‏ والنقد تطفل‏,‏ ثم إن الناقد يقيم من نفسه حكما ومرجعا‏,‏ ويفرض آراءه علي الخلق‏,‏ ويعطي لنفسه حقوق القراء جميعا في وزن ما يقرأون‏,‏ وهذا كله من الغرور والتطاول‏,‏ عفا الله عنا‏.‏
ثم يواصل المازني نقده القاسي لنفسه فيقول‏:‏ من كرهي للنقد اكره أن اتلقي كتبا فيه‏,‏ لأنها توقظ في نفسي الشر الذي كان شيطانه قد نام‏,‏ وكنت ظننت لجهلي انني قتلت هذا الشيطان‏,‏ فإذا به ينهض وقد استراح من طول الرقاد‏,‏ ويستولي علي‏,‏ ويبعد عيني عن الخير ـ ويدير رأسي فأنقلب كالمجنون في يده سيفا‏,‏ ثم أفيق‏,‏ فتأخذ عيني الاشلاء المتناثرة‏,‏ فينقطع قلبي حسرة‏,‏ واثور علي نفسي‏,‏ فليعقني الكتاب‏,‏ فإني شرير‏,‏ ويهيجو أبالستي الكامنة وليدعوني وما اعالج نفسي واروضها عليه واصرفها اليه‏,‏ لعلي أتطهر‏.‏
وبعد هذه الكلمات القاسية التي كتبها المازني في نقد نفسه‏,‏ وفي إعلان ندمه علي اشتغاله بالنقد لفترة من الفترات‏,‏ والاعتراف بأخطائه الي الحد الذي جعله يصف نفسه بأنه شرير‏,‏ فإنه ينتقل في المقال نفسه الي الحديث في ندم شديد علي حملته العنيفة ضد صديقه القديم عبد الرحمن شكري‏,‏ وهو يروي ذلك في ندم شديد‏,‏ ويدين نفسه إدانة كاملة في خصومته مع عبد الرحمن شكري ويبرئ شكري من كل عيب او مسئولية عن الخصومة بينهما‏,‏ ولأن موقف المازني في روايته لهذه الخصومة هو نموذج حي كريم للأخلاق التي ترفع الرأس بين الأدباء وغير الادباء فسوف أنقل جزءا كبير من هذه الرواية التي يدين فيها المازني نفسه‏,‏ ويعيد الاعتبار لصديقه الشاعر الأديب المفكر عبدالرحمن شكري‏(1886‏ ـ‏1958)‏ وأستأذن القارئ الكريم في أن نقرأ‏,‏ بل وأن نسمع صوت الضمير الانساني والأدبي في اعلي درجات صدقه وصفائه وإخلاصه‏,‏ وذلك فيما كتبه المازني عن قصته مع عبد الرحمن شكري‏,‏ ففيها ـ كما اشرت ـ تعبير عن اخلاق إنسانية ترفع الرأس‏,‏ وفيها نغمة إنسانية عذبة من الصدق الذي نجده في كتابات المازني عموما ونجده في اعترافاته المتفرقة‏,‏ علي نفسه‏,‏ بصورة خاصة ومصدري في هذا النص للمازني
هو كتاب رواد الشعر الحديث في مصر للأديب الشاعر مختار الوكيل‏,‏ وهو الكتاب الصادر في طبعته الأولي سنة‏1934.
يقول المازني عن صداقته ثم خصومته مع الرحمن شكري‏:‏ لقد عرف القراء حكايتي مع عبد الرحمن شكري‏,‏ وكيف كنا صديقين حميمين‏,‏ ثم وقعت الجفوة فتعادينا‏,‏ ومضي خير عمرنا في قطيعة سخيفة‏,‏ ولست اعلم كيف كان بعدي‏,‏ وما أظن إلا إنه بخير‏,‏ وما أعرف رجاء أو دعاء حين اذكره إلا أن يمسح الله علي قلبه وينسيه ما كان مني‏,‏ فما ندمت علي شئ في حياتي ندمي علي فرط مني في حقه‏,‏ ذلك أني أحبه وأكبره ولا استطيع أن أجحد فضله علي من نعم‏,‏ كنا زميلين في مدرسة واحدة‏,‏ ولكنه كان ناضجا وكنت فجا‏,‏ وكان أديبا شاعرا واسع الاطلاع‏,‏ وكنت جاهلا ضعيف التحصيل قليل العقل‏,‏ فتناول يدي وشد عليها‏,‏ وأبت مروءته ان يتركني ضالا حائرا انفق العمر سدي‏,‏ ثم يواصل المازني اعترافاته النادرة فيقول‏:‏ صحح لي عبد الرحمن شكري المقاييس‏,‏ واقام الموازين الدقيقة‏,‏ وفتح عيني علي الدنيا وما فيها‏,‏ وكنت أعمي لا أنظر‏,‏ وإذا نظرت لا أري‏,‏ وكنت فقيرا يعيرني الكتب‏,‏ وكنت غبيا فكان يشرح ويفسر علي نحو لا يجعلني أبدو أمام نفسي صغيرا‏,‏ ولما نفخني واعلاني‏,‏ قلت الشعر‏,‏ وكان يصونني من العبث ويزجرني عن التقليد ولا يرضي لي الضعف‏,‏ اذكر مرة أنني نظمت أبياتا من العتاب أو الغزل وبعثت بها اليه فردها بكتاب قال فيه‏:‏ إنها لا تليق برجولتي‏,‏ فشق علي ذلك‏,‏ وأجبته جوابا مرا‏,‏ فأغضي‏,‏ ومرت الأيام‏,‏ وهدأت نفسي‏,‏ وراجعت الأبيات‏,‏ فلم أجد فيها غير ما رآه‏,‏ فمزقتها‏.‏
ثم يقول المازني‏:‏ لقد تنمرت لشكري وغدرت به‏,‏ ولكني والله ما كرهته قط‏,‏ ولا انطوت له نفسي في احلك ساعات النقمة إلا علي الحب والإكبار‏,‏ اقول هذا ولا رجاء لي عنده‏,‏ ولا أمل لي فيه‏,‏ ولا خوف بي منه‏,‏ فما يملك لي نفعا أو ضرا‏,‏ وإني لأجرأ منه علي الحياة‏,‏ وأقوي منه عزما‏,‏ و أعظم صبرا‏..‏
تلك كانت قصة الخصومة بين عبد الرحمن شكري والمازني والتي شن فيها المازني حملة عنيفة علي شكري تحت عنوان صنم الألاعيب ثم هدأت نفس المازني فاعترف بأنه قد اخطأ وأدان نفسه إدانة قاسية وصريحة‏,‏ وهذا الموقف من جانب المازني يقدم نموذجا للأخلاق الأدبية الرفيعة‏,‏ ويكشف عن العبقرية الإنسانية في المازني الذي كانت لديه الشجاعة الدائمة لأن يقول الحق ولو علي نفسه‏.‏
.......................................
*الأهرام ـ في 26/8/2007م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:49 AM
انظر في المربد:
وفاة الناقد المصري رجاء النقاش
للدكنورة: ألق الماضي:
.................................
*الرابط:
http://www.merbad.com/vb/showthread.php?t=8928

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:50 AM
( 7 ) يــوم من الأيـــام (رجاء النقاش يتحدث عن نفسه)

بقلم: رجاء النقاش
........................

كان طه حسين هو أول معلم أدبي عظيم يقول لنا‏:‏ إن الحديث عن النفس ليس من الأمور التي يرضاها الذوق الإنساني السليم‏,‏ ولذلك فإن طه حسين عندما كتب كتابه الجميل الخالد الأيام استخدم ضمير الغائب‏,‏ ولم يستخدم كلمة أنا أبدا‏,‏ فكان يتحدث عن نفسه وكأنه يتحدث عن شخص آخر‏,‏ فيسمي نفسه باسم الفتي‏,‏ ويدور الحديث كله في أجزاء الأيام الثلاثة عن هذا الفتي وكأنه شخص مختلف عن طه حسين‏.‏ ومن المعروف أن طه حسين كتب الأيام في فترة من أعنف فترات الأزمة والضيق في حياته‏.‏ وكان ذلك سنة‏1926‏ وطه حسين أيامها في السابعة والثلاثين من عمره‏,‏ أما الأزمة التي كان يعانيها فكانت ناتجة عن الظروف التي أحاطت بكتابه الشهير في الشعر الجاهلي‏.‏فلم يكد هذا الكتاب يظهر حتى اهتزت مصر كلها‏,‏ وثارت بعدها ثورة عنيفة ضد طه حسين تتهمه في وطنيته ودينه وسلامة عقله وثقافته‏.‏
وخرجت بعض المظاهرات تهتف بسقوط طه حسين الملحد الكافر‏,‏ وقد رأي طه حسين بعد ذلك أن يحذف من كتابه الصفحات التي أثارت كل هذا الغضب عليه‏,‏ وأعاد تأليف كتابه بعد تعديله‏,‏ ولا أشك أبدا في أن طه حسين كان صادقا مع نفسه فيما أقدم عليه من تعديلات‏,‏ ولكن المهم أن الأزمة التي استمرت شهورا‏,‏ وربما سنوات‏,‏ قد دفعت طه حسين إلي الانسحاب من الحياة العامة‏,‏ وإتاحة الفرصة للعاصفة حتي تهدأ‏,‏ كما أنه عكف علي كتابة قصة حياته التي ظهرت في الأيام‏,‏ وكان الكتاب يعزف نغمة حزينة‏,‏ وفيه يحرص طه حسين علي أن يبتعد عن أي غرور بنفسه‏,‏ وبدلا من ذلك فهو يرسم صورة لظروف بيئته ومتاعب عصره‏,‏ ويقدم لوحات بديعة لكفاح إنسان من أجل حياة أفضل في ظل هموم صعبة قاسية‏.‏
هذا ما فعله طه حسين في الأيام‏,‏ فقد جعل من حديثه عن نفسه حديثا بالغ الروعة والجمال عن مجتمعه وبلاده وأهله‏.‏
تذكرت طه حسين وأيامه‏,‏ وحاولت أن أتعلم منه وأتأدب بأدبه‏,‏ وإن لم أحلم أبدا بأن أصل إلي مستواه الرفيع‏,‏ فذلك أمر صعب المنال‏,‏ بل حلم مستحيل‏,‏ وقد خطرت علي بالي خواطر عامة متعددة بمناسبة يوم‏23‏ أغسطس‏,‏ أي يوم الجمعة الماضي‏,‏ فهذا اليوم هو يوم ميلادي‏,‏ وأتمنى أن يأذن لي من يتفضلون بقراءة ما أكتبه في الإشارة إلي بعض الخواطر العامة وغير الشخصية مما يتصل بهذا اليوم الخاص‏..‏ يوم‏23‏ أغسطس‏.‏
كان‏23‏ أغسطس هو اليوم الذي ولدت فيه سنة‏1934,‏ فأنا الآن في الثامنة والستين‏.‏ ولا أدري‏(‏ والله ـ كيف وصلت إلي هذا العمر المتقدم بهذه السرعة‏,‏ فقد كانت سنوات عمري تتلاحق مثل البرق‏.‏ وعندما التفت إلي الوراء قليلا اشعر أنني كنت أجري ولا أمشي‏,‏ وكأنني عشت حياتي خطفا ولم أعشها في أناة وهدوء‏.‏ علي أنني في جميع الأحوال أحمد الله علي كل شيء‏.‏
كان ميلادي ونشأتي الأولي في ريف المنصورة‏,‏ ومن هنا كانت فكرة الاحتفال بأعياد الميلاد فكرة غريبة بالنسبة لي‏.‏ ففي الريف علي أيامنا ـ في أربعينات القرن الماضي ـ لا يحتفل الناس أبدا بأعياد الميلاد الشخصية‏,‏ وإنما يحتفلون احتفالا كبيرا بأعياد الميلاد العامة وعلي رأسها مولد النبي وموالد الصالحين وأولياء الله مثل السيد البدوي وغيره‏.‏ ومازلت أشعر حتى الآن بأنني لا أتقبل فكرة أعياد الميلاد هذه إذ يبدو لي أن من عجائب الأمور أن يحتفل الإنسان بنفسه‏,‏ وأن يكون هذا الاحتفال بمناسبة انقضاء عام مضي من حياته‏.‏ وعندما تمضي الأعوام فإن الإنسان يقترب من النهاية‏,‏ فكيف يحتفل الإنسان بمثل هذا الاقتراب؟‏.‏
هذا أمر لم يستطع عقلي أن يقبله‏,‏ وإن كنت في الوقت نفسه لا أحب أن أفسد فرحة أي إنسان بعيد ميلاده‏,‏ فالأفراح في الدنيا قليلة‏,‏ وهي فرصة لنسيان الأحزان والهروب من الهموم فإن كان هناك فرح من أي نوع فمن الأفضل أن نتعلم الترحيب بذلك والمشاركة فيه‏.‏ وتخطر علي بالي هنا عبارة بديعة للأديب العربي السوداني الكبير الطيب صالح يصف فيها ليلة عشوائية رقص فيها الناس واشتركوا في الغناء معا‏.‏ ويقول الطيب‏:‏ لقد كان ذلك فرحا عظيما‏..‏ من أجل لا شيء‏!‏
فليفرح الإنسان بقدر ما يستطيع‏,‏ حتى وإن كان فرحه من أجل لا شيء‏!‏
علي أن يوم ميلادي‏,‏ وهو‏23‏ أغسطس‏,‏ يثير في نفسي بعض الذكريات العامة التي لا تتصل بي إلا من بعيد جدا‏,‏ ولعل ذلك هو ما يساعدني في التغلب علي ترددي ويشجعني علي الحديث عن بعض هذه الذكريات والإشارة إليها‏.‏
ولدت ونشأت في محافظة المنصورة الدقهلية‏.‏ وكان والدي مدرس أولي‏,‏ وهو المدرس الذي كان معروفا في ذلك العصر باسم المدرس الإلزامي‏.‏ وقد كان لهؤلاء المدرسين الإلزاميين فضل كبير في نهضة مصر في الفترة الممتدة من ثورة‏1919‏ إلي ثورة‏1952.‏ ولو أن أحدا كتب تاريخ التعليم الإلزامي في مصر لجاء هذا التاريخ صفحة مشرقة من صفحات الوطنية والتقدم في العصر الحديث‏.‏ ولكن هذا التاريخ للأسف غير مكتوب‏.‏
وكان الوالد ـ رحمه الله ـ شاعرا محبا للثقافة والأدب‏,‏ وكان أيضا من علماء الدين‏,‏ ولكنه كان شديد الحرص على أن يفصل بين الشئون الدينية والشئون السياسية‏,‏ فكان من الأنصار المتحمسين لحزب الوفد القديم الذي أنشأه الزعيم الوطني سعد زغلول‏,‏ وتولاه من بعده زعيم وطني آخر هو مصطفي النحاس‏.‏
وقد تربيت تربية راسخة على أفكار والدي الأساسية فأصبحت هذه الأفكار ثابتة عندي إلى الآن‏,‏ وفي مقدمة هذه الأفكار أن الدين أكبر من السياسة‏,‏ وأن الدين ثابت أما السياسة فإنها تتغير مع تغير الظروف‏,‏ ومن هنا فإنه لا مبرر للخلط بين الدين والسياسة‏,‏ لأن في ذلك ما قد يجعل الدين عرضة للدخول في دوامة من التغيرات والتحولات والخلافات‏.‏ وهو أمر لا يجوز‏.‏ وفي النهاية فإن المتدين الصادق مع نفسه لابد أن يكن وطنيا محبا لبلده‏,‏ وأن يكون مجتهدا جادا في عمله‏,‏ وأن يكون أمينا وكريما في معاملاته مع الناس‏.‏ وبذلك تكون التربية الدينية الصحيحة فيها نفع عام‏,‏ ولا تحتاج هذه التربية إلى أن تأخذ شكلا سياسيا بأي صورة من الصور‏.‏ وقد كان لوالدي في هذا الإطار قصائد دينية كثيرة وأذكر من أشعاره بيتا يقول فيه عن القرآن مخاطبا المسلمين‏:‏
عودوا إليه تعد أيام عزتكم
محجلات كما كنا ميامينا
والمحجلات معناها المتبخترات المزهوات بنفسها‏.‏
والدعوة هنا موجهة إلى التربية الأخلاقية المتينة المستمدة من القرآن وما ينادي به من فضائل إنسانية أساسية‏,‏ وليست الدعوة إلي الخلط بين الدين والسياسة‏.‏
على أن الوالد على كثرة شعره الديني كان يكتب قصائد في الغزل‏,‏ ومن شعره قصيدة عنوانها من أنت؟ يخاطب فيها امرأة جميلة فيقول‏:‏
من أنت يا ذات الجمال الساحر
يا من ملكت علي كل مشاعري؟
ولقد كان الوالد رحمة الله عليه‏,‏ يعاني ظروفا اقتصادية عسيرة وقد انعكست هذه الظروف علينا نحن أفراد عائلته الكبيرة‏,‏ ذلك لأنه لم يكن يفكر في أمور المال‏,‏ وإنما كان غارقا في الانشغال بأمور الدين والأدب والثقافة‏,‏ ونتج عن ذلك أنه كان معروفا ومحبوبا ومحترما في قريتنا‏,‏ ولكنه كان وكنا معه من فقراء هذه القرية‏.‏ وكنت أسمع منه وأنا صبي صغير حديثا يطرح فيه سؤالا يقول‏:‏ ما هي أكبر محنة يتعرض لها الإنسان؟ وكان يجيب علي السؤال بقوله‏:‏ إنها محنة الإنسان الذي تكون مكانته المعنوية أعلي بكثير من مكانته المادية‏,‏ لأن هذا الوضع يدفع بصاحبه إلي أزمات متصلة لا يجد لها حلا علي الإطلاق‏.‏ ورغم هذا الوعي بالمشكلة فإنه لم يصل إلي أي توفيق ملائم في حياته المادية‏.‏
وقد ألف والدي في الثلاثينات كتابا عنوانه شرح منهج التعليم الإلزامي ونجح الكتاب نجاحا مدهشا وباع آلاف النسخ‏,‏ كان الوالد يستطيع أن يجني من ورائه ثروة لا بأس بها تساعده في إصلاح أحواله المادية المتردية‏,‏ ولكنه كان يرفض ذلك دون تردد‏,‏ لأنه كان يعتبر الكتاب نوعا من الجهاد العلمي والثقافي والوطني‏,‏ وينبغي توزيعه بسعر منخفض لا يحقق أي ربح من أي نوع‏,‏ بل علي العكس فقد كان أقرب إلي تحقيق الخسائر كلما ازداد توزيعه‏.‏ وكنت حين أشعر بوطأة الأزمة الاقتصادية التي نعانيها كعائلة أحس أن فكرة والدي عن الحياة كانت خاطئة‏,‏ ذلك لأن الاحتياج المادي الشديد يفسد كثيرا من أمور الإنسان الأساسية‏.‏ ولذلك فإن مراعاة هذا الجانب المادي في الحياة والاجتهاد فيه بقدر الإمكان هو من الأمور الضرورية التي ليس من حق أحد أن يتخلي عنها أو يهرب منها‏.‏ وقد أدت المعاناة الاقتصادية بما تجره علي الحياة من مشكلات إلي أن يمتلئ شعر الوالد بكثير من شكوي الدهر والأيام‏,‏ أي الشكوي من سوء الظروف وقسوة الأحوال‏,‏ ومن ذلك قوله في إحدي قصائده‏:‏
سقاة همومي هاتوا القدح
فقد ضل قلبي معني الفرح
ومن ذلك تعبيره عن اليأس من صلاح الأحوال واعتدال أمور الدنيا حيث يقول‏:‏
هيهات‏,‏ هيهات‏,‏ فالدنيا إذا جمحت
فلا نجاة لربان ولا سفن
فكأن الدنيا عنده قد أصبحت حصانا جامحا لم يعد بالإمكان السيطرة عليه‏.‏
وتتوالي ذكريات أخري عن يوم الميلاد‏,‏ فقد ولدت في قرية غير قريتي اسمها القباب‏,‏ حيث كان والدي يعمل بها‏,‏ ولكن والدي صمم علي استخراج شهادة ميلادي من قريتي منية سمنود ولذلك تأخر تسجيل ميلادي عشرة أيام‏,‏ فميلادي في الشهادة هو‏3‏ سبتمبر‏,‏ أما ميلادي الحقيقي فهو‏23‏ أغسطس‏.‏
وقد بدا لي‏,‏ وربما كان ذلك من أوهامي‏,‏ أن ميلادي في قرية غير قريتي هو سبب أصيل في شعور قديم لا أستطيع أن أمحوه من نفسي‏,‏ وهو الشعور بالاغتراب الذي ما زلت أعانيه إلي الآن‏.‏ والحقيقة أن هذا الشعور هو شعور سلبي لأنه كثيرا ما يؤدي إلي الارتباك والخجل والرغبة في الانسحاب من الحياة العملية‏.‏ وهو شعور ينبغي أن يقاومه الإنسان لأنه ترف لا يقوي عليه أحد‏.‏
علي أن والدي كان يعلمني منذ طفولتي أن يوم ميلادي هو‏23‏ أغسطس هو يوم مبارك في تاريخ مصر الوطني‏,‏ وأن من واجبي أن أعتز بهذا التاريخ‏,‏ فهذا اليوم هو ذكري وفاة سعد زغلول الذي رحل عن الدنيا في‏23‏ أغسطس سنة‏1927,‏ وأنا ولدت في الذكري السابعة لسعد‏,‏ أي في‏23‏ أغسطس سنة‏1934.‏ وكان سعد زغلول هو أحب الزعماء الوطنيين وأكثرهم شهرة ورسوخا في قلوب المصريين في جيل أبي‏.‏ وقد تأكد لي هذا المعني عندما أجريت مجموعة من الأحاديث مع أديبنا العظيم نجيب محفوظ سنة‏1990,‏ فوجدت نجيب محفوظ يتحدث عن سعد زغلول كما يتحدث عن قديس‏.‏
وقد اختار لي أبي اسم رجاء لأنه كان من عشاق الأديب العربي الكبير أحمد حسن الزيات‏,‏ وكان الابن الأكبر للزيات اسمه رجاء‏,‏ فاختار لي أبي نفس الاسم تيمنا به وتعبيرا عن محبته الكبيرة للزيات‏,‏ وقد توفي رجاء الزيات وهو طفل صغير سنة‏1936.‏ وسارع عدد كبير من أدباء مصر بكتابة مقالات بديعة في رثاء ابن الزيات‏,‏ ومن هؤلاء الذين شاركوا في الرثاء الرائع‏:‏ طه حسين وأحمد أمين وعبدالوهاب عزام والزيات نفسه‏.‏ وقد بقي للزيات بعد رحيل ابنه الأول رجاء ابنه الوحيد الثاني علاء‏,‏ وهو الآن الدكتور علاء الزيات الأستاذ في جامعة القاهرة وأحد أنبغ أطباء مصر‏.‏
وعندما اختار لي أبي اسم رجاء اعترضت والدتي وأصرت علي أن يكون اسمي هو محمد‏,‏ وانتهي الخلاف علي أن يكون اسمي مزدوجا وهو محمد رجاء وهذا هو اسمي في شهادة الميلاد‏.‏ وأتوقف أخيرا عند ظاهرة الصحف الإقليمية التي كانت منتشرة في مصر في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي‏,‏ فقد كان والدي ينشر قصائده في بعض هذه الصحف‏,‏ ومنها صحيفة اسمها البنان كانت تصدر في المنصورة‏.‏ وصحيفة أخري اسمها الإصلاح كانت تصدر في السنبلاوين‏.‏ ومن المؤسف أن حركة الصحافة الإقليمية قد ضعفت الآن بينما كانت منذ ستين أو سبعين سنة في قمة الازدهار‏.‏
علي أن الوالد كان ينشر بعض أشعاره في صحف قاهرية منها صحيفة الدستور اليومية‏,‏ ورغم أنه كان وفديا وكانت صحيفة الدستور تصدر عن حزب معارض للوفد هو حزب الأحرار الدستوريين إلا أن هذه الصحيفة كانت تفرد صفحة يومية للأدب يشرف عليها الشاعر الأديب الدكتور مختار الوكيل مما كان يشجع والدي ـ رغم الاختلاف السياسي ـ علي نشر قصائده فيها‏,‏ وهذه الظاهرة تمثل روح التسامح الأدبي الكبري في ذلك العصر‏.‏ وكان والدي يردد بيتين رائعين لشاعرنا العربي أبوتمام يقول فيهما عن صديق له‏:‏
إن يختلف ماء الوداد فماؤنا
عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يوحد بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
وما أبدع صورة الأدب الذي يوحد بين الناس فيقيمونه مقام الوالد‏,‏ وفي هذا المعني الكبير إشارة قوية إلي الانتماء الحضاري لثقافة واحدة وذوق جميل واحد‏.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأهرام ـ في 25/8/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 04:54 AM
( 8 ) الدعوة لتأسيس بيت ثقافة يحمل اسم رجاء النقاش

بقلم: مي أبوزيد
.......................

وسط حشد كبير ضم عدداً من الأدباء والكتاب والسياسيين والعلماء جلس الناقد الكبير رجاء النقاش بجسده الواهن، ليشهد الاحتفالية التي أقامها حزب التجمع لتكريمه بالتعاون مع نقابة الصحفيين وذلك قبل أن يغادر القاهرة ليتلقي العلاج في الخارج.
وتقدم الحضور الكاتب محمود أمين العالم ورفعت السعيد - رئيس حزب التجمع - والروائي بهاء طاهر والدكتور حامد عمار والناقد عبدالمنعم تليمة ود.محمد أبوالغار وعلي أبوشادي أمين المجلس الأعلي للثقافة والكاتب مكرم محمد أحمد - نقيب الصحفيين - والشاعر فاروق جويدة مدير تحرير جريدة الأهرام.
وأجمعت كلمات المشاركين علي تأكيد الدور البارز الذي لعبه النقاش كرائد للصحافة الثقافية وناقد علم قدم مبدعين واصلوا طريقهم بفضل دعمه وتشجيعه من أبرزهم محمود درويش والطيب صالح.
كانت كلمة رجاء النقاش - التي ألقاها الشاعر حلمي سالم نيابة عنه، وهو مقدم الاحتفالية - هي الأخيرة، قبل أن تبدأ الفقرة الغنائية لفرقة الموسيقي العربية، وجاء فيها أن النقاش لم يقبل بإقامة هذه الاحتفالية إلا لإدراكه أنها لن تخص شخصه المتواضع، بل ستمتد إلي قضايا عدة تتصل بحياتنا الثقافية والعامة، وهو ما رأه - النقاش - قد تحقق، فالاحتفالية أثبتت أن الثقافة هي الجامعة الأصيلة للأمة العربية وليس «تلك الجالسة باطمئنان في مبني يطل علي النيل»، وذلك في إشارة إلي الرسائل التي توافدت من بعض الدول العربية لكتاب رغبوا في إلقاء كلمتهم في الاحتفالية كالشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح والمفكر اليمني الدكتور أبوبكر السقاف.
كما أثبتت الاحتفالية لدي رجاء النقاش كذب «الكلام» الذي يدور حول صراع الأجيال الأدبية واستهانة الجيل الجديد بآبائه، لأن هناك أجيالاً أدبية تلت جيله، شاركت في هذه الاحتفالية، التي تمثل تكريماً للصحافة الثقافية، التي طالما ومازالت تنظر إليها بعض الصحف بنوع من الإهمال والتأجيل، وأخيراً فإن الاحتفالية مثلت لدي النقاش نوعاً من الحفل الشعبي الذي يخلو من أي رسميات أو تدخلات تخضع لتقلب الرجال وانعدام الصدق في النوايا.
وكان الشاعر حلمي سالم قد قدم الاحتفالية مؤكداً أن النقاش قدم للحياة الثقافية المصرية والعربية أجيالاً عدة من المبدعين والمفكرين كمحمود درويش والطيب صالح وسميح القاسم، كما أنه الرجل الذي كلما استلم منبراً ميتاً أو شبه ميت، حوله - بجهده واستدعائه كل التيارات الفكرية - إلي منبر مضيء، وأخيراً هو الرجل الذي يثق بفكره، ويقدم الآخر باحترام دون خوف.
ونظراً لعدم تمكنهم من الحضور، أرسل كل من الناقد محمد حافظ دياب والشاعر محمود درويش والمفكر الدكتور أبوبكر السقاف برسالة، ألقاها حلمي سالم نيابة عنهم علي الحضور.
وطالب دياب بإقامة «بيت ثقافة» يحمل اسم النقاش في قريته بسمنود وأعلن مساهمته في المكتبة المقترحة بعشرة آلاف عنوان وفي رسالته إلي الاحتفالية أكد الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، أن هذا التكريم تأخر كثيراً، وأضاف موجهاً الحديث إلي النقاش «لقد جئت إلي القاهرة لأبحث عن أفق جديد، فوجدت فيك حنان البيت والعائلة.. لقد أقنعتنا نحن الشعراء بأن لنا جدوي في زمن شارف علي أن يقتلها، بل إن لك دوراً في تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية.. لقد دافعت عن الجديد الإبداعي في مناخ يحارب الحداثة الشعرية، «وأنت ابن الحضارة العربية الذي لم يعتذر عن انتمائه لثقافتها».
أما المفكر اليمني أبوبكر السقاف فقد أكد في رسالته إيمان النقاش بعروبة مصر الثقافية ورهانه علي أن يتمصر العرب.
وكان الكاتب مكرم محمد أحمد، قد أشاد بدور النقاش في إثراء عالم الصحافة والأدب بمقالات كتبها قلم كالسيف عند الحق، علي مدي خمسين عاماً ودعا الهيئات الثقافية إلي دعم قرار أكاديمية الفنون بترشيح النقاش لنيل جائزة مبارك في الأدب لهذا العام.
وأعلن عن انضمام صوت نقابة الصحفيين إلي صوت أكاديمية الفنون في المطالبة بالجائزة للنقاش، وقد أيده في ذلك علي أبوشادي أمين عام المجلس الأعلي للثقافة الذي آثر أن يتحدث عن نفسه وليس نيابة عن المجلس الأعلي للثقافة، وأكد أن ظهور اسمه كناقد لأول مرة في مطبوعة عامة وهي «مجلة الكواكب» ارتبط بدعم رجاء النقاش، الذي ساعده مع بعض الشباب الثائر علي الكتابة في هذه المجلة بلا قيود.
وكان الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع، قد سلم درع الحزب إلي النقاش كما ألقي كلمة قال فيها: «إن المحتفي به صحفي تنويري، دافع عن العقل العربي الذي يحاول الكثيرون تغييبه».
كما تسلم النقاش خلال الاحتفالية درع مؤسسة دار الهلال من عبدالقادر شهيب، رئيس مجلس إدارتها ودرع نقابة الصحفيين.
وبدوره ألقي الروائي بهاء طاهر كلمة كشف فيه عن علاقة تاريخية مع النقاش، وقال «لقد زاملت النقاش في الدراسة بكلية الآداب جامعة القاهرة في الفترة من 1952 حتي 1956، وكان هو نجم التجمع الأدبي الذي تشكل في تلك الفترة بالكلية، لأنه بدأ مبكراً في الكتابة بمجلة «الآداب البيروتية».. وهو رغم رقته وحساسيته، إلا أنه لا يتردد في الرد علي ما يؤمن بأنه خطأ، وقد فعل ذلك مع تيار أدب الواقعية الاشتراكية الذي بدأ يسود في تلك الآونة، بالإضافة إلي معركته التي قادها ضد أدونيس، شاعر الحداثة الذي رأه يخرج عن سياق الشعر العربي علي الرغم من الصداقة التي جمعت بينهما بعد ذلك.. أما الناقد الدكتور عبدالمنعم تليمة، فقد ذكر أن الجيل الأدبي الذي تشكل مع بداية الخمسينيات قد أثبت أن الإصلاح الثقافي هو القاعدة الأصلية لأي إصلاح آخر، علي عكس ما تؤمن به قوي اليسار أو الوسط أو اليمين الحالية، وقد كان في مقدمة هؤلاء رجاء النقاش، الذي أكد الثقافة العربية الأصلية، بل - دعا إلي تجديد هذا الأصيل، ولن ينسي الدكتور محمد أبوالغار ـ كما ذكر في كلمته ـ أن النقاش كان له الفضل بسبب مقالة كتبها في إنهاء خلاف دار عام 2004 بين بعض الأساتذة ورئيس الجامعة، بسبب رفض الأخير، إقامة أي احتفالية في ذكري تقديم طه حسين استقالته في 9 مارس من عمادة كلية الآداب لجامعة القاهرة، وقد تمكن هؤلاء الأساتذة من إقامة احتفالية ضمت إلي جانب طه حسين، لطفي السيد.
ورجاء النقاش مثل لدي الشاعر فاروق جويدة ـ كما جاء في كلمته ـ ذلك الناقد الذي نشأ بين تيارين فكريين دون أن ينبهر بالثقافة الغربية، بل إنه لا يمكن من خلال كتاباته تصنيفه فكرياً أو سياسياً ولا يمكن أن نعرف إن كان يسارياً أم يمينياً أم ليبرالياً، لأنه دائماً ما يبحث عن إنسانية الإنسان ومن هنا لا يمكن لأي شخص أن يكرهه، حتي إن اختلف معه في الفكر أو تلقي من ناحيته ـ أي النقاش ـ نقداً لاذعاً.
أما الكاتبة فريدة النقاش شقيقة المحتفي به ـ ورئيس تحرير صحيفة «الأهالي» ـ فقد آثرت أن تلقي الكلمة التي كتبتها له في عيد ميلاده السبعين، التي تتضمن الخطاب الذي أرسلته لرجاء عام 1952، في بداية التحاقه بالجامعة، وفي كلمتها عبرت فريدة عن امتنانها لأخيها وأستاذها الذي علمها القراءة حينما أعطاها رواية جون شتاينبك، والذي حملها لحلاق الصحة حينما لدغها عقرب، وكذلك الذي كان يعمل بالجامعة ليساعد أباه في تربية الاشقاء الثمانية، وقد ذكرت فريدة كيف كان رجاء يوفر قروش المواصلات ويمشي يومياً من الجامعة إلي شبرا ـ محل الاقامة ـ وكيف كان أول المدافعين عن الشعراء الفلسطينيين في القاهرة، كما ذكرت بحثه الدائد عن القيمة الإنسانية وانحيازه للفلاحين والفقراء، وحبه لجمال عبدالناصر الذي أطل يوماً من قطار كان ذاهباً للصعيد وسأل محدثه متي يمكن للفلاح المصري أن يأكل شيئاً غير البصل والمش؟!
..............................
*البديل ـ في 25/1/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:02 AM
( 9 ) محنة لها تاريخ

بقلم: رجاء النقاش
......................

عشت في الأسبوع الماضي مع صفحات من مذكرات الراحل العزيز الشاعر الإنسان مصطفي بهجت بدوي‏1921‏ ـ‏2002,‏ وكثيرا ما كنت أعود إلي هذه المذكرات منذ صدورها قبل نحو خمس وعشرين سنة‏,‏ فهي مذكرات صادقة وجميلة‏,‏ وفيها تصوير حي لكفاح إنسان يريد أن يعيش فاضلا ونظيفا وألا يلوث يديه بأي خطأ إلا ما يقع من الناس عن غير قصد‏,‏ والحكمة القديمة تقول إنه ليس من
الخطأ الخطأ‏,‏ ولكن الخطأ أن تعرف الخطأ وتستمر فيه‏,‏ وقد كان مصطفي بهجت بدوي من الذين لا يقصدون أي نوع من الخطأ أو الشر أو إيذاء الآخرين‏,‏ فإن تصادف أن وقع في خطأ وأدرك ذلك فإنه يسارع راضيا إلي تصحيح ما وقع فيه‏.‏ ومثل هذه الشخصية الطيبة المحبة للخير كان من المفروض أن تلقي من الجميع كل تقدير وتعاطف‏,‏ والحقيقة أن مصطفي بهجت بدوي كان يجد أينما سار ريحا طيبة تصاحبه‏,‏ فقد كان رجلا مطمئن الروح وكان ينشر الاطمئنان حوله عندما يتولي المسئولية‏,‏ ويكون في يديه تصريف أمور الناس في مؤسسة من المؤسسات الكثيرة التي أدارها وأشرف عليها‏.‏
علي أن اللافت للنظر أن هذا الرجل صاحب القلب النبيل والنوايا الطيبة لم يسلم من الأذى والشر‏,‏ وهذا ما تكشفه لنا مذكراته‏,‏ وهو أيضا ما يؤكد أن الصراع ضد الشر في هذه الدنيا هو معركة لا فرار منها مهما تكن رغبة الإنسان في الابتعاد في مثل هذه المعركة المؤلمة‏,‏ فالحياة تعلمنا أنه مهما يكن الإنسان مثاليا وحريصا علي أن يكون فاضلا وكريما في أخلاقه وتصرفاته ومواقفه فإنه لا يمكن أن ينجو من الشرور‏,‏ فهناك دائما في ركن من أركان الدنيا من يتربصون بالخير ويضيقون به ويعلنون عليه حربا لاهوادة فيها ولارحمة‏.‏
وتلك هي قصة مصطفي بهجت بدوي مع الحياة‏,‏ فقد كان أبعد ما يكون عن الشر‏,‏ ولكنه تعرض لهجمات الأشرار الذين اتهموه مرة بالشيوعية ومرة أخري بالناصرية ومرة ثالثة بأنه يسعي لإشعال فتنة طائفية في مصر بعد أن تجرأ علي عمل ناجح ونبيل وهو أن يستكتب البابا شنودة في جريدة الجمهورية مرة كل أسبوع‏,‏ وقد انتهي الحال بمصطفي بهجت بدوي في الفترة الأخيرة من حياته إلي نوع من الاعتكاف الكبير‏,‏ حيث وجد في الدين الواعي والتصوف الجميل ما يغنيه عن حروب الدنيا والناس‏,‏ وقد امتدت هذه الفترة في حياته إلي ما يزيد علي ربع قرن‏,‏ ابتداء من سنة‏1975‏ حتى لقي وجه ربه يوم‏28‏ فبراير الماضي‏.‏
أتوقف هنا أمام واقعة يرويها مصطفي بهجت بدوي في مذكراته وتاريخ هذه الواقعة هو أوائل شهر فبراير سنة‏1973‏ عندما قرر الرئيس الراحل أنور السادات معاقبة عدد كبير جدا من رجال الفكر والأدب والإعلام والصحافة لأنهم كانوا يضغطون من أجل أن تقوم مصر بعمل جدي لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي‏,‏ فلم يكن مريحا لضمير أهل الفكر في البلاد أن تقوم عصابة حكام إسرائيل برفع رايتها ذات النجمة السداسية فوق ضفة قناة السويس الشرقية‏,‏ وقد غضب الرئيس السادات من ضغوط المفكرين والمثقفين والصحفيين واعتبرها نوعا من الإرباك له وهو يستعد في هدوء وكتمان لمعركة التحرير‏,‏ وصور البعض للرئيس الراحل بأن الأمر لايتصل بالقضية الوطنية بقدر مايتصل بالتآمر علي زعامته ونظامه‏.‏ وأغلب الظن أن موقف الرئيس السادات كان نتيجة للتحريض من جانب بعض من يسيئون النصح للقادة والزعماء‏,‏ وهو تحريض لم يكن مقصودا به خدمة المصالح العامة‏,‏ بقدر ماكان ينطوي علي الشر والرغبة في الانتقام الشخصي وتحقيق بعض المصالح الخاصة‏,‏ وإلا فكيف نفسر أن الرئيس السادات يقبل في عصره أن يعصف برجال من أمثال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس وعلي الراعي وغيرهم‏,‏ وذلك بدلا من أن يستمع إلي هؤلاء الرجال ويتحاور معهم ويجعلهم قريبين منه وهم يمثلون خلاصة الضمير العام الراقي المستنير في مصر؟‏!‏
الواقعة التي يرويها مصطفي بهجت بدوي وردت في مذكراته التي سجلها علي لسانه الزميل الصحفي الاستاذ سليمان الحكيم‏,‏ وكان مصطفي بهجت في أثناء هذه الواقعة رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية ورئيسا لمجلس ادارة مؤسسة دار التحرير حيث يقول‏:‏ كانت العلاقة بيني وبين الرئيس السادات علي مايرام‏,‏ إلي أن قامت مظاهرات الطلبة والعمال سنة‏1972‏ وبدأ التذمر يظهر واضحا في أوساط المثقفين والصحفيين والأدباء‏,‏ وذلك في الفترة التي سبقت حرب أكتوبر مباشرة‏,‏ فقد شهدت تلك الفترة حالة من الملل والضيق سادت مصر في تلك الفترة نتيجة لاستمرار حالة اللاسلم واللاحرب وقد رأي الرئيس السادات أنني لم أكن معه تماما في هذه المرحلة‏,‏ وأنني لم أعد أنفعه‏,‏ فقرر التخلص مني ومعي عدد كبير آخر من الأدباء والكتاب والصحفيين وحين ذهب إليه الدكتور محمد عبد القادر حاتم وزير الإعلام في ذلك الوقت‏,‏ ليعرض عليه قائمة الصحفيين والكتاب الذين سوف يشملهم قرار النقل من مجال الصحافة إلي مجالات أخري لمنعهم من الكتابة‏,‏ كانت السيدة جيهان السادات موجودة حين نطق حاتم باسمي ضمن القائمة التي كانت في يده‏,‏ وهنا تدخلت السيدة جيهان مستنكرة وهي تقول‏:‏ لماذا ياريس؟ مصطفي بهجت بدوي راجل كويس‏,‏ داحتي كاتب مقال كويس عنك النهاردة في الجمهورية طلب السادات نسخة من الجمهورية‏,‏ وقرأ فيها مقالي الذي كنت قد كتبته تحت عنوان بماذا يحدثنا ضمير مصر والذي ضمنته عبارات قالها السادات في خطاب له كان يشرح فيه الأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد قبل حرب أكتوبر‏.‏ وطالبت في مقالي أن تهدأ النفوس‏,‏ وأن نتحلي جميعا بالصبر وأن نساعد السادات في العمل علي تحرير الأرض دون أن نثقله أو نربكه بمواقف نحن في غني عنها‏,‏ وقلت في مقالي إن المرحلة تقتضي منا أن نتكاتف جميعا في سبيل هدفنا الكبير قرأ السادات مقالي ويبدو أنه رضي عنه فقرر رفع اسمي من قائمة المرشحين للفصل والإقالة من المؤسسات الصحفية‏.‏ ولم أكن قد رأيت السيدة جيهان السادات أو قابلتها حتي هذه اللحظة‏,‏ وأحمد الله أنها كانت موجودة في هذه اللحظة‏,‏ وأنها تطوعت لإنقاذي من الفصل وإلا لذهبت ضحية المذبحة الشهيرة التي أجراها السادات للصحفيين في‏4‏ فبراير سنة‏1973‏
علي أن مصطفي بهجت بدوي إذا كان قد نجا من المحنة سنة‏1973,‏ فإن ذلك لم يستمر طويلا‏,‏ فإن الذين كانوا يطاردونه ويطاردون غيره من أصحاب الأقلام الصادقة المخلصة والقلوب الطاهرة الطيبة لم يتوقفوا عن محاربته وكتابة التقارير ضده‏,‏ وانتهي الأمر بعزله من منصبه كرئيس لتحرير الجمهورية ورئيس لمجلس إدارتها سنة‏1975,‏ أي بعد نحو عامين من واقعة انقاذه بمجرد مصادفة بحتة مما حدث للصحفيين والمثقفين والأدباء في أوائل سنة‏1973‏
وفي القصة الواقعية التي رواها مصطفي بهجت بدوي في مذكراته كثير من المعاني المهمة‏,‏ وفي مقدمة هذه المعاني أن التقارير السرية المقدمة إلي أصحاب القرار من المسئولين ينبغي مراجعتها بدقة وأمانة‏,‏ لأن التسليم السهل والسريع بمثل هذه التقارير بما قد تتضمنه من معلومات خاطئة أو ناقصة أو فيها غرض قد يقود إلي خطأ فادح في القرار الأخير‏,‏ وكثيرا مايؤدي ذلك إلي الفوضي والظلم بالنسبة لمن تتعرض لهم أمثال هذه التقارير المكتوبة في الظلام‏.‏ وفي هذه الواقعة أيضا نلمح قدرة المرأة علي التأثير الإيجابي في قرارات الرجال‏,‏ وربما يعود ذلك إلي أن المرأة تهتم بالتفاصيل الدقيقة أكثر من الرجل الذي يهتم ــ عادة ــ بالعموميات‏,‏ وأي امرأة يقظة متنبهة يمكنها أن تؤثر وتغير‏,‏ ولو من وراء ستار‏,‏ والتأثير من وراء الستار يكون أحيانا أقوي من أي تأثير آخر‏,‏ وهذا كما أظن هو مافعلته السيدة جيهان السادات في القصة التي رواها مصطفي بهجت بدوي في مذكراته‏,‏ وان كانت السيدة جيهان لم تستطع أن تلعب دورا مشابها في محنة أخري أكبر وأشمل‏,‏ حين صدرت قرارات عصفت بالكثيرين من الأدباء والمثقفين والصحفيين وأساتذة الجامعات في‏5‏ سبتمبر سنة‏1981,‏ وكان بين ضحايا هذه المحنة الكبيرة عدد من زملاء السيدة جيهان في كلية الآداب بجامعة القاهرة‏,‏ وهم ممن كانت السيدة جيهان تعرفهم معرفة وثيقة مثل الدكتور جابر عصفور والدكتور عبد المحسن بدر والدكتور عبد عبد المنعم تليمة‏,‏ ولعل السيدة الفاضلة قد حاولت في هذه المرة ايضا‏,‏ ولكنها لم تصل إلي نتيجة ايجابية كانت تسعي إليها‏.‏
علي أن في القصة التي رواها مصطفي بهجت بدوي معني بالغ الأهمية يتصل بموقف الدكتور عبد القادر حاتم الذي كان وزيرا للاعلام في وقت وقوع هذه القصة أو الحادثة‏.‏ وموقف الدكتور حاتم يستحق أن نشير إليه بشئ من النقد ولاشك أن من واجب وزير الاعلام حماية السلطة التي اختارته ليقوم بهذه الوظيفة الرفيعة‏,‏ ولكن هذه الحماية لايجوز أن يكون معناها اضطهاد الناس والتسرع في قبول الاتهامات ضدهم بناء علي تقارير سرية صادرة عن أجهزة أو أشخاص متطوعين لكتابة مثل هذه التقارير‏,‏ بل إن الوظيفة الأسمي والأرفع للمسئول الإعلامي والثقافي هي السعي إلي كسب الناس والتفاهم معهم وانصافهم من الاتهامات المتسرعة‏,‏ ومثل هذا الموقف يفيد السلطة وينفعها أكثر ألف مرة من أسلوب الضرب علي أيدي الناس وإيذائهم كلما أعلنوا رأيا لايعجب أو فكرة لاتريح‏,‏ فبعض الآراء والأفكار المتعبة يكون فيها من الضوء والهداية أكثر بكثير من كلمات المجاملة والنفاق‏.‏ والدكتور حاتم في هذه القصة التي يرويها مصطفي بهجت بدوي كان يستخدم أسلوب الضغط علي أصحاب الأفكار والآراء بحجة حماية السلطة‏.‏ وكل الذين أصابهم هذا الأسلوب بالأذي كانوا يدخلون في سلطة الدكتور حاتم‏,‏ أي أنهم كانوا من رجال الإعلام والأدب والثقافة والصحافة‏,‏ وقد تعرضوا جميعا للاتهام والعقاب بدلا من أن يكون المسئول الإعلامي والثقافي حاميا ومحاميا لهم أمام السلطة‏,‏ خاصة اذا كانت الشبهات حولهم ضعيفة ومشكوكا فيها‏,‏ أو علي الأقل فإنها قابلة للمراجعة والنظر إليها بميزان دقيق يملك القدرة علي التمييز والفهم والإنصاف‏.‏ والدكتور حاتم كان وزيرا قويا وله انجازات كبري لايمكن لأحد أن ينكرها‏,‏ ويكفي أن نشير إلي ما هو معروف في تاريخه من أنه هو مؤسس التليفزيون المصري‏,‏ بمبناه الضخم وأجهزته الإدارية والفنية المتعددة والمهمة‏,‏ وهذا الإنجاز وحده يشهد للدكتور حاتم بأنه صاحب جهد وفضل وقدرة علي تحمل الأعباء الكبيرة‏,‏ ولكن ذلك لايعفيه من المسئولية عما أصاب المثقفين والأدباء والإعلاميين والصحفيين في فترات توليه لوزارة الإعلام والثقافة‏,‏ فقد كان الدكتور حاتم للأسف من الذين يتقبلون ويستسهلون إيقاع الأذى بأهل الفكر والإعلام والثقافة‏,‏ وكانت نظريته الثابتة هي أن كل مفكر وإعلامي هو كائن مشكوك في أمره حتي يتم إثبات العكس‏.‏ ولا أعتقد أن هناك مفكرا واحدا في مصر قد نجا من شئ أصابه في العهود المختلفة التي تولي فيها الدكتور حاتم وزارة الإعلام والثقافة‏,‏ ولم يحدث أن دافع الدكتور حاتم عن أحد كما كان واجبه وموقعه يمليان عليه فقد كان منتظرا منه أن يستبسل في الدفاع عن الرجال الكبار الذين تعرضوا للاتهام‏,‏ وصدرت ضدهم قرارات متعددة بالفصل والنقل من مواقعهم الصحفية إلي أعمال ادارية أخري وتم منعهم من الكتابة في فترات مختلفة ومتعددة‏.‏ ومثل هذه القرارات تدين من اتخذها‏,‏ وتبقي هذه الإدانة قائمة‏,‏ ولاتسقط بمرور الأيام‏,‏ والتاريخ لايعرف الصمت الأبدي‏,‏ لأن التاريخ لابد أن ينطق بالحق ولو بعد وقت طويل‏,‏ ولذلك فإن موقف الدكتور حاتم يستحق النقد‏,‏ أما موقف السيدة جيهان السادات فيستحق التقدير‏,‏ برغم أنها من الناحية العملية لم تستطع إنقاذ الكثيرين ممن تعرضوا للاتهام والأذي‏,‏ ولكننا هنا نتحدث عن قيمة المحاولة والنية الحسنة‏.‏
وتعود بي الذاكرة أخيرا إلي حادثة وقعت في فرنسا سنة‏1968,‏ وذلك عندما قام الطلاب الفرنسيون بثورتهم المعروفة في عهد الرئيس ديجول‏1890‏ ــ‏1970‏ فقد كان علي رأس المؤيدين لهذه الثورة والمشاركين فيها الكاتب الفرنسي العالمي جان بول سارتر‏1905‏ ــ‏1980‏ وكان سارتر بالفعل مشاركا في هذه الثورة ومؤيدا لها ومحرضا عليها ومقتنعا أشد الاقتناع بهدفها وهو تجديد فرنسا وإعادة الحيوية إليها بعد سقوط عصر الاستعمار القديم‏,‏ وقد ذهب بعض المنافقين وأهل السوء وأصحاب النظر القصير إلي الرئيس ديجول يقولون له‏:‏ لابد من اعتقال سارتر ومحاكمته عقابا له علي تحريضه للطلاب ومشاركته في ثورتهم بصورة علنية قوية‏,‏ فما كان من ديجول العظيم إلا أن قال علي الفور‏:أنا أعتقل سارتر وأحاكمه؟ مستحيل‏..‏ سارتر هذا هو فرنسا أخري فهل يمكن اعتقال فرنسا؟
وعرف الجميع كلمات ديجول التي انتشرت بين الناس‏,‏ وأصبحت هذه الكلمات صفحة من صفحات المجد الكبرى في تاريخ الزعيم الفرنسي الذي لم يكن علي وفاق مع سارتر‏,‏ ولم يكن يخفي ألمه من موقفه‏,‏ وقد كانت ثورة الطلاب التي أيدها سارتر هي التي أدت إلي استقالة ديجول من منصبه‏,‏ ولكن ديجول برغم ذلك كله كان رجلا تاريخيا‏,‏ يعرف الحدود ويحسن وزن الأمور‏.‏
هل يأتي يوم نسمع فيه من يقول في مجال الإعلام والثقافة عندنا‏:‏ ان نجيب محفوظ وأمثاله هم مصر أخري لايصح لأحد أن يستهين بها أو يحرض عليها أو يمسها بسوء؟ هذا مانتمناه لأنه يمثل درجة عالية من الحضارة والتفكير الرفيع‏,‏ ومصر جديرة بذلك‏.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
*الأهرام ـ في 17/3/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:03 AM
( 10 ) قصة طريفة من أدبنا المعاصر

بقلم : رجاء النقاش
....................

لم أجد فيما قرأته عن تأثير الآداب الأجنبية في الأدب العربي أصدق ولا أجرأ مما كتبه الأديب العربي الكبير إبراهيم عبد القادر المازني‏1890‏ ـ‏1949‏ تحت عنوان السرقات الأدبية‏,‏ وهو مقال نشرته له مجلة الرسالة القديمة سنة‏1937,‏ وفي هذا المقال يعترف المازني علي نفسه بأنه نقل نقلا حرفيا خمس صفحات من رواية روسية كان قد ترجمها هو نفسه من قبل وضم هذه الصفحات إلي روايته إبراهيم الكاتب ويقول الكاتب الكبير إنه نقل تلك الصفحات بنصها من الرواية الروسية إلي روايته هو‏,‏ وذلك دون أن يدري أن هذه الصفحات ليست له‏,‏ وإنما هي لكاتب آخر‏..‏ وهنا يلتقي اعتراف المازني بالسرقة الأدبية‏,‏ مع تفسيره العجيب لهذه السرقة‏.‏ حيث يقول إنها سرقة غير إرادية‏,‏ وغير متعمدة‏,‏ وإنه لا ذنب له فيها علي الإطلاق‏,‏ وهذا الكلام لا يمكن تصديقه بسهولة‏,‏ ولو أنه صدر عن كاتب آخر لقلنا علي الفور إن هذا الكاتب يحاول أن يعتذر عن السرقة الأدبية بعذر أقبح من هذه السرقة‏,‏ وهو أن ما سرقه إنما كان يظن أنه من تأليفه وليس من تأليف إنسان آخر‏.‏
كلام لا يمكن تصديقه ولا التسليم به‏..‏ ولكنني هنا أصدقه تماما لأنه صادر عن المازني‏..‏ وأنا له من العشاق والمحبين‏,‏ والمازني في نظر من يحبونه مثلي لا يمكن أن يتعمد الكذب‏,‏ ولا يمكن أن يقع في خطأ كبير أو صغير‏,‏ وهو قاصد إلي ذلك‏,‏ وقد كتب عنه كاتب كبير معاصر له هو زكي مبارك يقول‏:‏ إن المازني الذي عرفته رجل صادق إلي أبعد الحدود‏,‏ صادق في البغض‏,‏ وصادق في الحب‏,‏ صادق في الجد‏,‏ وصادق في المزاح‏,‏ ويقول الدكتور مبارك أيضا‏:‏ إن المازني رجل من أهل الجد والرزانة وله مبادئ أدبية وقومية يحرص عليها حرس الأبطال‏,‏ وأقل ما يوصف به المازني أنه رجل شهم وهو من عناوين المروءة في هذه البلاد‏..‏
هذه شهادة زكي مبارك في المازني‏,‏ وأظن أنها شهادة صادقة وصحيحة‏.‏
ونعود إلي القصة الأصلية‏,‏ وهي أن المازني قد سرق كلاما لكاتب آخر ونسبه لنفسه‏..‏ فكيف تمت السرقة وكيف قام المازني بتفسيرها حتى ينفي عن نفسه تهمة كبيرة تقول عنه إنه من لصوص الأدب؟ إن المازني يحكي هذه القصة من وجهة نظره فيقول‏:‏
علي إثر الثورة المصرية في سنة‏1919‏ ذهبت إلي الإسكندرية لأقضي فيها أياما‏,‏ وأقمت في بيت أحد الأقرباء‏,‏ وكنت لا أزال سقيم الأعصاب جدا‏,‏ وكنا في رمضان فأفطرنا واسترحنا ثم خرجنا لنحيي الليل بالسهر كما هي العادة‏,‏ وكنت منشرح الصدر‏,‏ لكني لم أكد أتجاوز عتبة البيت حتى وقفت وقلت لقريبي إني محموم‏,‏ فأنا راجع‏,‏ فجسني قريبي فلم يجد بي شيئا‏,‏ فأصررت علي أنها الحمى ورقدت‏,‏ وكنت لا أطيق الصهد الذي أحسه‏,‏ وزال عني بعد ساعة أو اثنتين غير أني لزمت الفراش‏,‏ وعادني الطبيب في اليوم التالي فقال‏:‏ إن هذه حمي عصبية‏,‏ فاستغربت‏,‏ لكني عانيت من الأعصاب ما جعلني أصدق كل شيء‏,‏ وبقيت أياما في البيت‏,‏ زارني في خلالها صديقي الأستاذ العقاد‏,‏ وترك لي رواية روسية أتسلي بها‏,‏ فأقبلت عليها وقرأتها في ساعات أحسست بعدها أني صرت أقوي وأصح جسما وأقدر علي المكافحة والنضال في الحياة وأنه صار في وسعي أن أستخف بما يحدث لي من سقم الأعصاب‏,‏ وعدت إلي القاهرة ومضي عام‏,‏ وطلب مني بعضهم أن أترجم له رواية فقلت لنفسي إني مدين لهذه الرواية بشفائي وبالروح الجديدة التي استولت علي‏,‏ فيحسن أن أنقلها إلي العربية‏,‏ عسي أن تنفع غيري كما نفعتني‏,‏
وكنت وأنا أترجم هذه الرواية كأنني أدون كلاما حفظته من قبل‏,‏ ولست أذكر هذا لأباهي به أو لأقول إني رجل بارع‏,‏ بل لسبب آخر سيأتي ذكره في موضعه‏,‏ وفرغنا من الترجمة والطبع‏,‏ ولم يعتن الناشر بأن يبعث لي بنسخة من الرواية‏,‏ ولم أهتم أنا بأن أطلب الرواية من الناشر أو أن أحتفظ منها بنسخة‏,‏ وقد نسيت أن أقول إنني سميت الرواية ابن الطبيعة وكان اسمها في الأصل سانين وهو اسم بطلها‏.‏
يتحدث المازني بعد ذلك عن كتابته لروايته المعروفة إبراهيم الكاتب‏,‏ وذلك بعد ترجمته لرواية ابن الطبيعة بفترة فيقول‏:‏ انتهيت من إبراهيم الكاتب ودفعت بها إلي المطبعة‏,‏ وصدرت الرواية وبعد أشهر من صدورها تلقيت نسخة من مجلة الحديث التي تصدر في حلب‏,‏ وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه إني سرقت فصلا كاملا من رواية ابن الطبيعة فدهشت ولي العذر‏,‏ وقد ذكر الناقد أني أنا مترجم رواية ابن الطبيعة وأنا أعرف أن آلاف النسخ من ابن الطبيعة منتشرة في العالم العربي‏,‏ وأني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية علي الخصوص‏,‏ ومع ذلك وجدت التهمة الموجهة إلي صحيحة‏,‏ فقد اتضح أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي إبراهيم الكاتب أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب هذا كلامي‏,‏ حرف العطف هنا هو حرف العطف هناك‏,‏ أول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى‏,‏ لا اختلاف علي الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير‏,‏ الصفحات هنا هي بعينها هناك دون أي فرق‏,‏ ومن الذي يصدقني إذا قلت إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأنا أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني حين أؤكد له أنني لم أر رواية ابن الطبيعة‏.‏ منذ فرغت من ترجمتها‏,‏ وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقفها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخري‏,‏ لهذا فإني سكت ولم أقل شيئا‏,‏ وتركت الناقد وغيره يظنون بي ما يشاءون‏,‏ فما لي حيلة‏,‏ لكن الواقع مع ذلك أن صفحات أربعا أو خمسا من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي ـ وأنا لا أدري ـ لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي‏,‏ فجري بها القلم وأنا أحسبها لي‏,‏ حدث ذلك علي الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضا‏,‏ ومن شاء أن يصدق فليصدق‏,‏ ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذلك‏.‏ ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي فما يعنيني هذا‏,‏ وإنما أرويها علي أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معايشة الذاكرة للإنسان‏,‏ وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة وإنما هي بحر مائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط نعرفه‏,‏ من غير أن يكون لنا علي هذا سلطان‏,‏ فالمرء يذكر وينسي ويغيب عنه الشيء ويحضر بغير إرادته وبلا جهد منه‏.‏
ونخرج من الاعترافات التي قدمها المازني بصورة حية لأديب صادق لا يخشي أن يقول الحق ولو علي نفسه‏,‏ علي أن اللافت للنظر في هذه الاعترافات قوله إن ذاكرته قد احتفظت بالصفحات التي انتقلت إلي روايته في ذهنه‏,‏ وهو يظن أنها له وليست لغيره‏,‏ وهذا طبعا يدل علي أن ذاكرة المازني كانت ذاكرة نادرة وعجيبة‏,‏ وقد اعترف له الكثيرون في عصره بهذه الميزة الخاصة‏,‏ ومن هنا فقد كانت سرقة المازني سرقة بيضاء‏,‏ أي ليس فيها تعمد ولا سوء نية ولا قصد غير شريف‏.‏
..........................
*الأهرام ـ في 2/9/2007م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:03 AM
( 11 ) يحيي حقي وصانع القباقيب‏!‏

بقلم : رجاء النقاش
......................

كانت ثوره‏1919‏ في مصر ثوره متميزه جدا‏,‏ فقد كانت ثوره شعبيه من الالف الي الياء‏,‏ وكانت هذه الثوره هي التي اوجدت زعماءها ولم يوجدها الزعماء‏,‏ فسعد زغلول ورفاقه ليسوا هم الذين صنعوا ثوره‏1919,‏ بل ان هذه الثوره هي التي صنعتهم‏,‏ لان صناعه الثوره اصلا كانت بيد الشعب‏,‏ وذلك علي العكس مما حدث في الثوره العرابيه سنه‏1882,‏ وفي ثوره يوليو سنه‏1952,‏ حيث ظهر الزعماء اولا ثم جاءت الثوره بعد ذلك‏.‏ وهذه الميزات الاساسيه لثوره‏1919‏ وعلي راسها الشعبيه والاجماع عليها بين طوائف المجتمع وطبقاته كلها والبعد التام علي اي عنصر رسمي فيها جعل لهذه الثوره الفريده انعكاسات واسعه جدا علي الاداب والفنون والافكار وحركات التجديد الاجتماعي‏.‏
وهاهو توفيق الحكيم في كتابه فن الادب يحدثنا عن جانب من جوانب هذا التاثير الشامل لثوره‏1919‏ فيقول صفحه‏52:‏ لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزه مصر عام‏1919‏ ورايت الثوره في كل مراحلها تسفر عن روح خفيه باقيه ابد الدهر‏,‏ نابضه تسعف مصر بين حين وحين‏.‏
ظل هذا الشعور يلاحقني حتي سجلته في روايه عوده الروح فالمعروف ان الثورات لاينطبع اثرها الا علي قلب جديد ملتهب‏,‏ ولايملك هذا القلب الا الشباب في فوره شبابهم‏,‏ لهذا كان سيد درويش ابن الثوره هو قلبها الجديد الملتهب الذي تاثر بها‏,‏ واخرج فنا قاد به الموسيقي الشرقيه الي افق جديد‏.‏
هذا بعض ما قاله توفيق الحكيم في تفسيره لعبقريه سيد درويش‏,‏ ويقدم هذا التفسير علي ان سيد درويش كان ابنا لثوره‏1919‏ وثمره من ثمارها‏,‏ والحقيقه ان هذه الثوره كان لها ابناء كثيرون من نفس قماشه سيد درويش منهم توفيق الحكيم نفسه‏,‏ خاصه في روايته الرائعه والرائده عوده الروح ومنهم نجيب محفوظ في هرمه الروائي الاكبر وهو الثلاثيه‏:‏بين القصرين قصرالشوق السكريه‏.‏وانا لا امل ابدامن قراءه عوده الروح والثلاثيه فهما قمتان عاليتان في الروايه العربيه لا تزيدها الايام الا نضاره وعذوبه وصفاء فنيا غير محدود‏,‏ وكثيرا ما ارجع الي قراءه هاتين الروايتين كلما احتجت الي بعض الشفاء لنفسي الوطنيه‏,‏ او لنفسي الاخري التي تحب ان تسمع الموسيقي الصافيه مرارا وتكرارا‏.‏ وفيعوده الروح والثلاثيه كثير من هذه الموسيقي الصافيه‏.‏
ولقد كان من اكبر واعز ابناء ثوره‏1919‏ اديبنا الفنان الشاعر العازف المورخ المفكر الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده وهو يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ فقد كان يحيي حقي في تكوينه الاصلي ثمره من ثمرات ثوره‏1919,‏ وهو احد عشاقها الذين عاشوا فيها‏,‏ وقد كان في الرابعه عشره من عمره عند اشتعلت هذه الثوره ولكنه كان يشارك في المظاهرات‏,‏ وكان شغوفا بان يعرف كل شئ عن هذه الثوره‏,‏ وعندما كتب عنها في الذكري الخمسين لها‏,‏ سنه‏1969,‏ وضع يده علي بطلها الاصلي الذي لا يفوقه شخص اخر في بطولته‏,‏ واعني به المواطن الشعبي العادي الفقير صاحب الاسم المجهول والذي دفع من دمه وحياته ثمن هذه الثوره بالكامل‏.‏ ولعلي لم اقرا صوره هزت قلبي هزا عنيفا عن ثوره‏1919‏ مثل هذه الصوره التي رسمها يحيي حقي لاحد الابطال الشعبيين الشهداء في ثوره‏1919,‏ حيث يكتب تحت عنوان ابن القباقيبي من كتابه الرائع صفحات من تاريخ مصر صفحه‏233.‏
كانت ثوره‏1919‏ ثوره لان الناس بدات تالف لاول مره كلمه الشعب تنطقها بكسر الشين لاباس لم تكن ثوره مثقفين وحدهم او فلاحين وحدهم او عمال وحدهم‏,‏ بل ثوره الشعب كله اتحد في عجيه واحده زالت الفروق‏.‏
لم تعد كلمه فلاح سبه مع انها كانت كذلك منذ قليل‏,‏ لذلك كان حنقنا شديدا ونحن نسير في المظاهرات ان نجد الصحف الاوروبيه‏,‏ وبالاخص الانجليزيه تصف هذا الشعب الثائر بانه من الغوغاء وانه طغمه من الرعاع‏,‏ هكذا بلا حياء الي اليوم لا ازال اذكر الوقع الاليم لهذه الكلمات في قلبي وانا صبي‏,‏ لاشك ان كل انسان كان حاله مثل حالي‏,‏ شعور متقد يطلب الشفاء‏,‏ يطلب بطلا يخرج من صفوف الشعب‏,‏ ولم يكن يدور بخلدي ان هذا البطل سوف يكون صبيا يقيم بالقرب من داري كان في مثل عمري‏14‏ سنه‏..‏ الفارق انني ببدله فوق قميص وهو بجلابيه علي اللحم‏,‏ وانا البس حذاء وهو حاف‏,‏ رغم ان مهنه ابيه هي صناعه القباقيب‏.‏ من صفوف الرعاع في نظر الصحف البريطانيه خرج البطل الشهيد الذي ثار لكرامتنا ورد الصفعه‏..‏ ردها ايضا عن خدي انا
ثم يقول يحيي حقي عن هذا البطل الشعبي الصغير المجهول‏:‏ تعال نصل من منزلنا الي دكانه‏.‏ كنت اعرفه وامر به‏,‏ كلما ذهبت لزياره السيده سكينه والسيده نفيسه‏.‏ دكان مظلم طويل عريض‏.‏ هذا هو مصنع قباقيب الحي‏,‏ وسيله طائفه من فقراء المدينه لمقاومه الحفاء‏,‏ وبعض المتيسرين لدخول الحمام‏,‏ وينتقل يحيي حقي بعد ذلك الي لون عذب من الغزل في القبقات‏,‏ فهذا القبقاب هو تفصيله من التفاصيل الشعبيه التي كان يحيي حقي مغرما بها‏,‏ حريصا علي الوقوف امامها وتاملها والعنايه الشديده بوصفها‏.‏ وعن هذا القبقاب يقول يحيي حقي‏:‏ لا تستهن بهذا القبقاب‏..‏ لو لبسته فتاه معجبانيه اصبح في قدميها كالصاجات في يديها‏,‏ اذا مشت به كان لوقعه علي الارض نغمه كلها دلال انه ايضا يكشف الكعب المحني‏,‏ رباني لا اصطناعي‏,‏ ولصاحب الدكان ولد وحيد‏,‏ هو كل امله واعتماده اذا اعجزته الشيخوخه‏,‏ ولد تجمع نظرته بين الخوف والفرعنه‏,‏ بين الذل وحب المعابثه‏,‏ اذ ينتزع لهوه الفارغ من بين براثن وحوش مفترسه‏,‏ هي ابوه وحياه الشقاء والعناء‏.‏
ثم يصل بنا يحيي حقي الي اللحظه الفاصله في حياه هذ النموذج الشعبي فيقول‏:‏ وقع الاختيار علي هذا الولد الوحيد‏.‏ سقط قتيلا برصاص الانجليز في مظاهره امام الدكان فسار معها يردد هتافاتها‏,‏ فخرجت له جنازه مشهوره في تاريخ الثوره بانها جنازه ابن القباقيبي سار فيها الشعب كله‏,‏ من مستشارين وقضاه ومحامين‏,‏ الي الطلبه الكبار والتلاميذ الصغار‏,‏ الي صفوف غفيره اخري من ابناء الشعب‏.‏ كنا نريد بهذه الجنازه ان نقول لصحافه الانجليز‏:‏ انظري الرعاع يشيعون بطل الرعاع‏.‏ وهذه الجنازه لم تشبهها جنازه اخري طوال الثوره‏.‏
ثم يقدم الينا يحيي حقي ختام معزوفته الجميله فيقول‏:‏
ماذا كان اسمه؟ اين قبره؟‏.‏ لا احد يدري‏.‏ كم عدد شهداء ثوره‏1919‏ ؟ لم يجر الي اليوم احصاوهم مع الاسف‏,‏ ولا تخليد اسمائهم في سجل شرف‏,‏ دع عنك اقامه نصب تذكاري يفي بحقهم علينا‏.‏ تمنيت ان يقام هذا التمثال‏,‏ وان يكون تمثالا لصبي بجلابيه يمسك في يده المرتفعه فرده قبقاب‏!‏
ذلك ما نادي به يحيي حقي سنه‏1969,‏ بمناسبه الذكري الخمسين لثوره‏.1919‏ والان ونحن نحتفل بالذكري المئويه لميلاد يحيي حقي اكاد اسمعه ينادينا ويعرض علينا الفكره نفسها وهي اقامه تمثال في احد الميادين العامه لصبي بجلابيه يمسك في يده المرفوعه فرده قبقاب فهذا الصبي هو رمز حي لابن الشعب المجهول الغلبان الذي لايطلب مجدا ولا شهره ولاثروه‏,‏ ومع ذلك فهو لايتردد عن بذل روحه والتضحيه بنفسه اذا كانت هناك قضيه عادله تناديه وتحتاج اليه‏.‏ وفكره يحيي حقي رائعه‏,‏ وهي تستحق ان نويدها ونتمني تحقيقها علي يد فنان موهوب وطني من احفاد مختار‏1891‏ ‏1934‏ الذي جعل الحجاره ترقص وتغني وتعزف‏,‏ وذلك من خلال تماثيله الشعبيه التي هي سيمفونيات علي الحجاره‏,‏ وتمثال لصانع القباقيب الشهيد لايمكن ان يبدعه الا حفيد من احفاد مختار‏.‏ اليس مختار هو الذي جسد شخصيه مصر في صوره فلاحه تلبس الطرحه وتنظر بوجهها الباسم الصابر الجميل الي المستقبل؟ لو ابدع لنا فنان موهوب ذلك التمثال الذي كان يتمني يحيي حقي ان يراه‏,‏ فلن يكون عجيبا ان يظهر يحيي حقي نفسه بيننا مره اخري‏,‏ وكانه سقراط العربي الذي يحب الناس ويعشق الحوار الهادئ مع الجميع دون ان يفرض رايه عل
ي احد‏.‏ يومها سوف ينظر يحيي حقي الي تمثال صانع القباقيب ويقول‏:‏ نعم‏..‏ هذا البطل المجهول والمواطن الغلبان هو الذي يمثل مصر فصانع القباقيب عند يحيي حقي هو الاصل‏,‏ والباقي كله عاله علي هذا البطل المجهول‏.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن: صحيفة "الأهرام".

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:04 AM
( 12) لماذا غضب عبد الناصر علي يحيي حقي؟

بقلم‏: ‏رجاء النقاش
.....................

تحدثت في الاسبوع الماضي عن غضب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علي اديبنا الكبير يحيي حقي‏1905‏ ‏1992‏ الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده‏,‏ وقد اعتمدت في حديثي السابق علي روايه استاذنا الجليل الدكتور ثروت عكاشه‏,‏ نائب رئيس الوزراء ووزير الثقافه الاسبق‏,‏ اطال الله عمره وبارك في حياته وصحته‏,‏ بقدر ما قدم لشعبه وبلاده من خدمات جليله تنحني امامها الرووس ولا تزال تفيض علينا بالخير والنور‏.‏
وقد غضب عبد الناصر علي يحيي حقي بسبب حضوره لجلسه تعرض فيها عبد الناصر لهجوم شديد‏,‏ واستطاع ثروت عكاشه بجهد استثنائي كبير ان ينقذ يحيي حقي من الاستغناء عنه‏,‏ والاكتفاء بنقله من منصبه الكبير كمدير لما كان يسمي باسم مصلحه الفنون الي العمل كمستشار لدار الكتب‏,‏ ثم اصبح بعد ذلك رئيسا لتحرير مجله المجله وظل يراس تحريرها من سنه‏1962‏ الي ان اصدر الدكتور عبد القادر حاتم قرارا باغلاق هذه المجله فور توليه لمسئوليه الاعلام والثقافه في منتصف سنه‏1971.‏
وقصه غضب عبد الناصر علي يحيي حقي التي يرويها الدكتور ثروت عكاشه في مذكراته لها روايه اخري يقدمها فضيله الشيخ الجليل احمد حسن الباقوري وذلك في كتابه بقايا ذكريات الصادر عن مركز الاهرام للترجمه والنشر في طبعته الاولي والوحيده فيما اظن سنه‏1988,‏ وفي هذه المذكرات يقول الشيخ الباقوري صفحه‏240:‏ كان من بين الندوات التي احرص علي حضورها والمشاركه فيها ندوه تجمع بين الحريصين علي المعارف والعلوم‏,‏ وخاصه ما يتعلق منها بتفسير القران العظيم‏,‏ وما يتعلق به من مباحث اللغه العربيه الشريفه‏,‏ وكان يصحبنا في هذه الندوه افاضل من ارباب الاقلام واهل البصر بشئون السياسه وشئون الدين‏,‏ ومنهم الدكتور ناصر الدين الاسد والسيد الفاضل عبد الله التل قائد معركه القدس الشريف في حرب فلسطين الاولي سنه‏1948‏ والاستاذ يحيي حقي وكانت الندوه تنعقد في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكنا في هذه الندوه كثيرا ما نجمع بين متعتين‏:‏ المتعه بالطعام الطيب والمتعه بالكلام الشريف‏.‏
ثم يقول فضيله الشيخ الباقوري‏:‏
لم يكن لمثلي في شده حرصه علي مجامله الناس ان يمتنع عن السعي لاغاثه ملهوف او العمل علي طمانه حيران‏,‏ بدليل ان الندوه مجتمعه رغبوا الي ذات يوم ان اعمل علي انقاذ الاستاذ يحيي حقي من اخراجه في حركه التطهير التي كانت تهدف الي تطهير السلك الدبلوماسي من كل من له زوجه غير مصريه‏,‏ وكان يحيي حقي سفيرا لمصر في ليبيا يومئذ وكانت زوجته فرنسيه‏.‏ واذكر انني ذهبت لمقابله اخي الفاضل الدكتور محمود فوزي ووزير الخارجيه في ذلك الوقت ورجوته ان يستثني يحيي حقي من هذا القانون‏,‏ فاجابني الرجل رحمه الله بانه لا يعدني بالاستثناء‏,‏ ولكنه يعدني بان ينقل يحيي حقي من السلك الدبلوماسي الي عمل يليق به في الوزارات التي تحتاج الي عمله‏,‏ وقد نفذ الدكتور محمود فوزي وعده وتم نقل يحيي حقي الي عمل في وزاره الثقافه لا يناسب كفايته في سعه علمه وقدرته علي صياغه القصص‏!.‏
ويواصل الشيخ الباقوري روايته فيقول‏:‏ ذات يوم اجتمعنا في الندوه بدار محمود شاكر‏,‏ ورن جرس التليفون فاذا المتحدث هو يحيي حقي‏,‏ وكان يشكو اليه اي الي شاكر من انه قد نقل الي عمل لا يناسبه‏,‏ فقال شاكر في حماسه عمياء‏:‏ وما حيلتي يا اخ يحيي في هولاء العساكر الذين يحكمون البلد وعلي راسهم جمال عبد الناصر ابن‏....,‏ وكانت كلمه مع الاسف تستوجب اقامه حد القذف لو كان القانون ياخذ بالتشريع الاسلامي‏.‏
بعد هذه الندوه التي حدث فيها الهجوم علي عبد الناصر بالطريقه التي وصفها الشيخ الباقوري‏,‏ فان من الواضح ان تسجيلا كاملا لهذه الندوه وما جري فيها قد تم اعداده عن طريق اجهزه الامن وتقديمه الي عبد الناصر‏..‏ واستدعي الرئيس عبد الناصر الشيخ الباقوري الي لقائه‏,‏ وفي هذه الجلسه حسب روايه الباقوري‏,‏ قال عبد الناصر انه امتنع عن حضور حفل زفاف ليلي بنت الباقوري بسبب ما بلغه من ان الباقوري يحضر مجالس تنتقد الثوره‏,‏ كما علمت اي عبد الناصر من بعض التقارير ان بعض الاخوان المسلمين في سوريا‏,‏ وفي سائر الاقطار العربيه كانوا يبعثون اليك اموالا لتعين اسر الاخوان المسلمين‏,‏ فاجبته بان ذلك كان ايام محنه الاخوان قبل الثوره بثلاث سنوات علي الاقل‏,‏ وهذا صحيح‏..‏ ولكن ذلك شئ والتامر علي الثوره مع الاخوان شئ اخر‏,‏ ولم يجب عبد الناصر علي هذه الكلمات فرجوته ان ياذن لي بورقه اكتب فيها استقالتي من الوزاره‏,‏ ولكنه اجابني‏:‏ انت تعرف حد استقال عندي قبل كده؟‏!‏ وفي صباح يوم الاربعاء الحادي عشر من فبراير سنه‏1959‏ نشرت الصحف نبا قبول استقالتي‏.‏
تلك هي روايه الشيخ الباقوري للقصه التي غضب فيها عبد الناصر علي يحيي حقي والتي نتج عنها اقاله الباقوري من الوزاره ودخول محمود شاكر الي السجن‏,‏ وركن يحيي حقي في هامش وظيفي محدود‏.‏ وفي التعليق علي هذه القصه يمكن تسجيل مجموعه من الملاحظات‏.‏
اولا‏:‏ ان الشيخ الباقوري يعترف بان كلمات الهجوم علي الرئيس عبد الناصر علي لسان الاستاذ شاكر كانت بذيئه وكانت تستحق العقاب القانوني‏.‏
ثانيا‏:‏ يقول الشيخ الباقوري انه لم يشترك في الهجوم‏,‏ او هذا ما يمكن فهمه بوضوح تام من روايه الباقوري للقصه‏,‏ وهذا ما يخالف روايه الدكتور ثروت عكاشه للقصه في مذكراته حيث يقول ان الباقوري قد اشترك بلسانه في الهجوم علي عبد الناصر‏,‏ وانه اي ثروت عكاشه سمع هذا التسجيل بنفسه في مكتب عبد الناصر‏,‏ مع ملاحظه ان ثروت عكاشه لم يذكر الشيخ الباقوري بالاسم‏,‏ ولكنه اشار اليه بانه احد الوزراء‏,‏ ولم يكن هناك وزير له علاقه بالقصه سوي الباقوري‏.‏ وحسب شهاده الدكتور ثروت عكاشه فان الباقوري قد شارك في الهجوم العنيف علي عبد الناصر‏.‏
ثالثا‏:‏ من روايه الباقوري وروايه ثروت عكاشه نعلم ان يحيي حقي لم يشارك في الهجوم علي عبد الناصر ولكن علاقته القويه بصاحب الندوه محمود شاكر كانت تهمه له اوشكت ان تطيح به من عمله في وزاره الثقافه اواخر سنه‏1958‏ لولا تدخل الوزير ثروت عكاشه بحكمه وشجاعه لانقاذه‏.‏
رابعا‏:‏ حسب روايه الشيخ الباقوري فان الندوه كانت منتظمه‏,‏ وكانت تضم شخصيات مهمه منها الباقوري نفسه وكان وزيرا للاوقاف‏,‏ ومنها قائد عسكري سابق في الاردن هو عبد الله التل‏,‏ ومنها شخصيه علميه وثقافيه معروفه هي الدكتور ناصر الدين الاسد الذي اصبح وزيرا للتعليم العالي في الاردن بعد ذلك‏.‏ ومثل هذا التجمع‏,‏ وخاصه في حاله تكراره لا يمكن‏,‏ كما اتصور‏,‏ ان يفلت من متابعه اجهزه الامن‏,‏ وخاصه في اجواء سنه‏1958,‏ وهي السنه الاولي لدوله الوحده المصريه السوريه‏,‏ وقد كانت هذه الدوله محاطه بكثير من الاعداء والمتربصين بها‏.‏ والتجسس بكل صوره ملعون‏,‏ ولكنه في حساب اجهزه الامن مشروع وخاصه في اوقات الازمات‏.‏
ولاشك ان هناك عبره نهائيه في مثل هذه الاحداث التي تقوم علي الاصطدام بين الادباء والمفكرين واصحاب الراي من جهه وبين السلطه من جهه اخري‏,‏ والعبره هي ان المناخ الديمقراطي وحده يمكن ان يوفر الحمايه للجميع فيقول كل صاحب راي رايه علنا ولا تحتاج السلطه الي جواسيس او اجهزه تسجيل‏.‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن: صحيفة "الأهرام".

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:05 AM
( 13 ) هذه نصوصهم تدل عليهم‏!‏

بقلم‏:‏ رجاء النقاش
........................

كلما أمعنت في قراءة تاريخ الصهيونية‏,‏ وتاريخ دولة إسرائيل تبين بوضوح تام أن إسرائيل والعرب لم يصلا أبدا إلي نقطة التقاء مشتركة حتي الآن‏,‏ فالعرب يتحدثون كثيرا عن السلام بنية صافية وصادقة‏,‏ وفي المقابل لا يوجد في المصادر الأساسية للفكر الصهيوني أية نيات سلمية علي الإطلاق‏,‏ وتاريخ إسرائيل ليس فيه موقف جوهري واحد يدل علي أنها تؤمن بالسلام الآن‏,‏ فلايزال أمام إسرائيل الكثير الذي تفعله بنا نحن العرب قبل أن ترفع راية السلام علي الأرض‏,‏ والحقيقة أن إسرائيل هي تجسيد عملي للفكر الصهيوني‏,‏ والصهيونيون للأسف الشديد يضفون علي كل أفكارهم صفة دينية مقدسة‏,‏ أي أنهم يعتبرون كل ما يقومون به هو جزءا من عقيدة ثابتة لا يصح معها المراجعة أو التعديل أو الاعتراف بالخطأ أو بأي مبدأ آخر من المبادئ الإنسانية والأخلاقية‏.‏
وأنا دائما‏,‏ خاصة في أوقات الأزمات الكبيرة‏,‏ أعود إلي بعض المراجع الأساسية التي تتيح الفرصة الواسعة لكل من يريد أن يطلع علي النصوص الصهيونية‏,‏ وبعد المقارنة بين هذه النصوص‏,‏ المواقف الإسرائيلية سوف نجد أمامنا تطابقا كاملا بين الفكر الصهيوني والواقع الإسرائيلي‏.‏
ومن أهم هذه المراجع وأخطرها علي الإطلاق كتاب المفكر الفرنسي روجيه جارودي‏,‏ فلسطين أرض الرسالات الإلهية‏,‏ ترجمة العالم والمفكر الكبير الدكتور عبد الصبور شاهين‏,‏ وأهمية هذا الكتاب الخطير الذي يشبه الموسوعة الكاملة تعود إلي الكمية الهائلة من النصوص الصهيونية الأصلية الواردة فيه‏,‏ وهي نصوص موثقة منسوبة إلي مصادرها المحددة مع تحديد تاريخ هذه المصادر‏.‏
وكل النصوص الواردة في هذا المقال مستمدة من كتاب جارودي الخطير‏,‏ والذي ألاحظ أنه لا وجود له في المكتبات العربية الآن‏,‏ رغم اعتقادي بضرورة وجود نسخة منه في كل بيت عربي‏,‏ حتي يساعدنا علي إدراك الحقيقة‏,‏ وفهم الأزمات التي نتعرض لها في صور متلاحقة بسبب إسرائيل‏,‏ إن كتاب جارودي هو مصباح للحقيقة‏.‏
من أهم النصوص الصهيونية القديمة التي تلقي ضوءا علي الحاضر ما جاء في مذكرات هرتزل مؤسس الفكرة الصهيونية الحديثة‏,‏ حيث نقرأ ما كتبه في‏8‏ أكتوبر سنة‏1898‏ عن محادثاته مع الأمير هو هنلو مستشار الإمبراطورية الألمانية في ذلك الوقت‏,‏ يقول هرتزل‏:‏
سألني الأمير عن أي الأراضي تزمع الحصول عليها؟ فقلت له‏:‏ سوف نطلب ما نحتاج إليه‏,‏ وكلما زاد المهاجرون وجب أن تزيد الأرض‏.‏
وفي نص آخر يقول هرتزل بصراحة لا تختلف عن الوقاحة‏:‏ إن الحدود الشمالية لإسرائيل يجب أن تكون عند جبال الكباروس في تركيا‏,‏ أما الحدود الجنوبية فيجب أن تكون عند قناة السويس‏,‏ وفي هذا النص لا يخفي هرتزل الطمع الصهيوني الدائم في أرض سيناء‏.‏
وإذا عدنا إلي نسخة التوراة التي تعتمد عليها الصهيونية وتفسرها بما يتفق مع توسيع حدود إسرائيل باستمرار‏,‏ فسوف نقرأ هذا النص من سفر يشوع‏,‏ حيث يقول لليهود علي لسان الرب‏,‏ سبحانه وتعالي عما يكذبون‏:‏ كل موطن تدوسه أقدامكم لكم أعطيته‏.‏
وفي نص صهيوني آخر بالغ الأهمية ومثير للغضب وكاشف للنيات الصهيونية في المدي البعيد نقرأ ما نشرته مجلة التوجيه الإسرائيلية التي يصدرها التنظيم الصهيوني بالقدس عدد رقم‏14‏ بتاريخ أول فبراير‏1983..‏ يقول هذا النص المثير حول التصور الصهيوني لمصر‏:‏
إن استعادة سيناء بمواردها الطبيعية هدف له أولوية‏,‏ والعقبة التي تحول دون الوصول إليه هي اتفاقية كامب ديفيد‏,‏ وقد حرمتنا هذه الاتفاقية من بترول سيناء‏,‏ وتحملنا نفقات باهظة في هذا المجال‏,‏ ويجب أن نعمل علي استعادة الوضع الذي كانت عليه سيناء قبل زيارة السادات للقدس والاتفاق التعس معه سنة‏1979.‏
إن مصر بسبب صراعاتها الداخلية لم تعد تمثل بالنسبة لنا أي لإسرائيل والحركة الصهيونية أي مشكلة أساسية‏,‏ وسوف يكون من اليسير أن نردها إلي الوضع الذي عاشته عقب حرب يونيو سنة‏1967‏ في أقل من أربع وعشرين ساعة‏.‏
وهكذا فإن مصر‏,‏ حتي بعد كامب ديفيد‏,‏ لا تعجبهم ولا تغيب عن أحلامهم في السيطرة والتوسع‏,‏ والخطة الصهيونية الأساسية تنطوي علي كثير من الأوراق المأساوية ضد العرب‏,‏ ومن ذلك تمزيق لبنان وتحويله إلي دويلات صغيرة تخشي بأس إسرائيل وتعيش تحت مظلتها ونفوذها وسيطرتها الكاملة‏.‏
وهناك دليل قاطع علي أن نيات الصهيونية ضد العرب كانت ولاتزال نيات عدوانية توسعية‏,‏ هذا الدليل هو رفض إسرائيل أن تقدم خريطة تشتمل علي حدودها النهائية كما تتصورها‏,‏ ولا يوجد تفسير لذلك إلا أن تظل الحدود الإسرائيلية مفتوحة لابتلاع المزيد من الأرض العربية‏,‏ والحركة الصهيونية تعلن أنها في رفضها لرسم خريطة إسرائيلية ذات حدود نهائية إنما تشبه أمريكا فالإعلان الأمريكي للاستقلال سنة‏1776‏ لا يتضمن أي ذكر للحدود الأرضية‏,‏ وعليه فليست إسرائيل مضطرة إلي تعيين حدود الدولة‏,‏ وقد ظلت الخريطة الأمريكية أكثر من قرن كامل خريطة مفتوحة ومتحركة تضاف إليها أرض جديدة كلما نجح الأمريكان في طرد الهنود الحمر والاستيلاء علي أرضهم لضمها إلي الحدود الأمريكية المفتوحة‏,‏ وعلي أساس هذا التشابه بين نشأة إسرائيل‏,‏ ونشأة أمريكا يقول بن جوريون المؤسس العملي لدولة إسرائيل‏:‏ إننا لا يعنينا التشبث بالحالة الراهنة أو الوضع القائم‏,‏ فإن علينا أن ننشئ دولة متحركة ديناميكية موجهة دائما نحو التوسع‏.‏
فالتوسع إذن مبدأ مقدس عند الصهيونية‏,‏ وهو المبدأ الذي يدفع إسرائيل إلي الحروب المتواصلة ضد العرب‏,‏ وما حرب لبنان الأخيرة إلا حلقة في سلسلة طويلة من الحروب تريد إسرائيل‏,‏ أن تفرضها علي العرب جميعا‏,‏ فهي كما قال عنها أبوها ومؤسسها بن جوريون دولة متحركة وديناميكية ولا يعنيها الوضع القائم أو الحالة الراهنة‏,‏ ولابد لها أن تكون مصدر قلق للعرب‏,‏ وأن تضرب هنا وهناك باستمرار‏.‏
........................................
*الأهرام ـ في 20/8/2006م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:05 AM
( 14 ) عبدالناصر يقرأ ثرثرة فوق النيل

بقلم : رجاء النقاش
......................

تفضل الأستاذ الكبير سامي شرف بالاتصال بي وحدثني بالتفصيل عن موقف الزعيم الراحل جمال عبدالناصر من رواية نجيب محفوظ ثرثرة فوق النيل‏,‏ وقد صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولي سنة‏1966,‏ وذلك بعد نشرها مسلسلة في الأهرام‏,‏ وكنت قد أشرت منذ أسبوعين إلي غضب بعض المسئولين الكبار في ذلك الوقت علي الرواية وعلي نجيب محفوظ‏,‏ وكان علي رأس الغاضبين المشير عبدالحكيم عامر‏,‏ حيث كان هناك من أبلغ نجيب محفوظ أن المشير بعد أن قرأ الرواية هدد وتوعد بإنزال العقاب بنجيب محفوظ بسبب ما جاء في الرواية من نقد عنيف لسلبيات قائمة في المجتمع‏,‏ وسمع البعض المشير وهو يقول‏:‏ نجيب زودها قوي ويجب تأديبه ووقفه عند حده‏.‏ وقد كان حديث الأستاذ سامي شرف معي يدورحول ثرثرة فوق النيل بالتحديد‏,‏ وهذه محاولة لتقديم تلخيص دقيق بقدر ما أستطيع لما سمعته من الأستاذ الكبير‏:‏
بعد صدور رواية ثرثرة فوق النيل اتصل الفنان المعروف أحمد مظهر‏,‏ وهو صديق قديم وحميم لنجيب محفوظ‏,‏ بالأستاذ سامي شرف الذي كان مديرا لمكتب الرئيس عبدالناصر في ذلك الوقت‏,‏ وقال له‏:‏ إن نجيب محفوظ يشعر بقلق شديد مما يسمعه من هجوم عليه وعلي رواية ثرثرة فوق النيل من جانب بعض المسئولين وعلي رأسهم المشير عامر‏,‏ وأن نجيب محفوظ لا يجد مبررا لهذا الغضب الرسمي عليه‏,‏ فهو ليس بأي حال من الأحوال من أعداء الثورة‏,‏ وأن ما جاء في الرواية من نقد لبعض السلبيات هو نقد من داخل الثورة وليس من خارجها‏,‏ أي أنه نقد إيجابي يهدف إلي تصحيح بعض الأخطاء الواضحة حتي تسير سفينة البلاد دون كوارث أو أزمات‏.‏ وهذا هو واجب أديب كبير صاحب ضمير وطني مثل نجيب محفوظ‏.‏
وطلب الفنان أحمد مظهر من السيد سامي شرف أن يتفضل بعرض الموضوع علي الرئيس عبدالناصر‏,‏ والرئيس يعرف أحمد مظهر جيدا‏,‏ فقد كان زميلا له في الكلية الحربية‏,‏ كما كان واحدا من الضباط الأحرار‏,‏ كما هو معروف‏,‏ وقد كلفه عبدالناصر قبل الثورة ببعض الاتصالات السياسية‏,‏ خاصة أن أحمد مظهر كان متزوجا من ابنة وزير الخارجية الشهير في عهد الوفد الدكتور محمد صلاح الدين‏.‏
استجاب السيد سامي شرف لما طلبه أحمد مظهر من عرض موضوع رواية ثرثرة فوق النيل علي الرئيس عبدالناصر‏,‏ وكان السيد سامي شرف يعلم بأن هناك غضبا ضد الرواية بين عدد من كبار رجال السلطة في ذلك الوقت‏,‏ وكانت بداية الغضب الشديد عند صلاح نصر رئيس المخابرات آنذاك‏,‏ ومعه مسئولون آخرون مثل شمس بدران‏,‏ وتم تصعيد الغضب إلي المشير عامر‏.‏ ومعني هذا أن نسبة الغضب علي الرواية كانت أعلي بكثير مما تصوره نجيب محفوظ وأحمد مظهر‏,‏ وكان هناك مسئولون كبار آخرون في مواقع السلطة من الغاضبين علي الرواية والمطالبين بالتصرف معها‏,‏ ولم يكن التصرف يعني بالطبع سوي المصادرة ثم توقيع عقاب مناسب علي نجيب محفوظ‏,‏ والله وحده يعلم ماذا يمكن أن يكون مثل العقاب الذي كان يدور في خاطر رجال أشداء لهم كلمة مسموعة ونفوذ واسع في ذلك الوقت مثل صلاح نصر وشمس بدران‏,‏ فضلا عن المشير عامر‏.‏
عرض السيد سامي شرف الموضوع بكل تفاصيله علي الرئيس عبدالناصر‏,‏ وأوضح أمامه قلق نجيب محفوظ‏,‏ كما وضع أمامه صورة من غضب المسئولين الثائرين علي الرواية وصاحبها‏.‏
وطلب عبدالناصر نسخة من الرواية وقرأها‏,‏ ويروي السيد سامي شرف ما قاله عبدالناصر بعد قراءة الرواية‏,‏ وأحاول هنا أن أتذكر ما سمعته من الأستاذ الكبير سامي شرف بدقة متناهية‏..‏
ماذا قال عبدالناصر؟
قال ما معناه‏:‏
‏1‏ ـ إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟ انه فريد في مكانته وقيمته وموهبته‏,‏ ومن واجبنا أن نحرص عليه كما نحرص علي أي تراث قومي وطني يخص مصر والمصريين‏.‏
‏2‏ ـ إن نجيب محفوظ لم يثبت عليه أبدا سوء نية تجاه الثورة مثل غيره من بعض الكتاب المعروفين وهنا ذكر عبدالناصر اسما كبيرا محددا‏,‏ ولكن الأستاذ سامي شرف طلب مني عدم ذكر الاسم لأسباب كثيرة لا مجال للحديث عنها هنا‏,‏ وأنا أعد الأستاذ الكبير بعدم ذكر الاسم لأحد علي الإطلاق‏..‏ حتي لو كان ذلك بطلب من النيابة العامة‏!.‏
‏3‏ ـ الأهم من ذلك كله‏,‏ أن رواية ثرثرة فوق النيل فيها نقد‏,‏ وأن النقد الذي تنطوي عليه صحيح‏,‏ وأن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التي تشير إليها ونعمل علي الخلاص منها بدلا من أن نضع رأسنا في الرمال وننكر حقيقة ما تنبهنا إليه الرواية‏,‏ وكأنه غير موجود‏..‏ رغم أنه موجود ونحن نعترف بيننا وبين أنفسنا بذلك‏.‏
تلك هي خلاصة دقيقة لكلام عبدالناصر بعد أن قرأ ثرثرة فوق النيل‏,‏ والمرجع فيه هو السيد سامي شرف وهو عندي مرجع صادق وأمين‏.‏
بعد ذلك كان هناك لقاء بين المشير عامر وبين عبدالناصر حول الرواية التي أوشكت فيما يبدو أن تشعل حريقا كبيرا كاد يلتهم في طريقه نجيب محفوظ‏..‏ وفي اللقاء بين الرئيس عبدالناصر والمشير عامر شرح عبدالناصر وجهة نظره بوضوح تام‏,‏ وطلب استبعاد أي إجراء سلبي في حق الرواية وكاتبها الكبير‏.‏ واقتنع المشير عامر بوجهة نظر عبدالناصر وزال غضبه علي الرواية والكاتب‏,‏ وعندما اقتنع المشير بذلك‏,‏ تابعه في الاقتناع صلاح نصر وشمس بدران وآخرون من الذين كانوا بين الغاضبين الثائرين المطالبين بمصادرة الرواية ومعاقبة نجيب محفوظ‏.‏
بقي أن نتساءل ماذا كان في ثرثرة فوق النيل من نقد اثار كل هذه العاصفة؟‏..‏ أفضل إجابة هنا هي ما سمعته من نجيب محفوظ في حواراتي معه‏,‏ حيث يقول‏:‏ ظهرت رواية ثرثرة فوق النيل في عز مجد عبدالناصر‏,‏ وفي وقت كان فيه الإعلام الرسمي يحاول ليل نهار أن يؤكد انتصار الثورة والنظام وانعدام السلبيات والأخطاء‏,‏ فجاءت ثرثرة فوق النيل لتنبه إلي كارثة قومية كانت قد بدأت تطل برأسها علي السطح‏,‏ وكان لابد أن يكون لها نتائجها الخطيرة‏,‏ وكنت أعني بذلك محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء‏,‏ وهي المحنة التي بدأ الناس يعانون منها‏,‏ خاصة في أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع‏,‏ وأصبحوا يعيشون في شبه غيبوبة‏,‏ فلا أحد يعطيهم الفرصة المناسبة للعمل والمشاركة‏,‏ ولا هم قادرون علي رؤية الطرق الصحيحة‏,‏ وفي المرة الوحيدة التي حاولوا فيها أن يعرفوا الطريق ارتكبوا حادثة رهيبة في شارع الهرم‏,‏ ولاذوا بالفرار‏.‏
هذا بعض ما جاء في ثرثرة فوق النيل‏,‏ وقد كانت شجاعة من نجيب محفوظ أن يعبر عن هذه السلبيات‏,‏ وكانت شجاعة أكبر من عبدالناصر أن يقول عن الرواية إنها صادقة‏,‏ وإن علينا أن نستفيد من هذا النقد السديد الخالي من سوء النية‏.‏

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:06 AM
15 ) ثروت عكاشة ينقذنا من فضيحة ثقافية

بقلم: رجاء النقاش
......................

هذه قصه وقعت تفاصيلها في اواخر الخمسينات من القرن الماضي وكان موضوعها هو يحيي حقي‏,‏ اديبنا الموهوب العظيم الذي نحتفل هذا العام بالذكري المئويه لميلاده سنه‏1905‏ وقد عرفنا يحيي حقي الذي رحل عنا سنه‏1992‏ رجلا مسالما لايعادي ولا يخاصم ولا يحب لنفسه ان يكون طرفا في اي صراعات او معارك‏,‏ كما انه كان رجلا حريصا علي استقلاله‏,‏ رافضا كل الرفض للاشتغال بالسياسه والدخول في امواجها الصعبه العاتيه‏,‏ وقد اتخذ هذا الفنان الكبير لنفسه ما يشبه الشعار لحياته كلها يقول فيه‏:‏ خليها علي الله‏,‏ وهو الشعار الذي جعله عنوانا لقصه حياته او سيرته الذاتيه‏.‏
هذا الاديب الكبير المسالم‏,‏ صاحب الصدر الواسع والاخلاق المتحضره العاليه‏,‏ والنفس العفيفه التي ابتعدت به تماما عن اي منافسات من اي نوع‏,‏ لم يسلم من الاذي الذي اصابه في اواخر الخمسينات من القرن الماضي‏.‏ والقصه مولمه للنفس‏.‏ والذي يرويها وكان شاهدا عليها هو الدكتور ثروت عكاشه احد رجال الصف الاول في قياده ثوره يوليو‏1952,‏ وهو القائد الاكبر لهذه الثوره في ميدان الثقافه‏,‏ فقد كان وزيرا للثقافه في المره الاولي التي تولي فيها هذا المنصب من نوفمبر سنه‏1958‏ الي سبتمبر سنه‏1962,‏ ثم تولي نفس المنصب سنه‏1966‏ وحتي سنه‏1970.‏ والمنصفون جميعا يشهدون للدكتور ثروت بانه موسس ثقافي عظيم‏,‏ ويكفي ان اشير هنا الي عباره للشاعر والاديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي حيث يخاطب ثروت عكاشه فيقول عنه انه انسان رائع ومناضل جعل من ثقافتنا الوطنيه قلعه تحمي شرف الانسان وكبرياء القلب الذي يحلم بالمستقبل‏,‏ والذين عاشوا مثلي في العصر الثقافي لثروت عكاشه يصدقون عباره الشرقاوي حرفا حرفا وكلمه كلمه‏.‏ ولولا وجود ثروت عكاشه علي راس وزاره الثقافه في تلك الفتره‏,‏ من‏1958‏ الي‏1962,‏
ولولا شجاعته ومعرفته بالواقع الثقافي وضميره الحي لوقعت فضيحه ثقافيه كان لابد ان يسجلها التاريخ بكثير من الاسف عليها والغضب منها‏,‏ وكان لابد لهذه الفضيحه ان يكون لها صداها العالمي فتصبح فضيحه ثقافيه دوليه ومحليه في وقت واحد‏.‏ وهذه القصه يسجلها الدكتور ثروت عكاشه في كتابه الشهير مذكراتي في السياسه والثقافه الطبعه الثالثه دار الشروق صفحه‏398‏ حيث يقول‏:‏ لم يكن مضي علي تعييني وزيرا اكثر من شهرين عندما اتصل بي سكرتير رئيس الجمهوريه يدعوني الي لقاء عاجل مع الرئيس عبدالناصر الذي ما ان لقيته حتي طلب مني الاستماع الي شريط صوتي مسجل لمجموعه من الاشخاص انهالوا علي شخص الرئيس بالشتائم البذيئه ناعتين اياه باحط الصفات‏,‏ وسالته مندهشا عمن يكونون‏,‏ فذكر لي اسم احد الوزراء واسم اديب رائد مرموق‏,‏ وانه استغني عن خدمات الوزير‏,‏ وامر باعتقال الاديب الشيخ‏.‏ ولما سالته عن الغرض من دعوتي للاستماع الي ذلك التسجيل‏,‏ قال ان يحيي حقي رئيس مصلحه الفنون كان موجودا معهما ويتعين احالته الي المعاش‏,‏ فبادرته بقولي‏:‏ لكن الواضح من الشريط الصوتي انه لم يشارك في هذا السباب‏,‏ وهو رجل مشهود له بعفه اللسان ودماثه الخلق‏,‏ فضلا عن انه اديب مرموق ومحبوب‏,‏ وتوقيع العقاب ظلما علي هذا النحو سوف يكون له اثر سييء في اوساط المثقفين وعامه الشعب علي السواء‏,‏ فقال‏:‏ ولكنه كان موجودا ولم يعترض‏,‏ وهذا يكفي‏,‏ فناشدته ان يترك الامر لي حتي اعالجه باسلوب مناسب‏,‏ فوافق‏,‏ مقتنعا‏,‏ بعد الحاح‏.‏
وقد عالج الدكتور ثروت الموضوع بمنتهي الحكمه‏,‏ حيث يقول‏:‏ اسندت الي يحيي حقي الاشراف علي مركز تدريب العاملين بالوزاره‏,‏ كما اسندت اليه بجوار ذلك منصبا مهما بدار الكتب‏,‏ ثم رئاسه تحرير مجله المجله حتي لا يشعر بغربه عن عالمه في مجال الفكر والادب والفن‏,‏ فقبل مني ما عرضته عليه بدماثته المعهوده‏,‏ وطبعا كان ذلك كله بعد اعفائه من منصبه كمدير لمصلحه الفنون‏.‏
ثم يعلق الدكتور ثروت عكاشه علي ما حدث تعليقا مهما يقول فيه‏:‏ اروي هذه الواقعه لاصل الي تاملي فيما وقع من مبدئه الي منتهاه‏,‏ وانا بطبيعه الحال ارفض بذاءه القول للتعبير عن الخلاف في الراي‏,‏ ولكني ادركت من ناحيه اخري ان التجسس علي الوزراء واحصاء تحركاتهم وسكناتهم واسرارهم الشخصيه كان امرا يتساوي مع التجسس علي المجرمين والخارجين علي القانون‏,‏ وكان هذا درسا وعيته كوزير حديث العهد بالمنصب‏.‏
هذا ما قاله الدكتور ثروت عكاشه ويمكننا ان نعلق عليه بما يلي‏:‏
اولا‏:‏ لاشك ان الدكتور ثروت عكاشه بموقفه المسئول والشجاع قد انقذ مصر من فضيحه ثقافيه مدويه‏,‏ وذلك لان يحيي حقي في تلك الفتره‏,‏ واعني بها اواخر الخمسينات من القرن الماضي قد بدا يحظي بشعبيه واسعه بين جماهير المثقفين في مصر والعالم العربي‏,‏ بل انني لا ابالغ اذا قلت انه كان قد بدا يصبح معروفا ولو بصوره بسيطه في الاوساط الثقافيه الاوروبيه وخاصه في فرنسا‏,‏ وكان طرد يحيي حقي من وزاره الثقافه في ذلك الوقت لا يمكن الا ان يكون فضيحه ثقافيه كبيره لمصر في الداخل والخارج‏.‏ وصاحب الفضل في انقاذنا من مثل هذه الفضيحه هو ثروت عكاشه‏.‏ وموقفه هنا جدير بالتامل فيه والاهتداء الدائم به‏.‏
ثانيا‏:‏ المتهمان الاخران في هذه القصه هما الاديب العربي الكبير محمود شاكر‏,‏ وقد تم اعتقاله لمده تقرب من سنتين‏,‏ ولم يخرج من السجن الا برساله من شاعر السودان ورئيس وزرائها في ذلك الوقت محمد احمد محجوب‏.‏ اما المتهم الثاني فهو المفكر الاسلامي الكبير الشيخ احمد حسن الباقوري‏,‏ وقد تمت اقالته بعد هذه الحادثه من منصبه كوزير للاوقاف‏.‏
ثالثا‏:‏ كان التسجيل الذي ادين عليه الجميع قد تم في بيت الاستاذ محمود شاكر‏,‏ وكان تسجيلا لجلسه شخصيه خاصه بين شاكر والباقوري ويحيي حقي‏.‏
رابعا‏:‏ ان هذه الحادثه وامثالها‏,‏ اي التجسس علي الناس في حياتهم الخاصه دون سبب قوي‏,‏ ثم محاسبه الجميع علي ما قد يقولونه في بعض اوقات الاسترخاء والفضفضه‏,‏ وربما في اوقات الملل والضيق من بعض الاوضاع والمشاكل الشخصيه‏..‏ مثل هذه العمليات في التجسس علي الناس كان فيها اساءه لزعيم عظيم مثل عبدالناصر‏,‏ وكان فيها اساءه لثوره وطنيه هي ثوره يوليو‏,‏ وكان مثل هذا التجسس بهذه الطريقه من سلبيات الثوره التي يبقي لها ايجابيات اكثر بكثير من سلبياتها‏,‏ حتي لو كانت هذه السلبيات مولمه وجارحه‏.‏
‏*‏ اشرت في مقال سابق الي واحد من عظماء شيوخ الازهر الذين وقفوا في وجه الحاكم التركي الظالم منذ اكثر من مائتي سنه وهو الشيخ محمود البنوفري‏,‏ وقد سالت عن كلمه البنوفري فعرفت انها نسبه الي قريه بنوفر وتساءلت عن هذه القريه اين توجد وما هو معني اسمها‏.‏ وقد تلقيت رساله كريمه من الاستاذ الفاضل الدكتور عبدالوهاب حميده جاد استاذ الجراحه العامه والاورام في كليه طب طنطا وفي هذه الرساله يقول الاستاذ‏:‏ قريه بنوفر هي قريتي‏,‏ وتقع علي فرع رشيد‏,‏ وهي تابعه وقريبه من مركز كفر الزيات وعدد سكانها يتراوح بين سبعه وعشره الاف‏.‏ كل منزل فيها يضم رجلا من رجال الازهر او سيده ازهريه فاخي استاذ بكليه طب طنطا رغم ان والدنا كان عاملا بسيطا بشركه الملح والصودا‏,‏ ولكنه كان يحفظ القران كاملا‏,‏ حفظا وتجويدا‏,‏ وهذا يبين ان التعليم الازهري العام هو هم هذه القريه‏.‏ اما لماذا اسميت هذه القريه باسم بنوفر فانا اسمع ان بيوتها لقربها من النيل كان يغمرها الفيضان العالي فيفر الناس الي مكان امن‏,‏ ثم يعودون بعد انحسار الماء فسميت بنوا وفروا ثم تم تحويل الاسم الي بنوفر‏.‏
شكرا للدكتور عبدالوهاب جاد‏,‏ وبارك الله فيه وفي قريته الكريمه الطيبه‏,‏ وقد سمعت من الاستاذ عبدالرحمن عوض ان بنوفر قد يكون اصلها بنوفهر‏,‏ ثم اصابها شيء من التخفيف‏,‏ وفهر لغويا معناها الحجر‏,‏ وهي ايضا اسم من اسماء احد اجداد العرب‏.‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عن: صحيفة "الأهرام".

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:07 AM
(16 ) بين يحيي حقي وسيد قطب

بقلم: رجاء النقاش
......................

عندما سأل الناقد الكبير الراحل فؤاد دوارة (‏1928-‏1996‏م) صديقه وأستاذه يحيي حقي (‏1905-‏1992م)‏ عن تفسيره لاهتمام الناس اهتماما استثنائيا بروايته القصيرة قنديل أم هاشم قال له يحيي حقي‏:‏ غريب حقا اهتمام الناس بهذه القصة علي هذا النحو‏.‏ كأنني لم أكتب غيرها‏.‏ أتعرف لماذا؟‏..‏ لقد خرجت من قلبي مباشره كطلقة الرصاص‏,‏ فكان أن استقرت في قلوب الناس‏.‏ هكذا أجاب يحيي حقي علي سوال فؤاد دواره‏,‏ وكانت إجابته اقرب ما تكون إلي العبارة الشائعة التي كثيرا ما نرددها في احاديثنا اليوميه وهي ان ما يخرج من القلب يدخل الي القلب‏.‏
والحقيقه ان قنديل ام هاشم كان يمكن ان تبقي في الظل لفترة طويلة فلا يلتفت إليها احد‏,‏ لولا أن ناقدا كبيرا أحس بقيمتها وأدرك أهميتها وانفعل بما فيها من جمال وصدق وعمق وبساطه واسلوب جديد قائم علي الإيجاز والتركيز‏.‏
وقد أحس الناقد الكبير بهذا كله بعد صدور القصة سنه ‏1944‏ في سلسلة "اقرأ" التي تصدر عن دار المعارف‏.‏ وهذا الناقد الكبير الذي احس بقيمه قنديل أم هاشم هو سيد قطب‏ (1906-‏ ‏1966‏م) الذي كان في ذلك الوقت‏,‏ اي في أربعينيات القرن الماضي‏,‏ من اكبر نقاد الأدب العربي‏,‏ وكانت كلمته مسموعة وموثوقا بها في صفوف الأدباء وبين جماهير القراء علي السواء‏.‏ وقد ظل سيد قطب يحتل مكانه الرفيع في مجال النقد الأدبي حتى سافر إلي أمريكا حوالي سنة ‏1949‏ في بعثة دراسية قصيرة‏,‏ عاد بعدها لينفض يده من الأدب والنقد ويدخل ميدان العمل السياسي والدعوه الدينيه‏,‏ وهي المرحله المليئه بالعواصف التي انتهت بمحاكمته وإعدامه سنة ‏1966‏ بتهمه الاشتراك في زعامة تنظيم عسكري يهدف إلي قلب نظام الحكم في مصر بالقوة‏,‏ وفي هذه الفترة التي تمتد من سنه‏1950‏ إلى نهاية حياته سنة ‏1966‏ خرج سيد قطب تماما من عالم النقد الأدبي الذي كان فيه أحد النجوم اللامعة الساطعة في أربعينيات القرن الماضي‏.‏
عندما صدرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ كانت الحرب العالميه الثانيه قد اوشكت علي الانتهاء‏,‏ ومن الواضح ان يحيي حقي كتب قصته اثناء هذه الحرب‏,‏ اي في الفتره ما بين‏1939‏ و‏1944,‏ ورغم ان القصه ليس فيها اي اشاره الي اجواء الحرب العالميه‏,‏ الا انها كانت تحاول الاجابه علي سوال مهم جدا طرحته هذه الحرب علي وجدان الناس وتفكيرهم‏,‏ خاصه بين المتعلمين والمثقفين منهم‏,‏
وهذا السوال هو ببساطه‏:‏ ماذا نفعل مع الحضاره الغربيه الجديده التي تدق ابوابنا بعنف؟ هل نلغي انفسنا لكي نكون نسخه طبق الاصل من هذه الحضاره؟ او ان واجبنا يفرض علينا شيئا اخر وتصورا للامور يختلف عن تصور الغربيين؟ ولقد قامت قصه يحيي حقي علي محاوله بديعه ورائعه للاجابه علي السوال الاساسي عن موقفنا من الغرب‏,‏ وما يتفرع عن هذا السوال من اسئله اخري عديده‏.‏
وجاءت قنديل ام هاشم اجابه فنيه مليئه بالحياه والحراره‏,‏ خاليه من المناقشات الجافه والافكار المجرده‏,‏ وهي علي بساطتها قصه غنيه بالتلميحات والاشارات والايحاءات‏,‏ بقدر ما هي بعيده كل البعد عن الخطابه والوعظ والتعقيدات الفكريه‏.‏ انها قصه تاخذك بسحرها من يدك‏,‏ وتتحدث معك في همس جميل‏,‏ ولا تقول لك كل شيء بل تتركك وحدك مع نفسك لتتامل وتفكر وتصل الي ما تشاء من نتائج‏,‏ هي ثمره اجتهادك وليست ثمره املاء الفنان صاحب القصه عليك‏,‏ وهذا هو ما يضمن للفن قوته وجماله وتاثيره المستمر القوي علي الناس‏,‏
لان فن الخطب والزعيق لا يعيش‏,‏ وانما يعيش الفن الهامس الذي يخرج من قلب الفنان وليس من حنجرته‏.‏
عندما ظهرت قنديل ام هاشم سنه‏1944‏ لم يكن يحيي معروفا الا في دائره محدوده جدا من اصدقائه ومعارفه‏,‏ ولا شك ان من اهم اسباب ذلك انه كان يعمل لفتره طويله في السلك الدبلوماسي امتدت حوالي ربع قرن‏,‏ منذ سنه‏1928‏ تقريبا وحتي سنه‏1954,‏ وقد تنقل خلال هذه الفتره بين جده واستامبول وروما وطرابلس في ليبيا‏,‏ يضاف الي هذا الغياب الطويل عن مصر ما يقوله يحيي حقي عن نفسه من ميل الي الانطواء والعزله‏,‏ وهذا الميل لم يكن صفه شخصيه خاصه به وحده‏,‏ بل كان كما يقول هو نفسه صفه من صفات عائلتي التي كانت تميل الي الانطوائيه لاننا كنا اسره موظفين من اصل تركي وليس لنا املاك الا القليل‏.‏
ولذلك كله كان من الطبيعي ان يجد يحيي حقي صعوبه في نشر كتابه الاول اي روايته القصيره قنديل ام هاشم‏.‏ وهو يشير الي ذلك في حديثه مع الناقد فواد دواره‏,‏ وهو الحديث الشامل المهم المنشور في كتاب دواره عشره ادباء يتحدثون طبعه كتاب الهلال‏,‏ وفي هذا الحديث يقول يحيي حقي صفحه‏109:‏ لقد تعبت جدا في العثور علي ناشر لقصه قنديل ام هاشم والفضل في نشرها في سلسله اقرا العدد‏18‏ في يونيو‏1944‏ يعود الي الاستاذ محمود شاكر‏,‏ الذي قدمها للمشرفين علي هذه السلسله في دار المعارف‏,‏ ثم يعود الي الدكتور طه حسين الذي قراها ورشحها للنشر‏.‏
كان يحيي حقي عند ظهور قنديل ام هاشم في التاسعه والثلاثين من عمره‏,‏ وكان قد اصبح موظفا كبيرا في وزاره الخارجيه‏,‏ ولكنه في الحياه الادبيه كان مجهولا او شبه مجهول‏,‏ وكان من الممكن ان تبقي قنديل ام هاشم في الظل‏,‏ والا يلتفت اليها احد لولا موقف سيد قطب الذي اشرنا اليه‏,‏ فقد كتب عنها بعد ظهورها بقليل مقالا قويا مهما في مجله الرساله ثم نشر هذا المقال بعد ذلك في كتابه النقدي الشهير كتب وشخصيات الطبعه الاولي سنه‏1946‏ صفحه‏190,‏ وفي هذا المقال يكاد سيد قطب يصرخ اعجابا بيحيي حقي وتنبيها للراي الادبي العام بان هناك مولودا فنيا جديدا رائعا اسمه قنديل ام هاشم‏,‏ ويبدا سيد قطب حديثه عن يحيي حقي بمشاغبه ادبيه يحتفي فيها بيحيي حقي ويهاجم محمود تيمور فيقول‏:‏ اوه‏!‏ يحيي حقي‏!‏
اين كانت هذه الغيبه الطويله؟ وفيم هذا الاختفاء العجيب؟ لست اذكر متي قرات له اول اقاصيصه‏.‏ انه عهد طويل‏.‏ حتي لقد نسيته لولا قنديل ام هاشم‏.‏ كل ما اذكره انه من زملاء محمود تيمور الاوائل في بناء الاقصوصه‏.‏
وتيمور ويحيي حقي برهان علي ان النبوغ وحده لا يكفي‏,‏ ولا العبقريه ايضا‏.‏ لابد من الداب والثبات والمثابره ليكون الانسان شيئا مذكورا‏,‏ والا فاين فن تيمور من فن حقي‏!‏ ثم اين مكانه حقي من مكانه تيمور‏.‏ حقي رجل كسول‏.‏ مهمل‏.‏ يستحق اللوم علي تفريطه في موهبته الفذه‏.‏ وتيمور رجل دووب مجتهد‏.‏ يكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ويكتب‏.‏ ولابد ان يصادف في ذلك الكثير الذي يكتبه شيء ذو قيمه‏.‏ ثم يقول سيد قطب‏:‏ في قنديل ام هاشم ثمره حلوه ناضجه عبقريه‏.‏ كانت البذره في عوده الروح وفي عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم‏,‏ وهي هنا الثمره في قنديل ام هاشم‏.‏ الروح المصريه الصميمه العميقه تطل كما هي في اعماقها من قنديل ام هاشم‏.‏ وهي تطل من خلال اللمسات السريعه الرشيقه الموحيه‏,‏ ومعها الحيويه والفن والشاعريه والابداع‏.‏ وفي خلال اثنتين وخمسين صفحه فقط من حجم الجيب يتم تصوير الروح المصريه الكامنه العميقه العريقه‏,‏ ويتم صراع كامل بين روح الشرق والغرب‏,‏ ويتم انتصار الايمان المبصر علي العلم الجاحد‏.‏ ثم يقول سيد قطب عن اسلوب يحيي حقي‏:‏ انه اسلوب فذ مبتكر‏.‏
تلك كانت صرخه الناقد سيد قطب عندما التقي لاول مره بعبقريه الفنان يحيي حقي‏,‏ فاعلن الناقد علي الناس في صوت قوي موثر ظهور فنان جديد في عمل رائع هو قنديل ام هاشم‏,‏ وتلك ولا شك وقفه نقديه تعطينا صوره عن واقع حياتنا الادبيه منذ ستين عاما عندما ظهرت قنديل ام هاشم‏.‏ والوقفه النقديه القويه الجريئه تستحق منا ان نذكرها للتاريخ بكل التقدير‏.‏ اما قنديل ام هاشم نفسها فانها تستحق حديثا اخر‏.‏
ـــــــــــــ
*عن: صحيفة "الأهرام".

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:08 AM
( 17 ) عبد القادر القط وفن الاعتدال

بقلم: رجاء النقاش
......................

منذ أسبوعين رحل عن دنيانا أستاذنا الجليل الدكتور عبد القادر القط وهو في السادسة والثمانين‏,‏ فهو من مواليد‏6191,‏ وقد ظل الدكتور القط حتى أيامه الأخيرة مثالا للحيوية والنشاط مما جعل رحيله نوعا من المفاجأة‏,‏ لأن هذا الرحيل جاء بلا مقدمات ظاهرة‏..‏وعلي العكس من ذلك كان هذا الأستاذ الكبير يوحي دائما بالحياة‏,‏ ولا يوحي أبدا بأنه يخطو خطواته الأخيرة نحو العالم الآخر‏,‏ وقد رحل بعد أسبوع واحد من حصوله علي جائزة مبارك في الأدب تكريما له وتتويجا لكفاحه الأدبي الطويل‏,‏ والدكتور القط صاحب شخصية جميلة لها جوانب متعددة وكلها تدعو إلى احترامه وتقديره والإحساس بالخسارة الإنسانية والأدبية لغيابه‏,‏ فقد كان القط من الشخصيات النادرة التي جمعت بين الثقافة العالية والموهبة الأصيلة والسلوك الإنساني العذب الجميل‏,‏ وتلك معادلة يصعب أن تجتمع بكل هذه القوة في شخص واحد‏.‏
أتيح لي أن أتعرف علي الدكتور القط منذ أوائل سنة‏1952,‏ عندما كنت طالبا بالسنة الاولي بكلية الآداب في جامعة القاهرة‏,‏ وكان هو قد عاد من بعثته الي انجلترا سنة‏1950‏ وأصبح مدرسا في كلية الآداب بجامعة جديدة ناشئة في ذلك الوقت هي جامعة ابراهيم التي تغير اسمها بعد الثورة الي جامعة عين شمس‏,‏ وقد بقي القط يعمل في آداب عين شمس أستاذا بها وعميدا لها ثم استاذا متفرغا حتي رحيله منذ أسبوعين‏.‏
كان القط رجلا في غاية الذكا‏ء,‏ وكانت العلامة الرئيسية لذكائه أنه كان دائما بعيد النظر لاتخدعه ظواهر الأشياء‏,‏ وكان يفهم جوهر الأمور في سرعة شديدة‏,‏فلا يتوقف كثيرا أمام الشكليات‏,‏ ولايخوض معارك يعرف منذ البداية أنها ميئوس منها وأن الجهد فيها ضائع‏,‏ وكان لديه إحساس عميق هاديء بأن الرأي الصائب الصحيح لا خطر عليه وإن لم يعترف به الناس لفترة من الزمان‏,‏ فالصواب عمره طويل‏,‏ ولذلك فإنه لم يتعجل في حياته من أجل الوصول الي شيء‏,‏ ولعل شعار حياته غير المعلن كان هو قل كلمتك‏..‏وامش
تعرض القط في حياته لمواقف عديدة مؤلمة‏,‏ ولكنه لم يصرخ أبدا ولم يتوجع‏,‏ بل لعله في معظم ماقرأته له وسمعته منه لم يتحدث كثيرا عن هذه الآلام ولم يشر اليها‏,‏ وهذا نوع من الذكاء والكبرياء والحكمة‏,‏ فالآلام لاتهدأ الا بالصبر عليها وليس بكثرة الصراخ منها‏,‏ لأن الصراخ يطيل الألم ويضاعفه ويمنع الجراح من الالتئام السريع‏,‏ وكان القط شديد الحرص علي أن ينال حقوقه ويدافع عنها‏,‏ ولكن عندما يضيع منه حق من حقوقه ولاتنفع المطالبة به لسبب من الأسباب‏,‏ فإنه كان يستغني عما ضاع ويواصل المسير‏.‏
سمعت من أحد كبار المسئولين في أوائل الستينيات من القرن الماضي أن القط كان مرشحا ليتولي وزارة التعليم العالي‏,‏ لكن بعض كتاب التقارير السرية سارعوا إلى تقديم أسباب ملفقة تشير إلى أنه لايصلح لهذا المنصب الرفيع‏,‏ ومن بين هذه التقارير ماكان يقول إن القط شاعر يهيم مع الخيال‏,‏ وأنه سوف يغرق الوزارة التي يتولاها بالأوهام والأحلام وكان هذا أخف الاتهامات الموجهة اليه‏,‏ فقد كات هناك اتهامات أخري تقول إنه يساري متطرف يتخفي في شكل ناقد وأستاذ جامعي‏,‏ وكانت تهمة اليسار المتطرف أو الشيوعية كفيلة في تلك الأيام بوقف حال كل من يتعرض لهذا الاتهام وسد الأبواب أمامه ولذلك كان كتاب التقارير السرية يستخدمون هذا الاتهام دائما ـ بالحق والباطل ـ ضد كل الذين يحاربونهم‏,‏ وكان عبد القادر القط ـ باختياره وإرادته ـ بعيدا عن أن تكون له مجموعة أو شلة تدافع عنه وتحميه من التقارير السرية المغرضة‏,‏ ولذلك فإن هذه التقارير فعلت فعلها‏,‏ وتراجع الذين رشحوه للوزارة عن طرح اسمه‏,‏ وعندما سألت القط عن صحة الواقعة قال لي في تواضع شديد إنها صحيحة‏,‏ وذكر بعض الأسماء التي سارعت إلى كتابة التقارير ضده‏,‏ فكانت هذه التقارير افتراء عليه وحرمانا للبلاد من الانتفاع بخبرته وعلمه وإنسانيته وبصيرته الواعية‏,‏ ومازلت أذكر هذه الأسماء جميعا‏,‏ وبعضها من الراحلين وبعضها من الأحياء‏,‏ ولكنني لاأستطيع أن أذكر هذه الأسماء‏,‏ لأن القصة كلها برغم ثقتي بصحتها هي قصة شفوية ولا يوجد عليها دليل مكتوب‏,‏ أو أي دليل آخر يمكن الاعتماد عليه‏,‏ وهذه القصة علي أي حال هي نموذج من بعض ماعاناه القط واحتمله وصبر عليه‏,‏ وفي حياته كثير من المواقف المشابهة‏,‏ وربما كان بعضها أشد وأقسى من هذا الموقف‏,‏ ولكنه دائما كان من الصابرين القادرين على التحمل‏.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأهرام ـ في 30/6/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:09 AM
( 18 ) والباقي.. حمير!

بقلم: رجاء النقاش
.........................

الشاعر الكبير حافظ ابراهيم «1873- 1932» والذي تعودنا أن نطلق عليه اسم «شاعر النيل» كان شخصية مليئة بالحيوية وخفة الظل وكان صاحب موهبة كبيرة تضاف الى موهبته الشعرية وهذه الموهبة الثانية هي موهبة الحديث الممتع الساحر‚ والموهبة الثانية هي التي جعلت من حافظ ابراهيم في عصره نجما من نجوم المجتمع يلتف حوله الناس‚ ويسعى الجميع الى صداقته ويحرصون على ان يكون هذا الشاعر صاحب الظل الخفيف والفكاهة الرائعة قريبا منهم‚
وقد كان الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول «1860- 1927» يحب حافظ ابراهيم ويحرص على صحبته وكان سعد اذا اراد ان يذهب الى بلدته في الريف المصري ليبتعد عن العاصمة وما فيها من ضوضاء ومسؤوليات يحرص أشد الحرص على ان يكون حافظ ابراهيم معه في تلك الايام التي كان يريد فيها الراحة والاسترخاء وكان حافظ ابراهيم ينزل مع سعد زغلول في بيته كواحد من أهله‚
وهذا ايضا إمام المصلحين الدينيين في العصر الحديث وهو الشيخ محمد عبده «1849- 1905» فقد كان يحب حافظ ابراهيم ويحرص على صحبته ولا يقبل لوم اللائمين له على ذلك اذ ان البعض كان يأخذ على الشيخ محمد عبده صحبته لشاعر معروف بروح المرح والدعابة والسخرية وهي كلها امور لا تليق بالشيخ الجليل‚ وكان الشيخ محمد عبده يرد على الذين يلومونه بقوله: «لقد صاحبت حافظ ابراهيم عشر سنين فما أمكنه ان يضلني وما أمكنني ان اهديه» وكان الشيخ يقول ايضا: انني ما صاحبت حافظ ابراهيم لكي أجد فيه شيخا للاسلام أو عالما من علماء الدين»‚ وهكذا كان حافظ ابراهيم موضع الحب والحرص على الاستمتاع بصداقته من كل عظماء عصره من امثال سعد زغلول ومحمد عبده‚
هذه الشخصية المرحة الطريفة الممتعة كانت في اعماقها تميل الى الحزن وقد قال حافظ ابراهيم عن نفسه انه لا يستطيع ان يكتب شعرا الا اذا كان في حالة من «الشجن»‚ و«الشجن» هو الحزن الخفيف الرقيق الذي يملأ نفس صاحبه ولا يشعر به أحد سواه‚ ويقول حافظ «‚‚ اما الصفاء والسرور والفرح والسير في الرياض وعند الماء والشجر فإنها تجعلني غير قادر على كتابة الشعر»‚ وهكذا فإن حافظ الذي يعامل الحياة والناس بالفرح والابتهاج والسخرية كان لا يستطيع ان يكتب بيتا واحدا من الشعر الا وهو حزين‚ فالحزن هو مصدر للفن والشاعرية اما الفرح والسرور فهما وسيلة للاستمتاع بالحياة والاتصال بالناس والمجتمع‚
وكانت لحافظ ابراهيم آراء طريفة في الأدب والحياة ولا بأس ان ننتزع أنفسنا قليلا من الضوضاء السياسية التي نعيش فيها طيلة ساعات اليوم لنقرأ بعض كلمات حافظ ابراهيم ومن ذلك قوله: «ما ذهبت يوما الى مكتبي في دار الكتب ومررت في الطريق بمعارف أو أصدقاء الا وطلبوا مني ان (اقعد) معهم وألا أكترث بعملي‚ ولم اسمع قط في حياتي واحدا يعترض ويقول لي بأني يجب ان اصل الى مكتبي في الوقت المحدد لذلك‚ فهذه واحدة اريد ان اكتب عنها وان ابين للناس ضرورة احترام الاعمال‚ ثم هناك العادة الشائعة الأخري في نسبة الفضل الى واحد دون الآخرين‚ فهذا شاعر كبير والباقي حمير‚ وهذا زعيم في السياسة والباقي خونة‚ وهذا كاتب فذ والباقي مغفلون‚ ومثل هذه الطريقة في التفكير قد انقصت النوابغ في بلادنا فالفضل يسع اثنين وثلاثة وعشرة»!!
هذا بعض ما قاله حافظ ابراهيم سنة 1928 ولعل هذا الكلام الجميل البسيط لا يزال ينطبق على احوالنا حتى الآن.
..........................
*عن صحيفة: الأهرام.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:10 AM
( 19 ) انتحار قديم

بقلم: رجاء النقاش
..........................

فكرة الانتحار بين السياسيين ورجال الحكم والسلطان معروفة منذ قديم الزمان والعديد من قادة الامبراطورية الرومانية التي كانت في عصرها أهم دولة في العالم انتحروا وذلك بعد ان تعرضوا للهزيمة العسكرية بالتحديد‚ فهذه الهزيمة تعني انهم سوف يفقدون كرامتهم وسوف يتعرضون للامتهان والاساءة اليهم‚ والافضل من حياة على هذا المستوى من الهوان هو ان يموتوا وان يكون موتهم بأيديهم مما يثبت للجميع انهم شجعان وان كرامتهم هي عندهم فوق الحياة نفسها وأشهر المنتحرين في التاريخ الروماني هذا انطونيو» الذي انتحر في الاسكندرية سنة 30 قبل الميلاد وذلك بعد هزيمته في معركة «اكتيوم» البحرية سنة 31 قبل الميلاد‚ امام منافسه وغريمة «اكتافيوس» الذي انفرد بحكم الامبراطورية الرومانية بعد الخلاص من انطونيو وأصبح اسمه «اغسطس» اي العظيم وكان فعلا من اعظم اباطرة الرومان ومن أعظم الحكام في التاريخ‚ وقد حكم الامبراطورية الرومانية وحده من سنة 31 قبل الميلاد الى سنة 14 ميلادية والاسم الذي يحمله شهر اغسطس في التقويم الميلادي مستمد من اسم هذا الامبراطور بقصد تخليد ذكراه على مر العصور‚
والانتحار كما هو معروف يعتبر من تقاليد الشرف والشجاعة عند اليابانيين وكلمة «هاراكيري» اليابانية قد دخلت التاريخ ومعناها الانتحار بأن يطعن الانسان نفسه بخنجره او سيفه الصغير ولليابانيين في هذا الانتحار قصص وآراء وأفكار بالغة الغرابة والطرافة‚ إذ ان هذا «الهاراكيري» هو تقليد من تقاليد الفروسية والاخلاق وهو عند اليابانيين القدماء يكاد يكون واجبا دينيا‚
وحديث الانتحار الذي تجدد بمناسبة انتحار غازي كنعان وزير الداخلية السوري يذكرنا بحادثة انتحار عربية متهمة وقعت سنة 1929 في العراق وأقصد بها انتحار السياسي العراقي المعروف عبدالمحسن السعدون «1879-1929» وقد كان عند انتحاره رئيسا لوزراء العراق ووزيرا للخارجية كما كان في الخمسين من عمره وقد حدث هذا الانتحار المثير في 13 نوفمبر 1929‚
يقول الباحث العراقي المؤرخ «مير صبري» في كتابه الهام عن «اعلام السياسة في العراق الحديث» ان «عبدالمحسن السعدون جمع في شخصه أطيب خصال البداوة والحضارة فقد ورث عن آبائه شجاعة البدو وصراحتهم وصفات الزعامة التي تفرض نفهسا فرضا واكتسب من تجاربه الكثيرة سعة النظر ودهاء السياسة التي تقرن الشدة باللين‚ وكان واسع الأفق متساحما بعيدا عن التعصب كذلك كان السعدون رجل دولة ينظر الى الامور بمنظار الواقع والمصلحة العامة فلما ضاقت به السبل والتوت الطرق واشتدت الضغائن والاحقاد لم يجد وسيلة سوى الموت للتخلص من العبء الضخم الذي حمله راغبا مختارا»‚ ويقول عنه مثقف عراقي آخر كان على صلة وثيقة به هو يعقوب سركيس: «ان عبدالمحسن السعدون لم يكن يفرق بين قوميات العراق وطوائفه وأكثريته وأقليته» وقد قال السعدون نفسه في خطاب له امام مجلس النواب العراقي سنة 1926 «لا سبيل للبلاد الى الحياة ما لم تتمتع جميع عناصر الدولة بحقوقها ويتم معاملة جميع عناصر الدولة بالعدل»‚
ولكن لماذا ينتحر مثل هذا الرجل وهو رئيس للوزراء اي انه كان في قمة السلطة كما ان صفاته التي اجمع عليها الذين عرفوه كانت كلها صفات ايجابية طيبة لا يوحي شيء منها بأنه يمكن ان يفكر في الانتحار او يقدم عليه؟ انها السياسة ومتاعبها وحروبها المعلنة وغير المعلنة‚ وقد أشار السعدون نفسه في رسالته التي كتبها قبل انتحاره الى ما يفسر هذا الانتحار بعض التفسير حيث يقول «سئمت هذه الحياة التي لم اجد فيها لذة وذوقا وشرفا‚ الأمة تنتظر الخدمة‚ الانجليز لا يوافقون‚ ليس لي سند‚ العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كل البعد عن الاستقلال وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الشرف امثالي يظنون انني خائن للوطن وعبد للانجليز‚ ما اعظم هذه المصيبة انا الفدائي الاشد اخلاصا لوطني قد كابدت انواع الاحتقار وتحملت المذلة في سبيل هذه البقعة المباركة من الارض التي عاش فيها أبائي وأجدادي مرفهين!! حقا السياسة غابة والعواطف الطيبة المثالية فيها قد تهلك صاحبها وتقضي عليه.
.......................
*عن صحيفة: الأهرام.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:11 AM
( 20 ) ناقد لبناني يستغيث من شعر العقاد‏!‏

بقلم‏:‏ رجاء النقاش
..........................

قام طه حسين بمبايعة العقاد بإمارة الشعر سنة‏1934,‏ وذلك بعد سنتين من وفاة أمير الشعراء الأول والأخير أحمد شوقي سنة‏1932,‏ وكانت مبايعة طه حسين بلا جدوي‏,‏ لأن أحدا لم يتبعه في اعطاء تاج الإمارة للعقاد‏,‏ ذلك لأن العقاد العظيم عند الناس كان هو العقاد المفكر صاحب العقل الكبير والثقافة الواسعة والقدرة الفذة علي التحليل‏,‏ أما العقاد الشاعر فلم يكن موضع إجماع‏,‏ بل كانت نسبة قليلة محدودة من قراء الشعر ونقاده هي التي تري في شعر العقاد ما رآه طه حسين من الجمال والقوة والتميز علي غيره من شعراء عصره مما يجعله في رأي هذه الأقلية جديرا‏,‏ بأن يكون أميرا علي الشعر والشعراء‏,‏ وإن كانت هذه الإمارة في واقع الأمر بلا عرش ولا مال ولا جاه‏.‏ والذي أعطي لإمارة الشعر هيبتها وجلالها المادي في أيام شوقي‏,‏ أن شوقي كان أميرا أرستقراطيا ثريا وجيها في الحياة قبل أن يكون كذلك بين الشعراء‏.‏ أما العقاد المكافح القادم من أسوان فقد كان فقيرا‏,‏ وسوف يبقي فقيرا طيلة حياته ولو جعلوه أميرا علي الشعراء والناثرين‏,‏ أو جعلوه‏..‏ محافظا لأسوان‏!!‏
أشرت في مقال سابق الي أن مبايعة طه حسين للعقاد بالإمارة كانت عملا من أعمال السياسة أكثر منها عملا من أعمال الأدب والنقد‏,‏ وفي ذلك العصر‏,‏ أي في ثلاثينات القرن الماضي كانت عين السياسة والسياسيين مركزة علي الأدب والأدباء‏,‏ فالقصر الملكي يريد أن يكون له أدباؤه وشعراؤه‏,‏ وكان هناك رجل في القصر الملكي اسمه زكي الابراشي باشا كان وكيلا للديوان ـ فيما أذكر ـ وقد جعل من أهم وظائفه السياسية أن يكسب الي صف الملك فؤاد أدباء وشعراء لهم وزن وتأثير‏,‏ وكانت له ميزانية غير قليلة لشراء من يستطيع من الأدباء والفنانين‏.‏
أما الأحزاب السياسية فقد كانت تتقاتل فيما بينها لتحظي بين صفوفها بأديب شاعر تتوجه من خلاله الي الجماهير وتطلب علي يديه الرضا والقبول‏.‏ وتلك قصة جديرة بأن تجد من يرويها في يوم من الأيام‏,‏ لما فيها من متعة‏,‏ ولما تكشفه من صفحات وطنية وسياسية كثيرة لاتزال غائبة عن العيون وعن ذاكرة الناس‏.‏
في عام‏1934,‏ وفي هذا المناخ الخاص الذي كانت فيه القوي السياسية تعتبر الأدباء والشعراء أداة بالغة الأهمية في كسب الرأي العام والتأثير عليه‏,‏ التقي طه حسين مع العقاد في حزب الوفد تحت قيادة الزعيم الوطني مصطفي النحاس‏.‏ والعقاد وفدي قديم منذ انشاء الحزب علي يد سعد زغلول في ثورة‏1919,‏ أما طه حسين فقد كان وفديا حديث العهد بالوفد‏,‏ وقد جاء الي الوفد من صفوف الأحرار الدستوريين حوالي سنة‏1930,‏ ولابد أن طه حسن قد أدرك بعد اقترابه من الوفد أن الوفد كان يحب أن يرفع شأن العقاد‏,‏ فالعقاد كان في ذلك الوقت هو نجم نجوم الكتاب والأدباء والصحفيين الوفديين‏,‏ وكان قد دخل السجن سنة‏1930‏ بتهمة العيب في الذات الملكية وكانت التهمة الحقيقية هي دفاع العقاد في شجاعة هائلة عن الدستور وحرية الوطن والمواطنين‏,‏ مع هجومه بلا تحفظ علي الاستبداد والمستبدين من أنصار الملك وأعوان الانجليز‏.‏
ومن أطرف الذين وقفوا ضد شعر العقاد ناقد لبناني كبير هو مارون عبود‏1886‏ ـ‏1962‏ في كتاب شهير له عنوانه علي المحك علي وزن مفك ففي هذا الكتاب دراسة واسعة لشعر العقاد‏,‏ يخرج فيها الناقد اللبناني الكبير بالرفض لشعر العقاد‏.‏
وهذا نموذج مما كتبه مارون عبود عن العقاد‏,‏ حيث يقف هذا الناقد علي الطرف المقابل للمتحمسين لشعر العقاد‏.‏ يقول مارون عبود‏:‏ طالعت دواوين ثلاثة للعقاد أنفق علي تحبيرها برميل حبر وقنطارا من الورق وغابة من الأقلام‏.‏ تحسبه سمسارا يصدر شعرا في دواوين وبضاعته أشكال وألوان‏,‏ فكأنه دكان قرية فيه جميع حوائج البيت‏,‏ وليس الذنب ذنب الأستاذ‏,‏ فهو عارف بأصول الفن‏,‏ ولكن الكلام يستعصي عليه‏,‏ نفسه تطلب ومعدته لا تقطع‏,‏ فيقعد ملوما محسورا‏,‏ خذ هذا العنوان الرائع عيد ميلاد في الجحيم‏.‏ فماذا تري في هذه القصيدة وهي خير ما في ديوانه وحي الأربعين؟ بيانا دون الوسط‏,‏ وشعرا أجش‏,‏ تغلب عليه صنعة النثر وصبغته‏,‏ وعلي ضوء قوله إنما الشاعر يشعر ـ بفتح الياء وضم العين ويشعر ـ بضم الياء وكسر العين رحت أفتش في جحيمه ولا نور يهديني‏,‏ فما وجدت خيالا يرضيني‏,‏ ولا شعورا يسليني‏,‏ فعدت بخيبة أردد‏:‏ مالي لا أري الهدهد‏.!!.‏
وهنا يشير الناقد مارون عبود الي الآية القرآنية الكريمة من سورة النمل وهي علي لسان سيدنا سليمان ونصها‏:‏ وتفقد الطير فقال مالي لا أري الهدهد‏,‏ أم كان من الغائبين‏.‏
والناقد يريد القول هنا أن الفن كان غائبا في القصيدة كما غاب الهدهد عن طيور سليمان‏.‏
ويواصل مارون عبود تعليقه علي القصيدة فيقول‏:‏ القصيدة غراء فرعاء أي طويلة ممشوقة مصقول ترائبها أي ناعمة الصدر ولكنها مقعدة تخلو من الاهتزازات والنبرات والصدي البعيد‏,‏ أنكون في جهنم ونبرد؟ أنحضر عيدا‏..‏ ونحزن؟ ثم نقول‏:‏ إن الشاعر من يشعر ويشعر؟‏.‏
وتبلغ السخرية في نقد مارون عبود للعقاد حدا عنيفا عندما يعلق علي أبيات أخري له فيقول‏:‏ ماذا نقول؟
أما في مصر عاقل ينصح هذا الرجل؟ المروءة ياناس‏!‏
أنقذوا أخاكم‏,‏ وكفوا عنا شعروركم
والشعرور تصغير للشاعر‏.‏
أما الأبيات التي علق عليها مارون عبود بكل هذه السخرية‏,‏ وهذه الاستغاثة الط ريفة وإن كانت قاسية‏,‏ فهي أبيات من قصيدة للعقاد في ديوانه عابر سبيل وعنوان القصيدة هو سلع الدكاكين في يوم البطالة‏,‏ والمقصود بيوم البطالة ـ كما هو واضح ـ يوم العطلة‏,‏ وقد كتب العقاد مقدمة نثرية للقصيدة يقول فيها‏:‏
بشيء من التخيل يستطيع الانسان أن يسمع سلع الدكاكين في أيام البطالة أو العطلة تشكو الحبس والركود‏,‏ وتود هذه السلع أن تبرز لتعرض علي الناس وتباع ولا تفضل الراحة والامان علي مايصيبها من البلي والتمزيق بعد انتقالها الي الشراة المشترين‏,‏ كما أن الجنين في عالم الغيب لا يفضل أمان الغيب علي متاعب الحياة وآلامها‏,‏ ولذلك تظهر الأجنة جمع جنين ألوفا بعد ألوف الي هذا المعترك الأليم‏.‏
ثم تأتي بعد ذلك الأبيات التي علق عليها الناقد اللبناني مارون عبود تعليقه الساخر المستغيث‏,‏ حيث يقول العقاد في قصيدته‏:‏
مقفرات مغلقات محكمات
كل أبواب الدكاكين علي كل الجهات
تركوها‏...‏ أهملوها
يوم عيد عيدوه ومضوا في الخلوات
البدار‏...‏ ما لنا اليوم فرار
أي صوت ذاك يدعو الناس‏...‏ من خلف جدار
أدركوها‏...‏ أطلقوها
ذاك صوت السلع المحبوس‏...‏ في الظلمة ثار
وليس عندي ما يدل علي أن هناك أي خصومة شخصية بين الناقد اللبناني مارون عبود وبين العقاد‏,‏ بل ليس عندي ما يقول بأنهما قد التقيا في أي مناسبة‏,‏ ولذلك فأنا أظن أن رأي مارون في شعر العقاد هو رأي أدبي قائم علي ذوق الناقد وطريقة فهمه للشعر‏.‏ أما ماجاء في نقد مارون عبود من سخرية قاسية فتلك صفة خاصة تتميز بها كل كتابات مارون عبود‏,‏ سواء كانت كتابته عن العقاد أو عن غيره‏.‏
أنا لا أستطيع أن أسخر من العقاد‏,‏ فالعقاد عندي له إجلال ومهابة ومقام عظيم‏,‏ وهو أحد الكبار الذين حملوا الأنوار الي العقل العربي في القرن العشرين‏,‏ والذين أناروا كما أنار العقاد‏..‏ كيف نقف منهم موقف الساخرين؟‏!.‏
لكني مع ذلك وبكل تواضع أميل من الناحية الموضوعية الي رأي مارون عبود في قصيدة العقاد‏.‏ فالقصيدة هي فكرة جافة خالية من العاطفة وفيها صنعة‏,‏ ولكن ليس فيها فن‏,‏ والصنعة هي التعبير عن المهارة‏,‏ أما الفن فهو التعبير عن الشعور ونبضات القلب والتجربة الانسانية‏.‏
.......................
*عن صحيفة: الأهرام.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:12 AM
( 21 ) بين شاعر النيل ونساء مصر

بقلم: رجاء النقاش
.........................

يتولي صديقي الأديب الطبيب العالم الدكتور عمرو أبو ثريا منصب المدير الطبي للمركز الطبي العالمي القائم في الكيلو‏42‏ من طريق الاسماعيلية ـ القاهرة الصحراوي‏,‏ وهذا المركز هو في الحقيقة صرح طبي رائع بأطبائه الممتازين وبقية العاملين فيه من اداريين وفنيين ومجموعات تمريض وأجهزة طبية حديثة متقدمة‏,‏ وهذا الفريق الكبير كله يعمل تحت قيادة الطبيب الإنسان اللواء رضا جوهر حيث يقود العمل في هذه المؤسسة الطبية الكبري بحكمة وحزم وعناية ومتابعة لكل التفاصيل‏,‏ فبارك الله فيه وفي كل العاملين معه‏.‏ والحقيقة أن هذا المركز الطبي العظيم يستحق ان تفخر به مصر‏,‏ وأظن ان من الواجب ان نحرص علي هذا الصرح الطبي كل الحرص‏,‏ وأن نمد له يد المساعدة والمساندة للابقاء عليه في درجة الكفاءة العالية التي يعمل بها الآن‏,‏ وقد كان من حسن حظي منذ اصابتي بالمرض قبل عامين أن يكون علاجي في هذا الصرح الطبي الكبير‏,‏ ومن خلال علاجي الذي لايزال مستمرا حتي الآن في هذا المركز عرفت عنه وعن العاملين فيه الكثير‏,‏ ولعلي أعود في مناسبة قريبة للحديث عن هذا المركز الطبي العظيم‏.‏
أعود بعد ذلك إلي صديقي الدكتور عمرو أبوثريا‏.‏ فهو إلي جانب علمه الطبي الواسع وأخلاقه الكريمة الطيبة معروف بالاهتمام العجيب بالأدب والثقافة‏,‏ وهو قارئ لم أعرف له مثيلا في متابعته الاعمال الأدبية الجديدة والقضايا الثقافية المختلفة‏,‏ وفي حديث أخير بينه وبيني تساءل هذا الصديق الكريم عن سبب استخدام شاعر النيل حافظ إبراهيم لكلمة الغواني في قصيدة له شهيرة كتبها عن أول مظاهرة قامت بها النساء المصريات في ثورة‏1919,‏ وبالتحديد يوم‏16‏ مارس من عام الثورة‏,‏ وقد جاءت كلمة الغواني في أول بيت من أبيات قصيدة حافظ ابراهيم حيث يقول‏:‏
خرج الغواني يحتججن .:. ورحت أرقب جمعهنه
وكلمة يحتججن هي من الاحتجاج ومعناها واضح‏,‏ فالنساء في هذه المظاهرة ثائرات‏,‏ والثورة هي احتجاج علي الأوضاع الخاطئة والظالمة‏,‏ أما كلمة الغواني الواردة في قصيدة حافظ ابراهيم فإنها الآن كلمة سيئة السمعة‏,‏ وهي تشير إلي المرأة اللعوب التي لاتقيم وزنا للأخلاق ولاترتبط بأي شيء تحرص المرأة الشريفة المحترمة علي الارتباط به‏.‏
كيف جاز اذن لشاعر كبير عارف بأسرار اللغة العربية مثل حافظ إبراهيم أن يستخدم كلمة غواني ومفردها غانية في وصف مجموعة من أشرف وأكرم نساء مصر؟ ان موضوع القصيدة هو أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر‏,‏ وهذا الموضوع كان يفرض علي حافظ ابراهيم وهو شاعر الوطنية ان ينظر إلي هؤلاء النساء نظرة احترام واجلال وتقدير‏,‏ فأين الحقيقة في هذه القضية؟ الحقيقة هي ان حافظ إبراهيم كان علي صواب في استخدامه لكلمة الغواني وذلك لأن المعني الأصلي الذي تعترف به قواميس اللغة العربية لهذه الكلمة يختلف تماما عن معناها في استخدام جيلنا المعاصر لها‏,‏ وقد استخدم الشعر العربي قديما وحديثا كلمة الغواني بمعناها الأصلي المحترم‏,‏ ومن ذلك قول شوقي في قصيدة مشهورة له‏:‏
خدعوها بقولهم حسناء .:. والغواني يغرهن الثناء
وكلمة الغواني في قصيدة حافظ وقصيدة شوقي وفي أي نماذج أدبية مشابهة تدل علي المرأة التي لها عز وكرامة‏,‏ وهي المرأة المصانة المحترمة البعيدة كل البعد عن أي صورة سيئة للنساء‏,‏ وهذا المعني هو المعني الأصلي الصحيح للكلمة‏,‏ وقد ظلت كلمة الغواني كلمة محترمة حتي أوائل القرن العشرين‏,‏ أي في جيل شوقي وحافظ وأما في الأجيال التالية فقد بدأت كلمة الغواني تنزل عن عرشها‏,‏ وأصبح الاستخدام العام الشائع لها هومعناها السيئ‏,‏ وليس معناها الأصيل في اللغة العربية‏,‏ ولاشك أننا في استخدامنا لكلمة الغواني بمعناها السيئ مخطئون‏,‏ علي الأقل من الناحية اللغوية الخالصة فالقواميس العربية تعطي للكلمة معني جميلا آخر‏,‏ ومن هذه القواميس ذلك القاموس الوافي البديع الذي أصدره في أربعة أجزاء الأديب العربي الليبي الكبير خليفة محمد التليسي وأسماه باسم النفيس من كنوز القواميس فماذا يقول لنا النفيس عن كلمة الغواني ومفردها غانية؟
في الجزء الثالث من النفيس ـ صفحة‏1669‏ نقرأ مايلي‏:‏ الغانية هي التي غنيت بحسنها وجمالها عن الحلي‏,‏ وقيل هي الشابة العفيفة كان لها زوج أو لم يكن‏,‏ وكل امرأة هي غانية وجمعها غواني ويمكن جمعها علي غانيات أيضا‏.‏
فكلمة الغواني إذن هي كلمة محترمة ولاذنب لها في انحرافنا بها واساءتنا إليها واستخدامنا لها فيما لاتعنيه‏.‏
يقودنا هذا الحديث اللغوي إلي وقفة قصيرة أمام قصيدة حافظ ابراهيم في مظاهرة النساء المصريات‏,‏ فقد ظلت هذه القصيدة ضمن الأدب السري الممنوع نشره في الصحف أو ترديده علنا في أي مجال‏,‏ وذلك بأمر الاحتلال الانجليزي‏,‏ ولكن أحرار ثورة‏1919‏ طبعوها في منشورات‏,‏ ووزعوها سرا علي الجماهير‏,‏ فنالت القصيدة شهرة واسعة برغم أنها ممنوعة بأوامر عسكرية‏,‏ وبذلك طارت القصيدة من قفص الاحتلال واحتمت بأحضان الناس‏,‏ وقد حملت القصيدة تحية جميلة وتأييدا حارا للنساء المتظاهرات‏,‏ كما تضمنت القصيدة هجوما عنيفا علي الاحتلال وتنديدا قويا به‏,‏ وقد ظلت هذه القصيدة ممنوعة من النشر في الصحف لمدة عشر سنوات متواصلة‏,‏ وبقيت منشورا ثوريا ينطلق من يد إلي يد حتي سنة‏1929‏ حين استطاع حافظ أن ينشرها في الصحف لأول مرة‏,‏ وكان ذلك بالتحديد في‏12‏ مارس‏1929,‏ رغم أنها مكتوبة سنة‏1919,‏ وبعض القصائد لها تاريخ شريف خاص بها‏,‏ ولاشك ان قصيدة حافظ هي في مقدمة مثل هذه القصائد التي كانت تحارب مع الناس في معارك الحياة أوالموت ضد الاحتلال‏.‏
والقصيدة التي كتبها حافظ هي قصيدة سهلة جميلة مليئة بالموسيقي العذبة والصور الحية‏,‏ ولاشك ان حافظ إبراهيم كان يضع في اعتباره‏,‏ وهو يكتبها ان تكون القصيدة سهلة وقادرة علي الانتقال بين الناس دون صعوبة أو تعقيد‏,‏ فهي قصيدة جماهير وليست قصيدة صالون وفي هذه القصيدة يقول حافظ‏:‏
خرج الغواني يحتججن‏...‏ ورحت أرقب جمعهنه
فإذا بهن تخذن من‏...‏ سود الثياب شعارهنه
فطلعن مثل كواكب‏...‏ يسطعن في وسط الدجنه
وأخذن يجتزن الطريق‏...‏ ودار سعد قصدهنه
يمشين في كنف الوقار‏...‏ وقد أبن شعورهنه
وإذا بجيش مقبل‏...‏ والخيل مطلقة الأعنه
واذا الجنود سيوفها‏...‏ قد صوبت لنحورهنه
وينتهي حافظ ابراهيم بالسخرية من الجيش الانجليزي الذي تصدي بعنف شديد للمظاهرة النسائية فيقول‏:‏
فليهنأ الجيش الفخور ... بنصره وبكسرهنه
و قد ورد في الأبيات السابقة كلمة دجنة ومعناها الظلام‏,‏ ووردت عبارة دار سعد والمقصود هو سعد زغلول زعيم الثورة‏,‏ وكان المصريون يسمون دار سعد باسم بيت الأمة وقد ورد في القصيدة‏,‏ أيضا قول الشاعر وقد أبن شعورهنه والمقصود هنا ليس شعر الرأس ولكن المقصود هو الشعور والعواطف الوطنية‏.‏
بقي أن نشير اشارة سريعة إلي هذه المظاهرة الوطنية النسائية الأولي في تاريخ الحركة الوطنية المصرية‏,‏ ويكفي هنا ان نقرأ هذا المشهد المؤثر من مشاهد هذه المظاهرة التاريخية كما يقدمه لنا المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي في كتابه ثورة‏1919‏ ـ صفحة‏211‏
تقدمت واحدة من المتظاهرات وهي تحمل العلم إلي جندي انجليزي كان قد وجه بندقيته اليها وإلي من معها‏,‏ وقالت بالانجليزية‏,‏ نحن لانهاب الموت أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا في مصر مس كافل ثانية‏,‏ و مس كافل التي تشير اليها المتظاهرة الشجاعة هي ممرضة انجليزية كانت تعمل في صفوف المقاومة ضد الألمان في الحرب العالمية الأولي‏,‏ وقد وقعت في الأسر‏,‏ فأعدمها الالمان بالرصاص‏,‏ وكان لإعدامها ضجة كبري في العالم‏.‏
.................................
*الأهرام ـ في 1/4/2007م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:13 AM
( 22 ) في وداع أستاذ عظيم

بقلم‏:‏ رجاء النقاش
......................

في يوم الخميس العاشر من مارس الحالي توفي إلي رحمة الله أستاذ الأساتذة وسيد علماء الأدب واللغة العربية في العصر الحالي الدكتور شوقي ضيف‏1910‏ ــ‏2005,‏ وجاء رحيل هذا الأستاذ العظيم بعد أن ترك وراءه مجموعة فريدة من الدراسات الخصبة المتنوعة‏,‏ وقد أقترب عدد هذه الدراسات من الخمسين‏,‏ ولكن أهميتها ليست في عددها الكبير‏,‏ وإنما تعود هذه الأهمية إلي القيمة العلمية التي تتميز بها هذه الدراسات‏,‏ فالدكتور شوقي ضيف في دراساته جميعا هو مثل أعلي للعالم المخلص الأمين الذي لايدخر جهدا في البحث عن الحقائق الصحيحة الدقيقة أينما كانت‏,‏ وهو واحد من كبار العلماء الذين يفرقون بين المعلومات والرأي والتحليل‏,‏ ولذلك فإن الذين قد يختلفون مع الدكتور شوقي ضيف في آرائه وتحليلاته لايفوتهم أن ينتفعوا أعظم الانتفاع بما يقدمه من معلومات‏,‏ وقد وفق الله هذا الأستاذ العظيم إلي أن يكتب كل دراساته بأسلوب واضح مشرق لاتعقيد فيه‏,‏ بحيث يلتقي المتخصصون وغير المتخصصين علي محبته والاستمتاع به والانتفاع بما يقدمه من أفكار ومعلومات‏.‏
من بين كتب الدكتور شوقي ضيف كتاب عنوانه مع العقاد انتهي من كتابته في أول يونيو سنة‏1964,‏ أي بعد وفاة العقاد في‏12‏ مارس‏1964‏ بما لا يزيد علي شهرين ونصف الشهر‏,‏ وهذا الكتاب هو من أجمل كتب شوقي ضيف وأكثرها تركيزا ومتابعة علمية لحياة العقاد وأدبه‏,‏ وفي هذا الكتاب معني مهم وكبير‏,‏ فشوقي ضيف هو من التلاميذ المقربين جدا إلي طه حسين‏,‏ وقد كان بين العقاد وطه حسين مايشبه المنافسة حول المكانة والقيمة والتأثير‏,‏ وهي منافسة لم تكن ظاهرة‏,‏ ولم تتحول إلي حرب أدبية معلنة‏,‏ ولكنها كانت منافسة موجودة‏,‏ وكانت الحياة الثقافية تشعر بها شعورا واضحا‏,‏ في الجامعة وخارج الجامعة‏.‏ وبرغم هذه المنافسة‏,‏ فإن موضوعية شوقي ضيف وارتفاعه التام فوق أي تعصب أو حزبية أدبية دفعه إلي أن يكون أول من يقدم دراسة شاملة عن العقاد بعد رحيله‏,‏ وهذه الدراسة لا تزال حتي اليوم من أفضل ماظهر عن العقاد منذ رحيله قبل أربعين سنة حتي الآن‏,‏ وهكذا يرتفع شوقي ضيف في دراسته للعقاد عن أي خصومات ظاهرة أو خفية‏,‏ ويهتم بالحقيقة وحدها شأن العالم المخلص الأمين صاحب الضمير الحي الذي لايعرف الظلم للآخرين ولايستسلم أبدا للأهواء الشخصية‏.‏
وفي السطور الأولي من كتاب مع العقاد يقول شوقي ضيف‏:‏ لم يكتسب العقاد مكانته الأدبية الرفيعة من جاه ولا من وظيفة ولامن لقب علمي‏,‏ وإنما اكتسبها بكفاحه المتصل العنيف الذي يعد به أعجوبة من أعاجيب عصرنا النادرة‏.‏
ولو أننا درسنا حياة شوقي ضيف وجهاده الأدبي والعلمي دراسة دقيقة لوجدنا أن ماكتبه عن العقاد في السطور السابقة يكاد ينطبق عليه نفسه‏,‏ فقد اكتسب شوقي ضيف مكانته العلمية والأدبية بكفاحه المتصل الذي لم يتوقف ولم يهدأ ولم يلتفت فيه إلي شيء آخر خلال سبعين سنة متصلة‏,‏ وفي كتابه الجميل الذي جعل عنوانه معي‏,‏ يروي لنا شوقي ضيف قصة حياته ويصل في هذا الكتاب إلي قمة الوعي والموضوعية‏,‏ فنجد أن قصة حياته الشخصية مرتبطة أشد الارتباط بتاريخ الحركة الوطنية في مصر‏,‏ خاصة في مرحلة ثورة‏1919‏ ومابعدها‏,‏
وهذه الحياة الشخصية مرتبطة كذلك أشد الارتباط بتاريخ التطور الثقافي في مصر في نفس الفترة‏,‏ فالحياة الشخصية والحياة الوطنية والتطور الثقافي ترتبط كلها ببعضها البعض ارتباطا وثيقا سهلا طبيعيا ليس فيه أي افتعال‏,‏ وهذا دليل حي قوي علي أن شوقي ضيف كان ينظر إلي نفسه وإلي عمله وتطوره الشخصي علي أنه جزء من إطار كبير يضم تاريخنا الوطني وتطورنا الثقافي في الوقت نفسه‏,‏ ولا أكاد أعرف بين كتب السيرة الذاتية المهمة في تاريخنا الأدبي المعاصر من كان حريصا كل هذا الحرص علي الجمع بين العناصر الثلاثة‏,‏ أي الشخص والوطن والثقافة‏,‏ كما فعل شوقي ضيف في كتابه معي‏,‏ وفي هذا كله دليل علي الموضوعية الشديدة‏,‏ وفيه دليل علي التواضع وعلي آصالة الجانب الانساني في شخصية شوقي ضيف‏,‏ فهو لم يكن في سيرته الذاتية يقدم صورته الشخصية الخاصة علي أنها صورة للنبوغ الفردي‏,‏ بقدر مايقدمها للناس أجمعين علي أن هذه الشخصية كانت ثمرة للحركة الوطنية والتطور الثقافي في مصر‏.‏
ومن خلال هذه السيرة الذاتية لشوقي ضيف كما صورها لنا هذا الأستاذ العظيم في كتابه معي سوف نجد صورة واضحة بديعة لعالم مجتهد مثابر صبور علي البحث الجاد والدراسة العميقة منذ فجر شبابه‏,‏ فهو رجل لم يلتفت أبدا إلي المناصب الإدارية في الجامعة أو خارج الجامعة‏,‏ وأعلي منصب وصل إليه داخل الجامعة هو منصب رئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة‏,‏ أما أعلي منصب وصل إليه خارج الجامعة فهو المنصب الذي وصل إليه بالانتخاب‏,‏ وأعني به منصب رئيس مجمع اللغة العربية‏,‏ وكان شوقي ضيف ـ لو أراد ـ جديرا بأن يصل في الجامعة وخارج الجامعة إلي أعلي المناصب‏,‏ فزملاؤه بل وتلاميذه قد أصبحوا عمداء للكليات ورؤساء للجامعات‏,‏ بل وصل البعض منهم إلي مناصب الوزارة‏,‏ لكن شوقي ضيف لم يسع إلي شيء من ذلك‏,‏ واختار دون تردد أن يكون عالما وباحثا وأستاذا للأدب في الجامعة‏,‏ وقد ظل وفيا لذلك لايحيد عنه‏,‏ ولايرضي لنفسه أن يخرجه أحد عن هذا التركيز التام علي العمل العلمي والاخلاص له والتفاني فيه‏,‏
وبرغم مانجده في كتابه معي من وعي سياسي كبير ومتابعة دقيقة لتطور الحركة الوطنية في مصر‏,‏ وبرغم اقتناعه وميله الواضح إلي حزب الوفد القديم إلا أن شوقي ضيف لم ينضم إلي حزب‏,‏ ولم يشتغل بالسياسة العملية‏,‏ ولم يدخل إلي ميدانها الصاخب المليء بالصراعات‏,‏ ولعل ذلك يعود إلي طبيعته الهادئة ونفسيته التي لاتطيق الدخول في معارك وحروب مختلفة‏,‏ فقد كان يريد أن يتفرع للعلم وحده‏,‏ ولايريد أن ينصرف عن ذلك تحت أي نوع من الإغراء‏,‏ خاصة إغراء السياسة العملية التي هي في العالم الثالث علي الخصوص مليئة بالأزمات والصعوبات والتقلبات‏,‏ ونحن مازلنا جزءا من هذا العالم الثالث والسياسة العملية هي عبء شديد وثقيل علي العلم والعلماء‏,‏ وكثيرا ماتعرض العلماء الذين يسمحون لأنفسهم بأن يشتغلوا بالسياسة العملية إلي مشاكل تعصف بهم وتربكهم وتحرمهم من التفرغ للبحث والدراسة‏,‏ ولعل هذا الإخلاص الشديد للعلم‏,‏ مع عدم الاستجابة لأي إغراء‏,‏ أو التطلع لأي شيء آخر بعيد عن العمل العلمي‏,‏ هو الذي أعطي لشوقي ضيف ما كان معروفا عنه من هدوء ونفس راضية وحياة خالية من أي اضطرابات أو ارتباكات‏.‏
ولقد بدأ شوقي ضيف حياته العلمية والعملية معا نحو سنة‏1937‏ حينما اختاره طه حسين ليكون معيدا في كلية الآداب في جامعة القاهرة التي كان أسمها في ذلك الوقت جامعة فؤاد الأول وقد أنهي شوقي ضيف حياته وهو حريص علي موقعه كأستاذ في نفس الجامعة‏,‏ إذ أنه ـ فيما أعلم ـ لم يتخل عن عمله الجامعي حتي بعد أن أصبح رئيسا للمجمع اللغوي‏,‏ ومعني ذلك أن شوقي ضيف قد قضي نحو سبعين سنة متصلة في موقعه العلمي دون أن يلتفت إلي شيء سواه‏,‏ وعندما كان يضطر إلي الابتعاد عن الجامعة لسبب من الأسباب فانه كان لايتوقف عن عمله العلمي الذي أخلص له وأعطاه حياته كلها‏,‏ وهذا هو سر من أكبر أسرار تفوق هذا الأستاذ العظيم وهو الذي يفسر لنا انتاجه الغزير والمنظم والمهم الذي لامثيل له في المكتبة العربية الحديثة‏,‏ فكتابات شوقي ضيف هي مرجع أساسي متكامل موثوق به لتاريخ الأدب العربي في عصوره المختلفة وهي‏:‏ العصر الجاهلي والعصر الإسلامي والعصر الأموي والعصر العباسي الأول والعصر العباسي الثاني وعصر الدول الإمارات وبدايات العصر الأدبي العربي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‏.‏
علي أننا نجد في سيرة شوقي ضيف الشخصية جانبا مهما هو علاقته الوثيقة باساتذته الكبار مثل طه حسين وأحمد أمين ومصطفي عبد الرازق وعبد الوهاب عزام فقد كان شوقي ضيف ينظر إلي هؤلاء الاساتذة الكبار في احترام شديد‏,‏ ويعرف ما كان عليه هؤلاء الأساتذة من فضل‏,‏ وما كانوا يمثلونه من قيمة علمية وأخلاقية عالية‏,‏ وعلاقة شوقي ضيف بأساتذته الكبار هي نموذج حي للعلاقة المثمرة بين كبار العلماء وبين تلاميذهم المتعطشين للفهم والمعرفة‏,‏ والذين لا يعانون من الرغبة المريضة في هدم السابقين والتقليل من شأنهم وإنكار فضلهم والنظر إليهم نظرة متعالية وغير منصفة‏.‏
وحديث شوقي ضيف عن أساتذته الكبار فيه وفاء جميل وفيه فهم عميق ومحبة غامرة وتفسير دقيق لجوانب العظمة في هؤلاء الأساتذة السابقين‏,‏ ولعلنا نعود إلي علاقة شوقي ضيف بأساتذته في حديث آخر‏,‏ فهي علاقة أستاذ عظيم بأساتذة عظماء أيضا‏.‏
.......................................
الأهرام ـ في 20/3/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:14 AM
( 23 ) هل قام طه حسين بتقبيل يد الملك فاروق؟

بقلم : رجاء النقاش
.......................

هذه وقفة أخيرة مع الاتهامات الموجهة إلي طه حسين من أعدائه والمختلفين معه والذين لا يثقون به ويعتبرونه مفكرا مطعونا في وطنيته‏,‏ بل ومطعونا في دينه وعقيدته‏.‏ وقد يري البعض أنه لا جدوي من إعادة هذه الاتهامات إلي الأضواء والحديث عنها من جديد‏.‏ ولكني أري غير ذلك‏.‏ فالاتهامات التي تعرض لها طه حسين أو معظمها هي معزوفة سخيفة تتردد كثيرا في صور مختلفة‏.‏ وهي اتهامات يعاني منها عدد من كبار المفكرين والأدباء باستمرار‏,‏ ونحن عندما نتحدث عن طه حسين وما أصابه‏,‏ فإنما نتحدث عن طه حسين الرمز الذي يمثل هذه القبيلة من الذين يجاهدون علي ساحة الآداب والفنون والأفكار ويتحملون في سبيل ذلك أهوالا وصعوبات‏.‏ ولعلنا لا ننسي أن الكثيرين من المفكرين الأحرار في تاريخنا الثقافي قد تعرضوا للأذي‏,‏ ابتداء من سجن العقاد لمدة تسعة أشهر سنة‏1930‏ بتهمة العيب في الذات الملكية‏,‏
إلي طرد طه حسين نفسه من عمله كأستاذ في كلية الآداب وعميد لها سنة‏1932‏ بتهمة معارضة رئيس الوزراء في ذلك الوقت إسماعيل صدقي باشا‏,‏ وكان صدقي من كبار المستبدين الذين يرون أن المصريين لا يستحقون الديمقراطية ولا يصلحون لها أبدا‏,‏ وأن هذا الشعب لن يتقدم أو يتطور إلا إذا حكمته يد حديدية لا تعرف الرحمة‏,‏ وكان من الطبيعي أن يعارض طه حسين هذا السياسي المستبد‏,‏ فكان جزاؤه حرمانه من عمله الجامعي عقابا له علي أنه مفكر حر لا يقبل الاستبداد والطغيان من أحد‏.‏
ولعلنا لا ننسي الضربات الأخري التي تعرض لها أحرار المفكرين والأدباء إلي حد محاولة اغتيال نجيب محفوظ مساء يوم الجمعة‏14‏ أكتوبر سنة‏1994.‏
الدفاع الآن عن طه حسين لا يفيد طه حسين في شيء‏,‏ بل إنه يفيدنا نحن‏.‏ فقد حقق طه حسين لنفسه مكانة رفيعة في عصره وبين أهله‏,‏ وهي مكانة ربما لم يصل إليها أحد سواه‏.‏ أما بعد رحيله سنة‏1973,‏ فقد كان له كرسي تم إعداده بعناية إلهية كاملة له علي صفحات التاريخ‏,‏ فهو عليه الآن جالس بمهابته وقامته العالية ولا يعنيه أن يكون هناك صغار يحاولون أن يقذفوا عليه بعض الأحجار‏.‏ فطه حسين ـ بشخصه أو بتاريخه ـ ليس في حاجة إلي من يدافع عنه‏,‏ ولكن الأمر يعنينا نحن‏,‏ لأن الدفاع عنه هو دفاع عن كل الأحرار في كل مكان وفي أي محنة يتعرضون لها ويعانون منها‏.‏ علي أن الدفاع عن طه حسين ليس معناه أنه أصبح في نظرنا من المقدسين‏,‏
فطه حسين ليس قديسا‏,‏ وله مثلما لغيره أخطاء وهفوات‏,‏ وأحيانا سقطات‏,‏ ولكنها كلها لا تمس طه حسين الذي ندافع عنه لأنه هو الرمز الحي لكل مفكر يجاهد من أجل التقدم والنهضة وكرامة الإنسان‏.‏ وفي حياة طه حسين مواقف قد تلتبس علي من لا يحسنون النظر‏,‏ ولكنها لا تلتبس علي إخوان الصفاء والنقاء والقادرين علي إنصاف الناس والذين يحسنون تقدير الأمور في موضوعية‏,‏ ويحملون في عقولهم ونفوسهم موازين صحيحة بالغة الاستقامة والعدالة والنزاهة‏.‏
عندما يقال مثلا إن طه حسين قد تنازل في موقف من المواقف‏,‏ نتيجة ضغوط كبيرة عليه من جانب سلطة رسمية أو سلطة شعبية‏,‏ فلا يصح أن نسارع كما سارع البعض إلي القول‏:‏ انظروا إلي انتهازية طه حسين‏,‏ فقد تنازل من أجل مصالح شخصية خاصة‏,‏ وهذا لا يليق بأديب حر ومفكر كبير‏!!‏
حقا‏,‏ لقد تنازل طه حسين أحيانا‏,‏ ولكنه في كل تنازل كان ينظر إلي المقابل‏,‏ فإن كان المقابل يستحق هذا التنازل رضي به طه حسين وأقدم عليه‏,‏ حتي لو كان في ذلك بعض التلويث ليديه‏,‏ وإن كان التنازل بلا مقابل رفضه وأعطي له ظهره‏.‏ والمقابل الذي كان يحرص عليه طه حسين هو مقابل عام‏,‏ وليس مقابلا شخصيا كما يتوهم أعداؤه‏.‏ وهذه نقطة فاصلة في أي حكم علي تنازلات طه حسين‏.‏
خذ مثلا موقف طه حسين من الملك فاروق‏.‏ إنه نموذج حي للتنازل من أجل مقابل عام له قيمته وأهميته‏.‏ فالأستاذ أنور الجندي رحمة الله عليه‏,‏ وهو رجل فاضل وعالم مجتهد‏,‏ رغم اختلافنا معه واعتراضنا علي بعض أفكاره‏..‏ أقول‏:‏ إن أنور الجندي في كتابه عن طه حسين ـ حياته وفكره في ميزان الاسلام يشير إلي أن طه حسين قام بتقبيل يد الملك فاروق بعد تعيينه وزيرا للمعارف سنة‏1950,‏ ثم إن طه حسين خطب للملك فاروق ومدحه مدحا شديدا في مناسبات عديدة‏!!‏ وقد استدل أنور الجندي علي حكاية تقبيل طه حسين ليد الملك فاروق بما شهد به اثنان من الشهود في محكمة الثورة التي تم تشكيلها في‏15‏ سبتمبر سنة‏1953.‏ ولكن أنور الجندي لم يذكر اسم الشاهدين‏,‏ ولم أستطع أنا الوصول إلي الإسمين في حدود ما رجعت إليه من مصادر حول محكمة الثورة‏.‏
ومن البداية فإن التهمة الملصقة بطه حسين لا يمكن أن يقبلها العقل‏,‏ فقد كان طه حسين عندما تولي وزارة المعارف في‏12‏ يناير سنة‏1950‏ في قمة شهرته ومكانته الأدبية والشعبية‏,‏ ولم يكن تعيينه في وزارة المعارف يزيد من قدره أو يرفع من شأنه‏,‏ بل العكس هو الصحيح‏,‏ أي أن طه حسين كان هو الذي يرفع شأن الوزارة ويعطيها قيمة فوق قيمتها العادية‏.‏
ولقد سمع طه حسين في حياته مثل هذه الاتهامات التي تتصل بموقفه من الملك فاروق‏,‏ ولم يسكت طه حسين‏,‏ ولكنه دافع عن نفسه بقوة وصدق‏.‏ وفي مقال نشرته له مجلة روز اليوسف بتاريخ‏29‏ مارس‏1954‏ يقول طه حسين‏:‏
أي من المصريين يجهل أني كنت وزيرا للمعارف في يوم من الأيام‏,‏ وأني خطبت أمام فاروق في مواقف لم يكن بد من أن أخطب فيها حين وضع الحجر الأساسي لجامعة الاسكندرية ومعهد الصحراء‏.‏ والناس جميعا يعلمون أن الوزراء ما كانوا ليخطبوا أمام فاروق فيعيبوه ويذموه ويدلوا علي ما كان يتورط فيه من طغيان وماكان يقترف من آثام‏,‏ وإنما جرت عادة الوزراء حين يتحدثون إلي الملوك أن يتحدثوا بشيء غير هذا‏.‏
ثم يقول طه حسين بعد ذلك‏:‏ أنا لم أكسب لنفسي من فاروق مالا ولا جاها‏,‏ فقد كنت غنيا عن ماله وجاهه‏,‏ وإنما كسبت لمصر ما نفع أهلها في حياتهم الداخلية فأباح لهم التعليم ويسر لهم أموره‏,‏ وما نفع مصر في العالم الخارجي فأنشأ لها معهدا في مدريد‏,‏ وكرسيا لثقافة البحر المتوسط في نيس وكرسيا للغة العربية في جامعة أثينا‏.‏
ثم يقول طه حسين مخاطبا رئيس تحرير روز اليوسف و‏,‏مخاطبا كل مواطن آخر‏:..‏ وإنك لتذكر أن أباه الملك فؤاد أخرجني من الجامعة سنة‏1932‏ وأراد أن يضطرني إلي الجوع فلم يفلح‏,‏ وأراد أن يضطرني إلي الصمت فلم يفلح أيضا‏.‏ وإنك لتذكر أن فاروقا أخرجني من وزارة المعارف حين أنزل حكومة الوفد عن السلطان سنة أربع وأربعين‏(1944),‏ وأراد أن يضطرني إلي الجوع والصمت فلم يبلغ إلي ما أراد شيئا‏,‏ لأن الله هو الذي يرزق الناس علي رغم الملوك والحكام‏,‏ ولأن الله هو الذي يمنح الناس من صدق العزم وقوة الإرادة ما يمكنهم من أن يثبتوا للخطوب ويخرجوا من الكوارث والنائبات مهما يبلغ بها التعقيد‏.‏ وهناك أشياء لا تعلمها أنت ولا يعلمها الناس‏,‏ وإنما يعرفها أفراد قليلون منهم من قضي نحبه ومنهم من لا يزال حيا أرجو له طول البقاء‏.‏ أنت لا تعلم أن فاروقا أرسل إلي الرسل بالمغريات سنة خمس وأربعين‏1945‏ فلم يجد إلي إغرائي سبيلا‏,‏ وإنما رددت رسله ردا رفيقا كريما فيه كثير من ارتفاع عن الصغائر‏,‏ ولو شئت لبلغت من فاروق وسلطانه وماله وجاهه ما أردت‏,‏ ولكني لم أرد‏,‏ لأني رأيت الكرامة والوفاء والصدق في خدمة الوطن أغلي من المال والجاه والسلطان‏.‏
ثم يتحدث طه حسين عن حكاية تقبيل يد الملك فاروق فيقول‏:‏ والشيء بالشيء يذكر‏,‏ فقد شهد شاهدان أمام محكمة الثورة بأني قمت مع غيري من الوزراء بتقبيل يد فاروق‏,‏ والله يشهد ما قبلت يد فاروق ولا بد أبيه ولا يد عمه السلطان حسين ولايد ابن عمه عباس حلمي الثاني حين كان أميرا لمصر‏,‏ ولابد ملك من الملوك الذين لقيتهم قط‏,‏ والله يشهد أنني ما قمت بتقبيل يد أحد من الناس إلا أن تكون يد أبوي أو يد بعض شيوخنا في الأزهر رحمهم الله‏,‏ لا أستثني يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها إذا لقيتني في بعض المحافل فتلصقها بشفتي إلصاقا‏..‏ واضحك من ذلك إن شئت‏,‏ وأعبث به إن أحببت‏,‏ فليس عليك في الضحك والعبث جناح‏.‏
هذا بعض ما قاله طه حسين في الدفاع عن نفسه‏.‏ فهل لديك مانع من تصديقه والثقة بأن ما يقوله هو الحقيقة؟‏..‏ أنا شخصيا أصدق طه حسين‏,‏ وأري أنه كان في أدبه وحياته كلها من الكبار‏,‏ وكان من أصحاب الكرامة والكبرياء‏,‏ وهؤلاء لا يكذبون‏,‏ ولايتقبلون الكذب من أحد‏.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
*الأهرام ـ في 1/5/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:17 AM
( 24 ) أمريكي يحب عبد الناصر

بقلم: رجاء النقاش
.......................

هل يمكن أن نتصور أن هناك أمريكيا يحب عبد الناصر ويري فيه شخصية سياسية وإنسانية جديرة بأعظم التقدير والإعجاب؟‏.‏ من الصعب أن نتصور وجود مثل هذا الأمريكي‏,‏ وخاصة بين السياسيين والمفكرين والصحفيين‏,‏ ذلك لأن الفكرة الشائعة عن عبد الناصر‏,‏ بالحق والباطل‏,‏ هي أنه كان من أعدي أعداد السياسة الأمريكية‏,‏ وأنه كان من زعماء القرن العشرين الذين لم يثقوا بأمريكا ولم تثق بهم أمريكا أبدا‏,‏ والصورة العامة لعبد الناصر عند الأمريكان هي صورة سلبية‏,‏ في حياته وبعد رحيله‏.‏
وأذكر أنني شاهدت منذ سنوات فيلما امريكيا اسمه السادات وهو فيلم آخر غير فيلم الفنان الكبير أحمد زكي والذي أخرجه فنان كبير آخر هو محمد خان‏,‏ ففيلم أحمد زكي ومحمد خان هو تحفة فنية‏,‏ أما الفيلم الأمريكي فهو فيلم مبتذل وساقط بالمقاييس الفنية والموضوعية‏,‏ وفي هذا الفيلم الأمريكي يظهر عبد الناصر في صورة ضعيفة ومهزوزة وسيئة جدا‏.‏ وهو في هذا الفيلم عنيد ومتعصب وضيق الأفق ولايقبل نصائح السادات له بالاعتدال والتفكير السياسي السليم‏.‏ وأظن أن هذه الصورة التي ظهر بها عبد الناصر في الفيلم الأمريكي‏,‏ هي الصورة الأمريكية الشائعة له‏,‏ ولا توجد صورة أمريكية أخرى لعبد الناصر مع الأسف الشديد‏.‏
والغريب في ذلك كله أن أي دراسة علمية خالية من الأهواء والأغراض والتعصبات لابد أن تنتهي الي أن عبد الناصر قد بذل جهودا كبيرة بعد قيام ثورة يوليو سنة‏1952‏ لكي يكون علي علاقة طيبة بالأمريكان‏,‏ وكانت لديه آمال واسعة في أن يتعاون معهم علي أساس من المصالح المشتركة للبلدين‏.‏ ومن يعد إلى الوثائق المنشورة لليسار المصري فسوف يجد أن عبد الناصر في هذه الفترة كان متهما بأنه كان يتعاون مع الأمريكان ويعمل لحسابهم‏.‏
كما أن من الثابت والمعروف ان عبد الناصر في بداية الثورة كان علي علاقة طيبة بالسفير الأمريكي جيفرسون كافري وكان كافري من جانبه معجبا بعبد الناصر‏,‏ وكان أيضا آخر الأمريكان المحترمين الذين عملوا من أجل اقامة علاقات طيبة بين الأمريكان من جانب وبين ثورة يوليو وعبد الناصر من جانب آخر‏,‏ ومن المشهور عن كافري أنه كان يسمي رجال الثورة في مصر باسم أولادنا او علي حد التعبير الشائع عنه‏ourboys
ولكن السفير كافري استقال فجأة سنة‏1954,‏ وقيل عن هذه الاستقالة إنه اضطر اليها لأن سياسته المتعاطفة مع عبد الناصر وثورة يوليو لم تكن مقبولة لدي وزارة الخارجية الامريكية ووزيرها الشهير جون فوسترد الاس‏.‏ وقد جاء الي مر بعد كافري سفير امريكي آخر هو هنري بايرود وحاول بايرود أن يواصل خطة كافري السياسية في التعاطف مع عبد الناصر وثورة يوليو‏,‏ ولكنه لم ينجح‏,‏ واصطدم هو الاخر بعقبات كثيرة‏,‏ فأمريكا كانت قد اتخذت قرارها بالوقوف في وجه عبد الناصر‏,‏ ولم يستطع بايرود أن يغير اتجاه الرياح الأمريكية‏.‏ وأصبح عبد الناصر متهما من الأمريكان بأنه يميل الي الشيوعية‏,‏ بينما كان متهما في ذلك الوقت من الشيوعيين في مصر والعالم العربي بأنه يميل إلى الأمريكان‏.‏ وهكذا اختل الميزان واضطربت الحسابات والتقديرات‏.‏
علي أن الدراسة الهادئة المنصفة للعلاقة بين عبد الناصر والأمريكان إنما تؤكد أن عبد الناصر حاول باخلاص وجدية أن يتفادي أي صدام مع أمريكا‏,‏ إلا أن الأمريكان خذلوه وبدأوا في محاربته وعرقلة خطواته للنهوض بمصر‏,‏ مماجعل عبد الناصر يشعر بأنه لا أمل في أي تعاون جدي مثمربين مصر وأمريكا‏,‏ وبالتحديد بين ثورة يوليو وأمريكا‏,‏ وذلك طالما بقي عبد الناصر علي موقفه من الحرص علي المصالح المصرية والعربية قبل أي شيء آخر‏.‏ وعلاقة عبد الناصر بالأمريكان علي أي حال جديرة بأن تكون موضوعا لدراسات كثيرة أخري‏.‏
علي أن الصراع المبكر بين عبد الناصر وأمريكا لم يمنع من ظهور كاتب امريكي مثقف صاحب ضمير هو ولتون وين وقد أحب هذا الكاتب الأمريكي عبد الناصر واتصل به والتقي معه وعرف له قدره وسجل ذلك كله في أول كتاب غربي يظهر عن عبد الناصر سنة‏1959,‏ وكان هذا الكتاب عنوانه عبد الناصر ـ قصة البحث عن الكرامة
في حدود معلوماتي فإنه كاتب أمريكي عاش في مصر سنوات طويلة قبل الثورة وبعدها‏,‏ وكان يعمل أستاذا في الجامعة الأمريكية‏,‏ ثم تفرغ بعد ذلك للعمل مديرا لمكتب وكالة أسوشيتد برس للأنباء في القاهرة‏.‏ ومن خلال معرفة ولتن وين الواسعة بمصر وأحوالها وتاريخها القديم والحديث استطاع هذا الكاتب أن يصل إلي درجة كبيرة من الفهم والتعاطف والحب لشخصية عبدالناصر‏,‏ وقد ازداد موقفه المتعاطف قوة بعد أن أجري عدة لقاءات شخصية طويلة مع عبدالناصر نفسه‏,‏ مما ساعد هذا الكاتب علي أن يتخذ موقفه وبين يديه أدلة خاصة به تؤكد صحة رأيه الخاص في الإعجاب بعبدالناصر والدفاع عنه والمحبة العميقة له‏.‏
وسوف أتوقف هنا أمام الجوانب الإنسانية في شخصية عبدالناصر وليس أمام الجوانب السياسية التي شبعت بحثا بين الأنصار والأعداء‏.‏ والحقيقة أن الجوانب الإنسانية كثيرا ما تضيع في خضم التحليلات السياسية المختلفة
وقد حرص الكاتب الأمريكي ولتن وين علي أن يعطي للجانب الإنساني في عبدالناصر نصيبا كبيرا من الاهتمام في كتابه‏,‏ وذلك بالإضافة إلي تناوله للجوانب السياسية الأخري‏.‏
وكتاب ولتن وين صدر كما أشرت سنة‏1959,‏ وصدرت ترجمته العربية في نفس العام عن دار العلم للملايين في بيروت‏,‏ والترجمة لاتحمل اسما للمترجم‏,‏ وهي ترجمة واضحة وجيدة‏,‏ وأعتقد أنها قد تمت تحت إشراف المؤلف الأمريكي ولتن وين نفسه
يقول الكاتب الأمريكي المحب لعبدالناصر‏:‏
إن عبدالناصر دينامو بشري‏,‏ وهو يتمتع بطاقة لاحدود لها‏,‏ ولايكاد يجد وقتا للنوم‏,‏ ومتعته الأولي في الحياة هي عمله وثورته‏,‏ فهو يوجه إليهما كامل قوته‏,‏ وهو يعمل في معظم الأحيان في منزله‏.‏
لقد قال لي مرة‏:‏ إن مكتبي في قلب العاصمة ليس إلا مكانا للاستقبالات‏,‏ أما حين يكون عندي أعمال أساسية فإنني أفضل أن أقوم بها هنا في البيت‏,‏ حيث يسود الهدوء‏,‏ ولايصرفني عن العمل شيء‏.‏
وفي اليوم الذي تحدثت فيه إلي عبدالناصر كان قد عمل حتي الساعة الرابعة صباحا‏,‏ ثم نام قليلا واستيقظ في السادسة‏.‏ وعبدالناصر يواصل سهره هذا طوال أشهر متوالية حتي ينفد معين نشاطه‏,‏ وعندئذ يطرح العمل ويأخذ قسطه من الراحة‏.‏
وخلال فترات الراحة هذه فإنه يقصد في بعض الأحيان إلي القناطر الخيرية قرب القاهرة‏,‏ أو إلي قرية قريبة من الإسكندرية‏.‏ وهناك يستريح بضعة أيام حتي يسترد نشاطه ويصبح مستعدا لاستئناف العمل من جديد‏.‏ وهو يقصد إلي مثل هذه الاستراحات كلما توقع نشوب أزمة من الأزمات‏,‏ وكلما أدرك أن أمامه عملا شاقا يقتضي منه أن ينصرف إليه انصرافا طويلا مرهقا‏.‏ أما في الأحوال الأخري فإن عبدالناصر يفضل أن يأخذ قسطه من الراحة في بيته مع أسرته‏.‏
ويقول ولتن وين في موضع آخر من كتابه‏:‏
سألت عبدالناصر ذات مرة‏:‏ لماذا لاتنتقل إلي أحد قصور الملك فاروق السابقة‏,‏ بدلا من البقاء في منزلك المتواضع الحالي‏,‏ فقال لي‏:‏ لانستطيع أن نفعل ذلك‏.‏ إننا إذا انتقلنا إلي هناك فإن كلا منا سوف يحيا في جناحه الخاص‏,‏ وعندئذ يتشتت شمل الأسرة‏,‏ أما هنا في منزلنا هذا‏,‏ فإننا نعيش كلنا معا‏.‏ ثم أضاف عبدالناصر ضاحكا‏:‏ وهناك سبب آخر أيضا‏,‏ ففي العام الماضي انتقلنا إلي قصر الطاهرة‏,‏ أحد القصور الملكية القديمة حيث قضينا بضعة أسابيع ريثما يتم بناء الجناح الجديد في بيتنا‏,‏ فشرع أولادي يلعبون في أنحاء القصر‏,‏ وأخذوا يكسرون تلك الزهريات النفيسة والتحف الفنية الكبيرة‏,‏ وكان علي أنا أن أدفع قيمتها إلي الدولة‏.‏ والحقيقة أن حالتي المالية لاتسمح لي بالعيش في قصر‏!.‏
ثم يضيف ولتن وين‏:‏
يلعب عبدالناصر التنس في بعض الأحيان‏,‏ ولكن وسيلته المفضلة إلي الراحة هي لعب الشطرنج ومشاهدة الأفلام السينمائية‏.‏ لقد علم أولاده الشطرنج‏,‏ وهو يحب أن يقضي السهرة‏,‏ إذا سمحت له الظروف‏,‏ وهو يلعب معهم‏.‏ وقد قال لي مرة‏:‏ أنا أتركهم يغلبونني ما استطعت إلي ذلك سبيلا‏.‏ إني أريد منهم أن يحبوا هذه اللعبة‏.‏ وعبدالناصر يحب السينما ففي أيام الثورة الأولي كان يشهد الحفلات السينمائية في دور العرض كلما وجد متسعا من الوقت‏,‏ ولكن ضغط العمل مالبث أن فرض عليه الإقلال من الذهاب إلي دور السينما‏,‏ إلا في الأحوال النادرة‏,‏ ففي سنة‏1956‏ مثلا كانت أعماله لاتكاد تبقي له ذرة من أوقات الفراغ بعد تأميم شركة قناة السويس وماتلاها من حرب السويس‏,‏ وكنتيجة لذلك لم يشهد غير فيلم واحد طوال هذا العام‏,‏ وكان ذلك في شهر أغسطس عندما استطاع أن يذهب إلي الاسكندرية طلبا للاستجمام لبضعة أيام مع عائلته‏.‏ وقال لي عبد الناصر‏:‏ قبل أن ينتهي الفيلم جاءني من أخبرني أن دالاس وزير الخارجية الأمريكية قد أعلن مشروعه الخاص نتدويل القنال‏,‏ فكان علي أن أغادر دار العرض قبل انتهاء الفيلم‏:‏ وقد استطاع عبد الناصر أن يعوض ذلك في العام التالي‏.‏ وتوضيحا لذلك قال لي‏:‏ لقد أقمت جهازا للعرض السينمائي هنا علي أرض ملعب‏(‏ تنس‏)‏ المجاور لمنزلي‏,‏ فأنا أشهد كل ليلة جميع الأفلام التي فاتتني مشاهدتها في العام الماضي‏,‏ بما فيها ذلك الفيلم الذي لم أتم مشاهدته في الاسكندرية‏.‏
ويسجل ولتن وين بعد ذلك هذه الملاحظة فيقول‏:‏
إن روح الفكاهة عند عبد الناصر تؤلف جزءا من سحر شخصيته إنه ليس جارحا‏,‏ ولكنه يملك نصيبه الوافر من روح الفكاهة التي يتميز بها شعب مصر
ولقد قلت أكثر من مرة إن سحر شخصية عبد الناصر يفتن كل من يقابله حتي اذا فارقته وتحررت من سحر شخصيته‏,‏ بعد ساعة أو ساعتين فقد تجد نفسك تختلف معه في الرأي‏,‏ أما في أثناء سماعك الحديث فلابد لك من الاقتناع بما يقول
وعبد الناصر يتكلم الانجليزية في طلاقة‏,‏ ولكنه لايتكلف التكلم بلهجة إكسفورد‏,‏ أو باللهجة الأمريكية‏.‏ إن عبد الناصر يتكلم الانجليزية بالنبرة المصرية‏,‏ فلست تنسي وأنت تستمع إليه أنك أمام رجل مصري صميم والاجتماع بعبد الناصر حلم من أحلام الصحفيين‏.‏ إنه لايتهرب قط من أي سؤال‏,‏ ولايحاول أن يقذف الصحفي باجابات موجزة لا تسمن و لاتغني من جوع‏.‏ انه لايجيب علي الاسئلة فحسب‏,‏ بل يتوسع في ذلك حتي النهاية‏,‏ ذلك أنه متمكن من موضوعه‏,‏ فهو يريد أن يتحدث ويتحدث حتي تصبح كل نقطة صافية كالبلور‏,‏ ومع ذلك فهو لايستعمل التعابير الصاخبة الطنانة‏,‏ ولايمدح نفسه وأعماله‏,‏ فهو رجل متواضع جدا‏,‏ سريع إلي الاعتراف بأخطائه‏,‏ فهو يقول مثلا‏:‏ أجل‏,‏ لقد ارتكبنا بعض الأخطاء‏,‏ ولكن عليكم أن تفهموا تاريخنا‏,‏ فنحن المصريين قد عشنا طوال أجيال وأجيال تحت السيطرة الأجنبية‏,‏ وقد أصابتنا بسبب ذلك عقدة نفسية أو مركب نقص‏.‏
ومن أهم ماسجله ولتن وين علي لسان عبد الناصر ماقاله عبد الناصر لأحد رجال الدين الذين احتجوا علي قرار الثورة سنة‏1955‏ بتوحيد القضاء وإلغاء المحاكم الدينية لقد قال عبد الناصر لرجل الدين المحتج‏:‏ دعني أؤكد لك أننا لن نتسامح مع التعصب الديني من أية جهة جاء لقد حاول الاخوان المسلمون ذلك‏,‏ فتصدينا لهم بقوة‏,‏ وسوف نكرر نفس الموقف مع أي محاولة لفرض التعصب الديني علي البلاد‏.‏
وأخيرا يقول ولتن دين إن كره عبد الناصر لمظاهر العظمة هو إحدى الصفات القوية في شخصيته‏,‏ فلم يستطع أحد من الناس أن يزعم أنه سوف يصبح فاروقا جديدا‏,‏ أو أنه قد أثري على حساب الأمة‏,‏ وزيارة إلي منزل عبد الناصر تظهر لكل امريء كيف احتفظ الرجل بحياته البسيطة بعد ست سنوات من توليه مقاليد السلطة‏.‏
ذلك بعض ماقاله ولتن وين الأمريكي الذي أحب عبد الناصر‏,‏ وكتب عنه كتابه الجميل‏.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الأهرام ـ في 21/7/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:19 AM
(25) بالله عليكم‏...‏ أين الخطأ؟

بقلم : رجاء النقاش
...........................

من بين الكتب المثيرة التي صدرت في سبعينيات القرن الماضي كتاب عجيب للكاتب الإسلامي المعروف المرحوم أنور الجندي عنوانه "طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام"‏,‏ وينطوي هذا الكتاب من أول صفحة فيه إلي آخر صفحة علي طعن ولعن وتوجيه للاتهامات القاسية إلي طه حسين في وطنيته ودينه وعروبته‏,‏ ومن بين أسوأ الاتهامات التي وردت في كتاب أنور الجندي اتهام لطه حسين بأنه متعاطف مع الصهيونية ومناصر لها‏.‏
وقد اعتمد الكاتب في توجيه هذا الاتهام الباطل علي محاضرة ألقاها طه حسين بتاريخ‏24‏ ديسمبر سنة‏1944‏ في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية‏,‏ وينقل أنور الجندي بعض ما ورد في هذه المحاضرة ويقدمه كدليل علي صحة وصفه لطه حسين بالصهيونية، خاصة أن هذه المحاضرة قد لقيت الترحيب من المستمعين إليها في المدرسة الإسرائيلية وقوبلت بعاصفة من التصفيق وقرر المجلس الملي الإسرائيلي في الإسكندرية بعد المحاضرة إنشاء جائزتين باسم طه حسين يتم منحهما لألمع طالبين في المدرسة‏.‏
وتعليقا علي بعض نصوص محاضرة طه حسين يقول أنور الجندي‏:‏ لا ريب أن هذا الذي اختصرناه عن المحاضرة إنما يكشف عن هوي طه حسين وزيفه فيما حاوله من أن يضفي علي اليهود فضلا ليس لهم‏,‏ فما كان لليهود علي العرب أو غيرهم علي مر التاريخ البشري أي فضل‏.‏
وفي الرد علي هذا الاتهام الكبير الذي هو في تقديري اتهام شديد البطلان نتساءل‏:‏ أين وجه الخطأ في محاضرة طه حسين؟ من الناحية الشكلية ليس هناك لوم علي طه حسين‏,‏ فالمحاضرة تم إلقاؤها في المدرسة الإسرائيلية بالإسكندرية‏,‏ وكانت هذه المدرسة في ذلك الوقت ‏1944‏ مدرسة مصرية معترفا بها تؤدي عملها بصورة علنية لا خفاء فيها‏,‏ ولم يسجل عليها أحد أي مخالفة لقانون البلاد‏,‏ ولابد من القول أيضا إن اليهود في مصر في تلك الفترة كان لهم وجود شرعي لا اعتراض عليه من أحد‏,‏ وكانت النظرة العامة إلي هؤلاء اليهود أنهم مواطنون مصريون يشتركون مع بقية سكان مصر في الحقوق والواجبات‏,‏ ولا فرق بينهم وبين أي مواطنين عاديين غيرهم من أبناء البلاد‏,‏ فما هو الخطأ‏,‏ وما هو وجه الاعتراض علي أن يقوم طه حسين بإلقاء محاضرة في مدرسة مصرية‏,‏ وبين مواطنين مصريين لم يكن عليها أو عليهم اعتراض وطني أو قانوني من أي نوع؟
لا مجال لمثل هذا الاعتراض علي الإطلاق‏,‏ فهو اعتراض لا يقبله العقل ولا المنطق السليم‏.‏
يبقي بعد ذلك الاعتراض الأهم‏,‏ وهو الاعتراض علي ما جاء في المحاضرة من أفكار‏,‏ وعندما نقرأ الفقرات التي أوردها أنور الجندي في كتابه من هذه المحاضرة‏,‏ لا نستطيع أن نوافقه أبدا علي ما خرج به من نتائج ضد المحاضرة‏,‏ وقد كان موضوع المحاضرة هو اليهود والأدب العربي وفيها يتحدث طه حسين عن العلاقات بين العرب واليهود منذ الجاهلية ويتحدث عن تأثير اليهود في تحضير سكان الجزيرة العربية‏,‏ ثم يتكلم عن انتشار اليهود في شمال أفريقيا وأسبانيا‏,‏ حيث كانت لهم خدمات في سبيل الثقافة العربية‏,‏ وقد نافسوا العرب علي أكثر مناصب الدولة‏.‏
هذا الكلام الذي يقوله طه حسين هو كلام علمي سليم لا تنكره المصادر الموثوق بها ولا يرفضه الباحثون والعلماء‏,‏ وليس فيه ما يجرح الإحساس الوطني والقومي لأي عربي‏,‏ فلماذا يعترض عليه أنور الجندي أو غيره وأين وجه الجريمة في هذا الكلام؟
إن العرب المعاصرين جميعا وفي مقدمتهم الفلسطينيون يواجهون العالم بمنطق محدد وقوي هو أن الحضارة العربية قد عاملت اليهود ـ علي مر التاريخ ـ أحسن المعاملة‏,‏ وهي معاملة لم يجد اليهود مثلها أو قريبا منها في أوروبا فقد أتيح لليهود في ظل الحضارة العربية من حرية الحياة والتعبير والتفكير والارتقاء الاجتماعي ما لم يتح لهم في أي عصر آخر أو مجتمع آخر‏.‏
وكلام طه حسين في جوهره إنما يكشف عن وجه من وجوه الجريمة الصهيونية‏,‏ فهو يسجل موقف العرب الكريم من اليهود‏,‏ ويسجل من ناحية أخري أن اليهود كانوا مطمئنين وناجحين وسعداء في ظل الحضارة العربية‏,‏ ولو فهم أي يهودي ممن كانوا يعيشون في مصر كلام طه حسين علي وجهه الصحيح واقتنع به لما وجد نفسه في حاجة إلي تأييد الصهيونية والانطواء تحت رايتها‏,‏ وكلام طه حسين يؤكده المؤرخون والباحثون الأوروبيون الذين يجمعون علي أن وضع اليهود القانوني والعملي في البلاد العربية الإسلامية في القرون الوسطي كان أحسن كثيرا منه في أوروبا المسيحية‏,‏ وأن عبارة العصر الذهبي لليهودية في أسبانيا الإسلامية أصبحت عبارة شائعة علي لسان الجميع حتى في أكثر الروايات الشعبية عن التاريخ اليهودي‏.‏
هذا ما يقوله الأوروبيون أنفسهم‏,‏ وهي شهادة عالية في حق العرب والحضارة العربية‏.‏
يقول طه حسين في محاضرته بعد ذلك‏:‏ إن المسيحيين واليهود كانوا عونا للعرب في نقلهم العلوم والفنون والآداب عن اليونان والهنود والفرس‏.‏ وهنا نتساءل أيضا‏:‏ في أي شيء أخطأ طه حسين عندما قال هذه العبارة؟‏...‏ الحقيقة أنه لم يخطئ في شيء‏,‏ فالحضارة العربية قد استعانت بالمسيحيين واليهود واستفادت منهم ثقافيا وحضاريا‏,‏ خاصة في المراحل المزدهرة من تاريخ الحضارة العربية في الأندلس وفي العصر العباسي الأول‏,‏ وفي العصر الأيوبي‏,‏ ويكفي أن نشير هنا إلي أن العالم الكبير موسي بن ميمون اليهودي ‏1135‏ ـ‏1204‏ كان طبيبا لصلاح الدين الأيوبي‏,‏ فما الذي ينكره أنور الجندي وغيره علي طه حسين فيما قاله عن استعانة العرب بالمسيحيين واليهود واستفادتهم من ذلك؟
إن طه حسين يتحدث هنا بلسان المفكر والعالم المسئول المتحضر‏,‏ وهو في حديثه يريد أن يؤكد مبادئ التعاون والوحدة في صفوف شعبه بين شتي الطوائف والفئات التي يتكون منها هذا الشعب‏,‏ خاصة أن طه حسين في محاضرته كان يستند إلي حقائق تاريخية‏,‏ وعلمية دقيقة وثابتة‏.‏
بعد ذلك يقول طه حسين في محاضرته‏:‏ إنني أدعو يهود مصر إلي توثيق صلاتهم بالمصريين من أهل الثقافة العربية والاندماج فيهم اندماجا روحيا وتدارس أدبهم‏:‏ شعرا ونثرا‏.‏
هنا أيضا يتحدث طه حسين بلغته الوطنية الصافية المتحضرة‏,‏ فتاريخ المحاضرة كما سبقت الإشارة مرارا هو ‏1944,‏ وفي ذلك الوقت كان من الطبيعي أن يدعو طه حسين يهود مصر إلي التمسك بوطنهم والاندماج في ثقافته وعدم الاستجابة لأي إغراء خارجي آخر‏,‏ فهل كان أنور الجندي وغيره من المعترضين الساخطين علي طه حسين يريدون منه أن يدعو اليهود‏,‏ كما تدعوهم الصهيونية‏,‏ إلي الانفصال عن بقية أبناء مصر أو محاربتهم أو إقامة سد منيع يحول بينهم وبين الاندماج مع بقية المواطنين؟‏!‏
إن محاضرة طه حسين في حدود الأجزاء المنشورة منها ليس فيها أبدا ما يؤخذ علي طه حسين‏,‏ وليس فيها ما يثير شبهة تعاونه أو تعاطفه مع الحركة الصهيونية‏,‏ وإذا كان يهود مصر فيما بعد قد تصرفوا تصرفات خاطئة من وجهة النظر الوطنية والسياسية والإنسانية فليس هذا هو خطأ طه حسين‏,‏ وإنما هو دون شك خطأ اليهود أنفسهم‏,‏ لقد كان طه حسين يرسم خطة صحيحة للخلاص الوطني والاندماج في المجتمع العربي المصري‏,‏ ولكنهم اختاروا أو اختارت لهم الصهيونية طرقا ملتوية أخري‏,‏ تستند كلها إلي التطرف والتعصب والعنصرية‏.‏
أما الجائزتان اللتان قررهما المجلس الملي الإسرائيلي‏,‏ باسم طه حسين فلا يجوز لأحد أن يستند إليهما في القول بأن طه حسين كان ـ والعياذ بالله ـ مؤيدا للصهيونية أو متعاونا معها‏,‏ فمثل هذا الاستنتاج متسرع و خاطئ وغير منطقي‏,‏ ففي هاتين الجائزتين تكريم من هيئة دينية مصرية كان معترفا بها في حينها لرائد وكاتب عربي مصري كبير له وزنه ومقامه في الحياة الفكرية والحياة العامة معا‏,‏ ولم يكن في ذلك خطأ‏,‏ ولم يكن فيه جريمة‏.‏
.............................................
* الأهرام في 24/4/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:22 AM
( 26 ) المصحف والمنديل (رجاء النقاش يكتب عن محمد مندور)

بقلم: رجاء النقاش
.......................

لاشك في أن كل إنسان في هذه الدنيا بحاجة إلي إيمان يضيء نفسه‏,‏ ويساعده علي مواجهة متاعب الحياة‏,‏ فبدون الإيمان تصبح الحياة جحيما لا يطاق‏,‏ وتصبح العلاقات بين الناس حربا لا هوادة فيها‏,‏
ويكون الضعفاء فريسة سهلة لكل من يمتلك القوة ولا يمتلك مبادئ تردعه عن استخدام هذه القوة إلا بالحق‏.‏ فالإيمان ضروري للحياة والإنسان‏.‏ ولكن هل بقي في هذا العصر مكان للإيمان؟
إن الحياة العامة والخاصة للناس أصبحت مليئة بالمشاكل والصعوبات‏,‏ والناس جميعا في حرب‏,‏ بعضها ظاهر تسيل فيه الدماء‏,‏ وبعضها حرب أخري غير ظاهرة من أجل الرزق ومحاولة النجاة من المطاردات اليومية للظروف الصعبة‏.‏
من منا لا يستيقظ في الصباح وهو يحمل بعض الهموم التي يحسب حسابها ويخاف أن يعجز عن مواجهتها والإفلات منها؟‏.‏ من منا لاي تسلح بالحذر خوفا من المجهول الذي ينتظر كل إنسان وقد يفاجئه في أي لحظة؟‏.‏ لاشك في أن كل إنسان يملك قدرا من الوعي والبصيرة لابد أن يشعر بمثل هذه المشاعر عندما يخلو إلي نفسه‏.‏
ومن الضروري أن يخلو الإنسان العاقل إلي نفسه بين الحين والحين‏.‏ وعندما يخلو الإنسان إلي نفسه فإنه يستطيع أن يراجع أمور حياته كلها‏,‏ بما في ذلك حياته الروحية‏.‏ والحديث مع النفس هو تقوية للنفس وإزالة لأي صدأ أو غبار تتعرض له‏.‏ وهذا هو طريق الوصول إلي الإيمان‏.‏
فالإيمان بحاجة إلي اكتساب عادة التأمل والخلو إلي النفس في بعض الأحيان‏.‏ علي أن الإيمان الحقيقي الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان ويعتمد عليه في حياته يحتاج إلي جهاد روحي‏.‏ فالإيمان لا يولد في النفس دون السعي للوصول إليه‏.‏ كذلك فإن الإيمان لا يبقى ولا يدوم دون أن نعمل علي تجديده باستمرار‏,‏ وبغير ذلك يتجمد الإيمان ويصبح بلا جدوى ولا نفع‏.‏ فالإيمان الجامد يتساوي مع الإيمان المفقود‏.‏
ومع كل هذا الحديث عن ضرورة الإيمان للإنسان فإن البعض قد يتساءلون‏:‏ هل صحيح أننا بحاجة إلي الإيمان في هذا العصر‏,‏ الذي تسود فيه النزعة العملية وتسيطر علي كل شيء؟‏.‏إن النزعة العملية في عالم اليوم أصبح لها فلسفة كبري في المجتمعات الغربية‏,‏ وهي فلسفة تتسلل إلينا بقوة حتى دون أن ندري‏.‏وهذه الفلسفة هي فلسفة البرجماتية أو فلسفة المنفعة‏,‏ وخلاصة هذه الفلسفة تقول لنا أن الخير هو ما يعود علينا بالفائدة‏,‏ وان ما لا يعود بمثل هذه الفائدة هو شر لاشك فيه‏.‏ ومن المؤكد أن فلسفة المنفعة هذه لها جانب إيجابي‏,‏ فهي تساعد الإنسان علي أن يكون واقعيا‏,‏ وألا يغرق نفسه في الأوهام والأحلام والخيالات‏.‏ ولكن الفلسفة النفعية إذا سيطرت علي الإنسان فإنها تدمر الحياة تدميرا كاملا‏,‏ فالفلسفة النفعية وحدها لا تحقق استقرار النفس‏,‏ أو تقضي علي القلق والتوتر أو تتيح لصاحبها أن يعرف معني السعادة الحقيقية‏.‏ ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن نحصل علي شيء منذ ذلك كله دون إيمان يشرح النفس‏,‏ ويجعل المعاملة بين الناس طيبة وكريمة‏,‏ومثل هذا الإيمان لابد أن يكون بعيدا عن التعقيد والغموض والتظاهر واستخدامه كوسيلة لخداع الآخرين‏,‏ كما لابد أن يبتعد مثل هذا الإيمان الجميل البسيط عن أي فلسفة زائدة أو زائفة‏.‏
وهذا ما يحدثنا في بحث صغير بديع أديب ومفكر كبير هو الدكتور محمد مندور‏1907‏ ــ‏1965,‏ وعنوان البحث هو اعترافات مؤمن‏.‏ وهذا البحث يحمل كل صفات محمد مندور الأساسية وهي الوضوح‏,‏والصدق‏,‏ والأسلوب المليء بالموسيقي الهادئة الهامسة‏,‏ واتساع العلم والثقافة‏,‏ والقدرة علي وضع الحدود الصحيحة بين الأشياء‏,‏ بحيث لا نضطر الإنسان إلى الوقوع في المبالغات والادعاءات‏,‏ والخوض في أمور يكون الخوض فيها جهدا ضائعا لا جدوى منه‏.‏
وأول ما يطرحه الدكتور مندور في بحثه الجميل هو أنه ينبهنا وينبه نفسه إلي حدود قدرة العقل الإنساني‏,‏ وفي هذا المعني يقول‏:‏ كنت أحس دائما في غموض أن تطاول العقل إلي مالا يستطيعه دليل ضعف فيه لا قوة‏,‏ ولهذا كم كانت فرحتي يوم سمعت عميدا لكلية الطب في باريس يقول‏:‏
إن من أمارات الضعف العقلي أن نبحث بعقولنا عما لا نستطيع أن ننفذ إليه‏,‏ والعقل القوي هو الذي يعرف حدود قدرته‏.‏ لقد أحسست عندئذ أن هذه الألفاظ قد أضاءت جانبا مظلما في نفسي‏,‏ فرأيت بوضوح ما كنت أحسه غامضا‏,‏ ومنذ ذلك الحين آمنت بتفاهة من يناقشني في الإيمان بعقله‏,‏ فهذا إنسان ضعيف العقل يبدد نشاطه هدرا‏,.‏
وهكذا يري مندور أن الإيمان أكبر من العقل‏,‏ فالإيمان ليس من المشاعر‏,‏ التي يصح للعقل أن يخوض فيها أو يتفلسف حولها ويدخل في تعقيدات صعبة لتعريفها أو نفيها أو إثباتها‏,‏ وإنما الإيمان هو عاطفة روحانية هادئة تسيطر علي النفس ولا يمكننا إخضاعها لمجادلات ذهنية عقيمة لا جدوى منها‏.‏ والإيمان في هذا المجال يشبه كل المعاني الكبيرة التي نشعر بها ولا نحتاج إلي أي تعقيد فلسفي في وصفها والتعامل معها مثل‏:‏
الحب والأمانة والنزاهة والصدق‏.‏ فكل هذه المعاني إنما نتوصل إليها بذوقنا وإحساسنا‏,‏ وندرك وجودها داخل نفوسنا دون أن نكون بحاجة إلي التظاهر بها‏,‏ ووضع شروط لها‏,‏ ووصفها كما نصف الأشياء المادية التي نلمسها بأيدينا‏.‏
ويواصل الدكتور مندور حديثه الرائع في اعترافات مؤمن فيقول‏:‏ أنا إذن لا أحب الحديث عن الإيمان‏,‏ ولا أومن بالدعوة إليه‏,‏ ولكنني مع ذلك مؤمن إيمانا راسخا وليست لي في الحياة قوة غير هذا الإيمان‏,‏ فأنا مؤمن بإله عادل اطمأنت إليه نفسي بحيث لا أذكر أنني اتجهت إليه يوما فلم أجد تأييده‏,‏ وعندما أدعوه يسكت في نفسي طنين الفكر فلا أحس في نفسي غير الصمت الساكن‏,‏ ولا أفكر حتى في وسائل القوة التي أبغيها‏,‏ وإنما أساق بعد ذلك في غير وعي كالآلة المسيرة‏,‏ وأكتفي بما أستشعر به من ثقة بأنني مادمت قد تركت السكون إلي الحركة فإنني في سواء السبيل‏,‏ ومهما تكن بعد ذلك من صعوبات فلا يمكن أن يساورني شك في أنها سوف يتم تذليلها ولو في اللحظة الأخيرة‏,‏ وهذا هو الإيمان الهادي‏.‏
ولكن كيف وصل مندور إلي هذا النوع من الإيمان الجميل؟‏.‏ إنه لم يصل إليه بإجهاد عقله فيما لا يستطيع العقل أن ينفع فيه‏,‏ ولم يصل إليه بالمناقشات الفلسفية المعقدة‏,‏ ولا بالحرص علي الشكليات والمظاهر وتوافه الأمور‏,‏ ولا بالاستماع إلي من يحترفون الدعوة للإيمان وكأنما هو عندهم تجارة أو مذهب سياسي يدعو إليه أصحابه ليكسبوا له الأنصار والمؤيدين والأصوات الانتخابية‏,‏ بل لقد وصل مندور إلي الإيمان من خلال رياضة نفسيه قام بها وحده‏,‏ واعتمد فيها علي أشياء بالغة البساطة من حيث يقول‏:‏
‏...‏ من أين لي بهذا الإيمان‏,‏ وقد لقيت ضروبا من الناس‏,‏ وقرأت ألوانا من الكتب‏,‏ ودرست أنواعا من اللغات والثقافات‏,‏ وخبرت الحياة‏,‏ هزلها وجدها‏,‏في كافة الأجواء وتحت مختلف السموات؟‏.‏ أستطيع اليوم بعد أن نضجت ملكاتي أن أقول إنني لم يقنعني أحد بهذا الإيمان‏,‏ ولا اكتشفته في بطون الكتب‏,‏ ولا تلقيته من أفواه البشر‏,‏ وإنما هو إحساس قديم تمكن من نفسي بفضل حوادث صغيرة كانت بيني وبين أبي‏.‏
بعد ذلك يروي مندور أحداثا صغيرة بسيطة وقعت له وجعلت معني الإيمان عميقا في نفسه فيقول‏:‏
عندما اختارتني الجامعة لبعثتها حدث حادثان صغيران كان لهما في نفسي أبلغ الأثر‏:‏ أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت المصحف علي قمة الكتب‏,‏ ورأي والدي ذلك ــ بالصدفة ــ فسر سرورا لم أقصد إليه وإنما جاء بتوفيق من الله‏.‏ وتحدث أبي مع إخوتي عما رآه قائلا‏:‏ إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسوف يوفق في كل ما يعمل لأنني لاحظت أنه وضع كتاب الله فوق كل كتاب‏.‏ ثم إنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن أحتفظ بها مدة غيبتي وأن أعود بها إليه‏,‏ وكانت الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي علي الهدي‏.‏
وكلمة نقشبند هي كلمة فارسية معناها النقش علي القلب‏.‏ والنقشبندي هو من ينقش اسم الله علي قلبه‏.‏ وقد أخذت المنديل من أبي واحتفظت به خلال الأعوام التسعة التي مكثتها في أوروبا وعدت إلي مصر والمنديل لا يزال بين ملابسي‏.‏ ولا أستطيع أن أزعم أن هذا المنديل كان له علاقة بإيمان خاص أو قوة معينة‏,‏ بل ولا فكرت في شيء من ذلك علي الإطلاق‏,‏ ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح‏,‏ وقد اختلطت الهدية في نفسي بمحبتي لمهديها ــ أي أبي ــ وإيماني به‏,‏ وكان لذلك كله فضل دائم
في ردي إلي الإيمان كلما تجهمت لي الحياة‏.‏
ثم يصل مندور إلي القمة العالية لمعني الإيمان في نفسه فيقول‏:‏ لقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلي الغير‏,‏ حتى لأحسب أنني عاجز أصلا عن بغض أحد‏,‏ فقد يقسو قلمي ويلذع لساني‏,‏ ولكنني ما عدت إلي نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه‏.‏
ثم يروي مندور حادثة أخري أثرت في نفسه أعمق التأثير فيقول‏:‏ كان لوالدي تسعة إخوة وكان يحبهم جميعا حبا قلبيا صادقا حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه وهو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار‏,‏ وكان أصغر إخوته رجلا كريما متلافا لماله‏,‏ وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرم أخيه الصغير وإن أحزنه إتلافه لما له‏.‏ ثم حدث أن وقع هذا الأخ الصغير في ديون طائلة‏,‏ وكان والدي يستطيع أن يساعده في سداد هذه الديون من ماله الخاص‏,‏ فلم يتردد في ذلك‏,‏ وكانت والدتي مثل كافة الأمهات تحرص علي أن يستبقي والدي أمواله لأبنائه‏,‏ وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي‏,‏ فانتحي بي والدي في الليل ناحية وأسر لي بنيته في مساعدة أخيه وطلب مني أن أخفي الأمر عن والدتي وأخي‏.‏ وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري‏.‏ وقد رأيت فيما قاله والدي لي ثقة بي برغم حداثة سني مما ترك في نفسي أبلغ الأثر‏,‏ فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير‏,‏ وآمنت أنه جزء من الإيمان‏,‏ حتى استقر بي الرأي إلي أن عون الملهوف وإسداء المعروف إلي الناس لابد أن يخلفه الله بالخير علي صاحبه‏,‏ ولازلت حتى اليوم أعتقد أن بركة الله قد حلت بمال والدي منذ ذلك الحين‏,‏ وذلك لأنه مال لم يطهره بالزكاة فحسب‏,‏ بل زكاه بالإحسان‏.‏
وينتهي مندور إلي هذه النتيجة أو الخلاصة العامة فيقول‏:‏
‏..‏ هذه هي عناصر الإيمان في نفسي‏:‏ اطمئنان إلي المجهول‏,‏ وعدم تطاول بالعقل إلي مالا يستطيعه‏,‏ وربط للأخلاق بالإيمان‏,‏ وتسامح مع الناس‏,‏ وعمل للمعروف حيث نستطيع ذلك‏.‏ وأما منابع هذا الإيمان فهي كما تري لم تكن مجادلة عقلية‏,‏ ولا إثارة عاطفية‏,‏ ولكنها كانت حوادث صغيرة هي أبلغ في غرس الإيمان بالنفس من كبار الموسوعات وطوال الخطب‏.‏
وهكذا يقدم الدكتور محمد مندور في اعترافات مؤمن صورة حقيقية رائعة للإيمان الصحيح‏,‏ فهو شعور داخلي طبيعي سهل غير معقد‏,‏ وهو إحساس بعيد عن المظاهر والشكليات‏,‏ وهو فيض روحي لا يحتاج إلي محترفين يدعون إليه بالتهديد أو الوعيد أو غير ذلك من الأساليب‏,‏ والمؤمن السعيد بإيمانه لا يكرر الحديث عن هذا الإيمان أو يتفاخر به‏,‏ وإنما يحتفظ به في داخل نفسه‏,‏ فيظهر في سلوكه الطيب ومعاملته الكريمة للناس‏,‏ ويفيض منه علي وجهه نور لا تراه العيون وإنما تحس به القلوب المرهفة والنفوس الصافية‏.‏ وعندما يحدثنا مندور عن المصحف والمنديل‏,‏ فهو يحدثنا حديثا نفسيا موسيقيا جميلا‏,‏ وهو يقول لنا إن كل إنسان في هذه الدنيا من حقه أن يكون له كتابه المقدس مهما كانت ديانته‏,‏ وأن يكون له منديله الذي يحمل معه ذكريات جميلة تبعث في نفسه كل معاني الحب والحنان وانشراح الأرواح‏.‏
..........................
*الأهرام ـ في 11/8/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:24 AM
( 27 ) بين طه حسين وتوفيق الحكيم وجبران:
مقال لطه حسين يجعل من توفيق الحكيم نجما أدبيا بين يوم وليلة

بقلم: رجاء النقاش
.......................

عندما مات جبران خليل جبران سنة 1931 عن ثمانية وأربعين عاما، كان توفيق الحكيم لا يزال مجهولا من الحياة الأدبية في مصر والعالم العربي، وكان الحكيم في الثالثة والثلاثين من عمره، ولم يسطع نجم توفيق الحكيم إلا بعد وفاة جبران بعامين، أي سنة 1933، وذلك عندما أصدر الحكيم مسرحيته "أهل الكهف" فتلقفها طه حسين في فرح وسعادة، ورحب بها ترحيبا واسعا، وأشاد بها إشادة كبيرة واعتبرها فتحا جديدا في الأدب العربي، ذلك أن الأدب العربي قبل ظهور "أهل الكهف" لم يكن قد عرف "فن الحوار" أو الفن الذي يمكن أن نسميه بالأدب المسرحي.
كان هناك مسرح عربي ولكنه كان في معظمه قائما على الترجمة والاقتباس. ولم تكن لنصوص المسرح العربي قيمة أدبية خارج التمثيل فوق خشبة المسرح، ولكن توفيق الحكيم بمسرحيته "أهل الكهف" كان يقدم نصا كاملا قائما على حوار أدبي سليم ودقيق، ومقال طه حسين عن "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم تعتبر من المقالات النقدية المهمة في الأدب العربي المعاصر، لأن هذا المقال أحدث هزة كبيرة في الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي، وكان هو السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم التي بدأت قوية ساطعة منذ اللحظة الأولى، فتوفيق الحكيم لم يكدح طويلا في سبيل النجاح الأدبي كما حدث مع نجيب محفوظ، فقد قضى نجيب محفوظ ما يقرب من عشرين سنة يكتب وينشر رواياته المختلفة، وهو يكاد يكون في الظل طيلة هذه السنوات العشرين، حيث لم يلمع اسمه إلا في أواخر الخمسينيات، وهو يكتب وينشر قصصه ورواياته منذ أواخر الثلاثينيات. أما توفيق الحكيم فقد ظهر منذ اللحظة الأولى نجما ساطعا، وأصبحت له شهرة واسعة بعد أن أصدر مسرحيته الأولى "أهل الكهف" والفضل في ذلك يعود إلى طه حسين وإلى نفوذه الأدبي لدى جماهير المثقفين، فعندما كتب طه حسين عن توفيق الحكيم بحماس شديد، أصبح توفيق الحكيم نجما، وأصبح واحدا من كتاب الصف الأول في الأدب العربي المعاصر منذ بدايته، ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم هو نموذج حي على تأثير "الناقد" في الحياة الأدبية وأذواق الناس، فعندما يكون الناقد صاحب كلمة مسموعة وموثوق بها، فإنه يستطيع أن يبني ويهدم، ويستطيع أن أن يخلق نجوما ويطفئ نجوما أخرى.
وقد كان طه حسين عند أول ظهور لتوفيق الحكيم سنة 1933، هو هذا الناقد القوي، صاحب التأثير الواسع على الناس، وصاحب الكلمة المسموعة بينهم، ولعل هذه الحادثو الأدبية التاريخية تلفت النظر إلى أهمية "النقد" القوي المؤثر في حياتنا الأدبية، وفي حياة أي أدب آخر من آداب العالم، وبدون "الناقد" القوي الواعي الشجاع فإن الحياة الأدبية تفقد القيادة السليمة وتضيع منها أية رؤية واضحة.
ومقال طه حسين عن توفيق الحكيم منشور في كتابه "فصول في الأدب والنقد"، وأمامي منه طبعة "دار المعارف"، وليس للطبعة تاريخ مدون عليها، وهذا من أسوأ أخطاء الناشرين العرب، والتي لا يزال البعض يقع فيها حتى الآن، والسبب في ذلك هو سبب تجاري، فقد ييكون توزيع الكتاب بطيئا، وقد يستغرق توزيعه عدة سنوات، والناشر لا يريد أن يشعر القارئ الذي يشتري الكتاب بعد سنوات من صدوره أنه يشتري كتابا قديما، وقد كان الناشرون في الجيل الماضي مثل أصحاب "دار المعارف" معذورين لأن سوق الثقافة كانت محدودة، وتوزيع الكتب كان بطيئا، أما الآن فقد اتسع سوق الثقافة، بالإضافة إلى أن تسجيل تاريخ صدور الكتب هو واجب علمي وأمانة مفروضة على أساليب النشر السليمة، فلا معنى لإصرار بعض الناشرين على تجاهل تاريخ صدور الكتاب والنص عليه في كل طبعة.
ونعود إلى مقال طه حسين الذي كشف الستار عن توفيق الحيكم وجعل منه نجما أدبيا بين يوم وليلة، لنجد طه حسين يتحدث عن مسرحية الحكيم الأولى "أهل الكهف" في فرح وحماس وتبشير بميلاد موهبة جديدة فيقول في أول مقاله "... أما قصة "أهل الكهف" فحادث ذو خطر. لا أقول في الأدب المصري وحده، بل في الأدب العربي كله، وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به، مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول، إن فنا جديدا قد نشأ فيه وأضيف إليه، وإن بابا جديدا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة، ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن؟. نعم. هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصرا جديدا.
ولست أزعم أنها قد برئت من كل عيب، بل سيكون لي مع الأستاذ توفيق الحكيم حساب لعله لا يخلو من بعض العسر، ولكنني على ذلك لا أتردد في أن أقول إنها أول قصة وضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تسمى قصة تمثيلية، ويمكن ان يقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له، ويمكن أن يقال إنها رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة، ويمكن أن يقال إن الذين يعنون بالأدب العربي من الأجانب سيقرأونها في إعجاب خالص لا عطف فيه ولا إشفاق ولا رحمة لطفولتنا الناشئة.
بل يمكن أن يقال إن الذين يحبون الأدب الخالص من نقاد الأدب الأجانب يستطيعون أن يقرأوها إن ترجمت لهم، فسيحدون فيها لذة قوية، وسيجدون فيها متاعا خصبا، وسيثنون عليها ثناء عذبا كهذا الذي يخصون به القصص التمثيلية البارعة التي ينشئها كبار الكتاب والأوروبيين".
هذا هو ما كتبه طه حسين في مقدمة مقاله عن توفيق الحكيم ومسرحيته الأولى "أهل الكهف"، وقد ظهر هذا المقال بعد نشر الطبعة الأولى من المسرحية سنة 1933، ونشره طه حسين في مجلة "الرسالة" في عددها التاسع الصادر بتاريخ 15 مايو سنة 1933، أي بعد أسابيع قليلة من صدور مسرحية "أهل الكهف"، ثم أعاد طه حسن نشره في كتابه "فصول في الأدب والنقد".
هذا المقال النقدي الذي كتبه طه حسين هو الذي جعل توفيق الحكيم نجما أدبيا من أول خطوة له، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن طه حسين قد وفر على توفيق الحكيم ما لايقل عن عشر سنوات من الجهد المتواصل لكي يصل إلى ما وصل إليه منذ بداية حياته الأدبية.
ولا شك أن توفيق الحكيم كان شديد الذكاء والمهارة والدهاء، وذلك إلى جانب موهبته التي لا شك فيها. فتوفيق الحكيم لم يطبع مسرحته "أهل الكهف" طبعة شعبية عند صدورها لأول مرة، بل طبع منها ـ على نفقته ـ طبعة محدودة من ثلاثمائة نسخة فقط، وقام بإهدائها إلى طه حسين وغيره من كبار الأدباء والنقاد المعروفين في ذلك الوقت، أي أنه اتجه منذ البداية إلى أن يحصل على اعتراف النقاد به قبل أن يتوجه للجمهور العام، والطبعة الأولى من "أهل الكهف" مفقودة ولا يمكن العثور عليها حتى في "دار الكتب المصرية"، وكان من حسن الحظ أن وقعت في يدي نسخة من هذه الطبعة الأولى لـ"أهل الكهف"، أحتفظ بها وأعتبرها من الأشياء الثمينة التي أعتز بها. وبعد هذه الطبعة الأولى المحدودة، أصدر توفيق الحكيم طبعة شعبية لقيت نجاحا واسعا بعد أن أشاد بها طه حسين ولفت الأنظار إليها، وإلى كاتبها الجديد.
من ناحية أخرى فإن توفيق الحكيم كان من عادته التي ملازمة له حتى وفاته سنة 1987 أن يكتب مؤلفاته ويحتفظ بها لنفسه، ثم ينشرها عندما يرى الأجواء مناسبة لنشرها. ولذلك فعندما أصدر "أهل الكهف" ولقيت النجاح الذي كان يرجوه، سارع بإصدار روايته الجميلة المعروفة "عودة الروح" في نفس العام، أي سنة 1933، ثم أصدر مسرحيته النثانية "شهر زاد" سنة 1934، وتوالت أعماله الأدبية بعد ذلك دون توقف.
وقد ساعد هذا كله على تدعيم نجاحه، وتوسيع قاعدة شهرته والاهتمام به من جانب القراء والنقاد. وقد بقي توفيق الحكيم على عادته هذه حتى البنهاية، فكان يكتب أولا ويحتفظ بكتاباته ولا ينشرها بعد الانتهاء منها مباشرة، بل يختار التوقيت المناسب لنشرها وتقديمها إلى الناس، فقد كان يحرص دائما على أن تكون له "مدخرات أدبية" كثيرة ويحرص أن ينفق هذه المدخرات، أي ينشرها بحساب شديد للذوق السائد واللحظة المناسبة والفرصة الصحيحة لخلق التأثير الذي يريده لأعماله. ولم يكن توفيق الحكيم مثل غيره من الأدباء والكتاب الذين يعتبرون تعود معظمهم على نشر ما يكتبونه فور الانتهاء منه.
ولا أريد أن أترك الحديث عن مقال طه حسين الذي كان السبب الأول في شهرة توفيق الحكيم السريعة، دون أن أتوقف أمام ملاحظتين هامتين أثارهما طه حسين في مقاله عن توفيق الحكيم حيث قال:
"... ولكن! وما أكثر أسفي للكن هذه! وما أشد ما أحببت ألا أحتاج إلى إملائها. ولكن في القصة، أي "أهل الكهف"، عيبان: أحدهما سوءني حقا، ومهما ألوم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم، وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، هذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب ما، فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم قد فتح في الأدب العربي فتحا جديدا لا سبيل إلى الشك فيه، وأنا أكبر الأستاذ، وأكبر قصته عن أن أقف عند هذه الأغلاط القبيحة التي يمس بعضها جوهر اللغة، ويمس بعضها النحو والصرف، ويمس بعضها الأسلوب وتركيب الجمل.
ولا أتردد في أن أكون قاسيا عنيفا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعته هذه الجميلة، وأن يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصلح ما فيها من أغلاط. وأنا سعيد أن اتولى عنه هذا الإصلاح إن أراد، ولعل ما سيتكلفه من الطبعة الثانية خليق أن يعظه وأن يضطره إلى أن يستوثق من صوابه اللغوي فيما يكتب قبل أن يذيعه على الناس.
أما العيب الثاني فله خطره ولكنه على ذلك يسير، لأن القصة هي الأولى من نوعها، كما يقولون. هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه، فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة "أي المشاهدين" حقوقا يجب أن تراعى، فأطال في بعض المواضع، وكان يجب أن يوجز، وفصل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل، وتعمق في بعض المواضع وكان ينبغي أن أن يكتفي بالإشارة ولعله يوافقني على أن من الكثير على النظارة "المشاهدين" أن يستمعوا في الملعب "أي المسرح" لهذه الاقصة الجميلة جدا، الطويلة جدا، التي تقصها "بريسكا" على "غالياس" وهي تودعه وقد اعتزمت أن تموت في الكهف مع عشيقها القديس.
هذا العيب خطير لأنه يجعل القصة خليقة أن قرأ لا أن تمثل، وأنا حريص أشد الحرص على أن تمثل هذه القصة، وأثق أشد الثقة بأن تمثيلها سيضع الأستاذ على ما فيها من عيب فني، وسيمكنه من اتقاء هذا العيب في قصصه الأخرى، ومن إصلاحه في هذه القصة".
هذان العيبان اللذان أشار إليهما طه حسين في مقاله الهام عن توفيق الحكيم، أما العيب الأول، وهو الأخطاء اللغوية، فقد تخلص منه توفيق الحكيم في الطبعة الثانية الشعبية لمسرحية "أهل الكهف"، وتخلص منه نهائيا بعد ذلك في أعماله التالية، فقد أصبح توفيق الحكيم من كبار العارفين بأصول اللغة العربية، ومن الذين يحرصون على الصواب والدقة فيها، وقد ساعد ذلك على أن يحتل توفيق الحكيم مكانته الأدبية العالية، فهو صاحب أسلوب سهل ناعم ولعله عند دراسة أساليب أدباء الجيل الماضي يكون صاحب أجمل وأبسط الأساليب بين هؤلاء الأدباء جميعا بمن فيهم طه حسين، وعندما أضاف توفيق الحكيم إلى موهبته الرفيعة في الأسلوب البسيط الجميل الذي يتميز بالإيقاع السريع والذي لا يفرض على القارئ لحظة ملل واحدة.
عندما أضاف توفيق الحكيم إلى هذه الموهبة العالية في الأسلوب دقة لغته، أصبح الحكيم في المقدمة من أصحاب الأساليب الخاصة المتميزة في الأدب العربي المعاصر، بل في الأدب العربي كله منذ نشأته إلى اليوم.
أما العيب الثاني الذي أشار إليه طه حسين، وهو أن مسرحيات توفيق الحكيم يمكن أن تصبح قابلة للقراءة وغير قابلة للتمثيل، فهو عيب أساسي ظل يلاحق أعمال توفيق الحكيم المسرحية حتى نهاية حياته، وقد حاول توفيق الحكيم أن يجد لذلك العيب مخرجا في اصطلاح فني هو اصطلاح "المسرح الذهني"، وهو اصطلاح ذكي، ولكنه لم يستطع أن ينقذ أعمال توفيق الحكيم المسرحية من "المأزق" الذي نبهه إليه طه حسين منذ البداية. فقد كانت أعمال مسرحية كثيرة لتوفيق الحكيم تستعصى على تقديمها فوق خشبة المسرح، لإفراطها في الحوار النظري، وعدم توفيرها للحداث الضروريةالجذابة المتماسكة التي يمكن أن تمسك بالمشاهدين من بداية العرض المسرحي حتى نهايته.
وفي بعض الأحيان تبدو مسرحيات توفيق نوعا من التفكير الخالص مثلها في ذلك مثل "محاورات أفلاطون"، وهي محاورات فلسفية ذهنية لا يمكن تقديمها على المسرح، وقد حاول توفيق الحكيم ان يتخلص من هذا العيب الأساسي في مسرحياته المختلفة، فنجح أحيانا مثلما نجد في مسرحية "السلطان الحائر" ومسرحية "الصفقة" ومسرحية "الأيدي الناعمة"، ولكنه في كثير من من مسرحياته الأخرى ظل محصورا في مجال "المسرح الذهني" الذي يمكن قراءته ويصعب تمثيله على المسرح كما هو الحال في مسرحية "شهرزاد" ومسرحية "سليمان الحكيم" ومسرحية "بجماليون" وغيرها من مسرحيات توفيق الحكيم.
ولا شك أن ملاحظة طه حسين حول مسرحية "أهل الكهف" كانت دقيقة وخطيرة، ولو التفت إليها توفيق الحكيم بدرجة كافية من العناية، كما التقت إلى أخطائه اللغوية، لتغير الوضع الراهن لمسرح توفيق الحكيم، ولأصبح هذا المسرح كله قابلا للتمثيل، لا ببقراءة فقط، وللأسف فإن النسبة الأكبر من مسرح توفيق الحكيم غير قابلة للتمثيل، أما ما هو قابل للتمثيل من مسرحياته فهو نسبة أقل من المسرحيات الفكرية التي تقوم على الحوار الفلسفي الجميل الممتع، وتخلو من الأحداث المتماسكة الجذابة، والتي هي شرط أساسي للنجاح فوق خشبة المسرح.
على ان توفيق الحكيم رغم ذلك كله يبقى واحدا من أكبر وأعظم الأدباء العرب في كل العصور، فهو لم يكن كاتبا مسرحيا فقط، بل كان روائيا، وناقدا، ومفكرا ساسيا، وكاتب مقال من الدرجة الأولى، وهو صاحب أسلوب متميز يبدو لي أفضل من أسلوب بين أدباء الجيل الماضي، بل وأرقاها وأبسطها وأجملها في الأدب العربي كله.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:24 AM
هذا بعض ما كان بين توفيق الحكيم وطه حسين، فماذا كان بين توفيق الحكيم وحبران؟
في 15 مايو سنة 1935 نشرت مجلة "مجلتي" التي كان يصدرها الأديب والصحفي المعروف أحمد الصاوي محمد مسرحية من فصل واحد لتوفيق الحكيم تحت عنوان "نهر الجنون"، وبعد أقل من شهر، وبالتحديد في 11 فيراير 1935، نشرت مجلة "الرسالة" مقالا عنوانه "إلى الأستاذ توفيق الحكيم ـ سياحة في نهر الجنون ـ هل هناك اقتياس..؟!"، وكاتب هذا المقال ذي العنوان الطويل هو أديب لم يصادفني اسمه بعد ذلك أبدا، ولم أقرأ له شيئا غير هذا المقال، وهو أديب اسمه "جورج وغريس" من الإسكندرية. وربما كان هذا الاسم اسما مستعارا لأديب من أدباء الإسكندرية، وربما كان أديبا من الأدباء ذوي الأصل الشامي الذين كانوا يعيشون في الإسكندرية في ذلك الوقت ومنهم خليل شيبوب وشقيقة صديق شيبوب وفيلكس فارس وغيرهم، والذي يرجح عندي أنه أديب شامي هو أنه يقارن في مقاله بين عملين لتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران، ولم يكن جبران معروفا في تلك الفترة على نطاق واسع بين الأدباء المصريين، رغم أن شهرته بين ادباء الشام كانت واسعة، أما لماذا أتصور أنه اسم مستعار فلأنني لم أقرأ لصاحب هذا الاسم شيئا سوى هذا المقال الجيد، وربما كان تصوري خاطئا.
يقول كاتب المقال:
"ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في "نهر الجنون"، ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من "مجلتي" الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف يناير الماضي 1935، والحق أنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهلت جرعة من مائه، فليس أحب إلى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب "أهل الكهف" و"شهرزاد" و"عودة الروح". و"نهر الجنون" الذي خطر لي أن اكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الطبيعة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به: "حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون..." فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، فإذا بهما في تمام قواهما العقلية، أما الملكة وسائر أفراد الشعب فإنهم يتعافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون".
ويستمر الكاتب في تلخيص مسرحية "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم والتي تنتهي بأن يضطر الملك ووزيره للشرب من نهر الجنون ليكونا مثل بقية أفراد الشعب، بعد أن كان الشعب يتهمهما ـ وهما العاقلان الوحيدان في البلاد ـ بأنهما المجانين. ومسرحية توفيق الحكيم تنتهي بهذا الحوار بين الملك ووزيره:
الوزير: أجل يا مولاي! وإنه لمن الخير أن تعيش الملكة والناس في تفاهم وصفاء ولو منحت عقلك من أجل هذا ثمنا.
الملك: (في تفكير) نعم. إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة والناس كما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني..؟
الوزير: لا شيء.. إنه يحعلك منبوذا من الجميع، مجنونا في نظر الجميع.
الملك: إذن فمن الجنون ألا اختار الجنون؟
الوزير: هذا عين ما أقول.
الملك: بل إنه لمن العقل أن أؤثر الجنون.
الوزير: هذا لا ريب عندي فيه.
الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون؟
الوزير: (وقد بوغت) انتظر.. (يفكر لحظة) لست أتبين فرقا.
الملك: (في عجلة) إليّ بكأس من ماء النهر.
وهكذا يشرب الملك ووزيره من "نهر الجنون" ويصبحان من المجانين مثل الملكة وسائر أبناء الشعب. ويقول كاتب المقال بعد أن لخص مسرحية توفيق الحكيم وقدم جزءا من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره:
"... هذا مجمل القصة، والجزء المهم من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره، وانتهيا منه بأن العقل لا يغنيهما شيئا في مملكة من المجانين، لذلك آثرا أن يكونا منهم. وموضوع القصة ـ كما نرى ـ طريف وليس في هذا مجال لشك أو موضع لغرابة، ولكن مما استرعى نظري أنني كنت أقرأ بدايتها قراءة الشاعر بما سيحدث في نهايتها، فما أتيت على آخرها ظللت أفكر فيمن سمعت او قرأت عنه تلك القصة، حتى هداني التفكير إلى كتاب "المجنون" للمرحوم جبران خليل جبران، فعثرت فيه على قصة قصيرة تحت عنوان "الملك الحكيم".. ثم يقدم الكاتب نص قصة جبران، وهي قصة فصيرة جدا، لذلك فلا بأس من ان نقدم نصها هنا. يقول جبران في قصته:
"كان في إحدى القرى النائية ملك جبار حكيم، وكان مخوفا لجبروته، محبوبا لحكمته، وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب يشرب منه جميع سكان المدينة، من الملك وأعوانه فما دون، لأنه لم يكن في المدينة سواه "أي البئر"، وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقاط من سائل غريب، وقالت: "كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنونا، وفي الصباح شرب كل سكان المدينة من ماء البئر، وأصبحوا مجانين على نحو ما قالت الساحرة، ولكن الملك ووزيره لم يشربا من ذلك الماء. وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكانها من حي إلى حي، ومن زقاق إلى زقاق قائلي:"قد جن ملكنا ووزيره، إم مكلنا ووزيره قد أضاعا رشدهما. وفي ذلك المساء سمع الملك بما جرى، فأمر على الفور بملء حق ذهبي، كان قد ورثه عن أجداده، من مياه البئر، فملأوه في الحال وأحضروه إليه، فأخذه الملك بيده وأداره على فمه، وبعد أن ارتوى من مائه، دفعه إلى وزيره فأتى الوزير على بقيته، فعرف سكان المدينة بذلك، وفرحوا فرحا عظيما جدا، لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما".
وبعد أن أورد الكاتب نص قصة جبران القصيرة قال:
"فما رأي القارئ اللبيب في هذا؟.. أليس هناك تشابه تام بين القصتين في الفكرة والمعنى والأشخاص وفي بعض الألفاظ؟.. إني مع احترامي الشديد وتقديري العظيم للكاتب الفنان توفيق الحكيم أرى في ذلك أحد أمرين: إما أن تكون فكرت توفيق الحكيم ماخوذة مما كتبه المرحوم جبران خليل جبران، وليس في هذا حرج، ولكنه كان الأجدر بالكاتب توفيق الحكيم أن يذكر اسم المؤلف الذي أخذ عنه تلك الفكرة، وله بعد ذلك الفضل في تقريبها إلى الأذهان بصوغها في قالبه الخاص الرائع، وفي تحويرها من حكاية قصصية إلى قصة تمثيلية، وإما أن يكون ذلك من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأفكار بين كاتبين مختلفين في زمنين متقاربين، وليس في هذا أيضا من حرج.. ولكن دعني ألا أعتقد به هنا قبل أن تأتيني بجرعة من ماء ذلك النهر في حق من ذهب أو إناء من خزف".
ومعنى هذا التلميح الأخير في مقال الكاتب أن لا يعتقد في أن المسألة توارد خواطر، وأن القضية في حقيقتها هي اقتباس صريح، أو سرقة من جانب توفيق الحكيم لقصة جبران خليل جبران.. وإن كان من باب التهذيب والتعفف لم يذكر كلمة السرقة.
وقد علقت مجلة "الرسالة" على مقال الكاتب بعبارة قالت فيها "... هناك فرض ثالث وهو أن يكون مصدر الكاتبين واحدا".
وبعد أسبوع من ظهور المقال في مجلة "الرسالة" كتب توفيق الحكيم تعليقا نشرته المجلة في عددها التالي رقم 85 والصادر بتاريخ 18 فبراير سنة 1935، وفي هذا التعليق يقول توفيق الحكيم:
"قرأت في العدد الأخير من مجلة "الرسالة" الغراء كلمة لأديب فاضل عن فكرة "نهر الجنون" وتماثلها مع فكرة قطعة نثرية لجبران خليل جبران. وقد حار الأديب علة هذا التشابه، وافترض بعض الفروض، وعقبت الرسالة بفرض قريب من الحقيقة. وردا على ذلك أقول إني سمعت عن هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسن كغيرها من الأساطير، ولا ريب عندي أن جبران خليل جبران لم يخترع هذه القصة اختراعا، وإنما كتبها كما سمعها من الناس. ومثل هذه الساطير ما ابتدعها كاتب، وإنما نبتت من قديم الزمان بين الشعوب والأجناس كأكثر النوادر والحكم والأمثال. وإني لم أكن أعلم قط قبل اطلاعي على عدد الرسالة الأخير أن أحدا من الكتاب والشعراء قد تناول من قبل هذه الأسطورة ولم يصل إليّ خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس".
ذلك ما كتبه توفيق الحكيم دفاعا عن نفسه ضد اتهامه بالاقتباس أو السرقة من جبران خليل جبرا، والحقيقة أن التشابه بين مسرحية "نهر الجنون" لتوفيق الحكيم وقصة جبران هو تشابه واضح لا يستطيع أن يجادل فيه أحد بالإضافة إلى أن جبران كتب قصته قبل أن يكتب الحكيم مسرحيته "نهر الجنون" بسنوات طويلة، مما جعل الشبهة في الاقتباس أو السرقة قائمة، ولكن دفاع توفيق الحكيم عن نفسه معقول، ويمكن الاقتناع به، فقصة "نهر الجنون" هي أسطورة شعبية قديمة تنتقل بين الناس من جيل إلى جيل، فالمادة القصصية موجودة قبل أن يكتبها جبران او توفيق الحيكم، ويبدو لي أن توفيق الحكيم كان صادقا في حجته أو دفاعه عن نفسه، فأعمال جبران لم تكن منتشرة في مصر في تلك السنوات الأولى من الثلاثينيات، كما أشرت من قبل، والمصريون لم يعرفوا أعمال جبران معرفة واسعو إلا بعد ذلك بسنوات طويلةن كما أن أي بحث أدبي منصف يؤكد أن الأصل في القصة هو الأسطورة الشعبية المنتشرة بين الناس، والتي لا تختلف في تفاصيلها القصصية عما ورد في مسرحية الحكيم أو قصة جبران.
وهكذا نجا توفيق الحكيم من تهمة الاقتياس أو السرقة. ولكن الطريف في الأمر أن توفيق الحكيم ظل طيلة حياته يعاني من تهمتن، أما التهمة الأولى فهي التي أشار إليها طه حسين في مقاله الذي كان سببا في أول أضواء يتم تسليطها على توفيق الحكيم وهي تهمة "المسرح الذهني" الذي يصلح للقراءة أكثر مما يصلح للتمثيل، أما التهمة الثانية فهي تلك التهمة التي وجهها إليه الأديب الإسكندراني المجهول "جورج وغريس"، والذي ما زلت أظن أنه اسم مستعار لأديب آخر من أدباء الشام المقيمين في الإسكندرية في تلك الفترة، والذين كانوا على معرفة واسعة بجبران وأدبه، وأقصد بهذه التهمة الثانية الموجهة إلى توفيق الحكيم: تهمة الاقتباس والتي حاول بعض النقاد أن يجعل منها نوعا من السرقة الأدبية الصريحة، فقد اتهمه بعض النقاد بأنه اقتبس روايته المعروفة الجميلة "الرباط المقدس" من رواية "أناتول فرانس"، وأنه اقتبس كتابيه "حمار الحكيم" و"حماري قال لي" من كتابات الكاتب الإسباني "خيمنيز".. وهناك اتهامات أخرى عديدة من هذا النوع، ولا تزال هاتان التهمتان معلقتين على رقبة توفيق الحكيم إلى اليوم وهما موضع دراسات عديدة، بعضها ينفي وبعضها يثبت.
على أن ذلك كله لا يمنع من القول بأن توفيق الحكيم (1898ـ1987) كان صفحة جديدة مشرقة من صفحات الأدب العربي في القرن العشرين، وكان نموذجا لعبقرية أدبية متنوعة الجوانب، قادرة على أن تبقى حية ومؤثرة في هذا الجيل وفي كل الأجيال القادمة، ويكفي أن نعيد هنا ما قلناه في البداية من ان توفيق الحكيم صاحب أسلوب من أجمل الأساليب التي عرفها الأدب، إن لم يكن أجملها على الإطلاق.
ــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الوطن العربي" ـ العدد 1183 ـ 5/11/ 1999

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:25 AM
( 28 ) من المحرر:
أستاذ رجاء النقاش.. شكراً!

بقلم: محمد جبريل
.....................

لم أعرف بحفل تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش في نقابة الصحفيين إلا من وسائل الإعلام.
من حق رجاء النقاش. ومن واجبي. أن اتحدث عن إسهامه الإيجابي في حياتنا الثقافية. لا كناقد فحسب. وإنما كمكتشف للطاقات الإبداعية الحقيقية.
كان النقاش أول من قدم الطيب صالح إلي قراء العربية. قرأ موسم الهجرة إلي الشمال. وجد فيها عملاً متميزاً. فلم يكتف بنشرها في روايات الهلال التي كان يرأس تحريرها. لكنه قدم لها بدراسة مطولة تبين عن جوانب التفوق. بما أتاح لمؤلفها أن يحصل علي المكانة التي يستحقها.
الدور نفسه قام به النقاش لشعراء الأرض المحتلة. سلط الضوء علي إبداعاتهم من خلال دراسات متعمقة.
وأذكر أن النقاش قدم لمبدع من أجمل أدباء الستينيات وأصدقهم موهبة. هو أحمد هاشم الشريف. لم يقصر مجلة الكواكب علي أخبار المغنيين والممثلين والراقصات. بل خصص جزءاً منها لإبداعات الأدباء.. أليسوا فنانين؟
كان تقديمه لأحمد هاشم الشريف في هذا الإطار. ولا زلت أذكر كلماته المتحمسة التي تبشر بميلاد مبدع حقيقي وموهوب. وإذا كان الشريف قد أهمل فن القصة الذي قدم فيه محاولات جميلة لحساب الخواطر الصحفية فإن النقاش ظل علي حرصه في تقديم من يراهم جديرين بذلك.
بالنسبة لي. فقد زارني الصديق الشاعر أحمد هريدي يوماً. عرض باسم النقاش أن أنشر كتابات لي في جريدة خليجية كان النقاش يشرف علي قسمها الثقافي. كانت لقاءاتي بالنقاش محدودة بحيث يصعب نسبتها إلي الصداقة. لكنه كرر عرضه شخصياً. ونشر لي بالفعل ماقدمته له.
وحين كان النقاش يعد لإصدار مجلة ثقافية في مستوي قومي. نقل لي الصديقان طلعت الشايب وحسين عيد عرض النقاش بأن أنشر فيها كتاباتي. وقدمت إلي المجلة المشروع دراسة مطولة بعنوان "نعم. مصر هي بيت أبي". وقلت للصديقين الشايب وعيد: إذا نشرت هذه الدراسة دون حذف فستكون هي البداية. وفوجئت بأن النقاش جعل الدراسة التي ناقشت وأدانت. أولي مواد العدد الصفر من المجلة. مامثل إلغاء لتصوري أنه ربما يجد فيها مايحول دون نشرها في مجلة حكومية لم تبدأ خطواتها بعد. وانتظرت نشر مقالات أخري في الأعداد التالية. لكن النقاش ترك رئاسة تحرير القاهرة في ظروف لا أعرفها. وطلبت استعادة ماقدمته إلي القاهرة باعتبار أنه كان استجابة لعرض منه.
أمثلة أخري كثيرة تخص الآخرين وتخصني تؤكد الدور الريادي الذي أضاء به رجاء النقاش جوانب حياتنا الثقافية. بداية من الكلمة الناقدة المسئولة. إلي رعاية كل الطاقات المبدعة التي يري أنها بعض دوره.
أستاذ رجاء النقاش.. شكراً!
..................................
*المساء ـ في 2/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:28 AM
( 29 ) رجاء النقاش .. مكتشف المواهب

بقلم : سعد هجرس
.............................

عندما كان أستاذنا الدكتور لويس عوض هو المشرف على الصفحات الثقافية بجريدة "الأهرام" فى الستينيات، بزغ نجم محرر ثقافى نابه فى ذلك الوقت هو مصطفى ابراهيم مصطفى الذى لفت الأنظار بمقالاته البديعة وخاصة تلك التى كتبها عن الفن التشكيلى.
وكان "مصطفى" هو الذى عرفنى عام 1966 بزميل له لا يقل ذكاء وموهبة هو وحيد النقاش.
وجاءت هزيمة 5 يونيه 1967 لتصدم جيلنا – الذى كان لا يزال غضاً فى عمر الزهور ومشحوناً بأمنيات وردية لا حدود لها – وتهزه من الأعماق.
وفى إطار تداعيات هذه الهزيمة المروعة قرر مصطفى ابراهيم مصطفى ووحيد النقاش شد الرحال والسفر من القاهرة التى غمرها ظلام "النكسة" إلى باريس عاصمة النور، ليس هرباً وإنما أملاً فى التوصل إلى إجابات علمية لطوفان الأسئلة التى طرحتها هذه الهزيمة غير المنطقية.
لكنها كانت رحلة فى اتجاه واحد .. فقد ذهبا بلا عودة. حيث مات "وحيد" فى أحد مستشفيات باريس، وعلى نفس السرير وبنفس المرض اللعين الذى هاجم الكبد لفظ مصطفى ابراهيم مصطفى – الذى اشتهر فى الصحافة الفرنسية بمصطفى مرجان – لفظ أنفاسه الأخيرة لتفقد مصر اثنين من أجمل مثقفيها الوافدين.
كانت هذه هى بداية تعرف الشخص بأول شخص من "آل النقاش" الذين أسعدنى الحظ بالتعرف على ثلاثة منهم. . ومنهن.
لكن العجيب أن ذلك لم يشمل "عميد" الأسرة، وألمع أفرادها فى الستينيات، ألا وهو الكاتب والناقد الأدبى الكبير رجاء النقاش.
ولم يكن ذلك راجعاً إلى صعوبة لقائه وجهاً لوجه، بقدر ما كان راجعاً إلى المكانة الكبيرة التى تبوأها فى ذلك الحين باعتباره واحداً من أصغر رؤساء التحرير، وهو منصب لا يتم التعيين فيه إلا بقرار سياسى من أعلى مستوى.
وبالتالى كانت النظرة الشائعة لدى المثقفين الثوريين فى ذلك الحين ان كل من يشغل منصب رئيس تحرير لابد أن يكون على "علاقة خاصة" بالسلطة.
وقد خلق ذلك الانطباع حاجزاً نفسياً بيننا وبين كل رؤساء التحرير، بما فى ذلك "التقدميون" منهم، الذين كان من السهل – والاستسهال – تفسير وجودهم فى هذه المواقع القيادية بأنه من لزوميات "تجميل" صورة النظام وخداع خلق الله، وبالذات عموم المثقفين.
وبالنسبة لعميد " آل النقاش"، أى الأستاذ رجاء، أضيف إلى هذا الحاجز النفسى "العام" حاجزاً نفسياً "خاصاً" من جراء إتهام صديقنا الشاعر أحمد فؤاد نجم، ورفيقه الشيخ إمام عيسى، له باتهامات شتى كان لها وقع سيئ علينا فى ذلك الحين، خصوصاً وأنه لم تكن هناك إمكانية التدقيق فى هذه الاتهامات، أو حتى الرغبة فى القيام بذلك.
فرغم أن رجاء النقاش كان أحد أفراد قلائل بذلوا مساعيهم الحميدة لتسليط الأضواء على ظاهرة نجم وإمام فى ذلك الحين وتقديمهم للجمهور من خلال حفل فى نقابة الصحفيين عام 1968، فان الشيخ إمام أتهم محمد فايق ومحمد عروق بمحاولة رشوتهما عن طريق رجاء النقاش، وقال إن عروق عرض عليه هو ونجم شيكات قيمة كل منها عشرة آلاف جنيه، وأنهما اعتبرا هذه الشيكات رشوة صريحة "أنتم عايزين تشترونا .. بس احنا ما نتبعش".
ورغم ان رجاء النقاش أكد أن هذه القصة كاذبة من الألف إلى الياء، وتنطوى على إساءة إلى شخصين من أشرف وأنبل الأشخاص هما محمد فايق ومحمد عروق، وأنه كان شاهداً أساسيا على القصة الملفقة وأن الشيك الذى صرف لهما هو 50 جنيها فقط نظير الاشتراك فى برنامج خاص بإذاعة صوت العرب.
رغم ذلك .. كانت الاتهامات التى أثارها نجم وإمام فى ذلك الحين سحابة دخان زادت من عدم وضوح الرؤية لقيمة رجاء النقاش ( وبالمناسبة فان نجم جدد هذه الاتهامات فى لقاء حديث له مع قناة الجزيرة وأضاف إليها اتهاما قاسياً للأستاذ رجاء النقاش بأنه كان وراء القبض عليه فى أيدى مرات اعتقاله).
وفى ظل هذه الرؤية الضبابية كان لقائى الأول وجهاً لوجه مع الأستاذ رجاء النقاش مصادفة عجيبة. حيث كان هناك موعداً بينى وبين أحد قادة اليسار المصرى، المناضل الكبير رجائى طنطاوى. وكانت هذه أول مرة أذهب إليه فى منزله بالقرب من نادى الصيد. وعند مدخل العمارة سألنى البواب عن وجهتى .. فقلت له إننى أريد الذهاب إلى شقة الأستاذ "رجائى" فأخذنى من يدى ودق جرس إحدى الشقق، وكان الذى فتح الباب هو رجاء النقاش وهى مصادفة عجيبة لأن إسم "رجاء" من الأسماء النادرة، فما بالك وأن يجتمع "رجاء" و "رجائى" فى نفس العمارة؟!
وبعد هذه المقابلة التى جاءت عن طريق الخطأ مر أكثر من 35 عاماً إلى أن قابلت الكاتب الكبير رجاء النقاش منذ بضعة أسابيع فى لقاء عام ضم عدداً من كبار الكتاب أذكر منهم الأساتذة جمال بدوى ونبيل زكى ورءوف توفيق.
وبين المقابلتين الشخصيتين العابرتين جرت مياه كثيرة فى النهر وتوالت أحداث وطرأت متغيرات وظهرت أسماء واندثرت أسماء وغير كتاب وصحفيون جلودهم، لكن وسط هذه التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيراً والكوميدية أحياناً تعرفت جيداً على رجاء النقاش ومن خلال كتاباته وليس من خلال أى شئ آخر من أشكال العلاقات العامة أو الخاصة.
وكانت الانجازات الفكرية والأدبية لرجاء النقاش هى التى تكفلت بتحطيم الحاجز العام والحاجز الخاص اللذين وقفا دون اقترابى من عميد آل النقاش فترة طويلة.
فرغم نجاة رجاء النقاش من البطش الذى لحق بمعظم المثقفين التقدميين فى الحقبة الناصرية، بل ونجاحه فى التمتع "بعلاقات خاصة" مع الحكم بينما كان زملاؤه قابعين فى غياهب السجون والمعتقلات، استطاع رجاء النقاش أن ينأى بنفسه – فى الأغلب الأعم – عن التحول إلى "بوق"، أو الوقوع فى مستنقع "خونة الثقافة".
بالعكس من ذلك عكف رجاء النقاش فى كافة العصور التى تعاقبت على مصر بعد سقوط النظام الملكى على مشروع نقدى ، تنويرى، تقدمى ، فى الاتجاه العام.
ويكفى الاشارة برءوس أسهم إلى أهم عناوين هذا المشروع النقدى:
الملمح الأول دخول رجاء النقاش بشجاعة إلى عش الدبابير حيث طالب بالاصلاح الدينى وتحرير القرآن من قيود عديدة.
وتساءل بهذا الصدد كيف يمكن أن ننظر للقرآن نظرة عصرية؟!
ورد على هذا السؤال الخطير بإجابة رائعة قال فيها بالنص:
علينا أن نحدد هذه القيود ثم نعمل بعد ذلك على تحرير القرآن منها حتى ولو أدّى بنا الأمر إلى تحقيق ثورة دينية مثل تلك الثورة التي قادها (لوثر) في عالم المسيحية الغربية وكانت هذه الثورة هي الحركة (البروتستانتية) المعروفة!
فما هي هذه القيود التي ندعو إلى التحرر منها؟
هناك قيود شكلية من بينها الإصرار على عدم كتابة مصحف بالخط العصري المعروف، والإصرار على أن تكون كل المصاحف مكتوبة بالخط القديم مما يشكل عقبة رئيسية أمام كل الأجيال الجديدة التي تريد أن تقرأ فتجد في كتابته عناء شديداً قد يؤدي إلى صرفها عن هذه القراءة نهائياً.
ففي المصاحف الحالية نقرأ هذه الكلمات:
(الصرط) بدلاً من (الصراط) و (الصلوة) بدلاً من (الصلاة) و (الزكوة) بدلاً من (الزكاة) و (أبصرهم) بدلاً من (أبصارهم) و (ظلمت) بدلاً من (ظلمات) و (السموات) بدلاً من (السماوات) و (جنت) بدلاً من (جنات)... إلخ.
إن من واجبنا ولا شك أن نحتفظ بالمصحف القديم بخطه المعروف، فذلك أثر عزيز من آثارنا لا يجوز أن نهمل في المحافظة عليه، ولكن يجب أن تكون لدينا (الشجاعة الدينية) الكافية لكي نطبع مصحفاً خالياً من هذه الحروف التي تجعل قراءته صعبة ومستحيلة إلا عند المتخصصين في قراءة القرآن، ونحن نريد أن يقره في بلادنا كل المتعلمين وأن تقرأه الأجيال الجديدة على وجه الخصوص دون أن يجدوا في هذه القراءة كل المشقة التي يحسون بها الآن. وليس هناك أي نص ديني مقدس يحرمنا من الإقدام على مثل هذه الخطوة.. بل إن روح الدين تتمثل في ((أن الدين يسر لا عسر)) وكل ما ييسر الدين بدون الخروج على جوهر مبادئه أمر مطلوب. إننا إذا أردنا أن نجعل هناك صلة حقيقية بين القرآن وأجيالنا الجديدة فلابد من أن نقدم على مثل هذه الخطوة بلا تردد.
... هناك عقبة أخرى هي انعدام وجود تفسير عصرى سهل للقرآن. ونحن بأشد الحاجة إلى مثل هذا التفسير الذي يجعل القرآن ميسوراً في قراءته بالنسبة لأي شاب من شبابنا بدون الرجوع إلى مراجع عديدة معقدة، كما أن مثل هذا التفسير هو وحده الذي يستطيع أن يحرر القرآن من الخرافات التي تسربت إلى التفسيرات القديمة مثل تفسير (البرق) بأنه صراع بين ملائكة الخير والشر، وما إلى ذلك من الأفكار التي يقدم العلم المعاصر بديلاً واضحاً لها قائماً على المعرفة الصحيحة بظواهر الأمور الطبيعية والانسانية.
هذه بعض العقبات الشكلية.. ولكن هناك عقبات أخرى أعمق وأبعد. فما زالت المؤسسات الدينية عندنا ترفض إلى أبعد الحدود الاعتراف بوسائل التأثير العصرية مثل السينما والمسرح والموسيقى والرسم والإذاعة والتلفزيون.
.. وإذا نظرنا إلى رجال الدين في الغرب وجدنا أنهم قد توسعوا في الاستفادة من هذه الوسائل إلى أبعد الحدود. فقد امتلأت الكنائس الغربية باللوحات الفنية الرائعة، بل إن هناك مدرسة دينية فذة في الفنون التشكيلية، وهناك آلاف اللوحات والتماثيل الرائعة في الغرب مستمدة كلها من المسيحية، كما توسعت في استخدام الموسيقى وبذلك أصبحت الكنيسة مكاناً مشرقاً بجوه الروحي حيث يساعد الفن بوسائله المختلفة على تعميق هذا الجو بصورة رائعة.
أما السينما والمسرح فقد أتيح لهما أن يعتمدا على الكثير من الإنجيل والعهد القديم بصورة واسعة رحبة. بل لقد ظهر في السينما فيلم طويل هو فيلم (الإنجيل) ومهما قيل عن هذا الفيلم وعن أخطائه فالمحاولة جريئة، وهي محاولة لم تلق أي اعتراض من السلطات الدينية في الغرب.
أما عندنا فنحن نجد فاصلاً قاسياً بين المسرح والسينما وبين القرآن وقصص القرآن، كما نجد حرباً على أي اقتراب بين القرآن وبين فن الموسيقى أو فن التصوير والرسم.
والحقيقة أن مثل هذا الموقف يجب أن يتغير.. ومثل هذه القيود يجب أن تزول، ولا بد من عقد اجتماعات واسعة بين رجال الدين ورجال الفن والثقافة حتى يتم الوصول إلى حل لا يتعارض مع المبادئ الدينية، بل يخدمها ويساعدها على أن تمد جذورها فى أعمق أعماق الضمير والوجدان.
.. إننا نجد في الغرب كتباً تصدر للأطفال الصغار فيها الكثير من الرسومات والصور التي توضح قصص الإنجيل وتضيئها وتبسطها لهؤلاء الأطفال وهي كتب رائعة وعظيمة ومؤثرة.
... ولكننا هنا نتردد في أي جهد من هذا النوع يجعل القرآن قريباً من الانسان والقلب الانساني.. ويجعل القرآن واضحاً كل الوضوح في ضوء العصر الحديث وما يمتلئ به هذا العصر من أفكار جديدة وفنون جديدة.
... إننا عندما نحرر القرآن من مثل هذه القيود المحيطة به لا نكون قد أسأنا إلى القرآن، بل نكون قد أحسنا إلى أنفسنا وإلى الدين الاسلامي الذي نؤمن به.. إننا يجب ألا نتردد في تقديم مسرحيات مستمدة من روح القرآن.. يجب ألا نتردد في شيء من هذا على الإطلاق لأن ذلك يطلق القوى العظيمة الكامنة في القرآن.. ويملأ بها قلب الانسان المعاصر وضميره ووجدانه، أما إذا اكتفينا بأن نجعل القرآن مجرد (نص مقدس) سوف يصعب الوصول إليه إلا لمن كان متخصصاً في القرآن والعلوم الدينية.
... إن واجبنا هو أن نحرر القرآن من هذه القيود ونبذل كل جهدنا في سبيل تمهيد الطريق للوصول إلى كل ما في القرآن من جمال فكري وروحي وفني وإنساني وكل ما فيه من قيم دينية عليا حتى لا يصبح الطريق إلى القرآن غاية في الصعوبة والقسوة والمشقة.
الملمح الثانى فى مشروع رجاء النقاش النقدى يتعلق بإصلاح اللغة العربية . وكان فى هذا المجال شجاعاً ومستنيراً أيضاً حيث ذهب إلى أنه "لا بأس من التفكير المخلص فى تجديد شباب اللغة وإعادة الحيوية والصبا والجمال إليها، مع العمل على تخفيف القيود عن الذين يحبونها ويريدون أن يقتربوا منها دون أن يجدوا في ذلك أي عسر أو تعقيد".
ونقل النقاش عن المرحوم الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية السابق رسالة بعث بها إليه تعليقًا على الموضوع ذاته أشار فيها إلى كتاب له صدر بعنوان "تجديد النحو" وصفه بأنه يحمل "أسس النهوض بهذا النحو، مثل‏:‏ إلغاء الإعراب التقديري والمحلي، ووضع ضوابط جديدة تذلل صعوباته‏، مع حذف الأبواب التي تثقل النحو وتجهد الناشئة‏".
واعتبر ضيف أنه "من المؤكد أن اللغة العربية لا تنتحر ولا تتراجع في هذه الأيام، بل تزدهي وتزدهر طوال قرنين من الزمان على أيدي أبنائها البررة العظام"‏.‏ومن جانبه وصف النقاش كتاب "تجديد النحو" بأنه "كتاب رائع يحمل مشروعًا كاملاً وجادًّا لتيسير النحو العربي، وتخليصه من تعقيداته وصعوباته وقواعده الزائدة التي يمكن،‏ بل يجب الاستغناء عنها".
الملمح الثالث هو ان رجاء النقاش لم يمسك العصا من المنتصف فى المعارك الفكرية والأدبية الكثيرة التى خاضها، بل إنه انحاز دائماً – أو غالباً – إلى التجديد. وإن كان البعض – ومنهم الكاتب والناقد صبحى حديدى على سبيل المثال – قد أخذ عليه.
(يتبع)

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:29 AM
‏ ولكنّه كان ــ وما يزال في الواقع ــ شديد الميل إلى إسقاط السياسة (بمعناها المباشر والعقائدي والحزبي) على الظواهر الإبداعية، وإلى شطب جزء كبير من حقوق الإبداع إذا أخلّت هذه بحقوق السياسة. وأن تأتي ممارسة كهذه من ناقد كبير ومتمرّس ورائد أمر يتجاوز حدود العثرة، لأنه في الواقع ينمّ عن استعداد للتضحية باستقلالية العملية الإبداعية لصالح تكريس السياسة. ولعلّ جوهر هذا الموقف تختصره الكلمة التي نُشرت على الغلاف الأخير لكتاب النقّاش "ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء"، حيث جاء فيها: "وقد وقف المؤلف بوضوح وصراحة مع حركات التجديد الأصيلة ورموزها المختلفة، كما وقف ضدّ حركات التجديد المبنية على عداء حضاري وقومي للأمّة العربية واللغة العربية وآدابها. ولم يتردّد المؤلف في معارضة حركات التجديد القائمة على سوء النيّة القومية، والاستهانة بالتراث الحضاري العربي بهدف تمزيق العرب فكرياً وثقافياً ووجدانياً".
انتهت ملاحظة صبحى حديدى، لكنها ليست فوق مستوى الجدال، وعلى سبيل المثال فان ناقدا آخر مثل عادل الاسطه يطالبنا بالتوقف أمام بعض ما ورد فى مقدمة الطبعة الأولى (عام 1969) لكتاب رجاء النقاش " محمود درويش : شاعر الأرض المحتلة" إذ نقرأ ان النقاش لا يتعاطف مع شعر الأرض المحتلة كونه شعر مقاومة وإنما يرى فيه شعراً ناضجاً، كتبه شعراء موهوبون. وبكلمات رجاء النقاش ذاته فان "هناك حركة شعرية ناضجة ورائعة فى داخل الأراضى المحتلة، وان الحكم بنضجها وروعتها من الناحية الفنية والفكرية ليس ناجما عن تعاطفنا السياسى او النضالى مع هذه الحركة، بسبب ما يعانيه أصحابها من الشعراء الشباب فى ظروف حياتهم الصعبة داخل إسرائيل.
.. إن التعاطف حقيقة لا شك فيه ، ولكن الحركة الشعرية الجديدة داخل الاراضى المحتلة تتمتع بقيمة فنية على اكبر قدر من النضج والاصالة، بصرف النظر عن جميع الاعتبارات السياسية والعاطفية الأخرى. ان الشعراء الشبان البارزين فى الاراضى المحتلة هم شعراء موهوبون".
وهذا الجدل ينقلنا إلى ملمح رابع للمشروع النقدى لرجاء النقاش، حيث نجده قد قدم إلينا إضاءة لكنم هائل من الابداعات، ومن خلال هذه الاضاءة قام رجاء النقاش بتعريفنا بأجيال من المبدعين المصريين والعرب. وهذه ثروة حقيقية أغنت المكتبة المصرية والمكتبة العربية.
وليست المسألة مجرد إضاءة نقدية لابداعات موجودة، بل تتعدى ذلك إلى ملمح مهم لرجاء النقاش هو اكتشافه للمواهب الجديدة.
وكى لا أعيد اكتشاف القوانين المكتشفة اكتفى بهذا الصدد بإحالة القارئ إلى الأديب والناقد الشاب سفيان يوسف الذى تناول هذه الزاوية فى سياق مقال بديع بعنوان "دردشات ليلية مع إبراهيم أصلان" قال فيه :
.. أنظر مثلا إلي رجاء النقاش.. إنه يمتلك خبرة اكتشاف المواهب، وتقديم الكتاب، وتسهيل الجسر الموصل بينهم وبين القراء، فهو أول من كتب عن الطيب صالح، ومحمود درويش، ازدهرت مجلة الهلال عندما كان يرأس تحريرها، وعندما كان يعد عددا خاصا عن القصة القصيرة في سنة 70 قلب علي الدنيا، وأرسل الناقد السينمائي فتحي فرج لي في الكيت كات وكنا ساعتها نقفل باب البيت بالجنزير عشان الغسيل كان مسروقاً.. وسمعت فتحي ينادي من الشارع، وعندما رآني، صرخ: رجاء النقاش قالب عليك الدنيا ياجدع، وهو مستنيك بكرة الساعة 11 علي قهوة ايزافيتش، وذهبت له في اليوم الثاني الساعة ..1 وكان منتظرا، وأعطيت له قصة (المستأجر).. وأعطاها للجمع بعدها مباشرة..، ويستطرد أصلان عن رجاء: هذا الرجل كبير النفس فعلا، زي يحيي حقي وعبدالفتاح الجمل وصلاح عبدالصبور، وكل هؤلاء العظام الذين لايلعب الغرض في نفوسهم إلا نبلا ونزاهة وجمالا.. رجاء مرة قابلني علي سلم دار الهلال، عندما كان رئيس تحرير مجلة (الدوحة) القطرية، وكان في زيارة للقاهرة، وقالي لي: معندكش كتابات جديدة يا إبراهيم، وكنت أيامها ياشعب باكتب في (عصافير النيل).. وكنت كاتب فعلا خمسة مشاهد، فقلتله: عندي خمس حاجات.. ممكن أبعتهم لك، بس تبعتلي فلوس قبل نشرهم.. وقد كان.. ويتساءل أصلان: من يفعل ذلك الآن؟ وسؤال إبراهيم بالطبع مشروع، لأن الواقع الثقافي فعلا يضن بأفعال من هذا النوع إلا قليلا، ولينظر كل منا إلي كل ما حولنا من مجاملات وتربيطات وأسفار وترجمات، ونشر، وان لم يسع المرء نحو كل ذلك بطرق غير مشروعة أو ملتوية، لن ينال ذلك، لذلك هناك من يطرقون الأبواب بقوة لدرجة الازعاج، وسنجد هؤلاء الطارقين يتصدرون كل قوائم التراحيل المعتادة، دون تقديم قيمة مرجوة، هذا لأن المناخ تنقصه الضمائر النبيلة، ومن ينطوون علي هذه الضمائر، بعيدون عن مواقع القرار، ومواقع السلطة..
هذه الشهادة تنقلنا إلى ملمح أخير خلاصته أن رجاء النقاش أثناء رئاسته لتحرير "الهلال" و"كتاب الهلال" و "المصور" و "الكواكب" و"الدوحة" القطرية، ظل مخلصاً لقضايا التقدم ويكفى أن نشير إلى تجربته فى "الدوحة" القطرية التى كانت منبراً ثقافيا مهما عندما كان يتولى رئاسة تحريرها، وانتهى الأمر بإغلاقها على يد المحكمة الشرعية إثر نشرها مقالاً كتبه حسين أحمد أمين إن لم تخنى الذاكرة.
نحن إذن أمام مشروع نقدى مهم لكاتب وناقد أدبى جاد .. ندين له باخذنا من أيدينا وإدخالنا إلى عالم الحق والخير والجمال .. الذى يصارع ثلاثية الباطل والشر والقبح منذ سنوات . ونخشى ان نقول أن الأول يخسر أرضا لصالح الأخير عاماً بعد آخر .
لكن هذا ليس عيب رجاء النقاش .. الذى يستحق التكريم على عطائه الرائع.
.................................
*الحوار المتمدن. في 23/1/2007م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:30 AM
( 30 ) من محمود درويش إلي رجاء النقاش: أنت الذي تكرمنا
.................................................. ...................

الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش لم يتمكن من حضور حفل تكريم الناقد الكبير رجاء النقاش.. وأرسل له هذه الرسالة
عزيزي رجاء النقاش
كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي.. منذ جئت إلي مصر، باحثاً عن أفق، وجدت في كنفك حرارة البيت وحنان العائلة، أخذت بيدي، وأدخلتني في قلب القاهرة الإنساني والثقافي، فعلمتني كيف أأتلف وكيف أختلف وكيف أكون «أنا» وسواي في آن واحد.
وكنت من قبل قد ساعدت جناحي علي الطيران التدريجي، فعرفت قراءك علي وعلي زملائي القابعين خلف الأسوار.
لم يكن التعبير عن الامتنان وحده هو واجبنا الأخلاقي تجاهك، بل الاعتراف العلني بأنك عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي إلي هذا الحد، وساعدتنا علي الإيمان بقدرة الشعر الخارج من القلب علي الدخول في القلوب وعدم الخروج منها.
أي: أقنعتنا بأننا ذوو جدوي في زمن كاد أن يقتل المعني، وكاد أن يقيم حدّاً فاصلاً بين جمالية الشعر وفاعليته.
منعني الحياء من أن أشكرك بما يليق بك.. لئلا يكون الشكر تعبيراً عن رضا مُبَطن عن النفس. لكني اجتهدت كثيراً لكي لا أسبب لرضاك عني خيبة الأمل والخذلان. نعم، كان لك دور في تطوير وعي المسؤولية، وفي تعميق العلاقة بين حرية الشعر وشعر الحرية.
نحن مدينون لك، لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة وعن تحديث الحساسية الشعرية والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعاً للحداثة الشعرية. ومدينون لك لأنك ابن مصر البار، وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الإقليمية الرائجة إلي الاعتذار عن عروبته الثقافية.
عزيزي رجاء!
كم يؤسفني ألا أتمكن من حضور حفل تكريمك هذا الذي تأخر بعض الوقت. لكن قلبي معك، أيها الكريم المكرَّم المكرِّم!

لقد كرمت أجيالاً من الكتاب الشباب بصداقة النقد والإبداع وبمتابعتك المثابرة لتطورات الأدب العربي الجديد في كل مكان في المراكز وفي الهوامش. أنت الذي تكرمنا: تكرم أصدقاءك ومحبيك وقراءك الأوفياء لك.. ولإنتاجك الغزير المتعدد.
أتمني لك العافية والمزيد من القدرة علي اختراع الأمل لنا ولك..
ولك كل المحبة.
محمود درويش
......................................
*المصري اليوم ـ في 26/1/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:30 AM
( 31 ) عرف القارئ العربي بالأدب المصري المعاصر

بقلم: يوسف الشاروني
.............................

علاقتي برجاء النقاش بدأت عندما قرأ لي مقالا عن طوق الحمامه لابن حزم‏,‏ ذلك الكتاب الذي كان يتنازعه الاسبان والعرب لروعته وكان يتحدث عن الحب وكيف يبدأ وكيف ينتهي‏,‏فطلب مني تأليف كتاب عن الحب والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة‏.‏ وطبع في الهلال ودار المعارف أربع طبعات‏,‏ وكان من أروع ماكتبت‏.‏ وعندما رأس تحرير مجلة الدوحة أرسل لي للمشاركة في المجلة ونشر لي مجموعة من الدراسات والمقالات‏.‏
ورجاء يعد من النقاد المهمين والنشيطين‏,‏ وكتبت مؤخرا في مجلة الثقافة الجديدة عن كتابه في حب نجيب محفوظ وكتبت عنه باعتباره أفضل النقاد‏.‏
وكان له الفضل في اكتشاف عدد كبير من الكتاب وإلقاء الضوء علي ابداعاتهم‏..‏ كما كان له الفضل في تعريف القارئ العربي بالأدب المصري المعاصر‏.‏
--------------------------------------------
*الأهرام ـ في 12/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:31 AM
( 32 ) ..‏ والموت مـــر

بقلم: أحمد عبدالمعطي حجازي
......................................

‏الذي حدث لي قبل خمسين عاما مع أبي‏,‏ حدث لي منذ أيام مع رجاء النقاش‏.‏
قبل خمسين عاما‏,‏ وبالتحديد في العاشر من أغسطس عام سبعة وخمسين وتسعمائة وألف دخلت دار روز اليوسف القديمة في شارع محمد سعيد باشا ـ حسين حجازي الآن ـ حيث كنت أعمل‏,‏ وجلست إلي مكتبي لأجد برقية ينبئني فيها شقيقي أن والدنا توفي اليوم‏.‏
كان الوالد في نحو السبعين‏,‏ ولم يكن يشكو مرضا‏,‏ فلم يخطر لي ولا لغيري حين زرته قبل أقل من أسبوع أن النهاية قريبة إلي هذا الحد‏,‏ وأنها ستفاجئنا دون سابق إنذار‏.‏
نهضت من مكتبي مهرولا متجها إلي مواقف سيارات الأجرة في أول شبرا لآخذ مكاني في أول سيارة متجهة إلي قريتنا التي لا تبعد كثيرا عن القاهرة‏,‏ مجتهدا في ألا أتأخر حتي ألقي عليه النظرة الأخيرة وأشيعه مع المشيعين إلي مثواه الأخير‏,‏ ووصلت السيارة بعد أقل من ساعتين لأتلقي المفاجأة الثانية‏,‏ وهي أن الوالد مات بالأمس ودفن بالأمس‏,‏ وأن البرقية التي تلقيتها صباح اليوم أرسلت بالأمس ووصلت بعد أن غادرت مكتبي في روز اليوسف‏,‏ وكنت في ذلك الوقت شابا أعزب لا يصبر كثيرا علي البقاء في منزله الذي لا يؤنسه فيه أحد‏,‏ ولا يملك فيه من وسائل الاتصال ما يمكن الآخرين من إبلاغه نبأ كهذا النبأ‏,‏ والنتيجة أني قرأت الخبر حين تسلمت البرقية فلم ألتفت بسبب الصدمة للتاريخ الذي أرسلت فيه‏.‏
عدت إلي القاهرة وقد هالني ما حدث لأكتب في رثاء الوالد قصيدتي التي سميتها رسالة إلي مدينة مجهولة وفيها أقول‏:‏
أبي
وكان أن ذهبت دون أن أودعك
حملت لحظة الفراق كلها معك
حملت آلام النهاية احتبست أدمعك
أخفيت موجعك
ثم أتفجع مخاطبا أصدقائي‏:‏
مات أبي يا أصدقاء
الغرباء ودعوه بينما أنا هنا
لمحتهم في الضفة الأخري
ظلالا في غروب الشمس تنحني
علي القبور‏,‏
ما وجدت زورقا يقلني
لم أستطع وداعه في يومه الأخير‏!‏
‏***‏
من الذي احتضنني بعد عودتي إلي القاهرة يواسيني ويخفف من لوعتي الحارقة ويحيطني بدفئه وحنانه؟ رجاء النقاش‏!‏
من الذي استمع إلي قصيدتي فور انتهائي من نظمها؟ رجاء النقاش‏!‏
من هم الأصدقاء الذين وجهت لهم الخطاب في هذه القصيدة؟ أولهم رجاء النقاش‏!‏
في تلك السنوات لم نكن نفترق‏,‏ وهاهي الفاجعة تتكرر‏,‏ ويكون بطلها الأول هذه المرة رجاء النقاش‏!‏
‏***‏
في الأيام التي سبقت تكريم نقابة الصحفيين للفقيد منذ نحو شهر سقطت فريسة لنزلة حادة منعتني من المشاركة في تكريمه‏,‏ فلم أملك إلا أن أكتب كلمة عنه تشرح حالي ولا توفي رجاء حقه‏,‏ أرجو فيها أن يواصل المقاومة من أجل الكثيرين الذين يحبونه ويحتاجون إليه‏,‏ وقد دفعه نبله لأن يطلبني في التليفون ليشكرني علي ما قلته في هذه الكلمة بعد أن قرأها‏,‏ فلم يجد في المنزل إلا ابني الذي أخبره أني مسافر‏,‏ ثم أبلغني بالتليفون أن الفقيد اتصل‏..‏ كانت هذه آخر فرصة أسمع فيها صوته‏!‏
وأنا متأكد من أن رجاء النقاش قاوم الموت بكل ما يملك من طاقة روحية وجسدية‏,‏ قاومه كما كان يقاوم الشر في كل صوره‏,‏ وكان في مقاومته للموت صبورا‏,‏ لأنه يعرف أن معركة الإنسان مع الشر معركة طويلة‏,‏ وكان شجاعا‏,‏ لأن أحدا لا يستطيع أن يقاوم الموت مع أحد‏,‏ وإنما يقاومه كل إنسان علي انفراد‏,‏ فمن النبل أن يكون شجاعا‏.‏ هذه الشجاعة ضرورية لنستنهض بها كل قوانا ونكسب معركتنا مع الموت‏,‏ فإن لم نكسبها فهي ضرورية لنتقبله إذا لم يكن منه بد‏.‏
وأنا أعرف بعد ذلك أن رجاء النقاش لم يقاوم الموت وحده‏,‏ بل قاومه معه كل الذين أحبوه‏,‏ عرفوه أو لم يعرفوه‏,‏ وفي مقدمتهم زوجته وولداه وأشقاؤه وأصدقاؤه‏,‏ لكننا في النهاية نموت وحدنا‏!‏
ثم إنني أعرف شيئا آخر‏,‏ هو أن أمثال رجاء النقاش قادرون علي مقاومة الموت حتي بعد رحيلهم‏,‏ لأنهم تركوا للحياة من نبضات قلوبهم وثمرات عقولهم ما لا يستطيع الموت أن يقربه أو يغلبه‏!‏
***‏
أكتب هذه الكلمة وأنا لا أزال في الضفة الأخري‏,‏ في فرنسا التي حملتني علي الرحيل إليها والبقاء فيها إلي اليوم أسباب مختلفة لا يخلو بعضها من قسوة تزيدها إيلاما أنباء الرحيل التي أسمعها ولا أستطيع المشاركة في توديع الراحلين‏.‏
يا أصدقاء
لشد ما أخشي نهاية الطريق‏!‏
وشد ما أخشي تحية المساء
إلي اللقاء‏!‏
أليمة إلي اللقاء‏,‏ و اصبحوا بخير
وكل ألفاظ الوداع مرة‏,‏
والموت مر
وكل شيء يسرق الإنسان من إنسان‏!‏
.........................
*الأهرام ـ في 13/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:32 AM
( 33 ) رجاء النقاش ومحفوظ

بقلم: محمد سلماوي
............................

جمعتني بالكاتب الراحل رجاء النقاش روابط كثيرة لم يكن أقلها حبنا المشترك لأديبنا الأكبر نجيب محفوظ‏,‏ فقد كنت أعرف حب رجاء الجم لنجيب محفوظ‏,‏ كما كنت أعرف حب وتقدير محفوظ له وثقته الكاملة فيه‏.‏
وربما كان في ذلك أحد أسباب القيمة الكبيرة التي كان يمثلها رجاء النقاش في مجال النقد الأدبي‏,‏ ولأحد كبار النقاد قول مأثور مؤداه أن المحب للأدب وحده هو الذي يصلح أن يكون ناقدا‏,‏ وقد كان رجاء النقاش مثالا فريدا للناقد المحب للأدب والأدباء في وقت كادت كلمة النقد عندنا تصبح مرادفة لكلمة الانتقاد‏.‏
ولقد حدثتني الزميلة نوال المحلاوي ذات مرة بعد مرور نحو عام علي فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عن رغبتها في أن ينفرد مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ والذي كانت ترأسه في ذلك الوقت ـ بنشر السيرة الذاتية لأديب نوبل الكبير‏,‏ فقلت لها علي الفور‏:‏ أريحي نفسك‏,‏ إن نجيب محفوظ ليس من الأدباء الذين يكتبون سيرتهم الذاتية‏,‏ فهو في تواضعه الجم يعتقد أن حياته ليست ذات أهمية‏,‏ وأن أحداثها لا تهم أحدا غيره‏,‏ كما أنه يفضل ألا يترك للناس إلا انتاجه الأدبي‏,‏ الذي هو أهم من تفاصيل حياته‏,‏ ومع ذلك فكل من اقترب من نجيب محفوظ يعرف جيدا أن حياته بها من الأحداث المهمة والشيقة ما يجعلها ذات مغزي كبير لكل من يهتم بأدب نجيب محفوظ أو بالحياة الثقافية والأدبية طوال سنوات القرن العشرين‏.‏
ثم قلت لنوال المحلاوي‏:‏ أنا أعرف أن رجاء النقاش كان لديه مشروع قديم لكتابة حياة نجيب محفوظ‏,‏ وأعلم أن محفوظ لديه ثقة كبيرة في رجاء‏,‏ وأنه ـ إذا وافق علي المشروع ـ سيفتح له قلبه وذاكرته بالكامل‏.‏
ولم تمض أيام حتي كانت نوال المحلاوي قد اتصلت برجاء النقاش الذي أكد لها أنه مازال يرغب في التأريخ لحياة الأديب الأكبر‏,‏ كما التقت بالأستاذ نجيب لتعرض عليه الموضوع فرحب به ترحيبا كبيرا‏,‏ ورحب أيضا بأن يكتبه رجاء النقاش‏.‏
وقد أمضي رجاء النقاش وقتا طويلا يجمع مادة الكتاب من مصدر واحد فقط هو نجيب محفوظ نفسه‏,‏ الذي كان يجلس إليه مطولا ويسأله في كل الموضوعات التي تتصل بحياته وأعماله‏,‏ فكان محفوظ يجيب عليها بالكامل‏,‏ حيث كان رجاء النقاش يسجلها علي جهاز تسجيل صغير ليقوم بتفريغها بعد ذلك‏.‏
وبعد مرور ما يزيد علي السنة‏,‏ كان رجاء النقاش قد انتهي من جمع مادته بصوت نجيب محفوظ‏,‏ لكن تلك كانت بداية المشقة الحقيقية ولم تكن نهايتها‏,‏ فماذا يفعل بهذه المادة وكيف يعالجها ومن أين يبدأ؟‏..‏ ولم تمض سنة أخري ولا اثنتان ولا ثلاث‏,‏ بل أربع سنوات ودخلنا في السنة الخامسة ورجاء النقاش يشعر بمسئولية كبيرة تجاه المادة الثمينة التي ائتمنه عليها نجيب محفوظ‏,‏ ومن ثم لا يستطيع أن يخرجها إلا في أفضل صورة دون أن يكون في لهفة كي يخرج أول كتاب من نوعه يؤرخ لحياة أديب نوبل الكبير‏,‏ بل كان الأهم أن يجد الطريقة المثلي للتعامل مع هذه المعلومات النادرة التي حصل عليها‏,‏ فهكذا كان رجاء النقاش‏,‏ وهكذا كان ضميره الأدبي الذي جعله أحد أهم نقادنا الأدبيين وأكثرهم حبا للأدب وإخلاصا له‏.‏
وبعد أن مرت خمس سنوات‏,‏ اقتنع الجميع خلالها أن الكتاب لن يظهر أبدا‏,‏ وتوصل رجاء النقاش إلي أن قيمة المادة التي لديه تكمن في أنها صادرة من محفوظ شخصيا‏,‏ وأن عليه أن يحافظ علي هذه القيمة بأن يقدمها للقارئ كما هي‏,‏ دون أن يستخدمها في كتابة سيرة صاحبها‏.‏
وهكذا كان كتاب نجيب محفوظ‏..‏ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‏,‏ والذي أصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر عام‏1998,‏ والذي أهداني رجاء النقاش واحدة من أول خمس نسخ وصلته من المطبعة وصدرها بهذه الكلمات‏:‏ إلي الصديق العزيز الكاتب الكبير الأستاذ محمد سلماوي الذي يعرف كل ما في هذا الكتاب‏..‏ وما خلفه‏..‏ مع خالص التقدير‏..‏ رجاء النقاش‏.‏
وقد أصبح هذا الكتاب من أهم الكتب التي صدرت عن نجيب محفوظ واثار عند بداية نشره ضجة كبيرة‏,‏ حيث تعرض ـ ضمن ما تعرض ـ لجوانب شخصية من حياة أديبنا الأكبر‏,‏ كان البعض يتصور أنه لم يكن ينبغي الإفصاح عنها‏,‏ بل لقد ذهب البعض آنذاك للقول بأن نجيب محفوظ لم يكن من الممكن أن يقول مثل هذه الأشياء‏,‏ وكان البعض يسأل الأستاذ أمامي‏:‏ هل حقا قلت لرجاء النقاش كذا أو كيت؟‏..‏ ولم يكن الأستاذ في سنه المتقدمة يتذكر في عام‏1998‏ ما يمكن أن يكون قد قاله عام‏1990,‏ لكنه في ثقته الكاملة برجاء النقاش كان يقول لسائليه‏:‏ هل ورد هذا في كتاب رجاء؟‏..‏ فيقولون‏:‏ نعم‏,‏ فيرد بلا تردد‏:‏ إذن فقد قلته‏.‏
أسرد هذه الواقعة لأن فيها دروسا مهمة وعبرا ذات دلالة لنقادنا من الشباب‏,‏ وفيها أيضا سر عظمة ذلك الناقد الأدبي العظيم رجاء النقاش الذي فقدناه هذا الأسبوع‏.‏
ففيها أولا أمانة الناقد مع المادة التي تحت يديه وعدم لهفته لنشرها بأسرع وقت وكأنها سبق صحفي رخيص يمكن أن يصنع العناوين الساخنة اليوم ليكون بلا أهمية غدا‏,‏ فقد كانت عين رجاء النقاش علي التاريخ‏,‏ والتاريخ لا يقبل إلا الأمانة والصدق‏.‏
وفيها ثانيا تفانيه في تقديم ما ائتمن عليه في أفضل صورة ممكنة‏,‏ حتي لو أخذ منه ذلك سنوات طوالا‏.‏

وفيها ثالثا روح الإيثار التي تجعل الناقد ينحي نفسه جانبا مفضلا عمل الأديب وكلماته‏,‏ فقد كان من الممكن لرجاء النقاش أن يكتب كتابا لم يكتبه أحد من قبل عن حياة محفوظ‏,‏ ولكنه فضل أن يحتفظ لكلمات محفوظ كما نطق بها دون تدخل منه‏.‏
وفيها قبل ذلك كله وبعده الثقة التي يحوزها مثل هذا الناقد عند الأديب والتي جعلت نجيب محفوظ يرد دون بحث ولا تدقيق‏,‏ بأن كل ما كتبه رجاء النقاش عنه أو عن لسانه لابد أن يكون صحيحا‏.‏
لقد فقدنا برحيل رجاء النقاش قامة كبيرة في رواق النقد الأدبي يصعب أن نعوضها‏,‏ لكن ما نملكه هو أن ندرس كيف نهضت تلك القامة فصارت باسقة كنخيل القرية المصرية التي ولد بها ناقدنا الكبير رجاء النقاش الذي ترك لنا الساحة بعده صحراء جرداء‏.‏
.........................
*الأهرام ـ في 13/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:33 AM
( 34 ) رجاء النقاش‏..‏ عليك سلام الله

بقلم : صلاح عيسي
.........................

ليس في سيرة‏-‏ ومسيرة‏-‏ رجاء النقاش ما يختلف كثيرا عن مسيرة غيره من النخب الثقافية والفكرية والعلمية التي ساهمت في صنع مشروع النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي اليوم‏.‏
جاء مثلهم أو جاءوا مثله من آلاف القري والكفور والضيعات التي تنتشر علي خريطة الأمة‏,‏ ليجدوا أنفسهم رعايا في بلاد يحتلها الغزاة‏,‏ ويحكمها الطغاة‏,‏ ويحاصرها الجدب والجوع والفقر والمرض من كل اتجاه‏..‏ وانحدروا من أصلاب أسر مستورة تنتمي للشرائح الصغري من الطبقة الوسطي‏,‏ من ذلك النوع الذي لا يبيت علي الطوي‏,‏ ولا ينام‏-‏ مع ذلك‏-‏ ممتليء المعدة‏,‏ يتملكها رعب من السقوط في هاوية الحاجة‏,‏ ويقودها إصرار عنيد علي أن تصنع لأولادها مستقبلا أفضل وحياة أكثر سعادة‏,‏ في ربوع وطن لا احتلال فيه ولا طغيان‏,‏ يصبحون تحت علمه مواطنين احرارا لهم حقوق مرعية وملزمة لا رعايا ينتظرون المكرمات والعطايا‏,‏ ويتلقون الركلات والصفعات وهم يهتفون فيمن يضربهم‏:‏ ضربك فينا شرف لينا يا افندينا‏!!‏
هؤلاء هم الأفندية‏..‏ أولاد الأفندية من صغار التجار وكتبة الدواوين وطلاب المدارس واسطوات الفابريكات وباشكتبة المحاكم وصغار علماء الأزهر‏,‏ ووكلاء مكاتب البريد وشاويشية الجيش والبوليس الذين قدر لهم أو لأبنائهم فيما بعد أن يقودوا الحلقات المتتابعة من مشروع النهضة العربية في كل المجالات‏,‏ من السياسة والحكم إلي الإدارة والحرب ومن الأدب والفن إلي العمارة والتشييد‏.‏
من أصلاب هؤلاء جاء رجاء النقاش حين كان الزمن منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وبينما كان الجيل السابق من الأفندية أولاد الأفندية يقود معركة ضارية ضد ديكتاتورية إسماعيل صدقي ويسعي لاستكمال مسيرة التحرر والديمقراطية التي بدأها عام‏1919.‏
وما كاد رجاء النقاش يتعلم معني الكلمات حتي شغفته مجلة الرسالة التي كان والده‏-‏ مدرس اللغة العربية الذي يكتب الشعر‏-‏ يحتفظ بكل اعدادها القديمة ويحرص علي قراءتها كل أسبوع علي الرغم من قلة المال‏..‏ وكثرة العيال‏.‏
كانت الرسالة‏-‏ التي أصدر أحمد حسن الزيات عددها الأول عام‏1932‏ قبل مولده بعامين‏-‏ منبرا لجيل من المثقفين المصريين والعرب‏,‏ تفتح وعيهم وازدهرت مواهبهم علي مشارف وفي أثناء وعقب الثورات الوطنية التحررية التي اشتعلت شراراتها في الأقطار العربية‏,‏ بعد الحرب الكونية الأولي في مصر‏(1919)‏ والعراق‏(1920),‏ وليبيا‏(1923)‏ والسودان‏(1924),‏ وسوريا‏(1925),‏ وفلسطين‏(1929),‏ يتعايشون علي صفحاتها علي الرغم من اختلاف منابعهم الفكرية‏,‏ ويتحاورون فيما بينهم حول مشروع للنهضة العربية يجمع بين الأصالة والمعاصرة‏,‏ وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب وبين الوطنية والقومية‏.‏
وعلي صفحاتها وعلي صفحات غيرها من المنابر والمنتديات الثقافية والفكرية والسياسية اكتشف رجاء النقاش موهبته وعرف طريقه واختار موقفه وتخلق ذلك الجيل من الأفندية أولاد الأفندية الذين سيقدر لهم فيما بعد أن يقودوا مشروع النهضة العربية في مرحلته التي بدأت حين نهضت الأمة‏,‏ من بين طيات ظلام‏-‏ وركام انقاض‏-‏ الحرب العالمية الثانية تهتف للاستقلال والحرية والعدل والوحدة‏.‏
وكان رجاء في الثامنة عشرة من عمره يستعد لدخول الجامعة ليدرس في قسم اللغة العربية بكلية الآداب‏,‏ حين قامت ثورة‏23‏ يوليو‏1952,‏ ليتأكد له ولجيله أن تضحيات الأجيال السابقة من الأفندية أولاد الأفندية لم تضع هدرا وأن الزمن لم يتوقف والوطن لم يعقم والشعب لم يكف عن الحلم‏,‏ ولتفتح أمامهم أبواب الأمل في أنهم يستطيعون استكمال ما صنعه الأسلاف واستئناف مسيرة النهضة علي الرغم من كل العقبات‏.‏
ومع أن الذين صنعوا الثورة وقادوا المشروع‏,‏ كانوا‏-‏ كذلك‏-‏ من الأفندية أولاد الأفندية‏,‏ ومن صغار الضباط أولاد صغار الموظفين و التجار وفي أحسن الأحوال أولاد عمد الأرياف‏,‏ ولم تكن الثقافة من بين همومهم الضاغطة أو الملحة‏,‏ فإن أبواب الأمل التي فتحوها علي مصراعيها‏,‏ سرعان ما اجتذبت إليهم‏,‏ كل المتخصصين والموهوبين والحالمين في كل المجالات‏:‏ من أبناء الشريحة ذاتها‏,‏ ليشاركوا في صياغة الحلم‏,‏ فلم يصدوا أحدا‏,‏ ولم يرفضوا فكرة‏,‏ طالما أن صاحبها لا ينازعهم الحق في قيادة المشروع‏,‏ وفي حيازة السلطة‏..‏
هكذا حانت الفرصة لـ‏'‏ رجاء النقاش‏'‏ وجيله لكي يعبروا عن حبهم للوطن‏,‏ وانتمائهم للشعب بأن يشاركوا في صياغة المشروع الثقافي لثورة يوليو‏!‏
وكان قد أخذ نفسه منذ البداية‏,‏ بالحزم الذي يليق بأصحاب الرسالات‏,‏ فعشق العمل‏,‏ وآمن بأنه مصدر كل الطيبات‏,‏ ولم يكف علي امتداد عمره‏-‏ منذ غادر الطفولة‏-‏ عن العمل الشاق صبيا وشابا وكهلا وشيخا‏,‏ يقرأ بعمق ويكتب بغزارة‏,‏ ويناقش بحرارة‏,‏ وكان أقسي‏,‏ ما يتعرض له‏,‏ هو أن تجبره تقلبات السياسة وعواصفها‏,‏ علي أن يكف عن العمل‏..‏ ولأنه كان يملك حيوية عقلية خارقة‏,‏ فقد كان ذهنه المشتعل لا يكف طوال الوقت عن الابتكار‏,‏ وعن توليد الأفكار والأحلام‏,‏ ولم تكن الثروة تشغله‏,‏ إذ كان ماهرا‏-‏ وموهوبا‏-‏ في تبديد ما يكسبه‏,‏ ولم تكن السلطة تعنيه‏,‏ إلا بمقدار ما تتيح له من فرصة للتأثير في الناس‏!‏
ومنذ البداية‏,‏ وحتي النهاية‏,‏ ظل رجاء النقاش يخوض المعركة علي جبهة الثقافة والوعي‏,‏ انطلاقا من إيمانه بأنهما أساس وحدة الأمة وبأن الانتصار في ميدانهما‏,‏ هو الذي يقربها من حلمها‏-‏ وحلمه‏-‏ المراوغ‏:‏ الوصول إلي صيغة للنهضة تجمع بين الأصالة والمعاصرة وبين الموروث والوافد وبين الشرق والغرب‏,‏ وبين الوطنية والقومية‏..‏
وهكذا نهض مع جيله‏,‏ لتجديد لغة الكتابة في النقد الأدبي‏,‏ ليخلصها من بقايا الزخارف اللفظية‏,‏ ومن التقعر الأكاديمي الذي يعني بالمصطلحات أكثر من عنايته بالأفكار والرؤي‏,‏ وساند بقوة كل تيارات التجديد والتحديث في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح والسينما علي صعيد الأمة بكل أقطارها‏,‏ وخاض المعارك في صف أصحابها ونيابة عنهم‏,‏ وجدد في شكل ومضمون المطبوعة الثقافية‏,‏ لتجمع بين الجاذبية والعمق وبين الفرجة والفكر‏,‏ وتبني الأجيال التي جاءت بعده‏,‏ وتحمس لها وسلط عليها الأضواء‏,‏ إذ كان يدرك منذ البداية‏,‏ أنه وجيله مجرد صفحة من صفحات مشروع النهضة العربية وأن عليهم أن يسلموا الراية لمن يأتي بعدهم‏,‏ كما تسلموها ممن جاء قبلهم
رجاء النقاش‏..‏ عليك سلام الله والوطن‏!‏
.......................................
*الأهرام ـ في 14/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:34 AM
( 35 ) رجاء النقاش‏..‏ حضرة المحترم

بقلم: محمد حسين أبوالحسن
.............................................

كان ـ علي الدوام ـ شابا متمردا في غير جلبة‏,‏ متفجرا بالجديد الذي يغلي في العروق قبل أن ينتقل إلي أصابع اليد‏,‏ واعدا غاية الوعد‏,‏ مع أنه فقير غاية الفقر‏,‏ لا يحتمل عملا غير الحياة الممزوجة بالفن‏,‏ طاف الأزقة علي مدي عمره متنصتا إلي وعيد الحلاج وهو يساق إلي الصلب‏,‏ وسمع المتنبي وهو يتمتم بأبياته راسما دوائر نارية ومشعلا الحرائق أينما حل‏,‏ والقتلة يطاردونه من بقعة إلي أخري‏,‏ وتعلق بأهداب شكسبير و تولستوي وجوتة ونجيب محفوظ‏,‏ ومد عروق مودته إلي عبدالمعطي حجازي ومحمود درويش والماغوط وغيرهم‏.‏
هكذا كان حضرة المحترم ـ بحق ـ رجاء النقاش كائنا مشعا تسبقه استنارته أينما ذهب‏,‏ لتفسح له المكان وتجذب إليه النفوس التواقة إلي العلم والمعرفة‏,‏ ما أن يحل في مكان حتي يتخلق مجلس علم وتلاميذ وأنداد وأفكار كبيرة كالنجف يبعث الضوء والبهجة‏,‏ رأيت هذا في احتفاء نقابة الصحفيين به أخيرا والحشد الهائل الذي تحلق حوله‏,‏ مما ذكرني بقصة طريفة وقعت للسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد وابنة عمه‏,‏ عندما كانت تطل من نافذة قصرها بمدينة الرقة علي نهر الفرات‏,‏ ووجدت حشدا كبيرا من الناس يجتمعون علي شاطيء النهر‏,‏ سألت في دهشة عن السبب‏,‏ فقيل لها إن الناس اجتمعوا للترحيب بأحد كبار العلماء الذي وفد علي الرقة‏,‏ فقالت زبيدة‏:‏ هذا هو العز‏..‏ لا عزنا تساق إليه الناس بالسياط‏!‏
ما أجمل ما قالته زبيدة وما أصدقه‏,‏ فعز العلماء قائم علي اختيار الناس ومحبتهم وإقبالهم دون فرض ولا إرغام‏,‏ وهذا هو العز الحقيقي لأنه نابع من القلوب المتحررة من كل الضغوط‏..‏ إن رجاء النقاش هو واحد من أهم نقاد زماننا‏,‏ واصل مسيرة طه حسين والعقاد مضيفا إليها تفرده الخاص عندما يقرأ الأعمال الأدبية والفكرية بعين الناقد المالك لأدواته‏,‏ بما يمكنه من وضع الكاتب والنص في المكان الصحيح‏,‏ دون أن يتخلي عن محبته الغامرة وهو يلتقط بمهارة مكامن القوة والموهبة‏,‏ مميزا بين الأصداف واللآلئ‏,‏ وكم سلط ضوء محبته علي كتاب لايعرفهم أحد‏,‏ فصاروا ملء الأسماع والابصار‏.‏
وتكفي الإشارة برءوس أسهم إلي أبرز محاور مشروع النقاش النقدي والفكري بداية من الانحياز للتجديد واكتشاف المواهب وليس انتهاء بالمطالبة بالاصلاح الديني وإعادة النظر في حال اللغة العربية‏,‏ بكل ما في تلك المحاور من مباهج فكرية وروحية غمرنا بها كقراء وكتاب‏,‏ ومع أنه يضرب بسهم في مناهج العلم المنضبطة فإنه يظل أقرب لروح الفن من خلال الصحافة الأدبية التي شكلت النافذة الرئيسية التي انطلق منها للقارئ العربي‏,‏ مشبعا ظمأه الثقافي‏,‏ ومبقيا جذوة التفكير مشتعلة‏,‏ بكثير من متعة السرد ودقة العرض وعمق الفكرة وبراعة الربط بين الشخصيات والتجارب والأفكار والرؤي‏
مقدما في ذلك كله خلاصة دقيقة واعية لمسئولية المثقف الحقيقي في مجتمعه‏,‏ في معرض حديثه عن الأديب الروسي العظيم ليرمنتوف‏,‏ فالمثقف ليس من مهمته ولا في قدرته أن يقدم الدواء لكل داء‏,‏ أو أن يصلح الدنيا بلمسة سحرية‏,‏ أو أن يكتشف حلا لكل مشكلة‏,‏ فهذا كله مستحيل وخطأ في التقدير‏,‏ فالمثقف الموهوب الصادق مهمته أن يضع يده علي المشكلة وأن يسحبها من الظلام أو الضباب ليضعها أمام كل العيون‏,‏ فإن أحسن المثقف التشخيص فعلي الجميع بعد ذلك أن يشتركوا في البحث عن حل سليم‏.‏
وإذا كان بعض الفاعلين في الساحة الثقافية قد وجهوا يوما ما سهامهم صوب النقاش‏,‏ فإن الجميع علي تنوع مشاربهم ظلوا متفقين علي حقيقة جوهرية تقول إن رجاء النقاش كان ـ وسيظل ـ أحد الأقطاب الكبار في كوننا الثقافي والنقدي‏,‏ بعدما استصفي الماضي والحاضر الفكري العربي بقدرة نبوئية عالية‏,‏ ترسم ملامح مستقبل في طور التشكل والتكوين‏!‏
....................................
*الأهرام ـ في 13/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:37 AM
( 36 ) عاشق السودان

بقلم: عبدالرحمن عوض
..............................

في أقل من شهر فقدت الثقافة السودانية والعربية عاشقين متيمين مصريين د‏.‏يونان لبيب رزق‏1933‏ ـ‏15‏ يناير‏2008,‏ والأديب الكبير رجاء النقاش‏1935‏ ـ‏8‏ فبراير‏2008,‏ لقد كان د‏.‏يونان لبيب رزق حجة في تاريخ السودان من خلال أطروحته للدكتوراه‏,‏ وأما الراحل المقيم الأستاذ رجاء النقاش فقد قدم للأدب العربي المعاصر أهم أديب روائي في السودان والأقطار العربية بعد مرحلة نجيب محفوظ ألا وهو الأديب الروائي الكبير الطيب صالح‏.‏
لم تكن صلة الأديب الكبير رجاء النقاش صلة عابرة‏,‏ بل كانت صلة حميمة‏..‏ وطدها مع الأدباء السودانيين أبناء جيله‏:‏ الفيتوري ـ جيلي عبدالرحمن ـ تاج السر الحسن ـ محيي الدين فارس ـ الطيب صالح ـ علي أبوسن ـ محمد المهدي المجذوب ـ د‏.‏عبدالله الطيب ـ محمود عثمان صالح مدير مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي بأم درمان وغيرهم من الكتاب والصحفيين الذين فتح لهم الطريق في مجلة الدوحة القطرية إبان رئاسته التحرير وغيرها من الصحف والمجلات المصرية وتواصل معهم بحميمية‏.‏
لقد ألم الراحل المقيم بخريطة الأدب العربي في السودان إلماما دقيقا من خلال قراءاته الواسعة والعميقة ومن خلال أصدقائه السودانيين من جميع التيارات الثقافية المتعددة في السودان‏.‏
كلنا يذكر مقالته الشهيرة منذ عامين ليلة بكي فيها العقاد وقد كانت ليلة استضاف فيها الأدباء السودانيون الأديب العملاق عباس محمود العقاد في الأربعينيات‏,‏ وفيها أنشده الشاعر السياسي السوداني محمود الفضلي إحدي روائع العقاد من قصائده حتي تأثر العقاد وانسابت دموعه النادرة‏!‏
لاشك أن السودان قد فقد برحيل الأستاذ رجاء النقاش هذا التواصل الثقافي الحميم بين القطرين الشقيقين بهذه الدقة في التناول والصدق في المشاعر الدافئة نحو الثقافة السودانية والعطاء الفكري عامة‏.‏
كلنا يذكر منذ عامين اكتشافنا لأستاذ آخر يحمل اسم أحمد لطفي السيد‏,‏ ولولا يقظة ووعي والحس التاريخي عند رجاء النقاش لالتبس علينا الأمر بين الاسمين‏!‏ تذكرت الآن صدق أحاسيس الشاعر عبده بن الطبيب في مرثيته الخالدة لقيس بن عاصم‏:‏
فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
كنت انتظر أهرام الأحد لكي اقرأ مقالته الأسبوعية فإذا الناعي ينعيه مساء الجمعة حارما جماهيره العريضة علي أرجاء الوطن العربي من مقاله الذي يدافع فيه عن حق أو يدفع به ظلما أو ينير شمعة أو يجلو حقيقة وينفض الغبار عن منسيين ومتوارين خلف زوايا الإهمال والنسيان التاريخي‏.‏
لم يكن الراحل المقيم رجاء النقاش عليه سحائب الرحمة وشآبيب المغفرة كاتبا انسانا فحسب بل كان جامعا للقلوب مؤلفا بين الثقافات العربية فكتب عن شعراء وأدباء المهجر وأبي القاسم الشابي وشعراء المقاومة الفلسطينية وغيرهم من أصحاب القضايا العربية‏.‏
رحم الله تعالي المؤرخ الكبير د‏.‏يونان لبيب رزق والناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش وأسبغ عليهما من رحمته ومغفرته ورضوانه التي وسعت كل شئ‏.‏
ونسأل الله تعالي أن يعوضنا عنهما خير العوض والخلف لهذين العالمين الجليلين من عشاق السودان وأنصار وحدة وادي النيل وعروبته‏.‏
....................................
*الأهرام ـ في 13/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:37 AM
( 37 ) كان شعاعا متوهجا

بقلم: د‏.‏ محمد المخزنجي
...............................

لقد فقدنا ركنا جميلا ونبيلا من أركان الجمال المصري‏,‏ متمثلا في مثقف انسان رفيع الانسانية‏,‏ وناقدا ذي بصيرة ومعرفة لاتقف عند حدود المعرفة النظرية‏,‏ بل تتعداها الي المعرفة بشجون القلب وفتون الروح‏.‏
وهذا يجعل من رجاء نقاش ناقدا متفردا يجيد لغة الوصل ما بين المبدع والمتلقي‏.‏ لقد كان فنانا فيما كتب وفيما نقد‏.‏ وانا أعتقد ان كل كاتب وكل شاعر وكل فنان مصري يناله شعاع من ضوء رجاء النقاش كفيل بأن يسبغ عليه اضاءة لاتتكرر وتظل مصاحبة له علي امتداد عمره الابداعي‏.‏ كان رجاء النقاش مستكشفا او مكتشفا‏,‏ ملهما للابداع الناجح والمبدعين النادرين‏.‏
لقد أسعدني حظي مرتين عندما كتب عني رجاء النقاش مرة دون ان يعرفني فنلت بكتابته وساما تتضاءل الي جواره كل الجوائز والأوسمة‏.‏ أما المرة الثانية فهي معايشتي لرجاء النقاش لعدة أيام متواصلة‏.‏ وقد أذهلني هذا الروح الجليل‏,‏ وأكاد أقول الخارق‏.‏ فقد كان يعيش علي ملعقتين من العسل وملعقتين من الزبادي فقط في اليوم‏,‏ ومع ذلك يظل متوهجا ليرسل فيما حوله اشعة وضياء من المعرفة والتاريخ ويكشف عن ظاهر وباطن الجمالات في الأدب والفن والتاريخ‏.‏ وكان يرسل ذلك بذاكرة من حديد ورؤي ثاقبة‏.‏ لقد كان روحا خالصا‏.‏
وأنا أشعر الآن بقدر هائل من الوحشة‏,‏ وأخشي اننا نفقد في هذا الزمان اعمدة للحق والخير والجمال‏.‏
رحم الله رجاء النقاش واعاننا علي افتقاده
--------------------------------------------
*الأهرام ـ في 12/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:39 AM
( 38 ) ماذا يبقي ؟
رجاء‏..‏ الصرح والقلم

بقلم: ‏ سامي فريد
......................

تفاجئنا الايام كدأبها دائما بما قد يحزن او يسر او يستغرب‏..‏ المفاجـأة هذه المرة كانت حزينة عميقة الحزن‏.‏ كلنا الي موت هذا صحيح لكن فقد عزيز من وزن وقيمة وقامة رجاء النقاش امر يحدث فينا شيئا كالصدمة‏,‏ لم اكن تشرفت بمعرفته في شخصه وإن تمنيت هذا وقد كنت واحدا من قرائه المتابعين لمقالاته وكتبه بالتقدير والاعجاب‏,‏ فهو الكاتب صاحب الرؤية والاسلوب وهو القريب جدا من قرائه‏,‏ لا يتعالي عليهم فيخاطبهم من قمة البرج العالي ولا هو المسف الذي يهبط بهم الي مهاوي الضلالة والتجهيل والخداع‏,‏ لم اقرأ له يوما ولا أظن غيري قد قرأ له مقالا لا يخاطب فيه هما من هموم الناس او قضية تشغلهم علي اي صعيد فكري كان‏..‏
فهو الأديب السلس الذي يسكن قلب وعقل قارئه‏.‏ من الحياة يكتب يغمس قلمه في مداد الحياة إن جاز التعبير‏.‏ هذا هو الكاتب الذي يعرف معني ان تكون لكل صاحب قلم رسالة يعيش من اجلها‏..‏ أن يشهر قلمه من أجل ما ينفع الناس فيقول رجاء النقاش في مقدمة الطبعة التاسعة لكتابه الشهير التماثيل المكسورة الصادر ضمن سلسلة كتب مكتبة الاسرة تحت عنوان تأملات في الانسان‏:(‏ انني احب هذا الكتاب أكثر من أي كتاب آخر لي‏,‏ وذلك ببساطة لأنني كنت احاول في اثناء كتابته ان اعالج نفسي من الحزن والضيق بالحياة‏
كنت احاول ان انتصر علي عوامل الهزيمة الروحية التي اوشكت يوما ان تسد امامي كل الطرق ان تسلب مني اي حماس للحياة او ابتهاج بها وكلما عدت الي فصول هذا الكتاب تدفقت في روحي عزيمة ان تنتصر علي الحزن والاسي والتشاؤم وبمرور الايام اكتشفت ان الكثيرين يشعرون نحو هذا الكتاب بنفس مشاعري وذلك لأنهم اصطدموا في طريق الحياة ببعض الاحزان الكبيرة ودخلوا مع هذه الاحزان في صراع حاد وارادوا ان ينتصروا فيه وان يواصلوا حياتهم رغم عدوان الاسي والاكتئاب‏.‏
وحده رجاء النقاش الذي كان يحس هذه كله ولهذا كان انسانا قريبا جدا من كل انسان يعرفه او لم يعرفه‏,‏ ومن منا لم يعش مشكلة الخصومة مع الحياة حتي هؤلاء الذين يظنون انهم توافرت لهم اسباب السعادة والثروة وراحة البال يتساءل رجاء النقاش‏:‏ كيف يعيش الانسان في سلام مع نفسه وفي سلام مع الناس؟ وما الطريق الي ذلك ؟ وما العقبات التي تقف في طريقه وكيف يتصرف المهزومون في معركة الحياة وكيف يتصرف المنتصرون وما الأمل وما التفاؤل وما التشاؤم وما الاسي وما الفرح؟ نحن يحزننا ولا شك فراق رجاء النقاش بشخصه وسمته وروحه وفكره لكن يعزينا اكبر العزاء ان الصرح الذي خلفه من بعده سيظل يغمرنا نوره وسيبقي فينا ما خطه قلمه من اجل سعادتنا ما دمنا نحفظه ولا نضيعه‏...‏
.......................................
*الأهرام ـ في 14/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:40 AM
( 39 ) كان زهرة أبناء جيله

بقلم: محمد إبراهيم ابو سنة
......................................

صديقي رجاء النقاش زهرة أبناء جيله‏.‏ كان صوت هذا الجيل في النقد الأدبي‏,‏ وهوالذي رشحه لتبوؤ الريادة في الخمسينيات والستينيات‏.‏ وكان أستاذ النقد المبدع والثقافة بالاضافة الي أنه كاتب صحفي قدير‏.‏
عرفته في بداية الستينيات عندما كان مراسلا لمجلة الأداب البيروتية‏,‏ واتصلت صداقتنا حتي النهاية‏,‏ لأنه في واقع الأمركان يعين أبناء جيله وجيلنا‏,‏ وأنا بالتحديد‏,‏ في نشر اعمالنا الأولي‏.‏
واستمرفي هذا التقليد الجميل طوال حياته‏,‏ فمد لي العون عام‏1963‏ وكان له الفضل في أن نشرت عددا كبيرا من القصائد في مجلة الكاتب والهلال والكواكب والدوحة‏.‏
واذا كان تولستوي يقول الأخلاق أندر من العبقرية فقد جمع النقاش بين الميزتين‏:‏ الأخلاق والعبقرية‏.‏ فلا يوجد صوت أدبي من جيلنا إلا ويدين بموقف او مساعدة وعون من رجاء النقاش‏.‏
ومن أعماله التي لاتنسي ما كتبه عن العقاد ونجيب‏,‏ ومقدمته الرائعة للديوان الأول لأحمد عبد المعطي حجازي مدينة بلا قلب عام‏1958‏ وهي التي قدمت حجازي للقراء‏,‏ لقد استطاع النقاش أن يلعب ادوارا عدة كناقد وكرئيس تحرير عدد من المجلات‏,‏ فكان مؤثرا وفاعلا في الحركة الثقافية ومدافعا صلبا عن حركة الحداثة والأجيال الجديدة‏.‏
وكان يتسم بالدماثة وبشخصية لابد أن تقع في حبها بمجرد ان تتعرف عليها‏.‏
واذا كان الموت اختطفه وهو في قمة النضج فانه سوف يظل في الذاكرة الأدبية والثقافية نجما لامعا وثاقبا‏,‏ لأن انجازه لايعرف النسيان‏,‏ فجيلنا كله سواء شعراء او روائيين او نقاد يدين لهذا الناقد الرائع الجميل الذي قدم لمصر ولثقافتها أفضل العطاء وليتنا نعيد نشر أعماله ليعرف الجيل الجديد اية قامة أدبية رفيعة فقدناها‏.‏
-------------------------------------
*الأهرام ـ في 12/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:41 AM
( 40 ) فتنة اللعب في «المناطق الآمنة»

بقلم: سيد محمود
......................

تكشف السيرة المهنية للناقد الراحل رجاء النقاش جملة من الملاحظات المرتبطة بأوضاع الصحافة الثقافية في مصر التي كان أحد أبرز فرسانها طوال نصف قرن، فمنذ بداياته الاولى ربط النقاش نفسه بالثقافة العربية كما جسدها مشروع مجلة «الآداب» البيروتية والتي عمل النقاش مراسلاً لها من القاهرة سنوات عزها.
وفي يقيني أن ارتباطه المبكر بهذا المشروع رسم خطوات حياته كلها ومكنه من الاطلاع على أعمال إبداعية ونقدية خارج مصر، الامر الذي جعله يتعافى من «الاحساس الشوفيني» الذي وسم مجايليه ومن جاءوا بعده من الصحافيين والنقاد المصريين الذين لم يفلح أحدهم في التكريس لأي موهبة عربية في مجال الإبداع الأدبي مقارنة بالدور الذي لعبه النقاش في تكريس مواهب في حجم محمود درويش وسميح القاسم والطيب صالح، هذا من ناحية،
ومن ناحية أخرى أعطته تجربة «الآداب» فرصة التعرف على المواهب العربية في سياق شامل حرّر طريقة تعاطيه معها من التصورات الجاهزة التي تقيس كل ما ينتج خارج مصر على ما كان ينتج داخلها.
وقد يكون صحيحاً أن الانتماء القومي كان السمة المميزة لعصر جمال عبد الناصر، إلا أن النقاش مارس طقوس هذا الايمان بطريقته الخاصة التي لم تكن نتيجة لتورط أيديولوجي مباشر يدفعه الى التماهي مع خطاب الثورة الناصرية بالكامل، أو الى العداء لها.
وفي تقديري إن هذه «المسافة الآمنة» التي صنعها مع النظام الذي شكك دائماً في نيات من يعملون في ظله، مكنته من صناعة مشروعه المتكامل في الصحافة الثقافية والحفاظ عليه من دون خسائر كتلك التي دفعها مجايلون نتيجة صدامهم المتوالي مع السلطة، اذ يلفت النظر في سيرته انه لم يخف قط تبنيه للخط السياسي للنظام، ولعل ذلك يفسر أيضاً كونه واحداً من قلة من المثقفين والنقاد لم يصبها أذى الدولة الناصرية الذي طاول النخبة المصرية بأطيافها كافة، على رغم أن تصوره النقدي لم يكن مغايرا تماماً للتصورات النقدية الشائعة والتي روجت لها أجهزة الدولة التي كانت تغلب السياسي على الجمالي، على رغم رفضه العنيف للنقد الماركسي وآلياته.
وبحسب تعبير صبحي حديدي كان النقاش «شديد الميل إلى إسقاط السياسة على الظواهر الإبداعية» بما في ذلك من تعسف. إلا أنه اتسم بالمقابل في ممارساته المهنية بكثير من الرحابة التي تقوم على الايمان بالتنوع الخلاق.
ولعله أول من غامر بتقديم شعراء السبعينات في مصر من خلال الملف الذي نشرته مجلة «الهلال» ولا شك في ان من يتأمل المواد الصحافية التي نشرتها المجلة خلال الفترة التي تولى فيها النقاش رئاسة تحريرها يكتشف على الفور ملامح هذا المشروع وأركانه التي تواصلت فترة توليه رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» القطرية في النصف الاول من ثمانينات القرن الماضي. وهو مشروع ينتصر للغة الصحافية السهلة ويراهن عليها في بناء جسور بين القراء والكتّاب من دون التورط في الخطاب النقدي النظري الجاف ومتاهاته.
غير أن من اللافت أن النقاش بعد عودته إلى مصر نهاية ثمانينات القرن الماضي لم يشأ الاستمرار في هذا الدور النقدي الفعال على رغم خلو الـــساحة من الأسماء التي ساجلها ولعب معها طوال نصف قرن بعد رحــيل معظمها، لكنه فضل العودة إلى ذاكرته الحية والتقليب في صفحات التاريخ المصري بالكتابة عن بعض الرموز الثـــقافية والفكـــرية التي جرى تغيــيبها وهي «استراحة محارب» طويلـــة لم يرض عنها الجيل الجديد من المبدعين الذين اعتبروا انجازات النقاش شيئاً من الماضي، بينما كتابات علي الراعي وعبد القادر القط وفاروق عبد القادر التي التفتت إليهم كانت الأقرب والأكثر استجابة لتحولات المشهد الأدبي في مصر.
...................................
*الحياة ـ في 14/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:43 AM
( 41) رجاء النقاش وعروبة مصر

بقلم: ماجد السامرائي
...........................

قبل اكثر من نصف قرن بدأ رجاء النقاش رحلته مع الكلمة. ومن مقالاته الأولى في «الآداب» البيروتية تعرّفنا إليه، كاتباً عروبيّ النزعة، والفكر، والروح، وناقداً يحمل في إهابه صوتاً مختلفاً. فهو إذ يقف مع الجديد، وينادي بالتجديد، كان يتصدى بروحه النقدية وبقلمه النافذ الكلمات، لما عُدّ يومها «تيارات متطرفة»، إن في الأدب أو في الفكر والسياسة.
ويوم كتب مقدمته المطوّلة للديوان الأول لرفيق دربه الثقافي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي «مدينة بلا قلب»، وقعنا، نحن قراءهما من خلال تلك المقدمة في أسر «الناقد الواقعي» الذي ينظر في الأدب من خلال الواقع، ويضمّ الأدب والإنسان الى هذا الواقع، جاعلاً من الإنسان قضية، ومن الواقع مرجعاً ومعاداً للاثنين، الإنسان والأدب، وخرج بالاثنين الى بهاء الموقف.
وهو ربط الإنسان والأدب والفكر والواقع بمنظومة النظرة العروبية الجوهر التي كانت أساس الموقف القومي لرجاء النقاش حياة وفكراً وكتابات، كما كانت أساس الفكرة القومية ومنطلقها. ومن خلال الأدب والفكر النقدي عُرف رجاء النقاش في مصر والوطن العربي: كاتباً وناقداً عربي الموقف، بل من دعاة الموقف القومي في الثقافة.
ويوم انكسر الحلم العربي في ستينات القرن الماضي (بانهيار أول تجربة وحدوية، ثم نكسة حزيران)، وجرت محاولات تصفية ما تبقى من هذا الحلم على أرض الواقع، باتفاقية كامب ديفيد، برزت يومها «الأفكار الانعزالية» تحاصر الحلم وحامليه أكثر، فتصدى رجاء النقاش لتلك «الموجة العارضة» في كتابه: «الانعزاليون في مصر»، ناقداً أفكارهم، وكاشفاً عن «أُصولها التاريخية»، وداحضاً اطروحاتها من خلال الوقائع والحقائق التاريخية، فكان بكتابه هذا أجرأ الأصوات الناقدة المنتصرة لعروبة مصر في تلك الحقبة الصعبة.
وكما عمل على الانتصار للفكر الأصيل والفكرة الحية عمل أيضاً على إنصاف الأشخاص بإعادة ما كان لهم من تاريخ، وخصوصاً أولئك الذين كان يرى أن استمرار حضورهم رمزاً في الحياة الثقافية أمر مهم، للأفكار التي حملوها ونادوا بها. فكان كتابه «عباس محمود العقاد بين اليمين واليسار» يجلو صفحة، قد تكون غامضة أو مستورة، في حياة أديب ومفكر كالعقاد، معيداً الكثير من تفاصيل الصورة إليها، قبل أن تتبدد، وتضيع في زحمة «فوضى الأفكار» و «تداخلات الوقائع» كما ضاع الكثير، فإذا بالعقاد الذي وضعه رجاء النقاش بين تيارين متعارضين ومتناقضين، اليمين واليسار، يبدو لقارئ الكتاب بالصورة التي كان عليها في حياته السياسية والفكرية.
ويوم تعرض نجيب محفوظ لبعض حملات التشكيك، والهجوم بأفكار غير ثقافية، ما كان من رجاء النقاش إلاّ أن يكتب «في حبّ نجيب محفوظ» واقفاً من خلال هذا «العنوان العاطفي» – أو هكذا يبدو – وقفة تعاطف مع سيد الرواية العربية وعنوانها التاريخي، في قراءة متميزة لحياة الرجل وأفكاره والبعد الإبداعي لوجوده.
هذا كلّه، وكثير سواه، وهو اكثر من هذا بكثير، أنجزه رجاء النقاش في رحلة ثقافية بدأها بكتابه التأسيسي لمساره هذا «في أزمة الثقافة المصرية»، متواصلاً في رحلة ثقافية – فكرية امتدت به، ومعه، أكثر من نصف قرن. وكما كان نصف القرن ذاك حافلاً بالعطاء الثقافي والفكري في غير مستوى، كان أيضاً نصف قرن حافلاً بحروب، معلنة وخفية، على رجاء النقاش: الشاب، والرجل، والكهل، والشيخ. ولم تكن حروباً نظيفة، إن لم نقل إنها من نوع «الحروب القذرة»، تولتها أكثر من «جهة» وشخص.
إلاّ أنها، على عنفها في بعض الحالات والمراحل، لم تفتّ في عضده - كما يقال - ولا أبعدته عن طريقه الذي اتخذ فيه مساره.
إلاّ أن أكثر تلك الحروب مرارة في نفسه، وقد ظلت مرارتها في نفسه على امتداد ما أعقبها من سنوات وتحولات، هي تلك التي تعرض لها بـ «أيدي الأصحاب» و«أقلام الأصدقاء»، من الذين كان قدّم الكثيرين منهم الى الحياة الأدبية أو الصحافية. ولكن، ما أن تمكنت أيديهم من القلم، أو الموقع، حتى طعنوه من حيث لم يكن يتوقع. فما كان منه إلاّ أن يأسف، وقد أسف كثيراً، لكنه لم ييأس.

إلاّ أنه حزن طويلاً، وأحسب أنه ودعنا وهو بعد حزين!
........................................
*الحياة ـ في 10/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:47 AM
( 42 ) عن الراحل رجاء النقاش ... شهادة ناقد لا تمثل مرثية

بقلم: د.صلاح فضل
..........................

قبل شهور قليلة استشعرتْ مجلة «الهلال» التي تدين لرجاء النقاش بأجمل لحظات توهجها الأدبي والثقافي، أنه بدأ يخبو بمطاردة المرض العضال، فخصصت عدداً تذكارياً له واستكتبتني كلمات فيه على سبيل الشهادة، ولم أعرف حينها ماذا كان وقعها على نفسه، وهل أرضته نغمة الحب والتقدير فيها، أم آلمته الصراحة النقدية في الكشف عن مواطن القوة والضعف لديه، في تقديري المتواضع.
وعندما فقدنا رجاء النقاش الذي أضاء الصحافة الأدبية بإشراقة قلمه، وعمّر الحياة الثقافية العربية منذ إطلالاته الأولى في «الآداب» التي صنعت أجيالاً من طلائع المثقفين، حتى كلماته العذبة المقطرة المفعمة بالحب على صفحات «الأهرام» وغيرها من كبريات المنابر الأدبية. ولأن الشهادة لا يجوز تحويرها أو تغييرها أستأذن القارئ في أن أعيد سطورها تحية لواحد من ألمع نجوم النقد وأبرز رموزه في العصر الحديث:
إذا كان النقاد عادة هم قضاة الفكر الأدبي، ورعاة العدالة الثقافية، الممسكون بميزان الإبداع، فإن تاريخهم يحفل عادة بأحكام القيمة، والزمن والجمهور وتطور الاتجاهات درجات لاستئناف هذه الأحكام أو نقضها، وتمحيص مدى نزاهتها، أو صدقيتهم، فإذا خرج الناقد من كل ذلك بريئاً من الهوى، بصيراً بأقدار الناس عزّز الثقة بمســتواه وترســخت قيـــمته في ضمير قرائه على مدى الأجيال المتعاقبة.
ورجاء النقاش الذي تميز بنبوغه المبكر في مجال الكتابة النقدية، وهي تتطلب عادة نضجاً متمهلاً واستحصاءً بطيئاً، بهر قراءه بعين الصقر التي يمتلكها منذ صباه، فقد كان موهوباً في اكتشاف المواهب الكبرى والتنبؤ بمستقبلها الواعد، سواء كان ذلك في الشعر أو الرواية، وليس أدلّ على هذه المقدرة الفذة التي صدقتها الأيام من أسماء محمود درويش والطيب صالح وغيرهما، ولعل نشأة رجاء في أسرة حافلة بالإبداع والذكاء المبكر من الرجال والنساء أن تكون عاملاً مؤسساً لهذا الوعي الناضج والرؤية الثاقبة، لكن ما صاغه من التحيز الساذج والاندفاع وراء الهوى الشخصي في الدرجة الأولى هو براءته من العمى الأيديولوجي الذي كان سائداً في أوساط المثقفين من اليسار المصري في العقود الوسطى من القرن العشرين، فكم ضلل هذا العمى كبار النقاد وجعلهم يخطئون في النبوءة ويقدمون من لا يستحق التقدير على رغم ثقافتهم العالية وإخلاصهم الشديد، لكن احتكام رجاء النقاش إلى وجدانه الوضيء وضميره الفني الشفيف وضعه في زاوية الرؤية الصحيحة لمستقبل الإبداع، ومكّنه من احتضان الكتابة بعشق وحنان ودأب، وأتاح له فرصة امتلاك نعمة، إذا فقدها الناقد، اختلت البوصلة في يده، وهي الإصابة في معرفة أقدار الكتّاب، ونصيبهم من الإبداع، مهما كانت علاقته الشخصية بهم، وجعله في نهاية المطاف قادراً على الإسهام الفعال في صناعة استراتيجية الثقافة العامة. بيد أن هناك نعمة أخرى ظفر بها رجاء النقاش وتفادى ما تضمره من نقمة، وهي براءته من التقعر الأكاديمي الذي سقط فيه كثير من أساتذة الأدب والنقد، عندما سجنوا أنفسهم داخل أسوار الجامعات والمعاهد العلمية، فحرموا من الانصات لنبض الواقع الحي والكفاءة في قياس حرارته وجمالياته، وقد نذكر بشيء من الأسى بعض المناوشات الخفيفة التي قامت بينه وبين هؤلاء الأساتذة وكيف خرج منها منتصراً مؤمناً برسالة الفكر النقدي في التنوير والتحديث والتقدم من دون تعقيب أيديولوجي أو تقعر أكاديمي ممقوت.
لكن نقطة الضعف التي حالت بين رجاء النقاش وتصدره مشهد النقد الأدبي بعد محمد مندور ولويس عوض وكان مؤهلاً لذلك، أنه لم يعبر محنة الاتصال المباشر بالثقافة الغربية في إحدى عواصمها الكبرى ولم يتقن بالقدر الكافي إحدى لغاتها باعتبارها منفذاً للتواصل الخلاق مع روح العصر والحضارة المجسدة له، فظل معلقاً بما يقدمه الآخرون من ترجمات من دون أن يصنع بنفسه أو يعجن بيديه «فطيرته» الخاصة معتمداً على فطرته ويقظته في التقاط ما يجود به الآخرون، وترتب على ذلك في فترة السبعينات المفصلية في تاريخ الفكر النقدي العالمي أن خرج صديقنا من دائرة القيادة للفكر النقدي العربي مع كفاءته العالية في ممارسته، ولم تشغله مشكلة المناهج المتغيرة بتطوراتها المعرفية المتوالية فاكتفى بمزاجه الشخصي وثقافته الموسوعية ونضارة حساسيته في تلقي الأعمال الإبداعية وإضاءتها بمقارباته الواعية. على أن إنجازات رجاء النقاش في مجال الصحافة الأدبية والثقافية سواء كان ذلك خلال رئاسته تحرير «الهلال» أو تخليقه لتيار عارم من الإبداع الصحافي والأدبي في مجلة «الدوحة» التي تعتبر من أنفس ما عمّر الذاكرة العربية من مطبوعات ثقافية، أسهمت في مضاعفة دوره في مجال الفكر والكتابة حتى أصبح اسمه يتوهج بالمعرفة والعطاء النبيل والمثمر في فلك التاريخ والتأصيل، ما جعله يحقق في نهاية الأمر إحدى أجمل رسالات الخطاب النقدي في حمل قارئه على عشق الفن والأدب والثقافة.
احتفظ رجاء النقاش عبر مسارات متقلبة عنيفة في الحركة والعمل بقدر عظيم من التوازن محافظاً على طابعه الطفولي البريء حتى وهو في شيخوخته، فجعل من النقد الصحافي منبراً لتأكيد القيم العظمى في الوطنية والحق والخير والجمال، الأمر الذي جعل من كتاباته منبعاً ثرياً للمتعة الراقية ونموذجاً بديعاً للتواصل الجماعي الخلاق مع قرائه ومريديه.
...................................
*الحياة ـ في 14/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:54 AM
( 43) نشــــارة الحيـــاة

بقلم : د. جابر عصفور
............................

يحكي رجاء النقاش ـ رحمة الله عليه ـ في كتابه الأخير أولاد حارتنا الذي صدر بعد موته أنه كان ذات يوم يشكو لنجيب محفوظ ضغوط عمله الصحفي وابتلاعه الوقت والعمر‏,‏ فنصحه نجيب محفوظ بأنه لايستسلم إلي ظروف الحياة مهما تكن صعبة‏,‏ ثم قال له‏:‏ اسمع أنا صنعت نفسي وأدبي كله من نشارة الحياة‏.‏ وقد هزت كلمة نشارة الحياة رجاء وعلمته أن لايشكو وان يحاول الانتفاع بكل دقيقة متاحة يستطيع فيها المرء ان يعمل وينتج‏,‏ فالشكوي لاجدوي منها ولافائدة‏,‏ انتهي كلام رجاء في الموضوع وهو بالفعل ظل يعمل وينتج إلي آخر أيام عمره‏.‏ وكان ذلك سبب الوفرة الاستثنائية التي يجدها المتابع لأعماله‏:‏ كتاباته وكتبه العديدة التي لا أزعم أنني قرأتها كلها لكني قرأت معظمها وأهمها علي السواء‏.‏
لكن نشارة الحياة لم تكن تعني المعني نفسه عند رجاء النقاش فنجيب محفوظ كان يتحدث عن مادة الحياة الخام أو الغفل التي كان يستمد منها ابداعه‏,‏ والتي كان يحيلها من ركام لاتكف اكوامه عن التكاثر إلي ابداع لم تتوقف أعماله عن التزايد‏.‏ ولولا ذلك لما استطاع نجيب محفوظ ان يخلق عشرات النماذج البشرية التي حفرت لنفسها مواطن للتأمل والاعجاب في كل أعمال نجيب محفوظ‏,‏ ولا أريد ان احصي أو أن اقدم أمثلة‏,‏ فيكفي ان يسترجع قاريء نجيب محفوظ رواياته ليجد في كل رواية شخصية هي نموذج بشري يجمع ما بين العام والخاص علي نحو فريد وفي مشهد بالغ الاتساع يتميز بالتعدد والتنوع المذهل لنماذجه البشرية المستخرجة والمتحولة عن نشارة الحياة‏.‏
أما نشارة الحياة عند رجاء النقاش فقد كانت تشير إلي معني آخر أقرب إلي طبيعة عمله وسياقات حياته العملية‏,‏ فقد كان ناقدا لامبدعا‏,‏ ومحررا أدبيا وليس أديبا‏,‏ ومفكرا سياسيا واجتماعيا وإداريا رأس أكثر من مجلة واحدي المؤسسات الصحافية‏.‏ وقد فرضت عليه ظروف الحياة أن يعمل وهو طالب وأن يظل يكتب في العديد من الصحف والمجلات علي امتداد الوطن العربي لاسباب يفهمها الذين يعرفونه عن قرب‏,‏ ولا أنسي أن متغيرات الحياة السياسية فرضت عليه المنفي الاختياري أو الهجرة في الزمن الساداتي الذي عادي التيارات القومية والناصرية‏,‏ وكان رجاء قوميا وناصريا فاضطر إلي قبول عرض للعمل في قطر التي رأس فيها تحرير جريدة الراية ثم مجلة الدوحة‏.‏
وأتصور أن المعني السلبي الذي تنطوي عليه نشارة الحياة لاينفصل عن الأعمال المفروضة علي المرء دون أن يكون محبا لها أو حفيا بها‏,‏ أو حتي تدخل في دائرة اهتماماته الثقافية أو الأدبية أو حتي النقدية‏.‏ وقد كان صلاح عبدالصبور يسمي هذه الأعمال نثر الحياة الرديء وكان يشير بالتعبير إلي العمل الإداري الذي لابد من تأديته‏.‏ وكنت أتعاطف معه عليه رحمة الله‏,‏ كلما حدثني عن هذا النثر الرديء الذي اخذت اعاني منه تدريجيا علي المستوي الشخصي‏,‏ كما لو كنت قد وضعت قدمي علي حافة رمال متحركة تجر من يقوده قدره اليها إلي اعماقها التي يكمن فيها الموت المادي والمعنوي وكنت أرثي للشاعر المبدع العظيم صلاح الذي كان عليه ان يذهب كل يوم الي الهيئة العامة للكتاب ويحاول حل مشكلات عمال المطابع مرة ونقص الورق ثانية وانتهاء العمر الافتراضي لماكينات الطباعة ثالثة‏.‏
والصراع اللاإنساني مع قيادات وزارة المالية فيما يخص بنود ميزانية الهيئة‏,‏ وأضف إلي ذلك عشرات المشكلات من النوع نفسه‏,‏ وذلك إلي الدرجة التي كنت أتخيل فيها صلاح‏(‏ الموظف‏)‏ بمثابة روبوت وظيفته التوقيع علي آلاف الاوراق ومراجعة آلاف موازية حتي لاينتهي مصيره إلي السجن‏.‏ وكنت أري مكتبه فوق ذلك كله تحول إلي قهوة يدخلها عابرو السبيل بلا موعد ولامطلب سوي الدردشة أو السلام أو طلب حاجة وما أكثر الحاجات والمطالب بالحق والباطل‏,‏ وما أكثر ما كان صلاح يلقي من طلاب الباطل جنبا إلي جنب المنافقين وذوي المواهب الصغيرة الذين لن تجد أكثر منهم تكالبا علي المطالبة بما لايستحقون من نشر أعمالهم الرديئة‏,‏ وقد كانوا ولايزالون كائنات بائسة ذبابية السمات والطبائع التي انتهت ولاتزال تنتهي بنشر الغث والتافه وما لاقيمة له‏.‏
وكنت أري تحمل صلاح عبدالصبور لذلك الذي وصفه بأنه نثر الحياة الرديء‏,‏ ورأي رجاء النقاش بعض معناه علي نحو مضمر‏,‏ ولعله ترك لنا استنتاجه من عبارة نجيب محفوظ عن نشارة الحياة وهي المعني الذي نراه حاضرا في ابداع صلاح الشاعر‏,‏ خصوصا حين يتحدث عن كون خال من الوسامة‏,‏ أو رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة‏,‏ حيث المكرورون في زمن الحق الضائع‏,‏ الزمن الذي لايعرف فيه مقتول من قاتله ومتي قتله‏,‏ فرؤوس الحيوانات علي جثث الناس‏,‏ ورؤوس الناس علي جثث الحيوانات وصلاح الشاعر في هذا العالم الشعري لم يكن يختلف كثيرا عن صلاح الذي أجلسه حظه العاثر علي مكتب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب ونال ما لم ينله احد سواء من نشارة الحياة الثقافية وطفيلياتها أو من ذلك الكم الهائل من نثر الوظيفة الرديء‏.‏
أذكر جيدا في سنوات حياته الأخيرة التي اقتربت فيها منه حين كنت أعمل نائبا لرئيس تحرير مجلة فصول عزالدين إسماعيل عليه رحمة الله بدوره وكنت أحمل عبء الاشراف التنفيذي للمجلة علي كاهلي وحدي بعد سفر النائب الثاني صلاح فضل وكنت انزل من إدارة المجلة في الدور الثاني أو المطابع وأشكو لصلاح في مكتبه بالدور الأول تكاسل عمال الجمع التصويري قبل أن تشيع أجهزة الكمبيوتر الاحدث أو أنفعل أمامه من تأخر عمليات فصل الالوان أو اعداد الزنكات وكان يقابلني دائما باسما في حنو الأخ الكبير ويعمل علي تهدئتي بحديثه عما كان يسميه الفقهاء زكاة البدن التي علينا ان نؤديها في أعمالنا أملا في أن نثاب بها وسرعان ما يترك ذلك خصوصا إذا كنا وحدنا ويحدثني عن مأساة حياته التي هجرها الشعر وتناوشها طفيليات المثقفين التي كان يشبهها بالإيرينيات المتوحشة أو الذباب المتوحش في مسرحية سارتر الشهيرة الذباب‏,‏
وكانت الشكوي تنتهي عادة بعبارة يا جابر لقد تحولت حياتي إلي نثر لا نضارة فيه وها أنت تراني محاطا بنثر الحياة الرديء كل يوم‏,‏ وتكون النتيجة النهائية في الغالب أن اتعاطف معه وأنسي مضايقات عمال المطابع وغيرهم وأستمع اليه وهو يحدثني عن ضيقه بالوظيفة التي اضا عت منه الشاعر وعن حلمه بالسفر إلي جامعة هارفارد للبقاء فيها باحثا متفرغا لمدة عام في مناخ قد يبعث الشعر من تحت الرماد‏,‏ في وقدة لحظة كتلك التي عاناها في مانيلا عاصمة الفلبين‏,‏ حين حضر حفلا راقصا بوصفه رئيس الوفد المصري في قصر ماركوس‏,‏ حيث سمحت له جميلة الفلبين زوجة الرئيس السيدة إميلدا ماركوس بالرقص معها فأيقظت بعض الشعر من تحت الرماد وتفجرت فيه قصيدة الشعر والرماد الموجودة في آخر دواوينه الابحار في الذاكرة‏.‏
ولكن سرعان ما انتهت اللحظة التي توهجت شعرا وعاد صلاح إلي القاهرة التي كان آخر ما قال عنها‏:‏
مدينة كهذه المدينة الغريبة
تكاثرت علي مدي الزمان كررت أيامها
وخزنت في لحمها وجلدها المكررين
تسع ملايين من المكررين‏.‏
رحم الله صلاح الذي عاني من نثر الحياة الرديء بسبب قيود الوظيفة التي لم تمنحه البهجة قط‏,‏ ورحم الله رجاء النقاش الذي عاني مثل صلاح من نشارة الحياة التي لم يكن فيها سوء ما يئد الاحلام القديمة‏,‏ ورحم الله نجيب محفوظ الأكثر مكرا وحصافة وقدرة علي احالة النشارة الزائدة عن الحاجة إلي ابداع خالص يصوغه مبدع منضبط انضباط حضرة المحترم الذي كان الوجه الآخر من عرفة الساحر الذي خرج من الرمال المتحركة للوظيفة المعادية للابداع إلي جائزة نوبل‏.‏
........................................
*الأهرام ـ في 10/3/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:56 AM
( 44 ) لم يعرفنا سطورا فقط

بقلم: محفوظ عبد الرحمن
...............................

صداقتي برجاء النقاش قاربت الخمسين عاما‏.‏ فقد تعرفت عليه ونحن طلبة في كلية الآداب‏,‏ ثم عمل مديرا لمكتب المجلة البيروتية التي كانت أهم منبر ثقافي في ذلك الوقت‏,‏ وكان ناقدا متميزا ومهما منذ البداية‏.‏
ورأيي في رجاء أنه أهم نقاد الأدب في العالم العربي‏.‏ وقد استطاع ان يصل الي هذا بثقافة عميقة‏.‏ وكان يكتب بإحساسه فيصل الي القلب‏,‏ ويكتب النقد بطريقة أدبية‏,‏ لذلك كان مقروءا وممتعا‏.‏ وقد عايش الحياة ليري ظواهرها الثقافية ويتابعها ويحللها ليتعرف الناس عليها‏.‏ كان انسانا يتلقي ما يحدث حوله بانفعال شديد‏,‏ لكنه لم يكن انفعاليا بل كان العقل يسيطر عليه ويوجهه‏.‏ وعندما كان يشعر بأنه تجاوز الحدود يعود ويعتذر‏,‏ ولايعيبه ذلك الاعتذار‏.‏
أعتقد اننا خسرنا صوتا ظل لآخر لحظة يعلمنا وينبهنا‏,‏ لكن عزاءنا أنه ترك للمكتبة العربية كتبا هائلة‏. ‏وقد قام بتعريف القاريء بالعديد من الكتاب‏,‏ ولم تكن معرفته بهم علي مستوي الكتابة فقط‏,‏ ولكن أيضا علي مستوي الاتصال بهم ومساعدتهم‏.‏
فكل أبناء جيله استفادوا منه‏.‏ وأنا شخصيا استفدت منه كثيرا ونبهني لأشياء كثيرة‏,‏ وكذلك الأجيال التالية‏.‏
نحن فقدنا علي المستوي العام جزءا مهما من ثقافتنا العربية‏,‏ وعلي المستوي الخاص‏,‏ فقدت صديقا قاربت صداقته الخمسين عاما‏.‏
-----------------------------
*الأهرام ـ في 12/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:58 AM
( 45 ) رجاء النقاش معلم أجيال وجسر محبة

بقلم : محمد الشاذلي
.........................

لم يكن رجاء النقاش سوي أستاذ حقيقي ومخلص وملتزم لأجيال عدة وإذا كنت عرفته عن قرب اعتبارا من صيف العام‏88‏ أي ما يقارب عشرين عاما فإن ما خزنته الذاكرة الثقافية عنه لي ولجيلي قبل ذلك كانت كفيلة بأن أهابه مسبقا‏,‏ ولكن النقاش قطع كل هذه التفاصيل بتقريبنا منه كصحفيين شبان في دار الهلال‏,‏ وضمنا إليه مباشرة‏,‏ فوجدنا عنده ما كنا نبحث عنه‏,‏ سندا قويا‏,‏ معينا وناصحا لا يكل عن التبشير بنا وبمستقبلنا‏,‏ ولو كنا سمعنا نصف كلامه لكان لنا شأن آخر‏.‏ ربما كشف النقاش عن مواهب حقيقية في حياتنا الادبية مما اصبح تاريخا موثقا‏,‏
وهوالمعروف والمقدر عند محمود درويش والطيب صالح واحمد عبد المعطي حجازي وجابر عصفور وأدباء الستينيات العظام وغيرهم‏.‏ ولكن اين نحن من هذا الجيل‏,‏ ربما احتاط رجاء بعض الشيء في تقييم المواهب الجديدة‏,‏ ولكنه لم يتوقف عن ذلك قط‏.‏ فهو دعم محمد المخزنجي في محنته الدراسية دون ان يقصد‏,‏ وحكي المخزنجي فيما بعد انه كان قد وصل الي طريق مسدود خلال دراسته الدكتوراه في روسيا‏,‏ إلي أن جاءته من مصر مجلة المصور مصادفة‏,‏ ليقرأ فيها مقالا نقديا عنه كتبه النقاش فغير مجري حياته‏.‏
اكتشف في بلال فضل موهبة كبيرة كان يخجل فضل عندما يصفها النقاش بأن قلمه ساحر‏,‏ وقدم رواية لابراهيم عيسي بشر فيها بكاتب كبير‏,‏ وعندما انفجرت الموهبة الكبيرة علاء الاسواني قدم له قراءة متميزة‏.‏ لم يكن النقاش مجاملا إلا في حدود ولمن هم في البدايات‏,‏ ولكنه هو نفسه الذي خاض معركة بسبب قصيدة الشعر الحر مع عباس محمود العقاد‏,‏ وكتب عن يوسف أدريس الغاضب الوحيد بسبب رد فعل سلبي تجاه نجيب محفوظ لحظة إعلان جائزة نوبل في الأدب‏,‏ ورفض الكتابة عن يوسف السباعي صاحب النفوذ في الثقافة الرسمية‏,‏ كما كان في معركة مفتوحة ضد ادونيس بسبب صلابة موقف النقاش العروبي
لانه لم يكن يهادن علي الإطلاق في مسألة انتمائه العربي وفي مواقفه القومية وللسبب نفسه كان ضد توفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهما انتصارا لموقفه القومي العربي‏,‏ وإذا كان قد تصالح مع أدونيس فيما بعد فإن ذلك عن اقتناع واتفاق علي الشعر وإسهامات أدونيس الجديرة بالاحترام‏.‏ أما في بيت رجاء النقاش سواء بيته القديم في المهندسين أو الجديد في حدائق الأهرام فإنه قدم كثيرين منا الي كبار ضيوفه من الكتاب والمثقفين‏,‏ وجعل من محبته جسرا نلاقي في منتصفه أسماء كبيرة‏,
‏كما كنا نزهو عندما نقول إننا جلسنا الي الطيب صالح في بيت رجاء النقاش‏,‏ واستمعنا الي محمود درويش وإلي دفء حكايات جابر عصفور بعد ان يتحلل من سمت الاستاذ الجامعي والموظف الكبير‏,‏ وتعرفنا إلي محمد فائق ومحمد ابو الغار هناك‏,‏ كما قدمنا الي جميع أفراد أسرته المثقفة‏,‏ وقبل ذلك الي رفيقة عمره العظيمة الدكتورة هانية‏.‏ كتب النقاش وحدثنا طويلا في بيته عن أساتذته‏,‏ عن زكريا الحجاوي‏,‏ أنور المعداوي‏,‏ الدكتور محمد مندور‏,‏ وأحمد بهاء الدين‏,‏ وأمينة السعيد‏,‏ وعن أصدقاء الزمن الجميل في شبابه‏:‏ حجازي‏,‏ صلاح جاهين‏,‏ سعد الدين وهبة‏,‏ حمدي قنديل‏,‏ أما جدية رجاء النقاش رغم حرصه علي الآخرين ومتابعتهم فكانت بادية في محاولات‏,‏ نحت في معظم الأحيان‏,‏ نحو الخصوصية‏,‏ فتعمد انتزاع اوقات للقراءة والكتابة من براثن الزمن والاصدقاء‏.‏ وكما عرفت منه فإنه في البداية تأثر بقراءاته الدينية في مكتبة والده المدرس الإلزامي في مسقط رأسه بقرية منية سمنود القريبة من المنصورة‏,‏ هكذا بدأ عهدا بالقراءة لم يعرف حدودا‏,‏ وكانت مكتبته العظيمة التي كونها بدأب من أعظم وأدق المكتبات التي عرفتها في بيوت كبار مثقفينا‏.‏ وحسب ما فهمت مشروع رجاء النقاش الثقافي من خلال قراءتي لمؤلفاته ومقالاته ومن خلال حديثنا المباشر فإن رجاء يري في الثقافة سبيلا رئيسيا للنهضة‏,‏ فهو لم يكن يؤمن بأن الثقافة ترف او فعل مجاني وإنما لها غاية عظيمة هي بالضرورة لمصلحة السواد الأعظم من الناس‏,‏ وأن هذه الثقافة في الوقت نفسه ينبغي أن تكون متعة عقلية وبصرية‏,‏ وهو ما يفسر احتفال النقاش بالفن الحقيقي الذي جسدته في الأعماق أم كلثوم وفيروز والشيخ إمام وعفاف راضي وكل موهبة حقيقية في هذا الوطن‏.‏
--------------------------------------------
*الأهرام ـ في 12/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 05:58 AM
( 46) قدم جيلنا

بقلم: إبراهيم أصلان
...........................

إنه ليوم حزين هذا الذي فقدنا فيه رجاء النقاش‏,‏ فهو فضلا عن دوره النقدي‏,‏ يتمتع بموهبة استثنائية في اكتشاف المواهب‏,‏ فهو الذي قدم لنا محمود درويش‏,‏ وسميح القاسم‏,‏ وتوفيق زياد‏,‏ والطيب صالح‏,‏ هذا إلي جانب اسهامه في إبراز أهم رموز جيل الستينيات عبر فتحه مجلة الهلال لأعمالهم‏,‏ وإعداده لأكثر من عدد خاص لتقديمهم‏,‏ وهو كمحرر ثقافي لعدة مطبوعات يعد بلا نظير علي الإطلاق‏,‏ سواء عندما كان رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون‏,‏ والتي حولها من مجرد نشرة لبرامج الإذاعة والتليفزيون إلي مجلة ثقافية من طراز رفيع‏,‏ أو رئاسته تحرير مجلة الهلال‏,‏ التي فعل فيها نفس الشيء‏.‏

ومازالت الترجمات التي قدمت في روايات الهلال ـ تحت إشرافه ـ من الأعمال البارزة جدا‏.‏ ولا ننسي رئاسته تحرير مجلة الراية القطرية‏,‏ ثم مجلة الدوحة‏,‏ التي رغم توقفها مازالت في الضمير الثقافي المصري والعربي‏,‏ علينا إذن أن ندرك أنه قام بدور بالغ الأهمية في إثراء الثقافة المصرية والعربية‏,‏ وأننا إذ نفقده اليوم نفقد قامة ثقافية كبيرة‏,‏ وصديقا رائعا‏,‏ وصاحب أفضال علي معظم أبناء الجيل الذي انتمي إليه‏.‏
--------------------------------------------
*الأهرام ـ في 12/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 06:06 AM
( 47 ) وداعاً رجاء النقاش

بقلم: د. جابر عصفور
..............................

ها هو رجاء النقاش يرحل عنا بعد أن أوجع قلوبنا بمرضه الطويل الذي ظل يسرقه، شيئاً فشيئاً، من محبيه، إلى أن قرر الموت أن يسرقه منا، تاركاً في نفوسنا ألم الفقد، ومرارة الحزن، والشعور القاهر بالخسارة، خصوصاً في زمن لا يزال في حاجة إلى أمثال رجاء النقاش، يملأون الحياة الثقافية من حولهم، بالحيوية الدافقة والاستنارة التي تتسع بعقول القراء وتمتد إلى ما لا نهاية برحابة أفق الثقافة التي تظل في حاجة إلى العقول التي تقود وتضيء وتشع بقيم الحق والخير والجمال في كل مكان حلّت أو تحل فيه، فرجاء النقاش آخر الوارثين لجيل الموسوعيين العظام من أبناء ثورة 1919، جيل طه حسين والعقاد والمازني وبعدهما يحيي حقي وبقية النجوم الوضاءة التي لا تزال الثقافة العربية مدينة لها بغرس وتعميق معنى الجامعة، والنظرة الشاملة التي تتعدد أدوارها الثقافية في المجتمع الذي تسعى للانتقال به من وهاد الضرورة إلى أعلى آفاق الحرية ولذلك كان رجاء النقاش دارساً وصحافياً ومحرراً أدبياً ورئيس تحرير لمجلات عدة، أحدث في كل منها ما دفعها إلى المزيد من الإنجاز والتقدم والاستشراف الطموح للمستقبل الخلاق الذي تدين له به مجلات رأس تحريرها، مثل مجلة «الكواكب» التي رأس تحريرها ما بين عام 1965و1996، ومجلة «الهلال» (1969-1971) و «الإذاعة والتليفزيون» (1971-1972) وأضف إلى ذلك كله دور المحرر الأدبي الذي يؤديه رجاء بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عام 1956، مزاملاً الأعلام الذين تخرجوا معه أو قبله أو بعده، بسنوات قليلة، من أبناء الجيل الذي يضم صلاح عبدالصبور، وعز الدين إسماعيل، وعبدالغفار مكاوي، وعبدالرحمن فهمي، وفاروق خورشيد، وأحمد كمال زكي وهو جيل نضج وعيه في ظل الأفكار القومية التي أشاعها أمثال ساطع الحصري وتبناها البعث ثم الناصرية بعدها وهي أفكار لم تكن تحول بين التوجه القومي واليسار في دائرة اللقاء التي كان أساسها الإيمان بالعدل الاجتماعي والعداء للاستعمار الذي كان حارساً للرأسمالية القائمة على الاستغلال وقد ظل رجاء محافظاً على فكره القومي، منتسباً إليه، مؤمناً به في كل الأحوال، لا يتحول عنه مهما كانت التغيرات العاصفة التي ناوشت وهددت مسار الفكر القومي ولا أزال أذكر مقالاته في ذلك، خصوصاً تلك التي جمعها في كتابه «الانعزاليون في مصر» الذي كتبه رداً على دعاة انفصال مصر عن محيطها العربي ولذلك كان رجاء النقاش متأثراً على نحو خاص بأستاذنا عبدالعزيز الأهواني الذي كان أبرز القوميين بين أساتذة قسم اللغة العربية الذي تخرج فيه رجاء النقاش ولكن كانت سهير القلماوي الأستاذة الأكثر تأثيراً في وعي رجاء النقاش، أولاً لاقترابه من الأدب الحديث، ووقوفه في صف التجديد في هذا الأدب، وضرورة انفتاحه على آداب العالم، ودراسته من هذا المنظور وكانت سهير القلماوي، التلميذة الأقرب إلى طه حسين، نصير الجديد دائماً، هي النموذج الذي يجسد هذا المنزع أكثر من غيره في قسم اللغة العربية، وكان ذلك في زمن أمين الخولي الذي تحلّق حوله شكري عياد وفاروق خورشيد وغيرهما من أعضاء «الجمعية الأدبية المصرية» ومؤسسيها في ما بعد وكان رجاء النقاش أقرب إلى صلاح عبدالصبور الذي تخرج قبله في المنزع الحداثي نفسه ولذلك لم يكن من المصادفة أن يقوم كلاهما بتسجيل عنوان أطروحة ماجستير، تحت إشرافها في قضايا التجديد الأدبي عموماً، والشعر خصوصاً، ولكن للأسف حال انشغالهما بالصحافة، والغرق في دواماتها من دون الانتهاء من أطروحتي الماجستير اللتين حلما معاً بإعدادهما.

ولقد تخرجت في القسم نفسه الذي تخرج فيه كلاهما، وبعد تسع سنوات من تخرج رجاء على وجه التحديد وابتدأت معرفتي له بقراءة ما يكتب في «أخبار اليوم» ما بين 1961 و1964 وكانت البداية أن أستاذتنا جميعاً، سهير القلماوي، قرأت معنا في إحدى محاضرات «النقد التطبيقي» إحدى قصائد أحمد عبدالمعطي حجازي من ديوانه الأول «مدينة بلا قلب» وكان الديوان قد صدر منذ سنوات معدودة وكان تدريس سهير القلماوي، وقد كانت ملء سمع النقد الأدبي وبصره في تلك الأيام، حدثاً ترك أعمق الأثر في نفوسنا، وفي تذوقنا للشعر الجديد الذي بدأنا ننحاز إليه بفضلها وكانت النتيجة أننا اشترينا الديوان الذي صدر عام 1959 مع دراسة بالغة الأهمية كتبها رجاء النقاش الذي كانت دراسته خير مقدمة لشعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وخير مدخل إلى الشعر الحر عموماً وسرعان ما اكتشفنا أن كاتب هذه المقدمة هو رجاء النقاش الشاب الذي تخرج قبلنا بتسع سنوات، عام 1956 على وجه التحديد.

ولا أزال أعتقد، إلى اليوم، أن هذه الدراسة الاستهلالية لديوان حجازي كانت، ولا تزال، إحدى وثيقتين رائدتين في مجال تبرير الشعر الحر وتحليله. أما المقدمة الثانية، فقد كتبها بدر الديب لديوان صلاح عبدالصبور الأول «الناس في بلادي» الذي صدر عن «دار الآداب» البيروتية في مطلع 1957، قبل صدور ديوان حجازي بعامين ويعني ذلك أنني قرأت ديوان صلاح عبدالصبور الأول بعد أن قرأت حجازي الذي أكملت ديوانه الأول بعد أن قرأت دراسة رجاء قراءة الطالب الذي يريد أن يفهم ويتعلم وينحاز إلى قضية الشعر الحر التي أصبحت أهم قضايا التجديد الأدبي لأبناء جيلي.

وقد كانت الدراسة التمهيدية التي كتبها رجاء لديوان حجازي هي البداية التي دفعتني إلى السعي وراء قراءة ما يكتبه في النقد الأدبي وكانت البداية في جريدة «أخبار اليوم»، التي كان يكتب لها مقالاً أسبوعياً في النقد الأدبي وكان، أيامها، منغمساً، قبل السنة السابقة على تخرجي بكتابه «مقالات عن العالم الروائي عند نجيب محفوظ» الذي كان قد استقر على عرش الرواية العربية من دون منازع، وانهالت عليه مقالات يحيى حقي ورمسيس عوض وعبدالقادر القط وسهير القلماوي وأحمد عباس صالح ومحمد مندور وغيرهم من كبار النقاد في الستينات من القرن الماضي، ولكن رجاء النقاش آثر أن يرى روايات نجيب محفوظ بعدسة نقدية مغايرة، فاكتشف جوانب لم يكتشفها أساتذته، وكان لما اكتشفه أبلغ الأثر في إعجابي به بوصفه ناقداً أدبياً واعداً، مرهف الإحساس، فقد كان نقده لا يقل أهمية ولا قيمة عن نقد أساتذته، بل كان يضيف إليهم ما تهديه إليه بصيرته النقدية النافذة وأذكر، على سبيل المثال ما أجمع عليه النقاد في تناولهم رواية «الطريق» الشهيرة، حيث رأى أكثر النقاد في بطلتها إلهام نموذجاً للصفاء الروحي المقرون بالطريق الهادي للابن الضال، كي يصل إلى أبيه الرمزي الحقيقة المطلقة وهناك يجد، لديه وبواسطته، الأمن والسلام والكرامة، على عكس كريمة التي رأوها تجســيداً لعالم الحواس والغرائز الغارق فيها الابن صابر وللاسم مغزاه، فيعجز عن الوصول إلى فيء أبيه وصدره الحنون، فإذا برجاء النقاش يقلب التفسير، ويجعل من كريمة موئل الروح التي لا نصل إليها إلا بعد أن نصل إلى قرارة القرار من الحــسية التي ليس بعدها سوى الروح، وذلك بمنطق له بعد صوفي بمعنى أو بآخر.

هكذا انتقلت مع كتابات رجاء، قارئاً، من الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى المسرح ومضيت متابعاً له، مستمتعاً بما يكتب إلى أن انتهت الحقبة الناصرية، واضطر إلى العمل في قطر، رئيساً لتحرير مجلة الدوحة واستطعت خلال هذه الفترة أن أصوغ صورة لنقده الأدبي في ذهني، خصوصاً بعد أن استهواني الجانب التنظيري، أو النقد الشارح، للنقد وانتهيت إلى أن نقده يتميز بسمات أساسية عدة.

أولاها أنه نقد متطور، يفيد من التطورات الأخيرة لنظرية التعبير في ذلك الوقت، وأن العملية النقدية تبدأ عنده منذ اللحظة التي يتأثر فيها وجدانه بالعمل المقروء، فيسعى إلى فهمه وتفسيره، ومن ثم تقييمه وما بين الفهم والتفسير، يظل مشغولاً بجمع القرائن الدالة التي يجدها في العمل، ويصل بينها لتصور معناه، قبل تقديم هذا المعنى إلى القارئ في هيئة تفسير للنص وهي عملية تفضي إلى تحديد القيمة الموجبة للعمل أو نفيها عنه وهو في ذلك كله لم يكن يتطلع إلى إجراءات معقدة مثل البنيوية التي نفر منها، وما جاء بعدها، مثل التفكيك وغيره من البدع التي كان يمزح معي، مبرراً موقفه منها.

وثانيتها أنه ظل يرى في الناقد قارئاً خبيراً، اكتسب تجارب عميقة من طول معاشرة النصوص الأدبية والغوص فيها، ولذلك جعل دور الناقد أشبه بدور الوسيط الذي يجمع بين طرفين يحبهما، النص الأدبي والقارئ، مؤكداً هذا البعد بنقده التطبيقي الذي يسعى إلى إيصال معنى النص إلى القارئ في بساطة آسرة، بعيداً من التقعر أو التقعيد، أو التنظير المتعالي، أو التقليد الساذج لنقد آخر، أجنبي على وجه الخصوص وكانت نصوصه النقدية، في معظمها، رسائل محبة إلى القارئ عن نص محبوب، فقد ظل رجاء أميل إلى الكتابة عن النصوص التي يحبها، والتي يهتز بها، ولم يكتب عن النصوص التي نفر منها أو رآها عديمة القيمة.

وثالثتها أنه كان يتمتع ببصيرة نقدية، تجعله قادراً على اكتشاف الجوهر الصافي في النصوص، قبل أن يكتشفها الآخرون، ولذلك كان هو السباق في الكشف عن جوهر شعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ممهداً الطريق أمام من جاء بعده من نقاد حجازي وقد جاء بعد حجازي بسنوات اكتشافه الطيب صالح الذي لم يكن هناك أحد يعرف عنه على امتداد العالم العربي، فإذا برجاء يمسح التراب وغبار عدم المعرفة عن رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» مؤكداً ظهور عبقرية فريدة في الرواية العربية وكان نقده لرواية الطيب صالح بداية لاهتمام متزايد بهذا الروائي الذي ما كان العالم النقدي ليحتفل به إلا بعد أن أزاح رجاء الستار عن تفرد إبداعه الروائي وقل الأمر نفسه عن شعر محمود درويش وشعر شعراء المقاومة ثانياً، وكانت النتيجة كتابه عن محمود درويش الصادر عن «دار الهلال» القاهرة وكان ثمرة اكتشافه محمود درويش الذي كان لا يزال مجهولاً بالنسبة إلى النشاط النقدي الأدبي والذائقة الشعرية عموماً ولذلك فليس من المبالغة القول إن نقد رجاء النقاش التعريفي والتفسيري والتقييمي لمحمود درويش، وبعده شعراء المقاومة، بمثابة الضوء الذي وضع درويش وأقرانه في الدائرة التي سرعان ما جذبت إليها الجميع، فتسابق في اكتشافها وتناولها، إلى درجة أنها أصبحت «موضة».

ورابعتها أنه كان يؤمن أن أي نوع أدبي لا يمكن فهمه إلا في علاقته بغيره من الأنواع، فالأدب كيان متكامل، تتبادل أنواعه التأثر والتأثير، وتقوم بالعملية نفسها مع الفنون التي تتجاوب إبداعاتها وتتراسل على نحو لا يمايز بينها إلا بنوعية الأداة التي تقترن بطبيعة الفعل التعبيري للإبداع من ناحية، وطبيعة الموضوع في علاقته بالمتلقي الذي يتلقاه من ناحية مقابلة ولذلك كان رجاء يكتشف عمليات التراسل بين النصوص الأدبية، وبينها والأعمال الإبداعية في الدوائر المتسعة من عمليات الاستقبال والتلقي.

وخامستها أنه ظل على إيمانه في عملية التقييم المرتبطة بالتفسير أن للأدب وظيفة إنسانية، تجاوز لغتها إلى غيرها من لغات العالم، وأن الغوص إلى قرارة القرار الإنساني من المحلية هو الطريق إلى العالمية، وأن الأديب المؤثر حقاً هو الأديب الذي يتميز إلى جانب عمق مشاعره وصدق إحساسه بحرصه على التواصل مع قرائه، والوصول إلى أوسع دائرة من المتلقين، غير ناس أنه ينتسب إلى مجتمعات تغلب عليها، بل تتزايد، الأمية ولذلك ظل نافراً من ما رأى فيه تعقيداً مسرفاً في الرمزية لا السريالية، مؤثراً الوضوح الأبولوني على الغموض أو الجنون الديونيسي، فكان أميل إلى حجازي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش في مواجهة أدونيس وغيره من شعراء الحداثة ذات الجذور الفرنسية التي كانت، ولا تزال، مختلفة كل الاختلاف عن الحداثة التي ترجع إلى جذور أنكلوسكسونية.

وكان البعد الفني في هذا الجانب الأخير الوجه الآخر من البعد القومي، فقد ظل نفوره من أدونيس نابعاً من تصوره أن شعره تجسيد لرؤية الحزب القومي السوري للعالم، واصفاً إياها بأنها رؤية فينيقية غير عربية، وأن إبداعه غريب الوجه واليد واللسان للقارئ العربي ولذلك، أيضاً، ظل أقرب إلى شعر أحمد حجازي القومي، نافراً من تحولاته الأخيرة التي انقلب فيها على القومية والناصرية وبالقدر نفسه، ظل أقرب وجدانياً إلى شعر صلاح عبدالصبور الذي كان حريصاً على استكتابه في الدوحة القطرية، حين كان رئيس تحريرها، كما ظل أقرب إلى تحولات صلاح الشعرية، في القصائد الغنائية والمسرح الشعري، أعني التحولات التي ظلت أقرب إلى الوضوح الأبولوني منها إلى الغموض والجمود الديونيسي، فشعر صلاح شعر من «كان يريد أن يرى الجمال في النظام/ وأن يرى النظام في الفوضى».

وهما سطران يصوغان في إيجاز بالغ، مذهب رجاء النقاش في الحياة والفن.

وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن تتوثق العلاقة الإنسانية بين صلاح عبدالصبور ورجاء النقاش، فقد كان كلاهما بالغ التقدير للآخر، كما ظل كلاهما، ويا للمفارقة، منطوياً على جرح لم يندمل، وندم لم يكن له علاج ناجع، فما أكثر ما كان يحدثني كلاهما، بعيداً من الآخر، وفي لحظات استرجاع التاريخ الماضي، عن الأسف البالغ لأن كليهما غرق في الرمال المتحركة للصحافة، فأخذ من كل شيء بطرف، وخاض معارك خاسرة، وفرض عليه ما لم يكن يميل إليه، فانشغل عن التفرغ اللازم للبحث العلمي الهادئ طويل النفس، ونسي حلمه القديم بالاستمرار في الطريق الأكاديمي، لكن وآه من قسوتها «لكننا»: «لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكة/ بأننا ننكر ما خلفت الأيام في نفوسنا/ نود لو نخلعه/ نود لو ننساه».

ولكن، وليس آه من قسوتها هذه المرة، على الأقل في نظري، فقد حقق كلاهما إنجازاً يدعو إلى الفخار، وأضاف كيفياً، وعميقاً، في مجاله النوعي، وكلاهما أثر، ولا يزال، يؤثر في أجيال متتابعة، وكلاهما انطوى، في إنجازه وإضافته، على إيمان عميق بالإنسانية وجعل من ممارسته الإبداعية والنقدية منارة تستضيء بها الأجيال المتعاقبة، ويستهدي بها وطنه في الطريق الشاق للانتقال من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، ولذلك سيبقى منهما الكثير للتاريخ، وسيظل فقدهما جرحاً عميقاً، غائراً، لا يندمل في نفسي، وحزناً لا يفنى ولا يتبدد، فقد كان كلاهما صديقاً حميماً، وأخاً كبيراً راعياً، وزميلاً سابقاً في القسم الذي أنتسب فيه، مثلهما، إلى تقاليد طه حسين الجذرية، العقلانية التي استمرت في تلامذته المباشرين، وانتقلت منهم إلى صلاح ورجاء، ومنهما معاً إلى، من ينزل منهما منزلة الأخ الصغير الذي أدركته، مثلهما، حرفة الأدب فوداعاً يا رجاء، يا شبيهي، يا أخي.
...............................
*الحياة ـ في 13/2/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 06:13 AM
( 48 ) رحيل رجاء النقاش:
* «الأب الروحي» للنقد الأدبي.. الذي حوله من «نخبوي» الى « جماهيري»
* المثقف الذي فتح نوافذ الثقافة العربية على مصاريعها بدون حواجز


القاهرة: جمال القصاص
...................................

فقدت الحياة الثقافية المصرية والعربية أمس الكاتب الصحافي والناقد الأدبي البارز رجاء النقاش عن عمر يناهز 74 عاما بمستشفى المركز الطبي العالمي للقوات المسلحة، بعد صراع مرير مع المرض. عاش رجاء النقاش حياة حافلة بالكفاح والإبداع، امتزج فيها عطاؤه الأدبي المتنوع الغزير بقيمة إنسانية ونقدية خلاقة، فكان صاحب نظرة نقدية مفتوحة على فضاء الجمال والحرية والاستنارة، ومسكونة في الوقت نفسه بالغوص في أعماق الثقافة العربية لبناء الجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل. ولد النقاش في الثالث من سبتمبر (أيلول) عام 1934 بمدينة سمنود بمحافظة الدقهلية في وسط دلتا مصر. وفي عام 1956 تخرج في قسم اللغة العربية جامعة القاهرة، وعمل محررا بمجلة روز اليوسف في الفترة من العام 1959 إلى العام 1961، ومحررا أدبيا بأخبار اليوم والأخبار خلال الفترة من 1961-1964، كما عمل محررا أدبيا بجريدة الجمهورية عامي 1964-1965. تولى النقاش رئاسة تحرير عدد من المجلات المصرية والعربية، منها مجلة الكواكب 1965-1969، ومجلة الهلال 1969-1971، كما تولى منصب رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة مجلة الإذاعة والتلفزيون 1971-1972، كما عمل رجاء النقاش محررا أدبيا بمجلة «المصور» خلال الفترة من العام 1972 إلى العام 1979، ومديرا لتحرير جريدة «الراية» القطرية اليومية خلال الفترة من العام 1979 إلى العام 1981، وتولى رئاسة تحرير مجلة «الدوحة» القطرية في عصرها الذهبي خلال الفترة من العام 1981 إلى العام 1986، ثم عمل مديراً لتحرير مجلة «المصور» العام 1988، وظل لقبل فترة قصيرة من مرضه يواظب على كتابة مقالة بصورة منتظمة أسبوعيا بجريدة «الأهرام». ترك رجاء النقاش بصمة قوية في كل هذه المواقع، لعل من أبرزها حماسه للتيارات الأدبية والشعرية الجديدة.
ففي مجلة الهلال قدم ملفا ضافيا لتيار السبعينيات في الشعر المصري محتضنا نصوصهم ورؤاهم النقدية المغايرة، كما جعل من مجلة الإذاعة والتلفزيون منارة ثقافية، فنشر على صفحاتها رواية «المرايا» لنجيب محفوظ. كما كتب وهو في مطالع العشرينيات من عمره مقدمته الشهيرة للديوان الأول للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي «مدينة بلا قلب». تمتع رجاء النقاش بحس نقدي مرهف ومخيلة بصرية ثاقبة الرؤية فإليه يرجع الفضل في تقديم الشاعر محمود درويش إلى الحياة الثقافية العربية، وكان كتابه الباكر الذي أصدره في أواخر الستينيات «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» بمثابة كسر لطوق العزلة والحصار عن درويش، وأيضا شكل الكتاب بطاقة تعريف قوية بشعراء المقاومة الفلسطينية.هذا المعني أشار إليه محمود درويش في رسالة بعث بها إلى الاحتفالية التي نظمتها نقابة الصحافيين المصريين في 21 الشهر الماضي احتفاء برجاء النقاش بمناسبة بلوغه الثالثة والسبعين. قال درويش في رسالته «عزيزي رجاء النقاش كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي، منذ جئت إلى مصر، أخذت بيدي، وأدخلتني إلى قلب القاهرة الإنساني الثقافي. وكنت قبل عامين قد ساعدت جناحي على الطيران فعرفت قراءك علىّ وعلى زملائي القابعين خلف الأسوار، عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي». واختتم درويش رسالته بقوله «نحن مدينون لك لأنك لم تكف عن التبشير النبيل بالمواهب الشابة وعن تحديث الحساسية الشعرية والدفاع عن الجديد الإبداعي في مناخ كان ممانعاً للحداثة الشعرية، ومدينون لك لأنك ابن مصر البار وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الإقليمية الرائجة إلى الاعتذار عن عروبته الثقافية».
تميز رجاء النقاش بغزارة الإنتاج في شتى مناحي الثقافة والإبداع، وقد أثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات منها «في أزمة الثقافة المصرية» عام 1958، «تأملات في الإنسان» 1962، «أدباء ومواقف» 1966، «كلمات في الفن» 1966، «مقعد صغير أمام الستار» 1971، «عباس العقاد بين اليمين واليسار» 1973، «صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر» 1975 و«الانعزاليون في مصر» 1981. و«قصة روايتين» عام 1996، وهي دراسة مقارنة بين روايتي «ذاكرة الجسد» للكاتبة الجزائرية أحلام مستغاني، و«وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر. حصل النقاش على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2000. كما حصل في حفل تكريمه بنقابة الصحافيين على درع النقابة ودرع المجلس الأعلى للثقافة، ودرع دار الهلال.
....................................
*عن صحيفة: الشرق الأوسط.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 06:19 AM
(49) الشيخ طه حسين يزور صديقه

بقلم: رجاء النقاش
......................

من الامور التي تلفت النظر الان في حياتنا الثقافيه والاعلاميه والصحفيه ما نلاحظه من كثره الاخطاء في اللغه العربيه‏,‏ ولا اعني بذلك تلك الاخطاء التي يحرص بعض المتحذلقين علي الوقوف امامها كلما قراوها او سمعوها‏,‏ ولكنني اقصد الاخطاء التي يسهل التغلب عليها والتخلص منها ولا يصح اصلا ان نقع فيها‏,‏ وهي اخطاء تدل دلاله قاطعه علي ان هناك شيئا ينقصنا لكي تصبح لغتنا اصفي واسهل واكثر دقه في التعبير عما نشعر به او نفكر فيه‏.‏والحقيقه انني لا اتعاطف مع الحذلقه واعتقد انه لا فائده منها في تحسين اللغه او تحسين الذوق‏,‏ فالبعض يقول لنا ان كلمه تقييم غلط‏,‏ والصواب هو تقويم‏,‏ وان كلمه القهوه غلط اما الصواب فهي مقهي‏,‏ وان كلمه متحف بفتح الميم ليست صحيحه وان الصواب هو متحف بضم الميم‏.‏ وامثال هذه الملاحظات هي عندي تضييق لغوي علي الناس‏,‏ فكلمه تقييم مستخدمه منذ عشرات السنين بمعني تحديد القيمه‏,‏ وكلمه قهوه مستخدمه منذ زمان بعيد حيث يقول الناس‏:‏ جلسنا في القهوه ولا يقولون جلسنا في المقهي‏.‏ والناس ينطقون كلمه المتحف بفتح الميم وليس بضمها‏.‏ فما الذي يمنعنا‏,‏ من وجهه النظر اللغويه الخالصه‏,‏ ان نقبل هذه التسهيلات البسيطه ونعترف بالشرعيه اللغويه لما تعود الناس عليه واستراحوا اليه‏,‏ ما دام ذلك لا يمس جوهر اللغه في شيء؟
لقد اسعدني كثيرا ان يقوم المجمع اللغوي في السنوات الاخيره باعتبار كل الكلمات السابقه صحيحه كما هي مستخدمه علي الالسنه والاقلام‏,‏ وبذلك اصبحت كلمه تقييم صحيحه كما نستخدمها بمعني تحديد القيمه‏,‏ واصبحت كلمه القهوه صحيحه اذا استخدمناها بمعناها كمكان للجلوس فيه‏,‏ واصبحت كلمه المتحف بفتح الميم صحيحه‏,‏ كما انها صحيحه ايضا بضم الميم‏,‏ وطبعا فان المتحف بفتح الميم اسهل واكثر شيوعا علي الالسنه‏.‏
هذا نوع مما كان خطا شائعا بين الناس واتسع صدر المجمع اللغوي له فجعل منه صوابا لا خطا فيه ولا يستحق احد اي لوم عليه‏.‏
ولكن هناك اخطاء اخري منتشره الان في الكتب والصحف وعلي لسان بعض المذيعين والمذيعات‏,‏ وهي اخطاء جارحه للذوق قبل ان تكون جارحه للغه‏,‏ وهذه نماذج من هذه الاخطاء التي شاعت واصبحت بحاجه الي شيء من العلاج‏.‏
‏1‏ في موضوع نشرته احدي الصحف جاء عنوان الموضوع علي هذه الصوره‏:‏ كشف اسري جديد‏,‏ والمقصود طبعا هو اثري وليس اسري‏.‏
‏2‏ في صحيفه اخري وردت هذه العباره‏:..‏ وقد طلب الوزير اعداد تقرير يوضح اللبث في الموضوع‏,‏ والمقصود هو اللبس اي الالتباس وليس اللبث‏.‏
‏3‏ وفي نفس الموضوع يقول الصحفي‏:‏ ان هذا الموظف لم يرتكب جرما ولم تشوبه اي شائبه‏,‏ وكلمه تشوبه ليست صحيحه والصحيح تشبه بفتح التاء وتسكين الباء‏.‏
واحيانا تصل الاخطاء الي حد يثير السخريه والضحك‏.‏ ولكنني امسك قلمي عن تقديم نماذج من هذا النوع‏,‏ فانا لا اريد التشهير وانما اسعي الي العلاج ان امكن ذلك‏.‏
مثل هذه الاخطاء اصبحت شائعه جدا‏,‏ وهي تدخل في باب الاهمال والتساهل والفقر الشديد في الثقافه اللغويه‏,‏ واذا عدنا الي ما كان مطبوعا في بلادنا قبل خمسين سنه او اكثر فسوف نجد امامنا صوره مختلفه‏,‏ حيث كان هناك حرص علي عدم الوقوع في مثل هذه الاخطاء‏,‏ لان الجميع في الاجيال السابقه كانوا يدركون ان الثقافه اللغويه ضروريه‏,‏ ليس فقط بين الادباء والكتاب والمذيعين وغيرهم‏,‏ بل كانت هذه الثقافه اللغويه ضروريه للمحامي والقاضي والطبيب والمهندس واستاذ العلوم وغيرهم‏,‏ وكان من كبار كتابنا اصحاب اللغه الجميله الصحيحه الدكتور احمد زكي استاذ الكيمياء‏,‏ والدكتور محمد عوض محمد استاذ الجغرافيا‏,‏ والدكتور علي مصطفي مشرفه‏,‏ عميد العلوم‏,‏ والدكتور عبدالرزاق السنهوري‏,‏ استاذ القانون‏,‏ والدكتور سليمان عزمي الطبيب‏,‏ وعلي محمود طه‏,‏ المهندس‏,‏ وعبدالحميد العبادي ومحمود الخفيف من اساتذه التاريخ‏,‏ ومحمد كامل حسين‏,‏ طبيب العظام‏.‏
وعندما نفكر جيدا في اتساع حجم الاخطاء الظاهره الان والتي تملا كتبنا وصحفنا ومطبوعاتنا المختلفه سوف نجد الي جانب ما سبق ان هناك وظيفه بالغه الاهميه والقيمه هي وظيفه المصحح‏,‏ وقد تعرضت هذه الوظيفه للاهمال والتراجع‏,‏ بينما كانت في الجيل الماضي موضع الاحترام والاجلال‏,‏ وكان يشغلها ادباء وعلماء كبار من امثال محمود حسن زناتي الذي حقق ونشر لاول مره كتاب الفصول والغايات لابي العلاء المعري‏,‏ وزناتي هو زميل طه حسين واحمد حسن الزيات ايام ان كان الثلاثه طلابا بالازهر في اوائل القرن الماضي‏,‏ وهناك ايضا احمد الزين الذي شغل وظيفه المصحح في دار الكتب المصريه‏,‏ وكان الزين من اكبر شعراء الجيل الماضي‏,‏ وكانت المجلات الادبيه تنشر قصائده في صفحاتها الاولي وتصفها باجمل الاوصاف‏,‏ ومما اذكره ان احدي المجلات نشرت له قصيده عنوانها وصف القلب فكتبت المجله تحت العنوان‏..‏ قطعه من عبقريات الوصف الرائع للشاعرالعالم احمد الزين‏.‏ هذا الاديب الكبير كان عمله هو تصحيح ماتنشره دار الكتب المصريه من مولفات مهمه‏,‏ قديمه وحديثه‏.‏ وهذا ما كانت تفعله الصحف الكبري ايضا‏,‏ حيث كانت تستعين بادباء من اصحاب الثقافه اللغويه العاليه للقيام بوظيفه المصحح‏,‏ ولذلك لم تتعرض اللغه العربيه لما تتعرض له الان من استهانه بها وعدم حرص عليها‏.‏ ولا تزال وظيفه المصحح موجوده في الصحف ودور النشر‏,‏ ولكنها فيما اظن لا تحظي بما تستحقه من احترام واهتمام واعطاء اصحابها حقهم الكامل من العنايه والتقدير‏,‏ ومن هنا تسربت الاخطاء في المطبوعات بالصوره الحاده المحرجه التي اشرنا اليها في بدايه الحديث‏,‏ لان المصححين اي حراس اللغه العربيه‏,‏ اصبحوا في وضع غير مناسب‏.‏
وهذه قصه موثره جدا من حياه طه حسين تتصل بعلاقته مع مصحح كتبه العالم اللغوي الاستاذ عبدالرحيم محمود‏,‏ فقد كان طه حسين يضع هذا المصحح في موضع كريم جدا‏,‏ وكان يعامله باحترام واحساس عميق بالتقدير والمحبه‏,‏ وكان هذا المصحح يعشق مهنته‏,‏ لانه في الاصل كان يعشق اللغه العربيه‏,‏ وكان يجاهد من اجل ان تكون هذه اللغه صحيحه‏,‏ ومن اجل ان تكون كتب طه حسين خاليه من اي تلوث لغوي‏,‏ واعني بالتلوث تلك الاخطاء الكثيره الصغيره التي تشوه وجه اللغه وتفسد متعه المطالعه والمعرفه‏.‏ ولعل هذه القصه الانسانيه تنبهنا الي اهميه وضع المصحح في الصحف ودور النشر واجهزه الاعلام‏.‏ وقد سجل قصه العلاقه الانسانيه الجميله بين طه حسين ومصححه عبدالرحيم محمود الاستاذ ابراهيم احمد الوقفي في مقال نشرته مجله الرساله سنه‏1951,‏ وكان طه حسين في ذلك الوقت هو طه حسين باشا وزير المعارف العموميه‏.‏ وفي هذا المقال يقول كاتبه الفاضل‏:‏ في شهر مارس الماضي‏1951‏ اشتدت العله بالاستاذ عبدالرحيم محمود ولازم الفراش رغم انفه‏,‏ وهو الذي كان لا يطيق الجلوس ساعه كامله في مكان‏,‏ وقد اضطرته قسوه المرض الي الاكتفاء من قراءه الصحف بعناوينها‏,‏ اللهم الا اذا جاءته اوراق من دارالمعارف تحمل اليه كتابا من كتب طه حسين باشا وزير المعارف‏,‏ فان جسمه ينشط وينسي المرض وينهض لمراجعه الكتاب بمنتهي الدقه والعنايه‏.‏ وقد كان عبدالرحيم محمود حريصا علي اخفاء مرضه عن صديقه الدكتور طه لئلا يكون سببا في اقلاقه وازعاجه‏,‏ ولكن حين راينا نحن اصدقاء عبدالرحيم محمود اشتداد العله عليه اتصلنا بمنزل الدكتور طه واخبرناه بحالته‏,‏ فكان اول عمل له في هذا اليوم الاتصال بالمستشفيات والاطباء‏,‏ وفي الساعه الثالثه مساء من ذلك اليوم‏8‏ ابريل‏1951‏ فوجئنا بهيئه مكتب معالي الوزير تقتحم منزل الاستاذ عبدالرحيم محمود وفي مقدمته الاستاذ فريد شحاته سكرتير طه حسين ومدير مكتبه واركبوه قهرا سياره خاصه ذهبت به الي المستشفي ومكثوا معه الي ساعه متاخره من الليل‏.‏ وفي الليله التاليه حضر معالي الدكتور طه لزياره عبدالرحيم محمود بالمستشفي فعانقه وقبله‏,‏ وقد اغرورقت عيناهما بالدموع‏,‏ وابي الدكتور طه الا الجلوس علي كرسي خشبي بجوار فراش صديقه عبدالرحيم محمود‏.‏ واراد طه حسين ان يسري عن نفس صديقه المريض فساله عن صحته فقال الاستاذ عبدالرحيم‏:‏ كيف احس بالمرض ومعالي الدكتور وزير المعارف بجانبي؟ فقال معاليه‏:‏ لا تقل هذا‏,‏ ولكن قل ان الشيخ طه حسين يزور صديقه وزميله الشيخ عبدالرحيم محمود‏,‏ ثم اخذ يتبادلان بعض الفكاهات الادبيه وكان ختامها وصيه الدكتور طه له بعدم مغادره المستشفي حتي تتحسن صحته بصوره كامله‏,‏ فقال الاستاذ عبدالرحيم‏:‏ اني لا اخرج من هنا حتي تكون صحتي مثل الحصان‏,‏ فضحك طه حسين وقال‏:‏ بل اريد ان تكون صحه الحصان مثلك‏!.‏

ولم تنقطع استفسارات معالي طه حسين باشا عن صديقه يوما واحدا حتي سافر الي اوروبا‏,‏ وكان طه حسين لا يطيق غياب سكرتيره فريد شحاته ولا يغفره له الا اذا كان في زياره للاستاذ عبدالرحيم‏,‏ وكان الوزير يحاسب هيئه مكتبه اذا قصر احدهم في زيارته‏,‏ وكان يسال كل زائر له بالمكتب يكون له بالاستاذ صله عن صحته‏.‏ وقد كان الاستاذ عبدالرحيم عليه رحمه الله احب شخصيه الي قلب طه حسين‏,‏ لا يمل مجلسه‏,‏ ويستزيده منه‏,‏ ويخصه بالاقبال عليه مهما عظمت شخصيه زائريه
وقد ذكر لي الاستاذ عبدالرحيم محمود يوما انه بعد نجاح الدكتور طه حسين في الدكتوراه حضر اليه في منزله ليقدم له الشكر علي معاونته ومجهوده‏,‏ فقال له عبدالرحيم محمود‏,‏ انني لا اريد شكرا بيننا‏.‏ وبعد اكثر من ثلث قرن ذهب عبدالرحيم الي منزل معاليه ليشكره علي مجهوداته في مصلحه خاصه له فقال معاليه‏:‏ لقد اتفقنا علي الا شكر بيننا‏.‏
تلك هي صفحه من صفحات العلاقه الانسانيه الحميمه بين طه حسين ومصحح كتبه عبدالرحيم محمود الذي توفي سنه‏1951,‏ وظل طه حسين يذكره حتي النهايه بكل الحب والتقدير والمعرفه بفضله‏.‏ وفي هذه القصه ما يكشف لنا اهميه دور المصحح الي الحد الذي يجعل شخصيه ثقافيه رائده مثل طه حسين ينظر اليه مثل هذه النظره‏,‏ ويحرص عليه كل هذا الحرص‏,‏ ويختاره بعنايه كبيره‏,‏ حتي يضمن لما يكتبه ان يخرج الي الناس في وجه صبوح مشرق خال من اي اثر للاهمال والاستهتار‏,‏ وهو ما نرجوه للغه العربيه التي اصيبت بكثير من الضربات الموثره واصبحت بحاجه شديده الي من يرعاها ويعيد اليها الصحه والعافيه‏.‏
..........................
* الأهرام في 15/8/2004م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:34 AM
( 50 ) رجاء النقاش: نوارة الثقافة العربية المعاصرة

بقلم: طلال السلمان
.......................

تعودنا، زملائي من أبناء جيلي وأنا، أن نسمي أحياء القاهرة، عاصمتنا الكبرى في الستينيات، بأسماء أصدقائنا الذين كانوا يفتحون لنا قلوبهم وبيوتهم فنتلاقى لنغزل أحلامنا معاً، فإذا وطننا العربي قد توحد، واذا نحن شهود ميلاده الجديد: هذه ضاحية أحمد بهاء الدين، وهذه محلة بهجت عثمان، هنا حي صلاح عبد الصبور، هنا حاضنة نجيب محفوظ، هنا منتجع لويس عوض، وهنا رباط آل النقاش، هنا عزبة هيكل، وهنا ضاحية أحمد عبد المعطي حجازي وهنا قلعة محمد عوده الخ..
على أننا سرعان ما حوصرنا بحزب رجاء النقاش الذي صارت له فروع في القاهرة الكبرى!
ورجاء النقاش الذي أطل على الثقافة كصاحب منهج نقدي رصين كان في حقيقة أمره داعية لنهضة عربية عنوانها عقائدي ومضمونها العروبة... فهو قد استشف من نتاج المبدعين في المشرق والمغرب، كتّاب قصة وروائيين وشعراء، وحدة الوجدان، والتوحد في حلم النهوض الذي يكون بالأمة جميعا ولا يكون بأي قطر منفردا.
كانت صورة الغد واحدة في شعر «المشارقة» وفي روايات «المغاربة»، وكانت «الشخصيات» الروائية موحدة السمات في نتاج كتّاب مصر وبلاد الشام. ولم يكن الدين هو عنصر التوحيد، بل قبله وبعده كان الهم السياسي يطل عبر السطور ليفرض التصور الموحد للغد المرتجى.
ربما لاكتشافه وحدة الوجدان هذه «اتهم» رجاء النقاش بأنه «بعثي»، ثم تأكدت «التهمة» عندما كتب بعض المقالات لصحيفة «الجماهير» في دمشق، أيام دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا) في أواخر الخمسينيات.. وكذلك في مجلة «الآداب» وصحف اخرى في بيروت.
وهكذا تحول رجاء النقاش من محرر ثقافي، ثم ناقد أدبي، الى ظاهرة سياسية، خصوصاً وقد تعزز بفيلق من شقيقاته وأصهاره (فريدة وأمل النقاش، حسين عبد الرازق وصلاح عيسى)، فصار «حزبا» يتأكد موقفه السياسي، كداعية، عبر منهجه النقدي الذي تعاطى مع النتاج الثقافي العربي، باعتباره التجسيد المباشر لوحدة الوجدان على المستوى «القومي».
وعندما انفصمت عرى دولة الوحدة تعالت أصوات الانفصاليين، في مصر كما في سوريا، كما من كتّاب السلطة في مختلف «الدول» العربية، محاولة تسفيه كل ما يجمع بين العرب، وتشويه «العربي» كإنسان، وتحقير كل النتاج «القومي» التوجه.
على هذا لم تكن مصادفة أن يكون رجاء النقاش أول من تولى التعريف بشعراء المقاومة الفلسطينية، وأول من قدم الأدب السوداني (الطيب صالح خصوصا)، وأول من عرّف القراء على الشعر الحر في مصر والعراق ولبنان.
ولم تكن مصادفة أن يتصدى رجاء النقاش للانعزاليين في مصر، وان يبادر الى احتضان معظم رموز الإبداع الأدبي في الوطن العربي فيبشر بكل موهبة جديدة ويرعاها وكأنها من غرسه. وهكذا كتب لأحمد عبد المعطي حجازي مقدمة ديوانه الاولى «مدينة بلا قلب»، كما تولى تقديم الرواية ـ الحدث للطيب صالح «موسم الهجرة الى الشمال».
لم يكن رجاء النقاش ناقداً فحسب. كان كاتباً صاحب رؤية، وكان يعتبر أن القيمة الفكرية لا تنفصل عن النبل الإنساني، وكان متفرغاً للقراءة والكتابة. وهكذا أمكن لهذا الشاب ابن الدقهلية الذي بدأ في مجلة «روز اليوسف» محرراً أدبيا، ثم في «أخبار اليوم»، أن يقفز الى رئاسة تحرير مجلة «الهلال» برعاية أحمد بهاء الدين، عندما تولى الإشراف على دار الهلال بمجلاتها وإصداراتها جميعاً.
بعد انتكاسة الحركة القومية، وانطفاء مصابيح الدعوة في مصر، جاء رجاء النقاش الى الدوحة في قطر ليعمل في جريدة «الراية» قبل أن يتسنى له أن يطلق منها مجلة «الدوحة» التي حاول أن يجمع فيها بين «العربي» و«الهلال» فتكون منشورا ثقافيا شهريا جامعاً، ومساحة لأولئك الملعونين والمحجور عليهم من الكتّاب والمبدعين العرب.
ولان رجاء النقاش كان «متفرغا» للقراءة والكتابة فهو قد أمكنه أن يصدر خمسين كتابا في النقد الأدبي والتعريف بالنتاج الجديد، بينها أكثر من كتاب حول أزمة الثقافة في مصر وخارجها، وبينها في الشعر والشعراء وبينها في التعريف بالجيل الذهبي للمسرح المصري: محمد مندور ولويس عوض وعلي الراعي وعبد القادر القط ومحمود أمين العالم... وبينها كتابه عن الشاعر التونسي الممتاز «ابو القاسم الشابي» الذي كان نتاجه مطموساً بقرار.
رجاء النقاش الداعية لم يتعب أبدا من التبشير بمشروع الحركة الفكرية العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص، مع التأكيد على جناحيه: الحرية والعدل.. حرية لا تؤدي الى الفوضى وعدل يمنع ظلم طبقة لأخرى أو الاستئثار بكل الامتيازات على حساب المجموع. ومصالحة وطنية يتم فيها تحقيق وفاق كامل بين الإسلام والنظام أو بين الفكر الديني والدولة المدنية الحديثة. وهو كان يحمّل المثقفين مسؤولية عظمى، ويرى أنهم الجناة الحقيقيون لأنهم انقسموا تجاه القضية قسمين: قسم يستفز الناس بما يكتبه، وقسم يتعامى عن الموضوع برمته وقد يخجل أصلا من الكتابة عن الإسلام.
ولقد أحب رجاء النقاش الشاعر نزار قباني الذي «جعل الشعر جزءا من حياتنا، حتى صارت كل قصيدة حدثا»، وبرغم اعتراضاته على «انحرافات» أدونيس فهو ظل يعتبره «شاعرا عظيما، بل من أكبر شعراء العرب»، وكان يقدر ـ من بين كتّاب الخليج ـ محمد جابر الأنصاري، وفي مصر كان يحفظ تقديرا عاليا لعبد الوهاب المسيري.
وبقدر ما كان يتحسر على زمن طه حسين والعقاد وزكي مبارك والزيات ومحمد هيكل، فإنه كان يشفق من انحدار الوضع الثقافي وترديه:
على أنه في «القضية» لم يتهاون أبدا: من المستحيل أن يكون هناك تطبيع ثقافي مع اسرائيل. ان التطبيع مثل الزواج والحب وسائر العلاقات الإنسانية العالية، فكيف يمكن أن يقتنع أحد بإقامة علاقات مع قاتل يصر على مواصلة جرائمه.. ولا يمكن أن يخون الإنسان نفسه ويخون مشاعره ليغني لقاتل يريد أن يقضي عليه بعد أن سرق أرضه وتاريخه ووطنه.
[[[
رجاء النقاش يعيش، هذه الأيام، محنة صحية تتهدد حياته بالخطر، ولقد تنادت الهيئات الثقافية، رسمية وشعبية، لتكريمه في ما يشبه حفلات الوداع، أو الرثاء المبكر، كما أصدرت «الهلال» عددا خاصا عن نتاج هذا النهر الثقافي الممتاز على امتداد خمسين عاماً.
إنه أحد المصابيح المتبقية مهدد بالانطفاء. إنه زمن الظلمة.
سنتذكر دائماً هذا القلم المضيء الذي منحنا مكتبة تنير عقلنا وطريقنا، وتصحح الكثير من المفاهيم التي طرحت لتشويه الذاكرة، بحيث نحتقر أنفسنا ونقبل بإلغاء ذاتنا قبل أن يلغينا «العالم الجديد» وهو أميركي ـ إسرائيلي بامتياز.
...............................
* السفير ـ في 28/1/2008م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:36 AM
( 51 ) فنان واحد له وجهان

بقلم : رجاء النقاش
......................

يذكرني أديبنا العظيم نجيب محفوظ دائما بأديب عالمي آخر هو ماركيز واسمه الكامل جابرييل جارسيا ماركيز‏,‏ الذي نال جائزة نوبل قبل نجيب محفوظ بست سنوات‏,‏ أي في سنة‏1982,‏ وأعمال ماركيز معروفة الآن في اللغة العربية‏,‏ فقد اهتم بترجمتها عدد من الأدباء‏,‏ ولقيت هذه الأعمال قبولا حسنا من القراء‏,‏ مما شجع علي التوسع في ترجمتها‏,‏ حتي أظن أن المكتبة العربية تضم الآن معظم أعمال ماركيز وعلي رأسها روايته الكبري مائة عام من العزلة‏,‏ والتي كانت علي الأغلب هي أول أسباب شهرته والتفات العالم إليه ونيله جائزة نوبل بعد ذلك‏,‏ والحق أن هذه الرواية هي عمل فني بالغ العمق والسحر والتعقيد والجمال في آن واحد‏,‏ وهي من الأعمال الأدبية التي يقرأها الإنسان أكثر من مرة‏,‏ ويجد في كل قراءة شيئا جديدا فاته في القراءة السابقة‏.‏
وقد قال أحد النقاد الغربيين عن هذه الرواية إنها رواية رائعة توازي رواية دون كيشوت لسرفانتس‏,‏ ورواية دون كيشوت هي إحدي الروائع الكبري في الأدب العالمي‏,‏ وهي درة الأدب الإسباني والعمل الأدبي الأول في الثقافة الإسبانية منذ ظهور تلك الرواية في جزئها الأول سنة‏1605‏ وجزئها الثاني سنة‏1615‏ وحتي الآن‏,‏ وعندما يتم وضع مائة عام من العزلة إلي جانب دون كيشوت ففي ذلك تكريم لماركيز لا يقل عن تكريم جائزة نوبل له‏.‏ وهناك بالطبع عامل مشترك بين سرفانتس وماركيز هو أنهما يكتبان بالإسبانية‏,‏ وقد اختار ماركيز أن يعيش في وطنه اللغوي‏,‏ أي في إسبانيا‏,‏ حيث ترك بلده كولومبيا واختار الحياة بصورة أساسية في برشلونة‏,‏ وفي برشلونة يعيش ماركيز ويبدع أعماله ويفرض علي حياته اطارا من العزلة لكي يستطيع أن يقرأ ويكتب ويستقل بعقله ووجدانه عن سائر الضغوط العملية والاجتماعية والسياسية‏,‏ خاصة بعد أن أصيب منذ عدة سنوات بمرض السرطان الذي فرض عليه جهدا اضافيا للصراع معه وتحمل ألوان العلاج القاسية التي لابد منها لمواجهة هذا المرض الخطير‏.‏
ماركيز من كولومبيا في أمريكا اللاتينية‏,‏ وسكانها نحو عشرين مليونا‏,‏ وهي تتكلم الاسبانية‏,‏ وقد ثارت من قبل ضد الاستعمار الاسباني لها وتحررت منه‏,‏ ولكنها ظلت محتفظة باللغة الإسبانية‏,‏ فهي اللغة الاساسية الوطنية في كولومبيا‏,‏ ويبدو أن الطابع الأسباني في كولومبيا لا يزال قويا‏,‏ حتي لقد سميت كولومبيا نفسها أحيانا باسم غرناطة الجديدة تشبها بالمدينة الإسبانية الأندلسية الشهيرة غرناطة ذات الطابع العربي الذي لم تتخلص منه رغم مرور أكثر من خمسمائة عام علي خروج العرب منها‏,‏ حيث كانت غرناطة هي آخر مدينة تركها العرب بعد هزيمتهم أمام الإسبان سنة‏1492.‏
ماركيز ـ مثل نجيب محفوظ ـ لم يصل إلي مستواه العالمي لأنه صاحب موهبة كبيرة فقط‏,‏ بل لأنه صان موهبته صيانة كاملة من عناصر التدمير التي تتعرض لها مواهب الكثيرين‏,‏ وعناصر التدمير هذه قد تكون إغراءات كبيرة‏,‏ وقد تكون ألوانا من الاضطرار والقهر لا يقوي علي مقاومتها أي فنان‏,‏ حياة ماركيز موقف معروف يكشف عن أصالته وصيانته لنفسه وموهبته‏,‏ وهو موقف يدل علي عفته وكرامته والابتعاد بنفسه عن الإغراءات مهما تكن كبيرة‏,‏ وهذا كله هو ما يجعلني أتصور أحيانا أن نجيب محفوظ وماركيز هما فنان واحد له وجهان‏,‏ أحدهما عربي والثاني من أمريكا اللاتينية‏,‏ أما الموقف الذي أشير إليه فهو أن حكومة كولومبيا قد عرضت علي ماركيز بعد أن أصبح مشهورا ومعروفا علي المستوي العالمي أن يكون قنصلا لبلده كولومبيا في برشلونة‏,‏ حيث يحب ماركيز أن يقيم بصورة أساسية‏,‏ وقد قال وزير خارجية كولومبيا الأسبق لوبيز ميشلسين‏:..‏ عندما كنت في نيويورك سنة‏1982‏ اقترح علي بعض أصدقاء ماركيز أن أعينه قنصلا لكولومبيا في برشلونة‏,‏ ولا ريب أن ماركيز كاتب مشهور جدير بالتقدير‏,‏ وقد وجد رئيس كولومبيا الاقتراح معقولا حين عرضته عليه بعد عودت إلي العاصمة الكولومبية‏..‏ و
بناء علي هذا الكلام الذي قاله وزير الخارجية الكولومبي صدر بالفعل قرار بتعيين ماركيز قنصلا لكولومبيا في برشلونة‏,‏ فماذا كان موقف ماركيز؟‏..‏ قال ماركيز‏,‏ والنص الكامل لكلامه منشور في كتاب عزلة ماركيز ترجمة السيدة ناديا ظافر شعبان‏:..‏ لقد أعلنت مرارا أنني أرفض المناصب العامة والإعانات المالية‏,‏ من أي نوع كانت‏,‏ ولم أتسلم سنتيما واحدا ـ أي ما يساوي المليم ـ لم أربحه بجهدي‏.‏
وأنا أطبع ما اكتبه علي الآلة الكاتبة بيدي‏,‏ وأعتقد أن كل معونة مالية لا تتصل بمهنة الكتابة إنما تعرض استقلالية الكاتب للخطر‏,‏ واستقلالية الكاتب في رأيي أساسية‏,‏ وهي عندي تعادل القدرة علي الكتابة‏,‏ وأكثر من هذا فإنني لم أتعود أن أذهب لتسلم الجوائز التي حصلت عليها في عدة بلدان‏,‏ ولم أشارك في أي نشاط لترويج كتبي‏,‏ ولم أفعل ذلك كله بدافع التعالي والغرور‏,‏ ولكنني فعلته لأنني أعتقد أن هذا كله هو إجراءات دعائية هدفها تجاري‏,‏ والعمل الشريف الوحيد الذي يجب أن يقوم به الكاتب حتي تنتشر كتبه‏..‏ هو أن يكتبها جيدا ويواصل ماركيز حديثه الممتع الصادق فيقول‏:‏كذلك كنت حين كنت مجهولا مغمورا‏,‏
ويوم لم يكن هناك أحد يمكن أن يعرض علي منصب قنصل‏,‏ والآن أصبحت أعيش بفضل قرائي‏,‏ فلا يحق لي أن أغير رأيي‏,‏ حيث إنني لا أجد دافعا إلي هذا التغيير‏,‏ ثم يتحدث ماركيز بعد ذلك عن خلافه السياسي مع حكومة بلاده‏,‏ ويري في هذا الخلاف سببا إضافيا يدفعه إلي رفض العمل مع هذه الحكومة‏,‏ فليس من الأمانة أن يعمل ماركيز في خدمة حكومة لا يؤمن بسياستها في داخل بلاده أو خارجها‏.‏ ويواصل ماركيز حديثه فيقول‏:‏في عبارة تحتاج إلي شيء من الشرح والتفسير‏:‏ انه لن يكون كاتب ربطة عنق‏,‏ بل لن استعمل ربطة العنق حتي في الحياة العادية‏.‏
وربطة العنق مثل شعبي في كولومبيا معناه أن يعمل الإنسان في وظيفة من الوظائف الشكلية‏..‏ يعمل فيها قليلا‏..‏ هذا إن عمل‏..‏ ولكنه مع ذلك يكسب كثيرا‏,‏ أي أن الموظف في وظيفة ربطة العنق هذه يكون مثل ربطة العنق‏,‏ مجرد زينة شكلية ليس لها دور جدي ولا عمل حقيقي علي الاطلاق‏.‏
وأخيرا يقول ماركيز أستطيع أن أخدم وطني دون أن أستغل هذا الوطن‏,‏ ودون أن أكون في خدمة الحكومة‏..‏ أستطيع خدمة وطني بترفعي‏,‏ وأنا أتابع الكتابة محافظا علي هذا الترفع‏.‏
كثيرا ما أفكر في التشابه القوي الجميل بين نجيب محفوظ وماركيز‏,‏ وأحيانا يبدو لي في عين الخيال أنهما فنان واحد له وجهان أحدهما محفوظ والثاني ماركيز‏,‏ وكثيرا ما أقارن بين حرافيش محفوظ ومائة عام من العزلة لماركيز‏,‏ ونجيب ـ فيما أعلم ـ هو الأسبق‏,‏ والتشابه بين الروايتين غير قليل‏,‏ فهذان الفنانان المتشابهان يحرصان علي الاستقلال‏,‏ وهما من أصحاب العفة والكرامة‏,‏ وهما يرفضان ربطة العنق بمعناها الرمزي ومعناها الواقعي‏,‏ فما من أحد منهما لبس ربطة عنق في يوم من الأيام علي الاطلاق‏.‏
.....................................
*الأهرام ـ في 15/10/2006م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:38 AM
( 52) حدثنا شوقي ضيف فقال

بقلم : رجاء النقاش
.......................

غاب عنا منذ اليوم العاشر من شهر مارس الحالي أستاذ أساتذة الأدب واللغة ورئيس المجمع اللغوي الدكتور شوقي ضيف‏1910‏ ـ‏2005.‏ وقد تعودنا أن نقول عن الذي يغيب عنا ويترك وراءه آثارا كثيرة تنفع الناس وتبقي في الأرض انه الغائب الحاضر‏,‏ وهذا الوصف هو أصدق الأوصاف وأقربها إلي الصواب عندما نتحدث عن شوقي ضيف‏,‏ فقد ترك وراءه ما يقرب من خمسين كتابا في اللغة والدين وتاريخ الأدب والنقد‏,‏ وهي كلها كتب لا غني عن الرجوع إليها والاعتماد عليها عند أي باحث متخصص وعند القاريء غير المتخصص أيضا‏,‏ بفضل ما تقدمه هذه الكتب من علم ومعرفة وبحث دقيق‏,‏ بالاضافة الي ما كان يملكه هذا الأستاذ الكبير من أسلوب واضح سهل جميل‏,‏ وبهذه الأعمال الكثيرة العامرة بالمعرفة والمتعة الأدبية سوف يبقي شوقي ضيف حيا متألقا في هذا الجيل وفي كل الأجيال القادمة‏,‏
فهو حقا غائب وحاضر علي الدوام‏.‏
سوف أتوقف اليوم مع جانب إنساني في شخصية شوقي ضيف‏,‏ وهو الجانب الذي يتصل بعلاقته مع بعض أساتذته الكبار الذين تعلم علي يديهم‏.‏ ولا شك أن من أجمل ما كتبه شوقي ضيف هو حديثه عن أساتذته‏,‏ ففي ذلك ما هو أكثر من الوفاء الجميل‏,‏ لأننا نجد فيه نوعا من المعرفة الواسعة والفهم العميق والعلاقة المثالية كما ينبغي أن تكون بين الأساتذة والتلاميذ‏.‏
في كتابه معي وهو سيرة حياته يحدثنا شوقي ضيف عن عدد من أساتذته الكبار‏,‏ وهو في هذا الكتاب الجميل يشير الي نفسه دائما باسم الفتي‏,‏ وذلك علي طريقة طه حسين في كتابه الأيام‏,‏ وفي غيره من الكتب‏,‏ حيث إن طه حسين لم يكن يستخدم كلمة أنا في معظم كتاباته‏,‏ وكان يستخدم بدلا منها كلمة الفتي أو الضمير هو أو كلمة صاحبنا‏,‏ وذلك عندما يريد أن يتحدث عن نفسه‏,‏ وهو نوع من التأدب والذوق والتواضع في مخاطبة الناس‏.‏ وعلي هذه الطريقة سار شوقي ضيف في كتابته عن نفسه فلم يقل أنا وإنما قال الفتي وهو يعني بذلك الاشارة إلي شخصه‏.‏

يتحدث شوقي ضيف عن أحد أساتذته الكبار في الجامعة‏,‏ وهو أحمد أمين فيقول‏:‏ كان من أساتذة الفتي المحببين اليه وهو في السنة الثالثة بكلية الآداب سنة‏1933‏ أحمد أمين أستاذ الحياة العقلية الاسلامية‏,‏ وكان من خريجي مدرسة القضاء الشرعي‏,‏ وحين تخرج من هذه المدرسة اختاره ناظرها عاطف بركات ليكون معيدا له فيما يدرسه للطلاب من علم الأخلاق‏.‏ وكان يوضع لأحمد أمين كرسي لكي يستمع مع الطلاب إلي عاطف بركات وهو يلقي دروسه في علم الأخلاق‏,‏ وكان مما درسه معهم رسالة عن مذهب المنفعة للفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت ميل جاء في مقدمتها منذ جلس الشاب سقراط يتلقي العلم علي الشيخ فيثاغورس‏...‏ الخ‏,‏ فأطلق الطلاب علي المعيد الشاب أحمد أمين اسم الشاب سقراط‏.‏ وكان أحمد أمين قد عكف علي اللغة الانجليزية فتعلمها‏,‏ وأصبح أستاذا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب سنة‏1926,‏ ورأي أن يغير زيه‏,‏ وكان قد انتقل من القضاء الشرعي فغير عمامته الي الطربوش وخلع الجبة والقفطان ولبس البدلة انسجاما مع بيئته الجامعية الجديدة‏.‏ ثم يقول شوقي ضيف‏:‏ كان أحمد أمين في طليعة من جمعوا بين الثقافتين القديمة والحديثة جمعا رائعا‏,‏
يعينه عقل بصير ونظر دقيق ودأب لا يماثله دأب في البحث‏,‏ واستيعاب لا يدانيه استيعاب لكنوز الفكر الاسلامي وذخائره‏.‏ وكان يحاضرنا في الحياة العقلية الاسلامية‏,‏ ولم تكن صورة هذه الحياة واضحة في نفوس المثقفين‏,‏ فأكب عليها يدرسها ويذلل صعابها‏,‏ فإذا كل ما كان يحجبها عن الأعين ينزاح‏,‏ لا يفترق في ذلك جانب عن جانب‏,‏ بل استطاع أن يسلط أضواء قوية علي كل الجوانب‏,‏ وساعدته في ذلك ثقافته القديمة في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي وثقافته الغربية الحديثة وما قرأه من آراء المستشرقين‏.‏ وكان الفتي يعجب إعجابا شديدا بكل ما يعرضه أستاذه أحمد أمين حين يراه يتعمق في وصف الظواهر العقلية للأمة العربية‏,‏ وما وضعته من العلوم وصاغته من الأفكار‏.‏ وكان أحمد أمين ينهي طلابه أشد النهي عن الجدل العقيم وما يحمل من مغالطات‏,‏ ويكرر أن طريقة الجدل اللفظي عند القدماء حلت محلها في العصر الحديث طريق التحليل والاعتماد علي المنطق العقلي‏,‏
ولعل هذا ما جعل الفتي فيما بعد يحرص علي ألا ينزلق في أي مجادلة عقيمة لا تجدي نفعا‏.‏ وهناك جانب مهم آخر في شخصية أحمد أمين هو حسن انتقائه للنصوص التي تصور الفكر العربي الاسلامي‏,‏ وكأنما كانت لديه حاسة يلتقط بها أدق ما يقرؤه وأروعه‏.‏
ومن أساتذة شوقي ضيف أيضا الشيخ مصطفي عبد الرازق أستاذ الفلسفة الاسلامية بكلية الآداب في ثلاثينيات القرن الماضي‏,‏ ووزير الأوقاف سنة‏1938‏ وشيخ الأزهر سنة‏1945‏ وحتي وفاته سنة‏1947.‏ والشيخ مصطفي عبد الرازق تخرج في الأزهر وتتلمذ علي الإمام محمد عبده الذي كان يعتبره ابنا له بسبب ما رآه فيه من فرط الذكاء والدأب علي الدرس‏.‏ وبعد إتمام مصطفي عبد الرازق لتعليمه الأزهري ذهب إلي باريس ودرس في السوربون‏,‏ وعندما عاد الي مصر قام بتدريس الفلسفة الاسلامية في كلية الآداب‏,‏ حيث يقول عنه تلميذه شوقي ضيف‏:‏ إنه ظل يحتفظ بزيه الأزهري في صورة أنيقة دون بهرجة‏,‏ وكان يحف به وقار ومهابة وجلال‏,‏ كما كان يحف به حب طلابه لسماحة نفسه وكريم شمائله‏,‏ إذ كان يفتح قلبه لهم‏,‏ وكان غاية في التواضع وأدب الحديث دون أي ترفع‏,‏ وكأنه أب رءوف وصديق عطوف‏.‏
ثم يحدثنا شوقي ضيف بعد ذلك عن أستاذ ثالث من أساتذته هو أمين الخولي فيقول عنه‏:‏ كان قد تخرج في مدرسة القضاء الشرعي وعين إماما في سفارة مصر بإيطاليا وألمانيا‏,‏ فرأي الغرب‏,‏ ووقف علي جوانب الحضارة والفكر فيه‏,‏ وعندما عاد إلي مصر رجع إلي زيه الأزهري‏,‏ وهو مع ذلك يكره الجمود ويحب التجديد‏,‏ وكان يدفع تلاميذه إلي نقد كل ما يقرأون‏,‏ وأيضا إلي نقد آرائه هو نفسه‏,‏ وكان يتقبل أفكار تلاميذه بصدر رحب وسعة أفق‏,‏ غير مظهر لأي طالب تبرما أو ضيقا مهما أطال التلميذ في حواره وفي مناقشته وجداله‏.‏
ثم يحدثنا شوقي ضيف عن أستاذه الأكبر والأقرب إليه وهو طه حسين فيقول عنه‏:‏ لم يعرف الفتي محاضرا شد إليه الاسماع وجذب اليه القلوب كما عرف ذلك عند أستاذه طه حسين‏,‏ فقد كانت محاضراته مهوي الأفئدة‏,‏ وكان أحيانا يلقيها بالجمعية الجغرافية أو بقاعة إيوارت في الجامعة الأمريكية‏,‏ فكنت لا تجد مكانا‏,‏ لا للجلوس فقط‏,‏ بل أيضا للوقوف‏.‏ وكل ذلك‏,‏ أو كثير منه بفضل صوته المحبب الرائع الذي اكتسبه لنفسه خلال تعلمه تجويد القرآن الكريم‏,‏ وكان قد أتقن هذا التجويد صبيا‏,‏ وكثيرون مثله في أيامه أتقنوه‏,‏ ولكن أحدا منهم لم يستطع أن يلائم بينه وبين محاضراته ومخارج كلامه وصورة إلقائه كما فعل طه حسين
ويروي شوقي ضيف عن أستاذه طه حسين أن الاستاذ قد سأله يوما عن رأيه في محاضرة له‏,‏ كان قد ألقاها في الجامعة الأمريكية‏,‏ قال له شوقي ضيف إنها محاضرة طيبة‏.‏ فاستغرق طه حسين في الضحك ووضع إحدي يديه علي الأخري وقال‏:‏ طيبة فقط؟‏!‏ ثم قال طه حسين بعد ذلك‏:‏ ما رأيك أنني ظللت أعد هذه المحاضرة في نحو شهر‏,‏ أقرأ لها كتبا مختلفة‏,‏ حتي استوعبت موضوعها وألقيت فيه المحاضرة التي سمعتها‏.‏ ويعلق شوقي ضيف علي ذلك فيقول‏:‏ خجل التلميذ ـ أي شوقي ضيف نفسه ـ من أستاذه طه حسين لأنه لم يكن يطرأ علي باله أنه يعني بإعداد محاضراته كل هذه العناية‏,‏ وخاصة أنه كان يمتاز ببراعة فائقة في الأداء‏,‏
وهي براعة لم تتح لأي محاضر في أيامه‏.‏ وكان ذلك درسا رائعا للتلميذ ليتعلم‏,‏ بل ويستقر في نفسه أنه لا يوجد عمل أدبي ـ محاضرة أو غير محاضرة ـ جدير بالتقدير مهما يصغر حجمه دون أن يكلف صاحبه جهدا كبيرا ومشقة متعبة‏.‏ حتي طه حسين صاحب البيان الساحر الذي كان يخلب به مستمعيه يتحمل جهدا مضنيا‏,‏ لا في بحوثه الطويلة وكتبه فحسب‏,‏ بل أيضا في محاضراته العامة‏.‏
تلك صورة حية يرسمها شوقي ضيف لأساتذته‏,‏ وهي صورة تقدم لنا ملامح عصر كان فيه الأساتذة كبارا‏,‏ وكانت فيه صلة الأساتذة بطلابهم أشبه بالعلاقة بين الآباء والأبناء‏,‏ أي أنها علاقة قائمة علي الحب والرحمة والحنان والرعاية والقدوة الرائعة‏,‏ ولذلك كان من الطبيعي أن يكون شوقي ضيف نفسه أستاذا عظيما لأساتذة عظماء‏.‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأهرام ـ 27/3/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:39 AM
( 53) باقة ورد لا تذبل أبداً لرجاء النقاش

بقلم: يسري السيد
.........................

يخجلك دائماً بتواضعه الشديد وأدبه الجم.. تجذبك شخصيته وخلقه الدمث.. تشدك إليه ثقافته الرفيعة في كافة المجالات.. يغرقك في بحر معرفته بتراث الماضي وإبداع الحاضر.. يجبرك علي الحلم معه بغد أفضل مهما كان السواد الذي يلفنا جميعاً.. وقبل ذلك وبعده يحبسك في أسره "الإنسان" داخله الذي لم يخفت صوته أبدا..!!
هو الصديق والناقد الكبير رجاء النقاش الذي يحتاج منا جميعاً دون أن يطلب الدعاء لله أن يمنحه القوة لمواجهة هذا الغول الغاشم الذي هاجمه في غفلة منه ومنا جميعاً.. اقصد طبعا المرض اللعين.
وبعيداً عن هذه السيرة التي لا يحبها ناقدنا الكبير نستنهض فيه القوة الكامنة في روحه للمقاومة والله معنا جميعاً في تجاوز هذه المحنة.
والأستاذ النقاش واحد من القلائل الذين عرفتهم علي المستوي الشخصي وجعلني لا أفقد ثقتي الإنسانية في كون المبدع إنساناً قبل كل شيء.
بعض المبدعين قد يجذبك إبداعهم بعنف لكن عندما تقترب من شخصياتهم تكره الإبداع والحياة من كم الشيزوفرنيا بين ما يسطرونه علي الورق وممارساتهم في الحياة.
أشعر بالذنب تجاه قلبه الرقيق حين جذبته مرة بفورة الشباب إلي مشروع إنشاء جريدة القاهرة ثم ارتدت سهام الاحباط الي قلوبنا جميعا في تفاصيل لا داعي لذكرها.
لكن ما شغلني دائماً خلال معرفته به منذ سنوات هو كيفية المواءمة بين أدبه الجم وتهمة النقد التي تصل في قسوتها أحياناً إلي سيف باتر في يد بعض النقاد. بعيداً طبعاً عن حملة المشاعل المباخر التي تمتلأ بهم ساحتنا النقدية".
وإذا كان هناك تصنيف للقضاء بين جالس وهم القضاة. وبين واقف وهم المحامون فأعتقد أن الكاتب والناقد يشكل الضلع الثالث للقضاء.
أقصد طبعاً بالقضاء الناقد!!
مهمة الكاتب والناقد لا تقل قدسية وأهمية عن مهمة القاضي فهو يستطيع بذائقته وعلمه وموهبته رفع موهبة إبداعية لعنان السماء أو دفنها في سابع أرض.
والضمير هو الحاكم.. والتاريخ هو الحكم والكاشف.. وصمت ناقد كبير مثل رجاء النقاش يكون له صوت.. وبل وصرخة أشد من الكتابة في حد ذاتها.. فهذا يعني التجاهل عند البعض والحكم بالقتل عند البعض الآخر.
هكذا يقدم "رجاءنا" هذا المنافيستو النقدي في كتابه قصة روايتين.
فالصمت عن تناول الأعمال المحدودة القيمة سبب في خلق عداوات أعنف وأشد قسوة من العداوات التي خلقتها آراؤه الصحيحة في نقد بعض الأدب أو بعض الأدباء.
يعني باختصار أن هناك فاتورة ضخمة للصمت يدفعها أصحاب المباديء الذين يرفضون الانسياق في بحر المنافقين والمداهنين.. وقد دفع النقاش مراراً فاتورة الصمت في حياتنا الأدبية التي لم تعرف في قاموسها "الروح الأدبية" والتي تعتبر بحق وهماً كبيراً مثل الروح الرياضية التي نسمع عنها كثيراً ولا نراها أبداً..!!
وأخطر ما قرأته في منافيستو النقاش الشخصي والنقدي ضيقه بمهنة النقد الأدبي والتي تمني لو كان بعيدا عنها حتي لا يضطر إلي جرح البعض بصراحته وهو لا يحب ذلك أو يصمت فيدفع فاتورة الصمت بدلا من خسران نفسه إذا جامل أو نافق وهو لا يقدر علي ذلك كما يقول.
لكن أخطر ما صرخ به النقاش في هذا المنافيستو هو رفضه التام لغضب الماركسيين والشيوعيين من كتاباته في ذات الوقت الذي تغضب عليه الأحزاب الدينية العلنية والسرية وعلي رأسها جميعا الإخوان المسلمون الذين يهدفون جميعاً إلي السيطرة الأدبية علي كل عمل فني وهو أمر مثير للقلق.
لأن الفن قد يكون مصدره تفكيراً سياسياً. لكن الفن شيء والسياسة شيء آخر.
لذلك يصرخ النقاش في وجه الجميع "ارفعوا أيديكم عن الفن والإبداع والنقد.. فالفن والنقد لا ينتعشان في ظل القيود والسدود بل يموتان مع سبق الإصرار والترصد.
هل عرفتم جميعاً لماذا غافله وغافلنا هذا الغول ليخترق جسد "رجاءنا"..!!
لأنه يصرخ منذ سنوات في مالطة وعالم أذن من طين وأخري من عجين.
باقة ورد للصديق الإنسان... لا تذبل أبداً.. وأهلا به قريبا معافي يمدنا بمداد من قلبه لا ينتهي أبداً.
...........................................
الجمهورية 15/12/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:41 AM
( 54) شيء من دموع مندور

بقلم: رجاء النقاش
..........................

هذا موضوع كتبت فيه من قبل‏,‏ ولكني أحب أن أعود إليه اليوم لعدة أسباب‏,‏ أولها أنه يتصل أشد الاتصال بعدد من الموضوعات التي كتبتها علي صفحات الأهرام في الأسابيع الماضية‏,‏ وفي هذا الموضوع توضيح لبعض ما ورد في المقالات السابقة‏,‏ والسبب الثاني الذي يدعوني للعودة إلي هذا الموضوع هو ما يشير إليه من حقيقة مؤلمة‏,‏ حيث ان بعض متاعب أهل الفكر والثقافة في تاريخنا الحديث كان مصدرها مثقفين آخرين لا يترددون في اتهام زملائهم في تقارير سرية يقدمونها إلي أجهزة الأمن‏,‏ مما يترتب عليه أن يكون هناك ضحايا يتعرضون لمواقف قاسية بسبب هذه التقارير‏,‏ ومثل هذه التقارير التي كان يكتبها بعض المثقفين ضد إخوانهم وزملائهم هي دليل علي أن الثقافة إذا خلت من العنصر الأخلاقي فإنها تكون أشد خطرا علي المجتمع من الجهل والجهلاء‏.‏
ومن الطبيعي أن يختلف الناس في أمور الثقافة والفكر‏,‏ ومعالجة مثل هذا الإختلاف لها حلول كريمة متعددة‏,‏ وليس من بين هذه الحلول أن يطعن المثقفون بعضهم بعضا وأن يحرضوا أجهزة الأمن ضد من لا يتفقون معهم في رأي من الآراء‏.‏
وأخيرا فأنا أعود إلي هذا الموضوع لأنه يكشف عن صورة سلبية في العلاقة بين السلطة والمثقفين‏,‏ وهو أمر لا ينتهي إلا بالشر‏,‏ حيث يدفع المجتمع كله ثمنا غاليا‏,‏ ولاشك أن الهجرة شبه الجماعية للمثقفين في مصر إلي البلاد الأوروبية والعربية في سبعينيات القرن الماضي بسبب الضغوط التي تعرضوا لها من جانب السلطة كانت تمهيدا لظهور العنف والتطرف‏,‏ وهما الظاهرتان اللتان عانت منهما البلاد لفترة طويلة‏,‏ ومن الطبيعي عندما يهاجر المثقفون وتخلو البلاد من أصحاب العقول الكبيرة أن يصبح المجال مفتوحا أمام الذين لا يفكرون إلا بالمسدس والقنبلة والجنزير‏.‏
أعود بعد ذلك إلي الموضوع الأصلي‏,‏ وقد كان ذلك سنة‏1958‏ حيث كانت الاستعدادات تجري لعقد مؤتمر للأدباء العرب في الكويت‏,‏ وفي هذا المؤتمر كان هناك وفد مصري رسمي يرأسه الأديب الكبير الراحل يوسف السباعي‏,‏ وقد رأت الكويت أن هذا الوفد لا يضم بعض الوجوه الثقافية المهمة في مصر‏,‏ فوجهت عددا من الدعوات الشخصية لبعض من اختارتهم من الاسماء الأدبية الكبيرة‏,‏ وكان من بين من وجهت الكويت اليهم دعوتها الناقد الكبير والكاتب صاحب التاريخ الوطني المعروف الدكتور محمد مندور‏,‏ وكان مندور شخصية عامة مهمة‏,‏ وكان معروفا بثقافته الأدبية الرفيعة‏,‏ بالإضافة إلي ثقافته السياسية والقانونية الواسعة‏,‏ وفي الفترة التي سبقت ثورة‏1952‏ كان مندور كاتبا لامعا يحظي بمكانة كبيرة فقد كان الكاتب الأول في صحف حزب الوفد القديم صاحب الأغلبية الشعبية في ذلك الوقت‏,‏ وقد احتل مندور مكانه في مقدمة الكتاب والمفكرين الوطنيين المؤثرين بما كان يملك من مواهب عالية وصدق في الوطنية وعمق في فهم القضايا التي يتعرض لها في السياسة والأدب والمجتمع‏.‏
وقد تمكن مندور منذ عودته من بعثته إلي باريس سنة‏1939‏ من الوصول إلي مكانة رفيعة في السياسة والأدب‏,‏ لا في مصر وحدها‏,‏ ولكن في العالم العربي كله‏,‏ ومن هنا كان حرص الكويت علي اختياره بصفته الشخصية للمشاركة في مؤتمر الأدباء العرب‏,‏ ما دام إسم مندور لم يكن بين اسماء الوفد الرسمي الذي يمثل مصر في هذا المؤتمر‏.‏
وكان علي مندور أن يحصل علي تأشيرة خروج من الجوازات المصرية للسفر إلي الكويت‏.‏ ولكن الكاتب الكبير فوجئ بأنه ممنوع من السفر‏.‏
وتشاء الظروف أن التقي بمندور في مساء نفس اليوم الذي عرف فيه بقرار منعه من السفر‏,‏ وكان ذلك في مكتب الفنان الراحل سعد الدين وهبه الذي كان في تلك الأيام لايزال يعمل ضابطا بالشرطة‏,‏ وكان مسئولا عن مجلة اسبوعية تصدرها وزارة الداخلية هي مجلة البوليس وكان سعد الدين وهبه إلي جانب عمله في الشرطة كاتبا شابا موهوبا يحاول ان يخرج من نطاق عمله في وزارة الداخلية إلي المجال الواسع للحياة الثقافية والفنية‏,‏ وهو ما حققه بعد ذلك حيث أصبح واحدا من أهم كتاب المسرح في مصر‏,‏ كما كان سعد الدين وهبة قد أصدر مجلة ثقافية هي الشهر‏,‏ وبدأ المثقفون يترددون عليه كرئيس لتحرير هذه المجلة‏,‏ وباعتباره واحدا من الذين لهم علاقات طيبة بالسلطة في ذلك الحين‏,‏ وكان العديد من المثقفين يلجأون إليه لحل بعض مشاكلهم ــ وما كان أكثرها ــ مع أجهزة السلطة المختلفة‏,‏ ولم يكن سعد الدين وهبه ــ رحمه الله ــ يتردد في بذل أي جهد يمكنه أن يبذله لمساعدة الآخرين‏,‏ فكان ينجح أحيانا في مساعيه‏,‏ وفي أحيان أخري تخيب هذه المساعي‏,‏ وتبقي المشكلة علي ما هي عليه‏.‏
جاء مندور إلي سعد الدين وهبه يشكو من قرار منعه من السفر‏,‏ وفجأة وجدت مندور يبكي متأثرا بما أصابه‏,‏ ثم ازداد انفعاله فإذا به يشد شعره الأبيض‏,‏ ويقول بصوت خفيض تخنقه الدموع‏:‏
ماذا فعل مندور حتي يتعرض لهذه الإهانات؟‏!‏ هل يجوز بعد كل هذا الكفاح الوطني والثقافي‏,‏ وبعد ما قدمته للوطن وللثقافة العربية أن أجد نفسي بكل هذه البساطة هدفا لمثل هذه المواقف الصغيرة؟‏!‏
كان هذا المشهد هو أحد المشاهد المؤلمة التي انطبعت صورتها في قلبي‏,‏ ولا يمكنني أن أنسي هذا المشهد المحزن مهما طال الزمن‏,‏ ومهما ازدحمت الأحداث بعد ذلك في النفس والذاكرة‏.‏
كان مندور يومها في الواحدة والخمسين من عمره‏,‏ وكان مهيبا ضخم الجسم‏,‏ ذا وجه شديد التأثير في كل من يراه‏,‏ وكان شعره كله قد أصابه بياض الشيب فزاده هيبة علي هيبته الطبيعية‏,‏ وفي مقدمة جبينه كان هناك أثر لجرح قديم تخلف من عملية جراحية خطيرة أجراها له في رأسه سنة‏1950‏ الجراح الإنجليزي هارفي جاكسون وهي عملية استئصال للجزء الأكبر من الغدة النخامية الكائنة أسفل فصي المخ الأماميين‏,‏ وكان مندور مهددا بالعمي الكامل لو لم يقم باجراء هذه العملية الخطيرة‏,‏ وقد نتائج هذه العملية تؤثر في جسد مندور الصلب حتي توفي سنة‏1965‏ وكان في الثامنة والخمسين من عمره‏.‏
كان مشهد مندور وهو يبكي ويشد شعره الأبيض مؤلما ومؤثرا إلي أبعد الحدود‏,‏ وقد أصابني حزن كبير وأنا أتأمل هذا الصرح الكبير صاحب القامة الفكرية العملاقة‏,‏ وهو في هذه الحالة التي تشبه الإنهيار‏,‏ وأخذت أقول لنفسي‏:‏ إذا كان مندور يتعرض لكل هذه المعاملة السيئة‏,‏ فماذا سوف يكون مصيري ومصير غيري من الذين كانوا شبابا في تلك الفترة‏,‏ وكانوا في العشرينيات من عمرهم‏,‏ ولم يكن لدي أحد منهم ما يملكه مندور من تاريخ وتراث وطني وفكري عزيز‏.‏
كنت قد قرأت كل ما كتبه مندور ثم تعرفت عليه شخصيا وأنا طالب في الجامعة سنة‏1953‏ وكان من حظي أن أقترب منه لفترات طويلة‏,‏ حيث كان يملي علي بعض مقالاته بعد أن ضعف بصره ضعفا شديدا‏,‏ ولم يعد قادرا علي الكتابة بنفسه‏,‏ وكان مندور في نظري ونظري كثيرين غيري من شباب تلك الفترة أستاذا ورائدا عظيما ومفكرا كبيرا قضي عمره في خدمة وطنه وأضاف إلي الثقافة العربية والحركة الوطنية إضافات لا تنسي‏.‏
ومرت لحظات بعد هذا المشهد المؤثر‏,‏ وعاد مندور إلي طبيعته وهدوئه‏,‏ فقد كان رغم اشتعاله الوجداني والفكري رجلا وديعا مهذبا شديد التحضر يحب الحوار مع الآخرين حتي لو كانوا من ألد أعدائه وأشد المختلفين معه كان رجلا ديموقراطيا صافي القلب والعقل‏,‏ وكان يدرك تماما أن الحوار والمناقشة والأخذ والرد هي الوسائل الصحيحة للتعامل الفكري بين الناس‏,‏ وهي وحدها التي تحفظ كرامة العقل الإنساني‏,‏ وتعبر عن هذه الكرامة لقد كان مندور في كلمات موجزة‏,‏ من أجمل وأعمق وأغني الشخصيات الإنسانية والفكرية التي عرفتها في حياتي‏.‏
سألت مندور عن السبب الذي من أجله تقرر إعلان الحرب عليه ومنعه من السفر‏,‏ وعرفت أن ذلك الموقف يعود إلي تقارير أمنية قدمها ضده أحد الأدباء المعروفين‏,‏ لأن مندور تجرأ علي توجيه نقد صريح لعمل من أعمال هذا الأديب الذي كان علي صلة قوية بالسلطة في تلك الفترة‏,‏ وقد قرر هذا الأديب أن يعاقب مندور بافتراسه‏,‏ وإقناع السلطة بعدم إخلاصة‏,‏ وضرب الحصار حوله ولو أدي به ذلك إلي أن يفقد كل شئ حتي موارد رزقه‏.‏
كان مندور لا يستحق هذه المعاملة‏,‏ وكانت السلطة مخطئة في محاربة مثقف وطني عظيم له تاريخ مضئ بهذه الطريقة السيئة‏.‏
أما أن يكتب بعض المثقفين والأدباء تقارير أمنية ضد بعضهم لمجرد الاختلاف في الرأي‏..‏ فتلك مصيبة‏,‏ وهي مظهر من مظاهر الخروج بالثقافة عن دورها الإنساني الكريم‏,‏ وعن الاخلاق التي بغيرها تفقد الثقافة أي معني لها‏...‏ وأي قيمة‏.‏
......................................
*الأهرام في 18/12/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:42 AM
( 55 ) رحلة مع الخوف

بقلم: رجاء النقاش
........................

«الخوف» هي القصة القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ في أوائل الستينيات من القرن الماضي ونشرها بعد ذلك في مجموعته بيت سيئ السمعة سنة‏1965,‏ وبطل القصة هو عثمان الجلالي ضابط الشرطة الذي قضي علي الفتوات جميعا‏,‏ ولكنه لم يحقق الاستقرار والطمأنينة للناس‏,‏ وقد رأي البعض أن نجيب محفوظ كان يتحدث عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في قصته‏,‏ وهو يرسم صورة بطل القصة عثمان الجلالي‏,‏ وقد رأيت من جانبي أن هذا التفسير بعيد الاحتمال‏,‏ وأن المعني الأقرب إلي شخصية عثمان الجلالي هو المعني الإنساني والاجتماعي العام‏,‏ فعثمان الجلالي هو نموذج للانفراد بالقوة‏,‏ والانفراد بالقوة خطر علي الجميع حتي علي صاحبه‏,‏ لأن الانفراد بالقوة يغري بارتكاب الأخطاء والتهاون في حقوق الآخرين والعدوان عليهم‏.‏ وفي قصة الخوف أيضا هناك شخصية نعيمة‏,‏ وهي الفتاة الجميلة التي يتصارع حولها الجميع‏,‏ وحين ينفرد الضابط عثمان الجلالي بالقوة تصبح نعيمة تحت سيطرته ونفوذه‏,‏ بعد أن كانت من قبل فريسة يتنافس عليها سائر الفتوات‏,‏ وعندما انفرد عثمان الجلالي بالقوة وحده لم تحصل نعيمة علي حرية الإرادة التي لعلها كانت تحلم بها والتي كنا نتوقعها لها بعد زوال عصر الفتوات‏,‏ لأن انفراد الجلالي بالقوة لم يساعد علي أن يعيد إلي نعيمة حرية التصرف في أمور حياتها‏,‏ بل بقي حالها علي ما كان عليه‏,‏ وأصبحت رهينة لإرادة الضابط الذي انفرد بالقوة بعد أن قضي علي الفتوات‏.‏
وكنت قد دعوت القراء الأعزاء إلي المشاركة في تفسير هذه القصة الجميلة‏,‏ فوصلتني عدة رسائل تسهم في التحليل والتفسير‏,‏ وذلك عن طريق البريد والفاكس‏.‏ أما رسائل البريد فقد قرأتها في سهولة ويسر‏,‏ ولكن بعض رسائل الفاكس لم تكن واضحة بالصورة الكافية‏,‏ ومع ذلك فسوف أحاول أن أقدم الآراء المختلفة التي وصلتني في هذه الرحلة مع الخوف‏,‏ وليعذرني الذين لم أتمكن من قراءة رسائلهم علي الفاكس بصورة دقيقة‏,‏ فالذنب هو ذنب هذا الجهاز المدهش الحديث‏,‏ وهو جهاز الفاكس الذي يتميز بالسرعة‏,‏ ولكنه أحيانا يفتقد الدقة والإتقان‏.‏
وسوف أقدم الآراء التي وصلتني دون التعليق عليها‏,‏ إذا اتفق أصحابها معي أو اختلفوا في تفسير قصة الخوف‏,‏ فقد قلت رأيي وقدمت اجتهادي المتواضع في تفسير القصة‏,‏ والأدب عموما يحتمل تعدد التفسيرات‏,‏ وأظن أن من واجبنا الحرص علي قدر كاف من الديمقراطية الأدبية‏,‏ أي علي التنوع في وجهات النظر‏,‏ وبدون هذه الديمقراطية الأدبية نعود من جديد إلي قضية الانفراد بالقوة‏,‏ أي بالرأي الواحد المفروض علي الجميع‏,‏ وهذا الانفراد الذي يرفض التعدد والتنوع هو من أسوأ الأمور‏.‏
والرسالة الأولي هي من الناقد السينمائي الكبير سمير فريد‏,‏ وقد وصلتني الرسالة علي الفاكس وفيها سطور مطموسة وكلمات غير واضحة‏,‏ وقد بذلت أقصي ما أستطيع من جهد لقراءتها قراءة صحيحة‏,‏ وأرجو أن يكون التوفيق قد حالفني فلم أخطئ في قراءة الرسالة‏.‏ يقول سمير فريد في رسالته‏:‏
أعتقد أن وجهة نظرك السياسية وليست وجهة نظر نجيب محفوظ هي التي جعلتك تعتبر قصة الخوف قصة إنسانية عامة‏,‏ وليست عن ثورة يوليو وعبد الناصر‏.‏ وكما تعلم فإن عمل الناقد هو أن يساعد القارئ علي إدراك وجهة نظر الكاتب‏,‏ وله ـ أي للناقد ـ بالطبع أن يوافق الكاتب أو يختلف معه‏,‏ ولكن ليس له الحق أن يفرض علي الكاتب وجهة نظره كناقد‏.‏ وكما تعلم ـ أيضا ـ فإن ما كتبه نجيب محفوظ هو إنساني عام‏,‏ ولكنه يرتبط بواقع مصر زمن كتابة كل عمل‏,‏ وبوجهة نظر نجيب محفوظ السياسية‏.‏ وقد أنزعج إبراهيم أصلان وعبر عن ذلك في مقال له في الحياة الصدور أكثر من كتاب يحمل اسم نجيب محفوظ وعنه دون موافقته‏,‏ وهذا أمر مروع‏,‏ وكأنه لا يكفي محاولة اغتياله وتعجيز يده اليمني التي كتبت ما كتبه من روائع الأدب العربي‏,‏ ولكن ما يفوق ذلك أن يتم فرض وجهة نظر سياسية عليه تكون مخالفة لوجهة نظره‏,‏ ففي الشهر الماضي استمعت في روما إلي محاضرة بالإنجليزية للأستاذ محمد سلماوي قال فيها ان نجيب محفوظ توقف عن الكتابة بعد ثورة يوليو لإنه وجد عبد الناصر قد حقق كل أحلامه‏,‏ والآن تقول أنت في مقالك بالأهرام إن نجيب محفوظ كان ينقد الثورة من داخلها وليس من خارجها ثم تقرر بشكل قاطع أن نجيب محفوط ليس من أعداء الثورة‏,‏ وكأن الكتاب ينقسمون إلي مؤيدين للثورة وأعداء لها‏,‏ وهو منطق سياسي حزبي خالص‏.‏ وكنت أظن حتي استمعت الي محاضرة سلماوي وقرأت مقالك أنه لا خلاف علي أن نجيب محفوظ من الناحية السياسة هو كاتب ليبرالي‏,‏ أي لا يحتكر الحقيقة‏,‏ وأنه يؤمن بالديمقراطية الغربية‏,‏ وبالطبع‏,‏ ومثل كل من يؤمنون بالديمقراطية الغربية‏,‏ فإن نجيب محفوظ لا يري أن هذا النظام هو الذي يحقق الجنة علي الأرض‏,‏ وإنما هو الأفضل برغم سلبياته‏,‏ وهذا لا يعني أن عبد الناصر في قصة نجيب محفوظ كان مجرد فتوة‏,‏ ولكن المسألة ليست كما تقول إن نجيب محفوظ هو أكرم وأنبل وأوسع أفقا من أن ينظر مثل هذه النظرة المحدودة إلي جمال عبد الناصر‏,‏ وإنما نجيب محفوظ أكرم وأنبل وأوسع أفقا من أن يبيع الحرية‏,‏ حتي لو كان ذلك من أجل جمال عبد الناصر‏.‏ لقد كان عبد الناصر في تقديري هو المدني الوحيد بين ضباط الثورة‏,‏ لأنه كان صاحب مشروع للنهضة الشاملة‏,‏ وقد ترك آثارا لاتمحي‏,‏ وحقق تطورا أكيدا‏,‏ ولكن علينا أن نسأل‏:‏ لماذا لم يتم مشروعه‏,‏ أو بالأحرى لماذا فشل وانتهي عهده بكارثة‏1967‏ ؟ بالله عليك لا تقل إنها المؤامرة الغربية‏.‏ أولم يحن الوقت لنسأم حديث المؤامرة ؟‏.‏ وأعتقد أن واجب كان من يهمه أمر الوطن في عام مرور نصف قرن علي ثورة يوليو أن يسأل الأسئلة الصحيحة‏,‏ ويجيب عليها بعيدا عن القوالب الفكرية الجامدة‏.‏ وعن نفسي فقد أصبحت علي يقين‏,‏ وهذا حالنا بعد خمسين سنة من الثورة‏,‏ أن من يبيع الحرية من أجل شيء يفقد كل شيء‏.‏
تلك هي رسالة الأستاذ سمير فريد‏,‏ وكما وعدت في البداية فلن أعلق عليها أو علي غيرها‏,‏ فقد قلت رأيي من قبل‏.‏ وما جاء في رسالة سمير فريد هو وجهة نظره الخاصة به‏,‏ وقد يكون هناك فرصة أخري أنسب وأوسع للتعليق علي هذه الرسالة‏,‏ أو علي بعض ما جاء فيها من أراء‏,‏ ففي الرسالة ما يستحق التعقيب والتعليق‏.‏
الرسالة الثانية هي رسالة الأستاذ الدكتور سامي منير عامر ـ قسم اللغة العربية ـ كلية التربية ـ جامعة الإسكندرية وفي هذه الرسالة يقول صاحبها الفاضل‏:‏
إن كتابكم في حب نجيب محفوظ الذي أنعم النظر نقديا في نتاج عظيمنا نجيب محفوظ روائيا‏,‏ مضافا إليه كتابكم ـ بمشاركة نجيب محفوظ نفسه ـ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته‏...‏ هذان الكتابان بكل ما ناقشاه من قضايا نقدية لا يدعان مجالا لأي شك في أن عثمان الجلالي ضابط عطفة الفرغانة هو بعينه رمز لواقع سياسي ممثلا في الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ولما كنت مصادفة أوالي قراءة نص قصة الخوف في مجموعة بيت سيئ السمعة باللغة المحفوظية الأقصوصية‏,‏ ومستعينا في ذات الوقت بترجمة دينيس جونسون ديفيز خير من ترجم أقاصيص محفوظ مع أستاذينا محمد مصطفي بدوي وفاطمة موسى إلي الإنجليزية‏..‏ أقول لما كنت منشغلا بهذا الأمر فإن تفسيركم في هامش صفحة‏224‏ من كتاب نجيب محفوظ ـ صفحات من مذكراته هو خير تفسير يوحي به مغزى ودور هذه الشخصية التي أطاحت بكل الطامعين في كبده ـ نعيمة التي جمعت طبقات المحبين حولها بنار فرن إنضاج كبدتها‏,‏ كما ورد في النص‏...‏ ولاشك أن إضافتك التفسيرية الجديدة في مقال الأهرام الأحد‏6‏ ـ‏2‏ ـ‏2002,‏ هذه الإضافة التي تأخذ مأخذ الإنسانية في تفسيركم الجديد لقصة الخوف ليست في قوة التفسير الأول‏1998,‏ لأنكم تعرفون أن إغراق نجيب محفوظ في واقعه المحلي هو مدخل إلي العالمية النوبلية‏.‏ وقد أشرتم في مقالكم الجديد إلي أن نجيب محفوظ ليس من السذاجة أو ضيق الأفق حتي يعني عبد الناصر بتصويره في شخصية الضابط عثمان الجلالي‏,‏ وأنا أري أنها كانت براعة في المواجهة الشجاعة من صاحب التسعين عاما ـ نجيب محفوظ ـ ولم تكن جديدة عليه‏,‏ فقد قالها بصراحة موجعة في مواجهة مجموعة الثورة في رواية ميرامار ساخرا من دعوى الاشتراكية ص‏121,‏ بل وفي رواية قشتمر ص‏108,‏ إذ هو يضع علي لسان بعض الشخصيات آراءه بطريقة إيحائية تتضمن نقدا أكثر شجاعة بكثير مما عرفناه عن أستاذنا توفيق الحكيم في مسرحياته السياسية‏,‏ ولو أن حظ نجيب محفوظ كان خيرا‏,‏ إذ قيض له الله الدكتور ثروت عكاشة من ناحية والأستاذ محمد حسنين هيكل من ناحية أخري لدرء خطر صراحته السياسية عنه‏,‏ والحمد لله أن جاء الرئيس محمد حسني مبارك فتوج جهود نجيب محفوظ بقلادة النيل اعترافا من الرئيس باتساع رقعة الديمقراطية التي أتيحت في عهده لكل من يريد أن يدلي برأي يدفع حياتنا إلي واقع أفضل‏.
وفي رسالة الدكتور سامي منير عامر ملحق لا يتصل بموضوعنا الأساسي وهو تفسير قصة الخوف وإنما يتصل بما ترمز إليه أسماء الأبطال في قصص نجيب محفوظ ورواياته‏,‏ وجهد الأستاذ في تحليل أسماء الأبطال فيه ذكاء وطرافة‏,‏ وأرجو أن يعكف علي تحويله من ملاحظات سريعة إلي بحث كامل ودراسة مفصلة‏,‏ فسوف يكون في ذلك نفع ومتعة‏.‏
نلتقي بعد ذلك مع الرسالة الثالثة وهي من الأديب الطبيب الدكتور أحمد حربي ـ استشاري الطب النفسي ـ دمنهور‏.‏ وفي هذه الرسالة يقول الدكتور‏:‏ ولدت قبل ثورة يوليو المجيدة ببضعة شهور‏,‏ وتأجل امتحاني للإعدادية بسبب نكسة‏1967,‏ ومع نصر أكتوبر كنت طالبا بطب الإسكندرية‏,‏ فأنا من جيل يحتفظ لثورة يوليو بحب كبير وتقدير عظيم‏,‏ ولكن الموضوعية لا تمنعني من أن أري بعض المثالب فيما أحب وفيمن أحب‏,‏ فالنضج العقلي يكبح العواطف ويرشد الإدراك والبصائر إلي الفهم المتكامل‏.‏ وفي قصة الخوف لنجيب محفوظ أري أن نعيمة ترمز لمصر و الحملي يرمز للأحزاب‏,‏ أما الفتوات فهم رمز للمندوب البريطاني والقصر‏,‏ أما الضابط عثمان الجلالي فهو رمز لعبد الناصر‏,‏ وهذا لايعيب عبد الناصر ولا يضر محفوظ‏,‏ فالوجود قائم علي التعدد‏..‏ نعم‏...‏ عبد الناصر كان عظيما وكان من الممكن أن نرفعه إلي أعلي الدرجات‏,‏ ولكنه أبدا‏,‏ أبدا‏,‏ لم يكن إلها‏.‏ والشاعر امرؤ القيس يذكرنا بالتعدد حيث يقول‏:‏
ولو أنها نفس لماتت مرة
ولكنها نفس تساقط أنفسا‏.‏
ومن أجل بعض التوضيح لبيت امرئ القيس الوارد في رسالة الدكتور حربي أقول إن كلمة تساقط هي في الأصل تتساقط والتخفيف لضرورة الشعر‏,‏ وهو تخفيف مقبول من ناحية اللغة‏.‏
وأخيرا أتوقف أمام رسالة وصلتني علي الفاكس من الأستاذ الفاضل الدكتور عبده‏,‏ ولم أستطع أن أقرأ الاسم الثاني لعدم وضوح الفاكس‏,‏ فليعذرني صاحب الرسالة وليتفضل بتصحيح الاسم وتوضيحه لنشره علي وجهه الصحيح‏.‏
وفي هذه الرسالة يقول الدكتور عبده‏:‏
فيما يتصل بقصة الخوف لنجيب محفوظ لست أجد أدق من قولكم‏:..‏ إن عبد الناصر ـ مهما كانت أخطاؤه ـ أعظم من أن يوضع في كفة واحدة متعادلة مع عثمان الجلالي بطل قصة الخوف وأن نجيب محفوظ هو أكرم وأنبل وأوسع أفقا من أن ينظر هذه النظرة الضيقة المحدودة إلي عبد الناصر‏.‏ وأنا ناصري حتي النخاع كما يقولون‏,‏ لذا أتمني لو أتيحت الفرصة أن تسأل نجيب محفوظ بصراحة‏:‏ هل قصد فعلا بكتابة هذه القصة أن يرمز إلي عبد الناصر‏,‏ فالأدلة التي وردت في مقالك والتي يرددها الذين يقولون إن عثمان جلالي يرمز لعبد الناصر هي فعلا أدلة لها وجاهتها‏,‏ والبعض ممن ناقشتهم مقتنعون بهذه الأدلة‏,‏ أي بأن نجيب محفوظ كان يقصد عبد الناصر في قصته الخوف‏.‏
وأقول لصاحب الرسالة الفاضل الدكتور عبده إن أحد الأدباء قد كتب يوما يقول‏:‏ لا تسألوني عن معني ما أكتبه‏,‏ فسؤال الأدباء عن معني أدبهم يشبه سؤال المرأة عن عمرها‏,‏ فهو سؤال لا جدوى منه ولن يحصل أحد من ورائه علي إجابة صحيحة‏!‏
بقيت هناك رسائل أخري حول قصة الخوف وموعدنا مع هذه الرسائل في الأسبوع القادم إن شاء الله.
...................................
*الأهرام 27/1/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:43 AM
( 56 ) رحلة جديدة مع الخوف

بقلم: رجاء النقاش
............................

لا تزال قصة الخوف التي كتبها نجيب محفوظ في أوائل الستينيات من القرن الماضي موضوعا لرسائل القراء الأعزاء‏,‏ وقد أسعدني ذلك‏,‏ حيث وجدت فيه كثيرا من المعاني الايجابية‏,‏ وأول هذه المعاني وأهمها أن قراءة الأدب لاتزال نشيطة وحية بين جماهير المحبين للثقافة والفن‏,‏ وأن قراءة الأدب لا تزال تقاوم هجمه الفن التليفزيوني الذي جعل من المشاهدة أيسر وأمتع من القراءة‏,‏ فالتليفزيون قادر بإمكاناته الواسعة أن يشغل الناس عن أدبهم وثقافتهم المقروءة‏.‏ وعندما نجد دليلا علي انتعاش القراءة الأدبية فإن في ذلك الدليل مايبعث علي اطمئنان المهتمين بحاضر الأدب ومستقبلة‏,‏ فلا يزال للأدب المقروء سحره وبريقه وجاذبيته‏,‏ ولن يخسر الأدب الجميل الجيد معركته بسهولة أمام التليفزيون‏.‏
ومن المعاني الأخري في اهتمام القراء الأدباء بقصة الخوف أن هذه القصة الجميلة التي كتبها نجيب محفوظ منذ مايقرب من أربعين سنة لاتزال حية ومحتفظة بجمالها الفني حتي الآن‏,‏ وهذه هي القيمة الباقية دائما في كل أدب جيد وأصيل‏,‏ فمثل هذا الأدب يتجدد مع الأيام‏,‏ ويعطي ثماره كلما جاء الربيع وأي أدب يموت بعد كتابته ويفقد تأثيره بعد ظهوره بوقت طويل أو قصير‏,‏ هو أدب فيه نقص وقصور‏,‏ أما الأدب الحي‏,‏ مثل أدب نجيب محفوظ‏,‏ فهو أشبه باللحن الذي يمكن عزفه في كل العصور‏,‏ ولن يؤثر فيه تجدد الآلات الموسيقية أو اختلاف الأذواق من جيل إلي جيل‏,‏ وذلك لأن مادة الحياة في هذا اللحن باقية وإن تغيرت الظروف أو تغير الناس علي أن من أهم ما أسعدني في رسائل القراء الأدباء حول قصة الخوف هو أن عددا من هذه الرسائل يختلف مع رأيي في القصة‏,‏ فقد كان رأيي ولايزال هو أن بطل القصة عثمان الجلالي ليس رمزا ولا إشارة إلي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بقدر ماهو رمز وإشارة إلي معني إنساني عام يتصل بكل الأحوال المشابهة لحوادث القصة في مصر والعالم ولا بأس أن يقال إن في القصة تنبيها لضباط ثورة يوليو جميعا حتي يكونوا علي وعي بهذا المعني الانساني‏.‏ وحسب وجهة نظري فان عثمان الجلالي كما رسمه نجيب محفوظ في قصته هو تجسيد لظاهرة الانفراد بالقوة وهو يمثل كراهية نجيب لهذه الظاهرة وتحذيره منها وتأكيده بأنها تنطوي علي شر كبير في أي موقع تظهر فيه‏,‏ سواء أكان ذلكك في الأسرة أو في المجتمع أو في العالم الواسع الكبير أو حتي في شارع أو حارة أو مؤسسة من المؤسسات‏.‏ ولاشك أننا نستطيع أن نقرأ القصة الآن في ضوء الموقف العالمي الراهن‏,‏ وهو موقف تعاني منه الدنيا كلها بعد انفراد البعض بالقوة دون غيرهم‏,‏ مما يدفعهم إلي الكثير من التصرفات الخاطئة والظالمة والخطيرة‏.‏ وفهمي للقصة علي هذه الصورة يبتعد بها عن أن تكون عملا فنيا محدودا ومؤقتا ينتهي تأثيره بانتهاء مناسبته‏.‏ كما أن بطل القصة قد انتهي به الأمر إلي أن يكون مجرد بلطجي‏,‏ فهل يمكن أن يقتنع عدو أو صديق بأن نجيب محفوظ قد نظر إلي عبد الناصر مثل هذه النظرة؟ أشك في ذلك‏.‏
ومع هذا كله فأنا لا أري ضررا في أن يختلف معي القراء الأدباء في تفسيري للقصة‏,‏ مادام الاختلاف قائما علي الصدق وحسن النية‏,‏ فمثل هذا الاختلاف هو نوع من الهواء النقي الذي يحقق الصفاء في عالم الفكر وهو اختلاف يضيف إلي الحوار حيوية تقضي علي أي ركود فيه‏.‏ ولذلك فأنا بهذا الاختلاف سعيد وإذا كنا سوف نضيق بالاختلاف في تفسير الأعمال الأدبية‏,‏ فكيف لنا أن نحلم بأي نوع من الديمقراطية؟‏!‏
وأعود إلي بقية ماوصلني من رسائل حول قصة الخوف وأولها رسالة من الأديب اللواء أحمد العرنوسي عضو اتحاد الكتاب وفيها يقول‏:‏ القصة الرمزية من القصص التي يلجأ إليها الكاتب إذا أراد أن يعبر عن رأيه دون مجاهرة أو بطريقة لا توقعه في مشاكل‏.‏ وقد لجأ إلي هذا الأسلوب الكاتب الكبير توفيق الحكيم في إحدي قصصه حين صور قطارا يسير وتعترضه مخاطر‏,‏ فينزل الركاب ومعهم سائق القطار‏,‏ فمنهم من يري أن العلامة الخاصة بمرور القطار حمراء ومنهم من يري أنها خضراء‏,‏ وذلك إشارة إلي التردد بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي‏.‏ وكاتبنا الكبير نجيب محفوظ له باع طويل في عالم الرمز‏,‏ وهو ـ كما جاء في مقالك عن قصة الخوف ـ ليس من أعداء ثورة يوليو‏,‏ ولكنه كان دائما يريد لها ما هو أفضل‏,‏ وقد كانت روايته ميرامار من هذا النوع‏,‏ فقد أراد كاتبنا أن يصور مصر في شخصية زهرة الفتاة الريفية التي تعمل بالبنسيون‏,‏ والتي كانت مطمعا للنزلاء‏,‏ ومنهم الاقطاعي الذي تم وضعه تحت الحراسة‏,‏ وعضو الاتحاد الاشتراكي الذي ينادي بالقيم ويتم ضبطه مع آخرين بسرقة أموال إحدى الشركات‏.‏ وفي النهاية يفوز بقلب زهرة بائع الصحف الذي أحبها‏.‏ والحقيقة أن نجيب محفوظ لم يرمز لشخصية عبد الناصر في قصة الخوف بضابط الشرطة عثمان الجلالي‏,‏ ولكنه أراد معني أوسع‏,‏ وهو ثورة يوليو بأكملها‏,‏ وقد قضت الثورة علي الملك والاستعمار والإقطاع الذين أذلوا هذا الشعب وحظيت الثورة بتأييد واسع من طبقات الشعب الفقيرة‏,‏ إلا أنه كما كان للثورة ايجابياتها فقد كان عليها مآخذ كثيرة‏,‏ منها عدم الالتزام بالشرعية القانونية وانحراف بعض رموزها وتابعيهم‏,‏ مما أدي إلي مصادرة الحريات وفرض الرقابة الصارمة علي الصحف وأجهزة الاعلام وإتاحة مواقع السلطة لأصحاب الثقة‏,‏ مع تنحية أصحاب الخبرة والمعرفة والثقافة‏.‏ وفي وقت ظهور قصة الخوف كانت البلاد ترزح تحت بطش لجان تصفية الاقطاع التي قادتها مجموعة من الضباط الشبان والصولات والجنود‏,‏ وفي محافظتي‏,‏ وهي الدقهلية‏,‏ كنت أعمل في جهاز الشرطة بمدينة المنصورة‏,‏ وقد شهدت بنفسي مساعدا أي صول يحكم محافظة الدقهلية ويوصي بوضع من يشاء تحت الحراسة‏.‏ لقد أراد كاتبنا الكبير أن ينبه إلي خطورة التصرفات التي لا تستند إلي شرعية أو قانون‏,‏وهي التصرفات التي أنشأت‏,‏ ماأصبح معروفا باسم مراكز القوة التي قضي عليها الرئيس الراحل أنور السادات‏.‏
ويختتم اللواء أحمد العرنوسي رسالته بقوله‏:‏ إن قصة الخوف لو تم نشرها اليوم لكانت معبرة عن الحالة الدولية التي انفردت فيها أمريكا بالقوة وأصبحت تبطش بمن تشاء دون مراجعة‏.‏ وقصة الخوف تصلح لكل عصر تسود فيه روح البطش ويخفت فيه صوت الضمير والعقل والشرعية‏.‏
والرسالة الثانية من الأستاذة مني عمرو‏,‏ وهي تنتمي ـ كما فهمت من رسالتها ـ إلي أسرة الديبلوماسي الشهير عبدالفتاح عمرو سفير مصر في لندن قبل الثورة‏.‏ وفي هذه الرسالة تقول الأستاذة مني‏:‏ أود أن يكون لي شرف المساهمة في التعليق علي قصة الخوف لكاتبنا العالمي نجيب محفوظ‏,‏ والقصة جميلة‏,‏ وهي تثير قضية خطيرة وجديرة بالتفسير والمناقشة وقضية القصة هي الانفراد بالقوة وما يتركه ذلك من آثار سيئة علي الضعفاء الذين يتصورون للأسف أن خضوعهم وسلبيتهم وعدم تمردهم إنما هو حائط الأمان بالنسبة لهم‏.‏ ولاشك أن نجيب محفوظ يشير بين سطورقصته إلي أن الانسان ليس معصوما من الخطأ‏,‏ وأنه إذا لم يجد من يردعه عن الشر فسوف يقع فيه ويستمر في ذلك‏.‏ ومن هنا ظهرت القوانين السماوية والأرضية لكي تردع الانسان عن الخطأ والشر‏.‏ والعدالة لا معني لها دون قوة تحميها‏.‏ وضعف الضعفاء يثير شهية الأقوياء ويشجعهم علي مزيد من الطغيان‏,‏ فالضعف هو المادة التي تصنع الانسان القوي‏,‏ والقوي ليس قويا بنفسه وإنما هو قوي بضعف الآخرين‏.‏ وقد تعرضت الحارة في قصة الخوف لنجيب محفوظ إلي آثار سلبية مفزعة لأن ضابط الشرطة عثمان الجلالي انفرد بالقوة‏,‏ وتخلي عن قدسية عمله‏,‏ وقام بتقليد الفتوات‏,‏ بينما كان هذا الضابط في الأصل هو حامي القانون والساهر علي تنفيذه‏,‏ ولكنه أصيب بفيروس الظلم والجبروت ولم يجد من يردعه وكذلك فالقصة‏,‏ رغم أنها مكتوبة في القرن الماضي‏,‏ إلا أنها تبدو وكأنها مكتوبة بعد أحداث‏11‏ سبتمبر المعروفة‏,‏ وفيها وصف لأحوال العالم الآن‏.‏ وفي القصة مايحث المظلومين علي الصحوة وعدم الاستسلام لما يتعرضون له‏.‏ وهذه متعة من آلاف المتع التي نحس بها في كتابات نجيب محفوظ‏,‏ فنحن نقرأ رواياته وقصصه في أي وقت دون أن يعنينا كم من الوقت قد مر علي كتابتها‏.‏
والرسالة الثالثة من الأديب الأستاذ مصطفي عبد المنعم ـ من مواليد‏1927‏ كما جاء في الرسالة‏,‏ ويقول الأستاذ الفاضل في رسالته‏:‏ رأيي باختصار في قصة الخوف لنجيب محفوظ هو أن نجيب ببصيرته النافذة وحبه الواعي لوطنه مصر كان يقصد الزعيم جمال عبد الناصر بشخصيته بطل القصة عثمان الجلالي‏,‏ ولكنه لم يكن يملك ككاتب إلا هذا الأسلوب الرمزي حتي يتمكن من نشر قصته‏,‏ وليفهم أصحاب الألباب‏.‏ والحمد لله‏,‏ فإنهم كثيرون‏.‏ أطال الله عمر كاتبنا الكبير ورحم الله عبدالناصر‏,‏ وأقال الله مصر من عثرتها وتأخرها وكبوتها بسبب حكم استمر‏18‏ عاما‏,‏ تم فيه تكبيل مصرنا الغالية بينما انطلقت فيه مختلف دول الجيران‏.‏
والرسالة الرابعة من الأستاذ مصطفي مشالي ـ السويس ـ وفي هذه الرسالة يقول الأستاذ الفاضل‏:‏ لم يكن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر صاحب انفراد بالقوة علي طول الخط‏,‏ ولكنه عندما أصبح صاحب القرار في البلاد وقع في هذا الانفراد الذاتي بالقوة وذلك عندما أمر بحشد القوات المسلحة في سيناء سنة‏1967.‏ لقد كان عبد الناصر مثلا يحتذي في الوطنية‏,‏ وكان رائدا للقومية العربية وهو مؤسس الضباط الأحرار وقائد الثورة ومحرر مصر من الاحتلال ومن أسرة ملكية فاسدة‏,‏ ولو أن عبد الناصر استعان بالصبر والمشورة ولم يقم بالتلويح بالحرب لما كانت مأساة‏1967‏ التي مازلنا نعاني منها إلي الآن‏.‏ أما الصراع بين الفتوات فهو يرمز للصراع بين الأمريكان والسوفييت في وقت كتابة القصة‏.‏ أما عطفة فرغانة في القصة فهي رمز للبلاد العربية التي كان الأقوياء ـ أي الفتوات ـ يتصارعون عليها رغم أن هذه البلاد لم تكن طرفا في النزاع ولكنها تأثرت به ودفعت ثمنا له‏.‏
ومن الأستاذ الفاضل الدكتور فاروق عبدالسلام‏260‏ شارع شبرا مصر جاءت الرسالة الخامسة‏,‏ وهي رسالة ساخنة‏,‏ وفيها يقول صاحبها‏:‏ باختصار شديد لماذا تنحاز هكذا لعبد الناصر انحيازا كاملا وأنت في غاية الاطمئنان إلي أن التاريخ سوف يكتبها لك لا عليك؟
إن ما ذكره أصحاب الرأي القائل بأن المقصود ببطل قصة الخوف لنجيب محفوظ هو جمال عبد الناصر من أسانيد ثلاثة هو أمر صحيح مائة في المائة‏,‏ فالتلميحات والايحاءات في الحرفين ج‏.‏ ع من اسم جمال عبد الناصر واسم عثمان جلالي صحيحة‏,‏ وخلعه الملابس العسكرية ولبسه الملابس المدنية صحيح‏,‏ واستيلاؤه بعد ذلك علي نعيمة أي علي مصر صحيح مائة بالمائة‏.‏
ثم ينتقل صاحب الرسالة الدكتور فاروق عبدالسلام إلي اختيار بعض العبارات الواردة في قصة الخوف ويفسرها بما يتفق مع وجهة نظره فيقول‏:‏ هناك ما ورد في قصة الخوف‏,‏ من قول نجيب محفوظ عن نعيمة ـ أي مصر ـ‏:..‏ ولكن نظرة عينيها العسليتين خلت من الروح كورقة ذابلة وقوله عن نعيمة أيضا‏:‏ وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة ـ فهل فعلت هزيمة‏1967‏ بنعيمة أي مصر إلا هذا بعينه؟‏,‏ ثم يقول الدكتور في رسالته الشائكة جدا‏:‏ وأخيرا لماذا لا تنتظر من الروائي المبدع نجيب محفوظ أن تكون عينه علي عبد الناصر وهو يرسم ملامح شخصية عثمان الجلالي‏,‏ مع أن الذي اكتشف نجيب محفوظ وقدمه للحياة الأدبية هو الناقد العظيم سيد قطب صاحب تفسير في ظلال القرآن الذي أعدمه عبد الناصر؟‏!‏
وأعتذر لصاحب الرسالة الفاضل عن عدم نشر بقية رسالته لما تتضمنه من لغة نقدية بالغة القسوة والعنف‏.‏ علي أنني مع ذلك أريد أن أقول لصاحب الرسالة إنني لا أنكر حبي لعبد الناصر وإيماني بأنه شخصية تاريخية نادرة‏,‏ ولكن هذا لا يمنعني من رؤية الأخطاء‏,‏ وبعضها فادح‏.‏ كما أنني أعترف مع صاحب الرسالة ومع نجيب محفوظ نفسه بأن سيد قطب كان هو أول ناقد كبير يلتفت إلي نجيب ويشير بقوة إلي موهبته‏.‏ ولكن هل كان اكتشاف سيد قطب لعبقرية نجيب محفوظ هو السبب في إعدامه ؟‏.‏ إنني لا أخفي إعجابي الكبير بأدب سيد قطب وأفكاره المتميزة ومواهبه العالية‏,‏ ولا أخفي حزني الشديد بسبب مصيره المأساوي‏.‏ ولكنني لست من أهل السياسة‏,‏ ولا أحب أن أكون‏,‏ ولذلك لم أفهم مطلقا كيف اندفع سيد قطب‏,‏ هذا المفكر الكبير‏,‏ إلي إلقاء نفسه في دوامة السياسة العملية العنيفة‏,‏ والتي يعرف أصحابها مقدما أنها تقود إلي إحدى قمتين‏:‏ السلطة أو المشنقة‏,‏ كما لم أفهم أبدا كيف أقدم مفكر نابغ مثل سيد قطب علي تأليف كتاب مخيف مثل معالم علي الطريق‏,‏ وهو كتاب تحريضي أشعل النار وأودي بحياة كثيرين ومنهم سيد قطب نفسه‏.‏
والرسالة السادسة والأخيرة من الشاعر الأديب أحمد جابر شاعر غنائي واختصاصي مكتبات الجهاز المركزي للتنظيم والادارة والرسالة طويلة وخلاصتها أن نجيب محفوظ في قصته الخوف كان يتنبأ بما حدث وسوف يحدث لبعض الشعوب مادامت واقعة تحت وطأة الخوف وملتزمة بدفع ثمن هذا الخوف‏.‏ وقصة نجيب محفوظ موجهة إلي عرب الأمس وعرب اليوم وعرب الغد‏,‏ وهي موجهة إلي كل من يظن أنه بمنأى عن الخطر مادام استسلم لقوانين الخوف الـظالمة له والمسيطرة عليه‏.‏
وقد أرسل الشاعر أحمد جابر مع رسالته قصيدة جميلة بالعامية لا يسمح المجال بنشرها وإن كان من حق صاحبها أن أقول له إن قصيدته تكشف عن موهبة طيبة.
..............................................
*الأهرام 3/2/2002م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:44 AM
( 57 ) في طبعة جديدة من كتابه "الانعزاليون في مصر"
"رجاء النقاش" فضح "الطابور الخامس" بمنهج علمي!

بقلم: خالد إسماعيل
.....................

عن مهرجان القراءة للجميع "مكتبة الأسرة" صدرت في "القاهرة" طبعة جديدة من كتاب "الانعزاليون في مصر" للكاتب "رجاء النقاش"، الذي يحتوي علي ردود علي آراء الراحلين "لويس عوض" و"توفيق الحكيم"، ضمن معركة ـ قديمة حديثة ـ شهدتها مصر في عام 1978 السابق علي توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" ـ الأولي ـ التي وقعها الرئيس الراحل "السادات" مع الصهيوني المقبور "مناحم بيجين" برعاية الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر".
كان السؤال المحوري في تلك المعركة يدور حول "عروبة مصر"، وهل "مصر" فرعونية فيحق لها أن تنفض يدها عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أم أنها "عربية" فتقف في قلب المعركة مدافعة عن الأرض والثقافة والوجود العربي؟!!
والسؤال إلي جانب "الخبث" الذي يحتويه، ينبع من بقايا الدعاية الاستعمارية التقليدية "فرّّق تسُد"، والثأر الذي يحمله بعض المثقفين تجاه "عبدالناصر" زعيم القومية العربية، وأقرانه من الزعماء الذين تصدّوا للاستعمار في الخليج العربي والمغرب والسودان.
والعجيب أن السؤال حول "عروبة مصر" لا يظهر علي الساحة إلا في أزمنة "الهزائم" ـ النفسية والعسكرية ـ ويختفي في فترات الازدهار وامتلاك القدرة علي الحلم بوطن عربي موحد.
حتي إننا قرأنا ذات السؤال مطروحا علي صفحات مجلة "روزاليوسف" منذ أسابيع، وراعي السؤال هو "محمد عبدالمنعم" أحد أركان جمعية "كوبنهاجن" التي فشلت في خلق مصالحة بين "الشعب المصري" و"الكيان الصهيوني" وـ عبدالمنعم ـ هو رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير روزاليوسف، وإذا عدنا إلي الكتاب الذي بين أيدينا الآن، لعرفنا أن توقيت طرح السؤال 1978، كان يلائم سياسة أنور السادات ـ الذي حمل لقب بطل الحرب والسلام ـ بعد ذهابه في رحلة مشئومة إلي "القدس" وارتمائه في أحضان "كارتر" و"بيجين" دون أن يحقق شيئا غير استعادة "سيناء أما طارح "السؤال" فهو "لويس عوض" ـ الذي ذاق سجون ثورة يوليو مع الشيوعيين، ولم يكن شيوعيا، ودعا إلي إحياء اللغة "القبطية" وإلغاء اللغة العربية، في إطار "وهم قديم" يري أنه بالإمكان استعادة "مصر" القبطية من قبضة "العرب الغزاة وهذا "الوهم" ثمرة طبيعية لحالة "الجيتو" والإحباط الذي عاشه مثقفون من أمثال الدكتور "حسين فوزي" و"توفيق الحكيم"، وكلهم لعبوا لعبة السياسة من مُنطلق أنهم بإمكانهم أن يحققوا لمعانا وبقاء في أحضان "السلطان"، ولما هزموا حاولوا الإعلان عن وجودهم من خلال اقتناع بالمثل الإنجليزي القائل "خالف تُعرف " وقد استطاع "رجاء النقاش" أن يرد علي هذين "الكاتبين" مستندا إلي حقائق التاريخ، وحقائق الواقع السياسي الذي يؤكد أن "مصر" عربية لا تستطيع الانفصال عن محيطها العربي، ولا يستطيع محيطها العربي أن ينفصل عنها.
" السؤال الذي يفرض نفسه: لصالح "مَن" تتصاعد الدعوة إلي عزل "مصر" عن "العرب"؟.. أليس لصالح "إسرائيل"؟!.. أليس هذا السؤال دليلا علي تطبيق نظرية "النعامة" التي تقوم بدفن الرأس في الرمل، بدلا من مواجهة الخطر؟!
إن ـ رجاء النقاش ـ الذي أدار المعركة علي صفحات "المصور"، بينما "عوض" و"الحكيم" كانا يستخدمان "الأهرام"، استطاع بقدراته العالية أن يصفع أنصار الانعزال عن المحيط العربي، صفعة قوية بالأدلة التاريخية، متبعا في ذلك منهجا علميا، دون أن يلعب علي وتر العاطفة، ولكن هذا "التيار الانعزالي" ـ للأسف الشديد ـ يتصاعد هذه الأيام ليقوم بدور "الطابور الخامس" لـ"إسرائيل"، لذلك فالسؤال "مشبوه" والمحرضون عليه ليسوا فوق مستوي الشبهات.
.........................................
*العربي ـ (الناصرية) ـ العدد 873 ـ في 24/8/2003م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:46 AM
( 58 ) بين قراقوش وسميح القاسم

بقلم: رجاء النقاش
...........................

شاعرنا العربي الفلسطيني الكبير سميح القاسم‏,‏ الذي فاز هذا العام بجائزة نجيب محفوظ من اتحاد الكتاب‏,‏ له مسرحية قصيرة عنوانها قرقاش‏,‏ وهو اسم قام الشاعر الكبير باشتقاقه من اسم قراقوش المعروف‏,‏ وقراقوش هو الاسم الذي أصبح رمزا للظلم ومخالفة العدالة بصورة كاملة‏.‏ وكلمة قراقوش في الأصل كلمة تركية معناها النسر الأسود‏,‏ و قراقوش في التاريخ هو بهاء الدين قراقوش الذي توفي بالقاهرة سنة‏1201‏ ودفن بها‏,‏ وكان وزيرا خطيرا لصلاح الدين‏,‏ وقراقوش هو الذي بني القلعة‏,‏ وأنجز بناءها علي خير وجه وفي أسرع وقت‏,‏ وشخصية قراقوش التاريخية تختلف عن شخصيته الشعبية‏,‏ ذلك لأن الشخصية الشعبية هي نموذج حي للطغيان واضطهاد الناس وتسخيرهم بقسوة شديدة في الأعمال المختلفة‏,‏ والصورة الشعبية لـ قراقوش هي الصورة التي اعتمد عليها سميح القاسم‏,‏ وهي صورة الطاغية الظالم‏,‏ وقد كان سميح موفقا غاية التوفيق عندما جعل اسم بطل المسرحية هو قرقاش وليس قراقوش‏,‏ وذلك حتي لا يصطدم في قليل أو كثير مع شخصية قراقوش التاريخية‏,‏ وسميح يريد أن يقدم إلينا بطل مسرحيته في صورة طاغية غير مشكوك في طغيانه ونذالته وعشقه الدموي للحرب والقتل وسفك الدماء‏,‏ فاختار له اسم قرقاش بدلا من قراقوش‏,‏ لأن قراقوش له تاريخ معروف وبعض كبار المؤرخين يدافعون عنه ويرون أنه من المظلومين وليس من الظالمين‏.‏
صورة قرقاش في مسرحية سميح القاسم الجميلة هي الصورة الشعبية الغارقة في الظلم إلي حد إثارة الضحك والسخرية‏,‏ وسوف نتوقف أمام مشهدين من المحاكمات التي أقامها قرقاش لبعض مواطنيه‏,‏ حيث نجد أمامنا صورة للقسوة والجنون‏,‏ تشبه ما كان عليه نيرون‏,‏ الذي أحرق روما وهو في منتهي الابتهاج‏,‏ لأنه كان يريد أن يعيد بناءها من جديد‏,‏ أو ما كان عليه إمبراطور روماني آخر هو كاليجولا‏,‏ الذي حين غاب عن عاصمته روما أناب عنه حصانه في حكم البلاد والعباد‏.‏
والحقيقة أنه يوجد في كل طغيان جانب هزلي مثير للسخرية‏,‏ ولعل هذا هو الأساس الذي أقام عليه شارلي شابلن فيلمه الشهير عن الزعيم النازي هتلر‏,‏ فبقدر ماكان هتلر مرعبا‏,‏ كان مضحكا أيضا‏,‏ وقد استطاع شارلي شابلن بعبقريته الفنية أن يكشف للعالم عن الجوانب المثيرة للسخرية في شخصية هتلر‏,‏ فأضحك الدنيا علي هتلر الذي كان يخيف الناس ويسيل منهم الدموع والدماء معا‏.‏
في مسرحية قرقاش يتساءل الطاغية عن سبب بكاء امرأة من مواطنيه‏,‏ فيقال له إنها فقدت ابنها في إحدي الحروب التي شنها الطاغية‏,‏ فضحك الضاغية قرقاش وأشار إلي المرأة ثم توجه إليها بالحديث ساخرا منها‏,‏ حيث قال‏:‏
من أين تعلمت الحزن
يا بنت الخائن والبلهاء؟
ومتي أصبح في هذي الدولة
يفعل ما طاب له‏..‏ من شاء؟
ثم يتجه الطاغية قرقاش إلي أحد مساعديه ويقول‏:‏
من هذي اللحظة في هذا اليوم
عينتك أنت وزيرا للحزن
فاحزن باسم الشعب‏!‏
ثم يصدر الطاغية حكمه العجيب علي المرأة المتهمة بالحزن‏,‏ ويكون الحكم علي هذه الصورة المثيرة‏:‏
وعليها نحكم بالآتي‏:‏
تقفين علي ساق واحدة
ستة أيام
وقبيل اليوم السادس‏,‏ تلدين
سبعة أولاد
سابعهم يؤخذ للخدمة في الجندية
والستة‏..‏ أيضا للخدمة في الجندية‏!‏
ولاشك أنها صورة فنية رائعة‏,‏ تلك الصورة التي رسمها سميح القاسم للطاغية الذي لن نجد صعوبة في أن ندرك أنه رمز للصهيونية وإسرائيل‏,‏ ففي ظل الطغيان ممنوع علي الشعب أن يحزن‏,‏ وعلي جميع المواطنين أن يكونوا فرحانين‏,‏ تعبيرا عن سعادتهم بشقائهم في ظل الطاغية المجنون‏.‏
المشهد الثاني الذي يكشف لنا عن ضحك كالبكا في مسرحية سميح القاسم الصغيرة الجميلة هو مشهد الطاغية بعد أن حكم علي أحد مواطنيه بالإعدام شنقا‏,‏ وعند تنفيذ الحكم يظهر أن المواطن المحكوم عليه قصير بحيث لا تصل رقبته إلي حبل المشنقة‏,‏ وهنا يلتفت الطاغية قرقاش إلي الذين يقفون حوله من مساعديه الأقربين ويقول لهم‏:‏
حسنا‏..‏ من منكم يفضله طولا؟
ثم يتأمل المحيطين به ويختار أحد أقرب مساعديه وأعوانه لأنه أطولهم قامة‏,‏ ويأمره أن يتقدم إلي المشنقة ليتم شنقه بدلا من الرجل القصير‏,‏ فالمهم عند الطاغية هو أن يتم الإعدام‏,‏ وليس المهم من يكون الضحية‏,‏ بل لا بأس أن يكون الضحية من أقرب مساعديه‏,‏ فلذة الإعدام والشنق عند الطاغية لا تفرق بين القريب والبعيد‏,‏ وهنا نسمع الطاغية يقول لمساعده الذي تقرر إعدامه لسوء حظه بسبب طول قامته وإمكانية وصول رقبته إلي حبل المشنقة‏:‏
أو لم تسمعني يا هذا؟
حاول أنت
أقدم‏..‏ أقدم
لابد لنا من تنفيذ الحكم
في شخص ما
ويتم إعدام مساعد الطاغية شنقا‏,‏ أما الطاغية فيقول في فرح جنوني وهو يشاهد رأس مساعده يتدلي من حبل المشنقة‏:‏
هذا شيء رائع
حقا‏..‏ شيء رائع
أو ليس كذلك؟
علي أن مسرحية سميح القاسم البسيطة البديعة تنتهي بهزيمة ساحقة لم يتوقعها الطاغية أبدا‏,‏ فالطغيان أعمي‏,‏ ولا يستطيع أن يري أي شيء آخر غير نفسه‏,‏ وقد عرف الأمير ابن الطاغية بنتا جميلة من بنات الشعب‏,‏ وذاب فيها عشقا ومحبة‏,‏ ولكن الحب ممنوع في إمبراطورية الطغيان‏,‏ كما أن حب ابن الأمير لبنت من بنات الشعب هو جريمة ليس لها غفران‏,‏ ولذلك فقد قام رجال الطاغية بقتل الفتاة المحبوبة‏,‏ وعندها قام الأمير بقتل نفسه حزنا علي ضياع سعادته وموت فتاته أو عذراء الشعب المذبوحة‏,‏ كما تقول مسرحية سميح القاسم‏.‏
ومن أجل هذين الشهيدين في الغرام الطاهر ثار الشعب‏,‏ ووجدها فرصة للانتقام من قرقاش الطاغية‏,‏ وكان الانهيار قد أصاب قرقاش عندما علم بصدمة انتحار ابنه‏,‏ الأمير العاشق‏,‏ وأقبل الفلاحون علي الثورة وقتلوا قرقاش‏,‏ وهتف فلاح بين إخوانه الفلاحين بقوله‏:‏
عاش الملك العادل
فرد عليه الفلاحون‏:‏
نحن الملك العادل
نحن‏..‏ الملك‏..‏ العادل
أي أن الطغيان قد انهار وعاد السلطان للشعب‏,‏ وكان لابد من كارثة تبرر الثورة وتدفع إليها وتملأ القلوب بالشجاعة‏,‏ وكانت الكارثة هنا هي مقتل عذراء الشعب وانتحار حبيبها الأمير‏,‏ والكوارث دائما هي أم الثورات والانقلابات التاريخية‏.‏
بقي أن نقول إن شعر سميح مليء بهذه الإمكانيات المسرحية الكبيرة‏,‏ وهناك بعد ذلك ملاحظة أخيرة‏,‏ وهي أن مسرحية قرقاش كانت قد تم إعدادها للعرض علي المسرح المصري منذ أكثر من عشرين سنة‏,‏ علي يد المخرج الكبير سعد أردش‏,‏ ولكن المسرحية صودرت وتم منعها في آخر لحظة‏.‏ ولا أدري كيف ولماذا تصادر مثل هذه المسرحية الجميلة النبيلة؟‏..‏
إنني أتمني إعادة التفكير في تقديم المسرحية من جديد‏,‏ وأتوجه بهذه الأمنية إلي الأخت العزيزة المثقفة الأديبة الفنانة الدكتورة هدي وصفي‏,‏ آملا أن تقدمها ـ هذا الموسم ـ علي مسرح الهناجر الذي تديره بكفاءة وهمة وإرادة ثقافية وفنية عالية‏.‏
............................................
*الأهرام ـ في 10/12/2006م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:48 AM
( 59 ) مــرتزقة ومــــوهوبون

بقلم: رجاء النقاش
.........................

في كل بيئة أدبية وثقافية يظهر المرتزقة والموهوبون‏,‏ ويدور بينهما صراع عنيف ينتهي بانتصار أحد الجانبين‏,‏ وللأسف فإن الموهوبين هم الذين يتعرضون في معظم الأحوال للهزيمة‏,‏ لأن عددهم أقل‏,‏ ولأنهم ينصرفون بجهودهم إلي تنمية مواهبهم والتعبير عن هذه المواهب بأفضل صورة‏,‏ فالموهبة تحتاج إلي الاتقان‏,‏ والموهوب الحقيقي لا يلتفت إلي المؤامرات والدسائس أو يفكر فيها وإلا فقد قدرة التركيز علي موهبته‏,‏ وهذا التركيز هو مهمته الأولي في الحياة‏,‏ وفي المقابل فإن مرتزقة الأدب والثقافة يعيشون علي تلك المؤامرات والدسائس‏,‏ لأن هؤلاء المرتزقة إن كانوا موهوبين في شيء فإن ذلك هو صناعة التآمر‏,‏ والعمل الأصلي لهؤلاء المرتزقة هو شن الحرب علي الموهوبين وتنكيد عيشهم ووضع العقبات في طريقهم‏.‏ ونعود إلي بعض الصفحات في تاريخ الأدب العربي‏,‏ لنجد أمامنا فصلا مؤلما من فصول الحرب المستمرة والمتكررة بين المرتزقة والموهوبين‏,‏ ويتجسد هذا الفصل في قصة المتنبي مع الحياة الأدبية في مصر‏,‏ في عصر كافور الإخشيدي‏,‏ ففي هذا العصر جاء المتنبي إلي مصر وقضي فيها مايقرب من خمس سنوات دون انقطاع‏,‏ وكان المتنبي يمثل أرقي ما وصلت إليه الموهبة الشعرية العربية في عصره‏,‏ ولم يكد المتنبي يصل إلي مصر حتي ثار الحسد والحقد في قلوب المرتزقة الذين أحسوا منذ اللحظة أن وصول المتنبي العظيم فيه خطر غير محدود عليهم‏,‏ وعلي ما هم فيه يرتعون من مناصب وممتلكات مادية مختلفة تتيح لهم الرخاء والاسترخاء‏,‏ وقد كان هؤلاء المرتزقة جميعا بالنسبة للمتنبي من أصحاب المواهب المحدودة أو المتوسطة في أحسن الأحوال‏,‏ ولم يطق هؤلاء المرتزقة وجود المتنبي في مصر‏,‏ لأن المتنبي سوف يطفيء نورهم ويقضي علي انفرادهم بالنفوذ والسلطة‏,‏ بما يملكه من قوة العبقرية والنبوغ‏,‏ مع شدة اعتزازه بكرامته الفنية والشخصية‏.‏
كان المتنبي قد ترك سيف الدولة في حلب بعد أن قضي في بلاطه تسع سنوات‏,‏ هي أسعد سنوات عمره وأخصب مراحل إبداعه الفني‏,‏ فقد كتب خلالها مجموعة من أروع قصائده‏,‏ وعندما علم كافور‏,‏ حاكم مصر في ذلك الحين‏,‏ بنبأ الخلاف الذي نشأ بين سيف الدولة والمتنبي‏,‏ بذل جهدا كبيرا لاقناع المتنبي بالذهاب إلي مصر‏.‏ وأعطي للمتنبي وعودا كثيرة‏,‏ حتي وافق المتنبي علي التوجه إلي مصر فوصلها سنة‏346‏ هـ وبقي فيها إلي سنة‏350‏ هـ‏.‏ وفي مصر كان هناك طبقة من المثقفين تحيط بكافور الإخشيدي‏,‏ وكان علي رأس هؤلاء جميعا وزير هو جعفر بن الفضل بن جعفر الذي كان معروفا باسم ابن حنزابة نسبة إلي أمه وكان اسمها حنزابة ولا أدري من أين جاء هذا الاسم‏,‏ وأغلب الظن أنه اسم فارسي أو تركي‏.‏ المهم أن الوزير ابن حنزابة هذا قد طمع في أن يمدحه المتنبي ببعض شعره‏,‏ ولكن المتنبي لم يتجاوب مع رغبات الوزير‏,‏ ولعل المتنبي كان يحس أنه لم يأت إلي مصر ليمدح كل من هب ودب‏,‏ وكل من يستحق أو لا يستحق‏,‏ هذا والمتنبي لم يقطع صلته بسيف الدولة‏,‏ ويطوي المسافات الشاسعة ليمدح الوزراء وأشباه الوزراء‏,‏ ومن هنا بدأ ابن حنزابة في التآمر علي المتنبي وتشويه سمعته والعمل علي
إثارة حاكم مصر كافور الإخشيدي ضد هذا الشاعر العظيم‏.‏
أخذ الوزير الموتور يردد في كل مكان بأن المتنبي يسرق معانيه من شعراء آخر‏,‏ فهو ليس بشاعر ولكنه لص‏,‏ كذلك أخذ الوزير يجمع حوله بنفوذه عددا من مرتزقة الشعر والأدب ليجعل منهم حزبا ثقافيا ضد المتنبي‏,‏ وكان بين هؤلاء شاعر اسمه أبو القاسم ابن العفير فأخذ يهجو المتنبي بشعر محدود القيمة‏,‏ لا جمال فيه ولا عمق ولا صدق‏,‏ وكان من بين هؤلاء أيضا عالم لغوي هو محمد بن موسي بن عبدالعزيز الكندي‏,‏ وكان الناس يسمونه الموسوس‏,‏ وإن كان قد اشتهر باسم سيبويه المصري وأخذ هذا العالم اللغوي الذي انضم إلي حزب المرتزقة يمشي في مجالس العلم ومنتديات الثقافة والأدب معلنا علي رؤوس الجميع أن المتنبي يخطيء في اللغة والنحو‏,‏ وأخذ سيبوبه المصري هذا يتصيد الأخطاء للمتنبي ويفتعل ذلك افتعالا شديدا وينشر علي الناس نبأ هذه الأخطاء المفتعلة‏,‏ كل ذلك رغم أن المتنبي كان بجانب موهبته الشعرية من أعلم الناس باللغة العربية‏,‏ ومن أكثرهم فهما وذوقا ومعرفة بأسرار هذه اللغة‏,‏ ولو لم يكن المتنبي شاعرا كبيرا لكان من عظماء اللغويين‏,‏ ومع ذلك فقد أصبح الهم الأكبر لسيبويه المصري هو أن يسيء إلي المتنبي ويهدم سمعته الأدبية الرفيعة وينغص عليه حياته في مصر‏,
فكلما أنشأ المتنبي قصيدة جديدة أخذ سيبويه المصري يفتش في هذه القصيدة عن أخطاء‏,‏ وعندما كان يعجز عن الوصول إلي مثل هذه الأخطاء‏,‏ فإنه كان يلفق العيوب والمآخذ التي لا تقوم علي أي أساس من المعرفة أو الذوق‏,‏ ومن المعروف أن علم النحو العربي حافل بالمدارس المتضاربة والمتناقضة‏,‏ وبالامكان وصف ما هو صواب في مدرسة نحوية بأنه خطأ في مدرسة نحوية أخري‏,‏ وهكذا يمكن اللعب بالنحو لتخطئة أعظم الأدباء‏,‏ فهناك ألاعيب نحوية عند التحقيق فيها فإن العلم ينفيها بصورة كاملة‏.‏ وتلك اللعبة السخيفة هي التي استخدمها سيبويه المصري في حربه ضد المتنبي من أجل القضاء علي هيبته الأدبية‏.‏ ومن الذين التفوا حول الوزير ابن حنزابة ضد المتنبي شاعر مصري هو ابن وكيع التنيسي نسبة إلي جزيرة تنيس في منطقة بحيرة المنزلة في مصر‏,‏ حيث ولد هذا الشاعر ومات هناك‏,‏ وابن وكيع بالنسبة إلي المتنبي يعتبر شاعرا متوسط الموهبة أو دون ذلك بكثير‏,‏ ومع ذلك فقد شغل هذا الشاعر نفسه بتأليف كتاب عن سرقات المتنبي من شعر الآخرين‏,‏ وأسماه باسم المنصف‏,‏ والحقيقة أن هذا الكتاب لم يكن منصفا أبدا‏,‏
وهكذا وقف حزب المرتزقة ضد المتنبي‏,‏ ذلك الموهوب الأعظم بقصد تحطيمه والإساءة إليه‏,‏ وبقصد أكبر هو تطفيشه من مصر في أسرع وقت‏,‏ حتي يرتاح المرتزقة ويناموا مطمئنين‏.‏
ولعل هؤلاء المرتزقة لم يجدوا لجهودهم أثرا كافيا‏,‏ فقد ظل جمهور الأدباء في مصر والعالم العربي يتنافسون علي حب المتنبي وقراءة أشعاره ودراستها وترديدها‏.‏ ومن هنا كان علي حزب المرتزقة أن يضرب ضربة أخري قاضية‏,‏ وهي إفساد العلاقة بين حاكم البلاد كافور والمتنبي‏,‏ فركزوا جهودهم علي توصيل رسائل مستمرة إلي كافور تحضه علي الحذر من المتنبي والتخلص منه في أسرع وقت‏,‏ فالمتنبي صاحب طموح سياسي‏,‏ وقد يتآمر علي كافور للاستيلاء علي الحكم بدلا منه‏,‏ وهي خطة معروفة ومتكررة عند أحزاب المرتزقة علي مر عصور التاريخ المختلفة‏,‏ فالمرتزقة يلتفون حول مراكز السلطة‏,‏ ويصورون لأصحاب هذه المراكز أنهم هم المخلصون دون غيرهم‏,‏ وبعد أن يجدو أذنا صاغية لهم‏,‏ فإنهم يبدأون في العمل علي تصفية أعدائهم والدس لهم والتخلص منهم‏,‏ وذلك باتهامهم بأنهم ضد السلطة‏,‏ وأنهم يعملون علي هدم هذه السلطة ثم إقامة سلطة جديدة لهم‏,‏ والمرتزقة لا يقدمون علي شيء من ذلك إلا بعد أن يهيئوا الجو النفسي العام لكي تكون مثل هذه التهمة مقبولة‏,‏ ومن هنا يسهل للمرتزقة أن يضربوا ضربتهم الأساسية ضد الموهوبين‏,‏ ويبعدوهم عن الساحة ويقضوا عليهم‏,‏ خاصة إذا كان هؤلاء الم
وهوبون من ذوي الاهتمامات السياسية الواضحة مثلما كان الحال مع المتنبي‏,‏ مما قد يثير الشك والقلق حول هذه الشخصيات‏.‏
وهذا هو ماحدث مع المتنبي في مصر‏,‏ فبعد أن كان كافور سعيدا إلي أبعد حد بوجود المتنبي إلي جانبه في مصر‏,‏ تغيرت نفسيته تجاه المتنبي‏,‏ ويبدو أنه لم يستطع أن يخفي مشاعره‏,‏ وما كان باستطاعته أن يفعل‏,‏ فالمتنبي شاعر شديد الحساسية‏,‏ ولاشك أنه أدرك الانقلاب الذي حدث لكافور‏,‏ فبدأ يخطط للهروب من مصر‏,‏ ولم يكن كافور جاهلا بالأدب والثقافة‏,‏ ولم يكن جاهلا بقيمة المتنبي وأهميته‏,‏ فقد كان كافور كما قال عنه المؤرخون من محبي الشعر والشعراء‏,‏ وكان كما يقول المؤرخ الذهبي في كتابه النجوم الزاهرة‏:..‏ عظيم الحرمة‏,‏ خبيرا بالسياسة‏,‏ فطنا ذكيا‏,‏ جيد العقل‏,‏ داهية‏,‏ وكانت تتم عنده كل ليلة قراءة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية‏.‏ ومعني هذه الشهادة لكافور من جانب المؤرخ الذهبي والتي كررها مؤرخون آخرون في حق كافور أنه كان علي استعداد لتقدير المتنبي وإعطائه حقه من الحرص عليه وتكريمه ورعايته وحمايته من الحاسدين والحاقدين‏,‏ أي من حزب المرتزقة الذي يتصدي للموهوبين في كل عصر وكل مكان‏..‏ لقد كان ذلك ممكنا لولا حزب المرتزقة الذي التف حول كافور وآثار في قلبه الشكوك والمخاوف‏,‏ مما أدي بكافور إلي التضييق علي المتنبي وبث العيون والرقباء عليه لمعرفة حركاته وسكناته‏,‏ وأدي بكافور أيضا إلي إخلاف وعوده للمتنبي‏,‏ وبذلك انتصر حزب المرتزقة ضد المتنبي‏,‏ وأصيب الشاعر العظيم بالضيق الشديد من وضعه الأليم‏,‏ فهرب من مصر وكتب قصائده الهجائية العنيفة ضد كافور ورجاله‏,‏ وشدد في قصائده هذه علي حزب المرتزقة هؤلاء‏,‏ فأدانهم وفضحهم في قصائد كثيرة وامتلأت أشعار المتنبي بعد خروجه من مصر بالمرارة‏,‏ ولكنها كانت شعرا قويا خالدا‏,‏ ولا يزال الكثيرون منا يرددون إلي الآن الكثير من أبيات المتنبي ضد كافور ورجاله‏,‏ وضد أحوال مصر في ذلك العصر الذي تقدم فيه حزب المرتزقة وانهزم حزب الموهوبين‏,‏ ولاشك أن كافور قد خسر كثيرا بالميل إلي المرتزقة الذين يحسنون الدس والإساءة إلي الناس‏,‏ فقد كتب عنه المتنبي قصائد بالغة الروعة فنيا وبالغة المرارة من حيث الإحساس والشعور‏,‏ وقد رددها الناس في عصرها ومازالوا يرددونها إلي الآن‏,‏ وأصبحت الصورة التي رسمها المتنبي لكافور هي الصورة الشائعة عنه حتي اليوم‏,‏ وهي صورة بالغة السوء‏,‏ أما صورة كافور في التاريخ فلا يذكرها أحد إلا المتخصصون في الدراسات التاريخية والمؤرخون أحيانا يرفضون شهادة الشعراء‏,‏ رغم أن الشهادة الشعرية إن كانت قوية وصادقة تكون أكثر تأثيرا وأوسع انتشارا وأبقي في الأرض‏.‏
.........................................
*الأهرام ـ في 20/5/2007م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:49 AM
( 60 ) رجاء النقاش.. الناقد المفرد في محبة الجميع

بقلم: شمال يوسف
..........................

الاحتفاء برجاء النقاش ليس واجباً صحفيا أو ثقافيا، تقوم به مؤسسة صحفية او ثقافية، ولكن هذا الاحتفاء واجب قومي علي جهات عديدة ان تتضافر من اجله، وتحتشد له، وتحشد للقيام به طاقات عديدة، كما كان رجاء ذاته يحتشد بكل طاقاته من اجل أي قيمة يحتفي بها، أو من اجل اكتشاف كان يزيح عنه الستار، فمن نافل القول ان نعلن في هذا المقام الضيق نبل المسيرة، وطول الاجهاد الذي عاناه الرجل واستمتع به وأمتعنا، ليكشف عن قيمة عظمي هنا، وقيمة كبري هناك، علي رأس هذه القيم شعراء المقاومة، وإفساح مجلة الهلال لنشر دواوين كاملة لهم، عندما كان رجاء النقاش رئيساً لتحريرها، فنشر ديوان آخر الليل للشاعر الشاب اليافع - آنذاك - محمود درويش، ونشر في عدد تال ديوان ادفنوا موتاكم وانهضوا للشاعر الشاب أيضاً - آنذاك - توفيق زيادة وأظن أن فضيلة نشر الدواوين في مجلات - الآن - قد انزوت وانتفت وانتهت من حياتنا الثقافية، وليتها كانت مستمرة، لكان الحال غير الحال، وكان رجاء أول من كتب كتابا كاملا عن محمود درويش، فراهن علي قيمة كبري، وشاعر قدير، لا يتسم بصفة المقاومة فحسب، بل كان صوت المقاومة الأول في الشعر العربي منذ ذلك الوقت البعيد، وهذا ليس جديداً علي رجاء النقاش، فالذي يعرف تاريخ الرجل سيعرف ان هذه الفضيلة كانت ديدنه منذ ان ولج الحياة الأدبية والثقافية، فهو الذي كتب مقدمة ضافية وتاريخية لديوان مدينة بلا قلب للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وكان عمر الاثنين - آنذاك - لم يتجاوز الخامسة والعشرين، إذ كانت عام ،1959 وأظن ان هذه الدراسة الجادة والتاريخية، تعتبر احدي الركائز الأساسية التي دشنت للشعر الحديث، في معركته مع المدرسة القديمة، والتي كان يتزعمها - آنذاك - الكاتب والمفكر والشاعر عباس محمود العقاد، وكان هناك رهط من الشعراء المخضرمين ضد هذا اللون من الكتابة الشعرية، وعلي رأس هؤلاء الشاعر عزيز أباظة، ولم يكتف الاثنان أي العقاد بمناقشة هؤلاء الشعراء، بل حاولا حذفهما من خارطة الشعر بشكل مطلق ومتربص، وفي ذلك الوقت، وفي عز احتدام هذه المعارك، كانت دراسة أو مانيفستو رجاء النقاش، ومقدمته الرصينة لأحمد عبدالمعطي حجازي ويعلن فيها ان حجازي ورفاقه يمثلون نقلة في تطور المجتمع العربي ذاته، فعندما يقول: ان مرحلة العام السادس عشر لم تكن مرحلة في عمر الشاعر وحسب.. بل كانت ايضاً مرحلة في عمر حياتنا العربية.. عندما أراد الشاعر ان يتجاوز مرحلته الذاتية، كان في نفس الوقت يريد ان يتجاوز نفس المرحلة في حياة المجتمع الذي يعيش فيه.. إذن فرجاء لم يقدم لشاعر طليعي - آنذاك - فحسب، بل كان يقدم لحركة كاملة لذلك هو الذي كتب مقدمة ديوان صلاح جاهين عن القمر والطين عام ،1962 وصدر الديوان عن دار المعرفة، وكان علامة بارزة في مسيرة جاهين، بل وفي تطور الشعر المصري المكتوب باللغة الدارجة، وبعد ذلك جاءت مرحلة الطيب صالح، كذلك لعب معه ذات الدور الذي اضطلع به رجاء النقاش، دور الكشف والتنقيب والدرس النقدي العميق، والترويج المحترم، لكل ما هو غال وثمين وقيم في حياتنا الأدبية والسياسية والثقافية، وذلك في عز تصاعد قمم أدبيةعربية في مجال الرواية، مثل نجيب محفوظ وفتحي غانم وحنا مينة وآخرين.. لكن النقاش استطاع مستنداً علي موهبة كبيرة ان يفسح مكانا واسعاً للطيب صالح في مجال الرواية وينشر له روايته الأولي موسم الهجرة الي الشمال في روايات الهلال ويكتب عنها دراسة مطولة، تنبيء عن كاتب كبير، وعن موهبة ضخمة وبالإضافة الي كل هذه الأيادي البيضاء التي كانت لرجاء النقاش علي هذه المواهب وغيرها، كتب عن قمم راسخة كبيرة عربية كانت او مصرية، او عالمية، فكتب عن الشعراء بابلو نيرودا، وقسطنتين كفامتين، ورابنداران طاغور، ورسول جمزاتوف، ولورانس داريل، وبرنارد شو، وعن نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وحنا مينة ومحمد مندور، وطه حسين، وعباس العقاد وغيرهم.
ورغم ان رجاء النقاش عندما ينحاز لكاتب، فهو لا يتواني عن كيل المديح له، ورعايته نقدياً، ويوفر له كل سبل التطور، ويدافع عنه ويقاتل من اجله، أسوق مثالاً واحداً عندما تعرض الروائي المصري فتحي إمبابي لعائق ما، انبري النقاش - دون ان يعرفه - للكتابة عنه، ولفت نظر الكتاب والنقاد، وأزعم ان امبابي كسب اسمه وأدبه تعاطفاً كبيراً بعد ما كتبه رجاء النقاش عنه.. اقول رغم اندفاع النقاش - هكذا - وانحيازه لكل قيمة يحترمها ويقدرها ويحبها، فهو يكون ساخطاً أشد السخط عمن يراهم قد انحرفوا عن المباديء، ونذكر هنا مثالين، الأول في كتابه أدب وعروبة وقومية الذي صدر في أوائل الستينيات عندما هاجم الحزب القومي السوري، ودعاواه العنصرية، وكتب عن الشاعر أدونيس كتابة سلبية، لأن أدونيس - كان آنذاك - ضد العروبة ورموزها بشكل مطلق، وكان يدعو للفينيقية، داعياً لتخليص ما أسموه بالهلال الخصيب من شوائب أي عروبة، حسب الزعيم أنطون سعادة ، كما يتضح ذلك من السيرة الذاتية التي كتبها الراحل هشام شرابي في كتابه جمر ورماد . أما المثال الثاني فهو كتاب الانعزاليون الذي كتبه النقاش دفاعاً عن العروبة، عندما - رأي - توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض، قد كالوا ضربات موجعة لقضية القومية العربية والعروبة معاً.. فكتب النقاش كتابه هذا، مدافعا عن العروبة غير آبه بما يشغله هؤلاء من مكانة أو مكان، فالذي شغل رجاء ان هؤلاء قد انحرفوا عن الصواب، فلذلك حقت عليهم اللعنة.
أفضال رجاء النقاش علي الثقافة العربية، والابداع العربي، والنقد العربي، والصحافة الأدبية العربية كثيرة، لذلك عندما تصدر دار الهلال عدداً خاصاً يحتفي برجاء النقاش، فعلينا ان نضرب لها تعظيم سلام ، ونؤدي لها التحية، بقدر ما هي أدت هذه التحية لأحد أعلام الثقافة العربية الكبار، وهذا لا يعفينا من ان نطالب المؤسسات القومية ان تحتفي برجاء الكاتب والنقاد والانسان، وهناك مؤسسات ليست مصرية فحسب تدين لفضل رجاء النقاش، ولكن هناك ايضاً مؤسسات وبلداناً عربية اخري عليها ان تؤدي واجبها تجاه هذا الرجل الذي خدم في سلاح الثقافة لفترة تصل الي الستين عاماً، خدمة جليلة وتستحق منا نحن من تعلمنا علي قلمه كيف تكون الكتابة، وكيف تنبني الثقافة.
لذلك فمبادرة دار الهلال لها منا ألف تحية، ولكل الأقلام التي أفصحت وأبانت عن حبها وتقديرها لها ألف تقدير، من مجدي الدقاق رئيس التحرير الي الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي بدا متحيراً بماذا يبدأ مقاله، الي جابر عصفور الذي سرد تاريخاً مجيداً للرجل، وعدد فيه أفضاله علي الثقافة العربية عموما، الي الروائي خيري شلبي الذي كتب بمحبة فياضة، والأقلام العربية مثل خيري منصور الذي لم يقتصر الكتاب عن النقاش ككاتب وناقد مفرد، ولكن منصور نظر له كجبل ملأ الحياة الثقافية العربية ابداعات وأفكاراً جادة، وسميح القاسم الذي وجه تحية واجبة.. وهناك من ناقش النقاش نقاشاً جاداً ومستفيضاً ومسؤولاً مثل الناقد ابراهيم فتحي، والناقد مهدي الحسيني.. وإن كنت لم أرتح لما كتبه وديع فلسطين لأنه أراد يدس بضعة مرارات في الكتابة، وأراد - أيضاً - ان ينال من بعض ما كتب عنهم رجاء النقاش وخاصة أنور المعداوي، وشعرت ان تقريع فلسطين لرجل رحل مثل أنور المعداوي منذ أربعين عاماً، وكأنه تقريع لرجاء النقاش ذاته، وتطاول علي المعداوي، واصفاً إياه بالوصولية وساخراً منه عندما كتب - المعداوي - مقالاً عنوانه صالحني توفيق الحكيم علي زجاجة كوكا كولا .. ويعلق - فلسطين - كاتباً: ما شاء الله زجاجة كوكا كولا هي التي غيرت رأي المعداوي في الحكيم ..
ويستطرد فلسطين قائلاً: ورجاء النقاش تعاطف مع المعداوي يلتمس له المعاذير مرة بأمراضه ومرة بطموحه . وكنت أود أن ينأي فلسطين بنفسه عن تصفية الحسابات في مناسبة احتفالية مثل هذه..
تحية لدار الهلال، ومجلة الهلال، ولكل الأفلام التي كتبت عن النبيل رجاء النقاش وفي انتظار المؤسسة التي ستقوم بالمبادرة.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:50 AM
( 61 ) رجاء النقاش يدخل عالم نساء شكسبير
................................................

أصدر الكاتب والناقد المصري رجاء النقاش كتابا جديدا بعنوان "نساء شكسبير" عن دار الشرقيات بالقاهرة يرى فيه أن الملكة إليزابيث الأولى التي حكمت بريطانيا في القرن السادس عشر كانت أهم شخصية نسوية في عصرها شكلت مصدر إلهام الشاعر المسرحي الإنجليزي الشهير وليام شكسبير في رسم بطلات في مسرحياته.
ولا يسعى النقاش في كتابه الجديد "نساء شكسبير" إلى تقديم كاتب جديد بقدر ما يهدف لإعادة اكتشاف جانب واحد من جوانب ثرية تنطوي عليها أعمال شكسبير الذي ترجمت أعماله أو بعضها إلى معظم اللغات.
وفي رأي النقاش أن شكسبير في أعماله يقدم المرأة في نماذج متعددة إلا أن هناك بعض السمات المشتركة بينها وهي العمق والجمال والصدق ويضيف "نكاد ونحن نعيش مع نساء شكسبير ننسى أننا نعيش في عالم فني خيالي، هذا جانب من عظمة فن شكسبير الذي يفيض بقوة الحياة ويكاد يخرج بالشخصيات التي يرسمها من صفحات المسرحيات لتمشي على الأرض وتعيش بين الناس".
وأشار إلى أن لدى نساء شكسبير قوة إرادة وقدرة على اتخاذ قرارات صعبة وخطيرة ولهن رأي مستقل وهن قادرات على التحدي والدفاع عن أنفسهن حتى الموت متسائلا "من أين جاء شكسبير بهذه الصورة القوية للمرأة ضاربا المثل بنساء وصفهن بالفارسات منهن جولييت وديدمونة وكليوباترا؟".
وقال إن الدراسة المتأنية للسياق التاريخي الذي عاش فيه شكسبير تثبت أن هناك شخصية وصفها بالعجيبة والجبارة سيطرت على ذلك العصر وحددت صورة المرأة فيه وهي شخصية الملكة إليزابيث التي حكمت بريطانيا.
وأضاف أن "شكسبير صور كليوباترا أنثى ذكية وجدت نفسها أمام حقيقة ثابتة من حقائق التاريخ في مصر فعندما تكون مصر ضعيفة فلا بد لها من حليف قوي يحميها ويحفظ عليها استقلالها، فإن لم تجد مصر هذا الحليف القوي تحولت إلى مستعمرة".
وأوضح أن هذه النماذج للمرأة عند شكسبير تعطي إشارات وصفها بالذكية والمدهشة لفهم المرأة ولكنها لا تقدم إلينا مفتاحا سحريا نستطيع أن نفتح به جميع الأبواب المغلقة في عالم المرأة.
يذكر أن للنقاش كتبا نقدية منها "ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء" و"عباقرة ومجانين" وكان آخر كتبه "قصة روايتين" وهو دراسة نقدية فكرية مقارنة لروايتي "ذاكرة الجسد" للجزائرية أحلام مستغانمي و"وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر.
كما كان من أول النقاد العرب الذين انتبهوا إلى أعمال الشاعر الفلسطيني محمود درويش وأصدر عنه كتاب "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة".
المصدر: رويترز
................................................
*الأخبار ـ في 10/2/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:51 AM
( 62 ) رجاء النقاش وقراءة جديدة للعلاقة بين التاريخ والإبداع
.................................................. ...............................

في كتابه الجديد "شخصيات وتجارب" يلقي الكاتب المصري رجاء النقاش الأضواء على لحظات ومواقف تاريخية ألهمت عددا من المبدعين العرب والأجانب بأعمال لا يزال لها حضورها وتأثيرها، حينما يرى في التاريخ مصدرا مهما ونبعا من ينابيع الفن الجميل.
يرى النقاش في الكتاب الذي صدر في القاهرة عن دار أطلس للنشر والإنتاج الإعلامي وضم فصولا متفرقة عن الشاعر المتنبي وعميد الأدب العربي طه حسين ورئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة شوقي ضيف الذي توفي قبل أسبوع، أن في التاريخ العربي صفحات تصلح لقصائد تخاطب النفس الإنسانية ولكنها لا تزال تبحث عن شعراء.
فعلى سبيل المثال يشير إلى أن الاهتمام بالتاريخ أفاد الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي (1867–1923) الذي ولد ودفن بمدينة الإسكندرية في مصر حيث تعمقت رؤاه وزادت ثراء رغم أنه -بحسب الكاتب- لم يفكر لحظة في أن يكون مؤرخا يسجل الأحداث أو يقوم بتفسيرها وتحليلها، ولكنه يتعمق في قراءة التاريخ ليستخرج منه اللحظات الشعرية التي كان يجد فيها مادة لقصائده.
وأضاف النقاش أن الشاعر البريطاني الأكثر شهرة وليام شكسبير (1564–1616) الذي ترجمت أغلب أعماله إلى معظم اللغات استلهم أحداثا كثيرة من مسرحياته من وقائع وشخصيات تاريخية بعد إخضاعها لعملية اختيار وتأمل وجداني بهدف تخليصها من التفاصيل التي لا تخدم الدراما.
حادثة دنشواي
ويورد الكاتب أنه في التاريخ المصري الحديث هناك واقعة هي إعدام بعض الفلاحين في قرية دنشواي شمالي القاهرة عام 1906 أمام الأهالي، وهو ما أكد النقاش أن الشاعر المصري صلاح عبد الصبور أختار أحد الضحايا لهذه الواقعة التاريخية وكتب فيه قصيدته "شنق زهران" عام 1954.
وأوضح أن هذه المحاولة التي وصفها بالعجيبة جاءت ضمن سياق رواية "أمريكانلي" أو "أمري كان لي" التي صدرت في مصر عام 2003 للروائي المصري صنع الله إبراهيم الذي سجل ملخص محاضرة حول حادثة دنشواي للباحث الإسرائيلي ماتيتياهو بيليد أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة تل أبيب.
وقال النقاش إن بيليد اعتبر زهران مجرما ذا تاريخ طويل في خرق القانون وقد وصفته محاضر التحقيق في حادثة دنشواي بأنه زعيم العصابة الذي حرض الفلاحين على الإساءة إلى الضباط الإنجليز ما أدى إلى قتل هؤلاء الضباط.
غير أن المؤلف اعتبر "محاضرة بيليد -عضو الكنيست الذي كان جنرالا في الجيش الإسرائيلي- جزءا من حرب قاسية واسعة النطاق يتم شنها علينا الآن.. حرب عدوانية سيئة النية ومحاولة لإفقاد المصريين والعرب جميعا ثقتهم بتاريخهم واحترامهم لأنفسهم".
عبقرية النقاش
وفي رأي كثير من رموز الحركة الثقافية في مصر فإن الكاتب رجاء النقاش يقف في مقدمة نقاد عرب نجحوا في تبسيط النظريات النقدية بصورة دفعت القراء إلى حب الإبداع والنقد معا، إذ ليس النقد الأدبي في منهجه مجرد شرح أو تفسير للروايات والقصص والأشعار، ولكنه تنوير للقارئ بالسياق العام للعمل الإبداعي وكاتبه وقارئه أيضا بهدف إشراك المتلقي في نقاش ثقافي يحمل الجدية والمتعة معا حول اللحظة التاريخية التي يعيشها.
يذكر أن للنقاش كتبا نقدية منها "نساء شكسبير" و"ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء" و"أبو القاسم الشابي شاعر الحب والثورة" و"الاعتزاليون في مصر" و"عباقرة ومجانين" و"قصة روايتين" وهو دراسة نقدية فكرية مقارنة لروايتي "ذاكرة الجسد" للجزائرية أحلام مستغانمي و"وليمة لأعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر.
كما أنه قدم عام 1958 لأول أعمال الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي "مدينة بلا قلب" كما كان من أوائل من تحمس للشاعر الفلسطيني محمود درويش وأصدر عنه عام 1969 كتاب "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة"، بالإضافة إلى اكتشافه لرواية صارت من كلاسيكيات الأدب العربي وهي "موسم الهجرة إلى الشمال" للسوداني الطيب صالح.
المصدر: رويترز
................................................
*الأخبار ـ في 18/3/2005م.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:53 AM
( 63 ) جولة الكتب
يقدمها: مصطفي القاضي
......................................

رجاء النقاش.. وملكة تبحث عن عريس
.................................................. .......

ملكة تبحث عن عريس كتاب جديد للكاتب الكبير رجاء النقاش.. صدر عن كتاب أخبار اليوم بمقدمة دقيقة لرئيس التحرير الزميلة الكاتبة الصحفية نوال مصطفي.
يؤكد رجاء النقاش في مقدمة الكتاب أن البطل الأساسي في هذا الكتاب هو المرأة.. المرأة التي تعمل والمرأة التي تضحي والمرأة المليئة بالأسرار والمرأة التي تحب الرجال والمرأة التي لا تحب الرجال وغير ذلك من ألوان النساء اللاتي نقرأ عنهن في كتب الأدب أو كتب التاريخ أو اللواتي نعرفهن ونراهن أمامنا يعملن ويقتحمن الحياة ويحاولن مواجهة الدنيا بسحرهن أو بذكائهن أو بما يملكن من حيلة وبعد نظر والحقيقة أن هذه الصور والحكايات التي أبطالها سيدات وآنسات من كل الألوان وكل الأزمان وكل البيوت إنما تستطيع أن تقول لنا شيئا واحدا لا شك فيه عند الجميع وهو أن المرأة هي الحياة فكل مشاعر الإنسان ترتبط بالمرأة وكل التجارب والمشاكل تبتدي بالمرأة وتنتهي إليها.
ويحدثنا رجاء النقاش عن المرأة القوية التي لم تعرف الشكوي والبكاء طوال حياتها رغم ما مرت به من آلام وهي ايفا براون عشيقة هتلر التي طلبت منه أن يتزوجها لليلة واحدة هي ليلة انتحارها وكذلك زوجة مساعده ووزير إعلامه جوبلر التي طلبت المساعدة لكي تقتل أولادها الستة وعن سميرة موسي عالمة الذرة المصرية التي غلبت الرجال في هذا المجال ولقيت حتفها في ظروف غامضة في أمريكا وأيضا حكاية أول ثلاث ممثلات عربيات في مصر وكانت مسلمة ومسيحية ويهودية وغيرها من الصور التي تؤكد أن المرأة هي الحياة والموت أيضا.
..............................
*عن صحيفة: الجمهورية.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 07:55 AM
(64 ) آراء غريبة للويس عوض يناقشها النقاش في كتاب جديد:
أحمد شوقي شاعر قصور وأم كلثوم مليونيرة... وأشياء أخرى
.................................................. .......................................

بيروت – جهاد فاضل
في كتابه الجديد «لويس عوض في الميزان» يتعرض الناقد المصري الكبير رجاء النقاش لبعض ما ورد في كتاب «أوراق العمر» الذي قدم فيه الدكتور لويس عوض كثيرا من تجاربه الانسانية، وجانبا مهما من آرائه وأفكاره. ومن جملة ما يفنده النقاش في كتابه هذا ما ورد في كتاب لويس عوض عن أمير الشعراء شوقي وعن المطربة الكبيرة أم كلثوم.
ترد في «أوراق العمر» ثلاث اشارات عن شوقي هي التالية وبنصها الحرفي:
- مبدأ المساواة بين الطبقات وتوزيع الثروة دعوة لها سوابق في التاريخ الاسلامي، فهي ليست بالضرورة ماركسية لينينية، وانما خميرتها موجودة في بعض تيارات الفكر الاسلامي، مما جعل شاعرا «ارستقراطيا» مثل شوقي، ومغنية «مليونيرة» مثل أم كلثوم يصوران النبي محمدا عدو البولشفية. يقول شوقي: «الاشتراكيون أنت إمامهم».
- وقد بلغت «سخافة» شوقي انه أنشد في تمجيد انتصار مصطفى كمال:
الله أكبر كم في الفتح من عجب.
يا خالد الترك جدّد خالد العرب.
فحاول احياء رموز الفتوحات الاسلامية في وصف قائد معركة وطنية بحت، اشتهر بعلمانيته المتطرفة، وبانه صاحب الدعوة الطورانية الذي صفى ف كرة الجامعة الاسلامية وادار ظهره للعرب الذين قاتلوا تركيا تحت لواء الانكليز في الجزيرة العربية.
- كنت عند وفاة سعد زغلول قد قرأت القصيدتين «السخيفتين» اللتين نشرهما شوقي والعقاد في رثاء سعد، وقد كان مطلع قصيدة شوقي:
شيّعوا الشمس ومالوا بضحاها
وانحنى الأفق عليها فبكاها
كنتُ يومئذ احسن (والكلام لا يزال لعوض) انها قصيدة رائعة مؤثرة، ولكني بعد ان نضجتُ ادركت انها قصيدة ملفقة مفتعلة قالها شوقي، وهو الذي كان له حضور شعري في جميع المناسبات، حتى لا يقال انه لم يشارك الشعب المصري احزانه القومية، وقد شارك سعد في حفل تنصيب شوقي أميرا للشعراء، بل وتصدر الحفل، وبهذا رفع شوقي درجة أو درجات على حافظ ابراهيم، رغم ان شاعر النيل كان وفديا، بينما كان أمير الشعراء «سرايتلي» أو شاعر البلاط، فقد كان من مخلفات الخديوي عباس حلمي والارستقراطية التركية، وكان في وجدانه وعقليته أقرب الى الحزب الوطني، غريبا في عالم الفلاحين ذوي الجلابيب الزرقاء وعالم الافندية الذي كان يتزعمه سعد زغلول. ويرى لويس عوض ان قصيدة شوقي هذه سخيفة، لانها تعتمد على التشبيه والاستعارة، وتغترف من رصيد البلاغة التقليدية بدلاً من التعبير الذي يحس به الشاعر فعلاً..
يرفض رجاء النقاش تعابير عوض واحكامه عن شوقي: «الارستقراطي»، «السرايتلي» (اي تربية السرايات والقصور)، و«القصيدة الملفقة»، و«السخيفة»، الامر الذي يوحي بأن عوض يتحدث عن «رقة» من رمم التاريخ والادب، لا عن شخصية مثل شخصية احمد شوقي الذي كان في عصره (1868-1932) ملء السمع والبصر، ولم ينطفئ عنه البريق والضوء بعد وفاته، بل لا يزال هذا الشاعر العظيم حتى الآن شخصية ساطعة تدور حولها الدراسات الادبية والفكرية والتاريخية في كل الجامعات العربية.. «اما شعره، فلا يكاد يوجد انسان متعلم في الوطن العربي كله إلا ويحفظ له عدة ابيات من شعره».
وبعد ان يفند النقاش كل عبارة وردت في حديث عوض عن شوقي يقول: «ان شوقي كان اكبر من هذا بكثير. فهو شاعر من اكبر شعراء العربية في كل العصور». ولو عددنا بعد القرآن خمسة مصادر اساسية لتكوين «ثقافة عربية اصيلة، فسوف يكون ديوان شوقي ومسرحياته على رأس هذه المصادر».
المغنية المليونيرة
اما «المغنية المليونيرة» ام كلثوم، فيقول النقاش «انني لا استطيع ابدا ان اتصور وصف ام كلثوم بأنها «مغنية مليونيرة» الا بأنه سخرية بالغة الظلم، بعيدة كل البعد عن الانصاف».
ويضيف رجاء: «ان الالفاظ في اللغة العربية وفي كل لغة اخرى لها معناها المباشر الصريح. ولكن هذه الالفاظ لها ظلال اخرى لا تكون في اللفظ نفسه، ولكننا نشعر على الفور بظلال المعنى عندما نستمع الى اللفظ نفسه.
فعندما نقرأ كلمة «مغنية» فاننا نفهم المعنى، ولكننا نشعر بشيء غير مريح عندما نقول «مغنية مثل ام كلثوم». فكلمة «مغنية» تنطبق حتى على مطربات الدرجتين الثانية والثالثة ممن يقدمن الترفيه والتسلية للسكارى في النوادي الليلية. وهنا يشعر المرء المنصف لتاريخ الفن وتاريخ المجتمع وتاريخ النهضة في بلادنا، بأن شيئاً من الظلم قد اصاب ام كلثوم، وعندما لا نجد من الاوصاف لام كلثوم إلا أن نقول عنها انها «مغنية مليونيرة»، نشعر بأن في هذا الوصف شيئاً اكثر من السخرية. فهو وصف ينطوي على النقمة والغضب والشعور الكامن في النفس بالرفض لهذه الفنانة».
طبعا يشرح رجاء النقاش بعد ذلك اي غبن لحق بسيرة ام كلثوم وبتاريخ الفن والغناء العربي المعاصر على يد لويس عوض (الذي اعتاد قراؤه على مثل هذه الشطحات منه) عندما لا يبقى في نفسه عن ام كلثوم سوى انها «مغنية مليونيرة».
يعقوب اللعين
وعلى هذا النحو يفنّد رجاء احكاماً كثيرة للويس عوض في كتابه «أوراق العمر»، لم يحالفها التوفيق مثل انتصار عوض «للمعلم يعقوب»، وهو «فتوة» قبطي التحق بجيش بونابرت في مصر وأنشأ فرقة عسكرية للتعاون مع الفرنسيين في ضرب المصريين.
والجبرتي، وهو مؤرخ ذو نزعة وطنية، ينعت يعقوب بـ «اللعين»، في حين ان لويس عوض يلحقه بأبطال مصر الخالدين في التاريخ مثل محمد علي وجمال عبدالناصر. ويبني عوض قناعته هذه على موقف مشكوك فيه، مفاده ان «يعقوب اللعين» هذا ترك الفرنسيين وامتطى بارجة حربية بريطانية، وقال قبل أن يموت على ظهر هذه البارجة، انه يريد ان يتحالف مع الإنكليز لتحرير مصر من الفرنسيين ومن العثمانيين أيضاً.. في حين ان سيرة حياته كلها كانت سيرة ملوثة على النحو الذي يفصّله رجاء في كتابه، مستشهداً على ذلك بآراء نخبة من المؤرخين المصريين الثقات.
الكتّاب الزنادقة
ويناقش رجاء النقاش بعد ذلك آراء غريبة للويس عوض لا يدري أحد كيف اقتنع عوض بها، من مثل قوله في كتابه «أوراق العمر»:
«وجدت سلامة موسى صريحاً في اشتراكيته، صريحاً في زندقته. بينما وجدت العقاد زنديقاً يغطي زندقته بمقولاته الفلسفية، فيؤلّه الشعراء ويسوي بين وحيهم ووحي الأنبياء، وجاهر بعدائه للاشتراكية وبدعوته للفردية. كان العمالقة الثلاثة، سلامة موسى والعقاد وطه حسين، زنادقة كل على طريقته الخاصة: كانت زندقة العقاد من منطلق مثالي، وزندقة سلامة موسى من منطلق مادي. أما طه حسين فقد كانت آية زندقته كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي قال فيه صراحة «ان قصة إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة ليست لها حقيقة تاريخية بل هي مناقضة للتاريخ»!
ويحلل رجاء النقاش آراء لويس عوض هذه ويدحضها على ضوء كتابات هؤلاء الإعلام ومواقفهم، ما عدا سلامة موسى الذي تأثر عوض بكتابه «تربية سلامة موسى» في المنهج وطريقة العرض. ويرى رجاء ان في كتاب عوض «أوراق العمر» وكذلك في كتاب سلامة موسى «تربية سلامة موسى» قدراً عالياً من الصراحة والصدق، وهو أمر غير مألوف في كتابات السيرة الذاتية في الأدب العربي.
....................................
عن(القبس) الكويتية.

د. حسين علي محمد
13/03/2008, 08:04 AM
( 65 ) القاهرة تكرم رجاء النقاش مكتشف المواهب
.................................................. ................

مثقفون يجمعون على دور الناقد رجاء النقاش في اخراج شعراء وادباء عرب الى الواجهة ويطالبون بحصوله على جائزة مبارك.
يختلف المثقفون في مصر على أشياء كثيرة وعلى مثقفين مرموقين لكن لديهم حدا أدنى من الاتفاق على ما يمثله الناقد البارز رجاء النقاش من قيمة إنسانية ونقدية.
وبدا في حفل تكريم النقاش الاثنين في نقابة الصحفيين بالقاهرة أن القيمة الفكرية لا تنفصل عن النبل الإنساني والدور الذي ينذر له إنسان نفسه في سبيل الآخرين خاصة إذا كانوا يبشرون بموهبة يراهن عليها.
وعبر عن هذا المعنى الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي أرسل كلمة أشاد فيها بدور النقاش (73 عاما) في "كسر العزلة" عن الشعراء في الأراضي الفلسطينية في ستينيات القرن العشرين حين كتب عنهم محتفيا بهم وفي مقدمتهم درويش الذي أصدر عنه النقاش عام 1969 كتابا عنوانه "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة" قبل أن يخرج درويش من بلاده وينال شهرته الواسعة.
وأضاف درويش أن النقاش لم يكف عن "التبشير النبيل" بكل موهبة جديدة منطلقا من حس عروبي.
وبدأ الحفل بكلمة للشاعر المصري حلمي سالم أشار فيها إلى أسطورة يونانية تخص نوعين من الناس أحدهما كلما لمس شيئا صار حديدا والثاني كلما لمس شيئا صار ذهبا.
وقال إن النقاش من النوع الأخير فكلما أدار منبرا ثقافيا جعله أكثر حيوية بحماسه لكل جديد في الابداع كما تجلى في الستينيات حين تولى رئاسة تحرير "الهلال" أقدم مجلة ثقافية عربية وعندما انتقل عام 1971 رئيسا لتحرير مجلة "الإذاعة والتلفزيون" جعل منها مطبوعة ذات توجه ثقافي حيث نشر رواية "المرايا" لنجيب محفوظ مسلسلة قبل صدورها في كتاب.
وسافر النقاش إلى قطر مديرا لتحرير صحيفة "الراية" ثم تولى رئاسة تحرير مجلة "الدوحة" منذ تأسيسها عام 1981 حتى إغلاقها عام 1986.
وقال سالم إن معظم رموز الإبداع الأدبي في العالم العربي "زهور من غرسه" حيث برز النقاش منذ كان في مطلع العشرينيات من عمره ناقدا موهوبا يعبر من خلاله روائيون وشعراء عرب إلى الحياة الأدبية وبعضهم أكبر منه سنا مثل الروائي السوداني الطيب صالح الذي أعاد النقاش اكتشاف روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" والشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي الذي كتب له النقاش مقدمة ديوانه الأول "مدينة بلا قلب".
وقال نقيب الصحفيين المصريين مكرم محمد أحمد إن النقاش "علم من أعلام الصحافة والنقد" على مدى أكثر من نصف قرن. ثم منح درع النقابة إلى النقاش الذي تسلم أيضا درع مؤسسة "دار الهلال" من رئيس مجلس إدارتها عبد القادر شهيب ودرع حزب التجمع منظم الاحتفال من رئيسه رفعت السعيد.
وقال السعيد إن النقاش رجل يبدو هادئا رومانسيا لكنه "سياسي قوي وناقد مستنير يدافع عن العقل... "النقاش" رجل والرجال ليسوا بشهادة ميلاد بل بشهادة المواقف. يتألق رجاء في هذا الوطن بسبب ندرة الرجال" مضيفا أن النقاش ظل طوال مسيرته النقدية مدافعا عن قيم الجمال والاستنارة ضد القبح والتخلف.
ومن كتب النقاش "ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء" و"أبو القاسم الشابي.. شاعر الحب والثورة" و"عباقرة ومجانين" و"نساء شكسبير" و"عباس العقاد بين اليمين واليسار" و"قصة روايتين" وهو دراسة نقدية فكرية مقارنة لروايتي "ذاكرة الجسد" للجزائرية أحلام مستغانمي و"وليمة أعشاب البحر" للسوري حيدر حيدر.
ونال النقاش جائزة الدولة التقديرية في الآداب بمصر عام 2000.
وطالب نقيب الصحفيين في الاحتفال الاثنين بمنح النقاش جائزة مبارك وهي أرفع جائزة مصرية وأيده في هذا المطلب الناقد السينمائي علي أبو شادي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وهو الجهة التي تنظم وتمنح جوائز الدولة بفروعها المختلفة.
.....................................
*الوسط ـ في 22/2/2008م.